المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: (توليه القضاء وموقفه منه) - البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر

[الشوكاني]

الفصل: ‌المبحث السادس: (توليه القضاء وموقفه منه)

‌المبحث السادس: (تَوَلِّيه القضاء وموقفه منه)

في شهر رجب سنة (1209هـ) ، اختار والي اليمن - إذ ذاك - علي بن عباس بن حسين (ت 1224هـ) 1- الإمام الشوكاني لشغل منصب قاضي اليمن، وكان عمره- إذ ذاك- ستا وثلاثين سنة. وقد ذكر الشوكاني كيفية تولِّيه القضاء، وَوَصَف ذلك بأنه ابتلاء، يقول:

لما كان شهر رجب سنة (1259هـ) ، مات القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي2، وبعد موته بأسبوع لم أشعر إلا بطلاب من الخليفة، فذهبتُ إليه، فذكر لي أنه قد رجَّح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلي في يومين فقط، فقلت: سيقع مني الاستخارة لله، والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير، فلما فارقته، مازلت مترددا نحو أسبوع، ولكنه وفد إليَّ غالبُ من ينتسب إلى العلم في مدينة (صنعاء) ، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشون أن يدخل

1 البدر الطالع 1/ 459، الأعلام 4/ 298.

2 البدر الطالع 2/ 333.

ص: 41

في هذا المنصب- الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية ني جميع الأقطار اليمنية- من لا يوثق بدينه وعلمه، وأكثروا من هذا، وأرسلوا إليَّ الرسائل المطوَّلة، فقبلت مستعينا بالله تعالى، ومتكلا عليه1.

لقد كان الشوكاني يعتقد أن الاشتغال بالقضاء سيحول بينه وبين ما كان يقوم به من التعليم، والتدريس، والتصنيف، ويرى أن عملا كالقضاء يحتاج إلى خبرة بمجالس القضاء وأعمالهم، وهو لا يملك تلك الخبرة ابتداءً، ولكن استخارته لله عز وجل، ثم إلحاح جُلِّ ذوي العلم، والرأي، والمعرفة، قد دفع به إلى قبول ذلك العمل، الذي لو انصرف عنه أهل الدين والعلم، لأصبح في أيدي الجهلة، والظلمة والمقلدين، والمتعصبين2.

ولم يقتصر عمله في القضاء، وفضِّ المنازعات بين الخصوم على يومين فقط كما حدَّد له الأمير عند عرض هذا المنصب عليه، بل شَغَل هذا العمل الجديد جل وقته.

يقول الشوكاني: ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل انثال3 الناس من كل محل، فاستغرقتُ في ذلك جميع الأوقات إلا لحظات يسيرة، قد أفرغتها للنظر في شيء من كتب العلم، أو لشيء من التحصيل، وتتميم ما قد كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شُغْلَةً

1 البدر الطالع 1/ 464- 465.

2 الشوكاني، حياته وفكره 187- 188.

3 أي: توافدوا وكثروا.

ص: 42

كبيرة، وتكدّر الخاطر تكدرا زائدا، لاسيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاض في خصومة ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي- رحمه الله من أيام الصغر فما بعدها، ولكن شرح الله الصدر، وأعان على القيام بذلك الشأن1.

وقد حلَّل الشوكاني- رحمه الله شخصية القاضي العادل، فحدد له مواصفات وضوابط معينة، فرأى أن على القاضي أن لا يسعى بنفسه ولا بالواسطة، لشغل هذا المنصب، وأن يكون على دراية بالكتاب والسنة، وكيفية استنباط الأحكام منهما، وأن يكون مجتهدا وأن لا يهدف من وراء ذلك جمع المال، أو الحصول على الشرف أو السمعة2.

وقد وصف الشوكاني تهافت قُضاة زمانه على مناصبهم دون توفر المواصفات السابقة، بأنهم إنما أقدموا على شغلها حبًّا للثواب الأخروي.

يقول: إن الحامل للمقصِّرين على التهافت على القضاء، والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه، ليس إلا الدنيا لا الدين، فإياك والاغترار بأقوال قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فإذا لبسوا لك أثواب الرياء والتصنع، وأظهروا شعار التغرير والتدليس- والتلبيس، وقالوا: مالهم بغير الحق حاجة، ولا أرادوا إلا تحصيل الثواب الأخروي، فقل لهم: دعوا الكذب على أنفسكم يا قضاة النار، بنص

1 البدر الطالع 1/ 465.

2 نيل الأوطار 8/ 262، الشوكاني حياته وفكره 189.

ص: 43

المختار صلى الله عليه وسلم، فلو كنتم تخشون الله وتتقونه حق تقاته، لما أقدمتم على المخاطرة بادئ ذي بدء، بدون إيجاب من الله، ولا إكراه من السلطان، ولا حاجة من المسلمين1.

ولأن الشوكاني قد وجد حاجة المسلمين إليه قائمة، وإلحاح الحاكم والعلماء عليه بقبول المنصب، وانشراح قلبه لذلك بعد صلاة الاستخارة، ودعائها، فقد قبل ذلك العمل، ومع ذلك فقد سلك مسلك العدل القائم على الورع الشديد، ويوضح ذلك تطبيقه الشديد لمبدأ عدم قبول الهدايا بعد توليه للقضاء، حتى وإن كانت الهدية من أقاربه الذين تعودوا تقديمها له قبل شغله لذلك المنصب، مفسرا موقفه هذا بأن الإنسان مجبول على حب من أحسن إليه2.

يقول رحمه الله: فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه، المستعد للوقوف بين يدي ربه، من قبول هدايا من أهدى، إليه، بعد توليه للقضاء، فإن للإحسان تأثيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المُهْدِي وبين غيره. والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا، ومن هذه الحيثية امتنعتُ عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إليَّ قبل الدخول فيه، بل من الأقارب، فضلا عن سائر الناس، فكان في ذلك من المنافع ما لا

1 نيل الأوطار 8/ 263.

2 الشوكاني حياته وفكره 190.

ص: 44

يتسع المقام لبسطه، أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه1

1 نيل الأوطار 8/ 269

ص: 45