الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
51 ـ باب الرجاء
قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53] .
وقال تعالى: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 17] .
وقال تعالى: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)[طه: 48] .
وقال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف: 156] .
1/412 ـ وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) . متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ حرم الله عليه النار)) .
2/413 ـ وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة، فجزاء سيئة
سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً؛ تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا؛ لقيته بمثلها مغفرة)) . رواه مسلم.
معنى الحديث: ((من تقرب إلى بطاعتي ((تقربت)) إليه برحمتي، وإن زاد زدت، ((فإن أتاني يمشي)) وأسرع في طاعتي ((أتيته هرولة)) أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود. ((وقراب الأرض)) بضم القاف ويقال بكسرها، والضم أصح، وأشهر، ومعناه: ما يقارب ملأها، والله أعلم.
3/414 ـ وعن جابر رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال:((من مات لا يشرك بالله شيئاً؛ دخل الجنة؛ ومن مات يشرك به شيئاً؛ دخل النار)) رواه مسلم.
4/415 ـ وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرحل قال:((يا معاذ)) . قال لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال:((يا معاذ)) قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال:((يا معاذ)) قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثاً، قال:((ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار)) قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟
قال: ((إذا يتكلوا)) فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً. متفق عليه.
وقوله؛ ((تأثماً)) أي: خوفا من الإثم في كتم هذا العلم.
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله باب الخوف؛ ذكر باب الرجاء، وكأنه رحمه الله يغلب جانب الخوف، أو يقول: إذا رأيت الخوف قد غلب عليك؛ فافتح باب الرجاء.
ثم ذكر المؤلف آيات وأحاديث؛ منها قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53] .
هذه الآية نزلت في التائبين، فإن تاب؛ تاب الله عليه وإن عظم ذنبه، كما قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[الفرقان: 68 ـ 70]
فمن تاب من أي ذنب؛ فإن الله يتوب عليه مهما عظم ذنبه، لكن إن كانت المعصية في أمر يتعلق بالمخلوقين، فلابد من إيفائهم حقهم في
الدنيا قبل الآخرة، حتى تصح توبتك.
أما غير التائبين، فقد قال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48] فغير التائبين إن كان عملهم كفراً، فإنه لا يغفر، وإن كان سوى الكفر، فإنه تحت المشيئة،؛ إن شاء الله عذب عليه، وإن شاء غفر له.
لكن إن كان من الصغائر، فإن الصائر تكفر باجتناب الكبائر، وببعض الأعمال الصالحة.
ثم ذكر المؤلف أحاديث متعددة في هذا الباب، وكلها أحاديث توجب للإنسان قوة الرجاء بالله عز وجل، حتى يلاقي الإنسان ربه وهو يرجو رحمته، ويغلبها على جانب الخوف.
وفيها أحاديث مطلقة مقيدة بنصوص أخرى، مثل ما ذكره رحمه الله في أن من لقي الله عز وجل لا يشرك يه شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار. المراد بهذا: الشرك وكذلك الكفر؛ ككفر الجحود والاستكبار وما أشبه ذلك، فإنه داخل في الشرك الذي لا يغفر. نسأل الله أن يجعلنا ممن يرجو رحمته ويخافون عذابه.
* * *
6/417 ـ وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه، وهو ممن شهد بدراً، قال: كنت اصلي لقومي ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار، فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشق علي
اجتيازه، فوددت أنك تأتي، فتصلي في بيتي مكانا أتخذه مصلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سأفعل)) فغدا علي رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه بعد ما أشتد النهار واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى قال:((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وصفننا وراءه فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم فحبسته على خزيرة تصنع له، فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت فقام رجل: ما فعل مالك لا أراه!
فقال رجل: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رجل: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى؟!)) .
فقال: الله ورسوله أعلم، أما نحن فو الله ما نرى وده، ولا حديثه إلا إلى المنافقين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي يذلك وجه الله)) متفق عليه.
و ((عتبان)) بكسر العين المهملة، وإسكان التاء المثناه فوق وبعدها باء موحدة. و ((الخريرة)) بالخاء المعجمة، والري: هي دقيق يطبخ بشحم.
وقوله: ((ثاب رجال)) بالتاء المثلثة، أي: جاؤوا واجتمعوا.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عتبان بن مالك رضي الله
عنه، وكان يؤم قومه بني سالم، وكان بينه؛ أي بين بيته وبين قومه وادٍ يعني شعيب يجري فيه السيل. فإذا جاء السيل؛ شق عليه عبوره.
وأضف إلى ذلك أن بصره ضعف، فصار يشق عليه مرتين؛ من جهة المشي، ومن جهة البصر والنظر. فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وطلب منه أن يأتي إلى بيته ليصلي في مكان من البيت، يتخذه عتبان مصلى يصلي فيه، وإن لم يكن مسجداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سأفعل)) ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه حين اشتد النهار، وكان أبو بكر رفيقه حضراً وسفراً، لا يفارقه، كثيراً ما يكون معه، وكثيراً ما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، رجعت أنا وأبو بكر وعمر.
فهما صاحباه ووزيراه رضي الله عنهما، صاحباه في الدنيا، وصاحباه في البرزخ، وقريناه يوم القيامة هؤلاء الثلاثة يقومون لله رب العالمين من مكان واحد، من البيت الذي دفن فيه الرسول عليه والصلاة والسلام، والذي أصبح الآن في قرارة المسجد النبوي.
انظر إلى الحكمة: اختار الله عز وجل أن يكون البيت الذي دفن فيه الرسول داخل المسجد؛ ليقوم هؤلاء الثلاثة يوم القيامة من وسط المسجد، مسجد النبي عليه والصلاة والسلام.
وعلى هذا لا تكره شيئاً اختاره الله، قد يختار الله شيئاً فيه مصلحة عظيمة لا تدري عنها أنت، كره الناس أن يكون بيت الرسول الذي دفن فيه في وسط المسجد، وقالوا: هذا شبهة لعباد القبور الذين يبنون المساجد
على القبور.
ولكن ليس في ذلك شبهة؛ لأن المسجد لم يبن على القبر، وإنما امتد المسجد وبقي القبر في البيت مستقلاً عن المسجد، ليس فيه حجة لآي إنسان إلا رجلاً مبطلاً، يقول كما قال إبليس:(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)[االأعراف: 12] ، لكن انظر الحكمة؛ أن يكون خروجهم يوم القيامة من مكان واحد، من جوف المسجد النبوي، سبحان الله العظيم، حكمة تغيب عن كثير من الناس.
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين اشتد النهار، يعني حين ارتفعت الشمس إلى دار بني مالك، فاستأذن، فأذن له، فدخل ولم يجلس؛ بل قال: أين تريد أن أصلي؛ لأنه جاء لغرض، فأحب أن يبدأ بالغرض الذي جاء من أجله قبل أي شيء، وهذا من الحكمة؛ أنك إذا أردت شيئاً لا تعرج إلى غيره حتى تنتهي منه من أجل أن تضبط الوقت ويبارك لك فيه.
كثير من الناس تضيع عليه الأوقات بسبب أنه يتلقف الأشياء. وأضرب لهذا مثلاً: هب أنك تريد أن تراجع مسألة من مسائل العلم في كتاب من الكتب، تقرأ الفهرس؛ لأجل أن تعرف أين مكان هذه المسألة، ثم تمر بك مسألة فتقول أريد أن أطلع على هذه المسألة، ثم تطلع على الأخرى، ويفوتك المقصود الذي من أجله راجعت هذا الكتاب. لكن ابدأ أولاً بما أردت قبل أي شيء، ثم بعد ذلك ما زاد فهو فضل.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان، وصلوا معه جماعة؛ لأن هذه جماعة عارضة لا دائمة.
ثم لما فرغ من صلاته، إذا هو قد أعد له طعاماً زهيداً، فسمع أهل الدار. الدار هو ما نسميه عندنا بالحي والحارة، سمع أهل الدار أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند عتبان بن مالك، فثاب إليه أناس، يعني اجتمعوا يريدون أن يهتدوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعوا من قوله، ويأخذوا من سنته، فاجتمعوا فقالوا: أين فلان، قالوا: ذاك منافق. ذاك منافق.
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال ذلك وقال: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) .
فقال الرجل: الله ورسوله أعلم؛ لأن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؛ فهو مؤمن ليس منافقاً، والمنافق يقولها رياء وسمعة، لا تدخل قلبه والعياذ بالله، أما من قالها يبتغي بها وجه الله؛ فإنه مؤمن بها، مصدق، تدخل قلبه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) فكل من قالها يبتغي بها وجه الله، فإن الله يحرمه على النار، لماذا؟ لأنه إذا قالها يبتغي بها وجه الله؛ فإنه سيقوم بمقتضاها، ويعمل بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة، من أداء الواجب، وترك المحرم، والإنسان إذا أدى الواجب وترك المحرم؛ أحل الحلال، وحرم الحرام، وقام بالفرائض، واجتنب النواهي، فإن هذا من أهل الجنة، يدخل الجنة ويحرم الله عليه النار.
وليس في الحديث دليل على أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لأننا نعلم علم اليقين، مثل الشمس، أن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله لا
يمكن أن يترك الصلاة. هذا محال؛ فالذي يقول: أنا لأقول لا إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله، وهو لا يصلي، فهو من أكذب الكاذبين. لو كان يبتغي وجه الله؛ ما ترك الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وفي هذا الحديث فوائد:
منها: أن من كانت حاله مثل حال عتبان بن مالك، فإنه معذور بترك الجماعة وله أن يصلي في بيته، مثل أن يكون بينه وبين المسجد وادٍ لا يستطيع العبور معه، فإنه معذور.
ومنها: جواز قول الإنسان سأفعل في المستقبل، إذا قال ستأتينا غداً، قال: سآتيك وإن لم يقل إن شاء الله. فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23، 24]، لشيء: عام سواء من فعل الله أو من فعلك؟
قلنا: إن الذي يقول سآتيك غداً له نيتان:
النية الأولى: أن يقول هذا جازماً بالفعل، فهذا لا يقوله إلا أن يقول إن شاء الله؛ لأنه لا يدري أيأتي عليه الغد أو لا، ولا يدري هل إذا أتى عليه الغد يكون قادراً على الإتيان إليه أو لا، ولا يدري إذا كان قادراً، يحول بينه وبينه مانع أو لا.
النية الثانية: إذا قال: سأفعل، يريد أن يخبر عما في قلبه من الجزم دون أن يقصد الفعل؛ فهذا لا بأس به؛ لأنه يتكلم عن شيء حاضر، مثل: لو قيل لك: هل ستسافر مكة؟ قلت: نعم سأسافر، تريد أن تخبر عما في
قلبك من الجزم، هذا شيء حاضر حاصل، أما إن أردت الفعل، أنك ستفعل يعني سيقع منك هذا لا تقل سأفعل إلا مقروناً بمشيئة الله.
ومنها: أن الإنسان يعذر بترك الجماعة فيما إذا كان بينه وبين المسجد ما يشق عليه من وحل أو ماء أو غيره، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينادي مناديه في الليلة المطيرة؛ أن صلوا في رحالكم يعني في أماكنكم، وذلك من أجل أن لا يشق على الناس، فأما إذا كان ماء بلا مشقة وبلا دحر ووحل؛ فإنه لا يعذر الإنسان بترك الجماعة.
ومن فوائد حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: أن المصلى الذي يكون في البيت لا يكون له حكم المسجد، فلو أن الإنسان اتخذ مصلى في بيته لا يصلي إلا فيه فليس بمسجد، سواء حجره أو لم يحجره.
وعلى هذا فلا تثبيت له أحكام المسجد؛ فيجوز للإنسان أن يبقى فيه وهو جنب، وإذا جلس فيه لا يلزمه تحية المسجد، فكل أحكام المساجد لا تثبت له، وإذا أراد أن يعتكف فيه؛ لم يصح اعتكافه. حتى لو كانت امرأة ولها مسجد في بيتها، فإنها لا تعتكف فيه.
ومن فوائد حديثه رضي الله عنه: أنه يجوز أن تقام الجماعة في النوافل؛ لكن ليس دائماً بل أحياناً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراه عتبان المكان الذي يصلي فيه، وتقدم وصلى بهم ركعتين وصلوا خلفه، فإذا صلى الإنسان الراتبة مثلاً أو سنة الضحى، إذا صلاها جماعة؛ فلا بأس بذلك أحياناً.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الليل، وصلى معه ابن مسعود، وصلى معه حذيفة، لكن ليس دائماً. فصلاة الجماعة نفلا أحياناً لا بأس بها.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس أن يتخذ الإنسان مصلى يعتاد الصلاة فيه في بيته، ولا يقال إن هذا مثل اتخاذ مكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، فإن هذا منهي عنه، يعني ينهى الإنسان أن يتخذ في المسجد مكاناً لا يصلي إلا فيه، مثل أنه لا يصلي النافلة، لا تحية المسجد ولا غيرها إلا فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استيطان كاستيطان البعير، يعني عن اتخاذ موطن كأعطان الإبل، تأوي إليه وتبيت فيه.
ومنها: أنه يجب على الإنسان أن يحبس لسانه عن الكلام في الناس، بنفاق، أو كفر أو فسق، إلا ما دعت الحاجة إليه، فإنه لا بد أن يبينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال رجل عن مالك: إنه منافق، قال:((لا تقل هكذا؛ أما علمت أنه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟)) .
لكن هذا متى يحصل أن يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام لرجل بالإخلاص؛ هو ليس بحاصل بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما ليس لنا إلا الظاهر، فمن طهر لنا من حاله الصلاح؛ وجب علينا أن نحكم له بالصلاح، وألا نغتابه ولا نسبه.
ومن فوائد هذا الحديث: محبة الصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس إليه؛ لأنهم لما علموا أنه عند عتبان بن مالك ثابوا إليه، واجتمعوا عنده، ليتعلموا منه، وينالهم من بركة علمه عليه الصلاة والسلام.
ومنها: ما سبق أن أشرنا إليه أن الإنسان يبدأ بالشغل الذي يريده قبل كل شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المكان قبل أن يجلس، وقبل لأن ينظر إلى ما صنع له من الطعام.
ومن فوائده أيضاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان على جانب كبير من التواضع؛ لأنه لما انتهى من الصلاة، يقول عتبان: حبسته على (خريرة) نوع من الطعام ليس بذاك الجيد. حبسه: يعني قال له انتظر حتى ينتهي الطعام، ويقدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك أن فيه تواضعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: وهي من أكبر فوائد هذا الحديث. أن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فإن الله يحرم عليه النار ((فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) يعني يطلب وجه الله.
ومعلوم أن الذي يقول هذا طالباً وجه الله، فسيفعل كل شيء يقربه إلى الله، من فروض ونوافل، فلا يكون في هذا دليل للكسالى والمهملين؛ يقولون: نحن نقول لا إله إلا الله نبتغي بذلك وجه الله. نقول: لو كنتم صادقين ما أهملتم العبادات الواجبة عليكم.
* * *
7/418 ـ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته، فألزقته ببطنها، فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في
النار؟ قلنا: لا والله. فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) متفق عليه.
8/419 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لما خلق الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)) .
وفي رواية: ((غلبت غضبي)) وفي رواية ((سبقت غضبي)) . متفق عليه.
9/420 ـ وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) .
وفي رواية: ((إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)) متفق عليه.
ورواه مسلم أيضا من رواية سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن لله تعالى مائة رحمة؛ فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسع وتسعون ليوم القيامة)) .
وفي رواية: ((إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمه؛ كل رحمة طباق ما بين السماء إلى الأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة، أكملها بهذه الرحمة)) .
11/422 ـ وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم)) رواه مسلم.
11/423 ـ وعن أبي خالد بن زيد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لولا أنكم تذنبون؛ لخلق الله خلقا يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم) رواه مسلم.
13/424 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، فخشينا أن يقتطع دوننا؛ ففزعنا، فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار ـ وذكر الحديث بطوله إلى قوله: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة)) رواه مسلم.
14/425 ـ وعن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(إبراهيم: 36)
وقول عيسى صلى الله عليه وسلم: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118]، فرع يديه وقال:((اللهم أمتي أمتي)) وبكى، فقال الله عز وجل:((يا جبريل اذهب إلى محمدٍ، وربك أعلم، فسله ما يبكيه؟)) فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله تعالى:((يا جبريل اذهب إلى محمدٍ فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في باب الرجاء، ذكرها المؤلف رحمه الله وهي كثيرة جداً منها: أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ودليل ذلك قصة المرأة التي كانت في السبي فرأت صبياً، فأخذته وألصقته على صدرها وأرضعته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار)) . قالوا لا. قال: ((فالله أرحم بعباده من هذه بولدها)) .
وهذا من تمام رحمته سبحانه وتعالى.
وآيات ذلك كثيرة، منها النعم التي تترى علينا، وأعظمها نعمة الإسلام، فإن الله تعالى أضل عن الإسلام أمماً، وهدى عباده المؤمنين لذلك وهي أكبر النعم.
ومنها: أن الله أرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل.
وكذلك ذكر المؤلف الأحاديث التي فيها أن رحمة الله سبقت غضبه، ولهذا يعرض الله عز وجل المذنبين أن يستغفروا ربهم، حتى يغفر لهم، ولو شاء لأهلكهم ولم يرغبهم في التوبة.
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً)[فاطر: 45] ، ولهذا قال في الحديث الذي رواه مسلم، قال:((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم)) .
وهذا ترغيب في أن الإنسان إذا أذنب، فليستغفر الله، فإنه إذا استغفر الله عز وجل بنية صادقة، وقلب موقن فإن الله تعالى يغفر له، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53] .
ومنها: أن النبي صلى اله عليه وسلم لما تلا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الأصنام: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 36]، وقول عيسى:(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118] ؛ رفع صلى الله عليه وسلم يديه وبكى، وقال:((يا رب؛ أمتي أمتي)) فقال الله سبحانه وتعالى لجبريل ((اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولانسوؤك)) .
وقد أرضاه الله عز وجل في لأمته، بأن جعل لهذه الأمة أجرها
مضاعفاً، كما جاء في الحديث الصحيح: أن مثل الأمة مع من سبقها، كمثل رجل استأجر أجراء، من أول النهار إلى الظهر، فأعطاهم على دينار ديناراً، واستأجر أجراء من الظهر إلى العصر وأعطاهم على دينار دينارً، واستأجر أجراء من العصر إلى الغروب وأعطاهم على دينارين دينارين، فاحتج الأولون وقالوا: كيف تعطينا على دينار دينار ونحن أكثر منهم عملاً وتعطي هؤلاء على دينارين دينارين.
فقال لهم الذي استأجرهم: هل ظلمتكم شيئاً؟ قالوا: لا.
إذاً لا لوم عليه في ذلك؛ ففضل الله على هذه الأمة كثير.
وقد أرضاه الله في أمته ولله الحمد من عدة وجوه، منها كثرة الأجر، وأنهم الآخرون السابقون يوم القيامة، وأنها فضلت بفضائل كثيرة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)) .
فهذه الخصائص له ولأمته عليه الصلاة والسلام. فالحاصل أن هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله، كلها أحاديث رجاء، تحمل الإنسان على أن يعمل العمل الصالح، يرجو بذلك ثواب الله ومغفرته.
* * *
15/426 ـ وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: ((يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)) .
فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال:((لا تبشرهم فيتكلوا)) متفق عليه.
16/427 ـ وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[إبراهيم: 27] متفق عليه.
17/428 ـ وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الكافر إذا عمل حسنة، أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن، فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته)) .
وفي رواية: ((إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها
في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تعالى في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها)) رواه مسلم.
19/430 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) رواه مسلم.
20/431 ـ وعن ابن مسعود رصي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين، فقال:((أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)) قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم.
قال: ((والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر)) متفق عليه.
21/432 ـ وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار)) .
وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم)) رواه مسلم.
قوله: ((دفع إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار)) معناه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لأنه مستحق لذلك بكفره)) .
ومعنى ((فكاكك)) : أنك كنت معرضاً لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكافر بذنوبهم وكفرهم، صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. والله أعلم.
22/433 ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته)) متفق عليه.
((كنفه)) ستره ورحمته.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث المتعددة كلها في باب الرجاء، ولكن الرجاء لابد أن يكون له عمل يبني عليه.
أما الرجاء من دون عمل يُبنى عليه، فإنه تمنٍّ لا يستفيد منه العبد، ولهذا جاء في الحديث:((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) . فلابد من عمل يتحقق به الرجاء.
ذكر المؤلف رحمه الله حديث معاذ بن جبل؛ أنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار. فقال: له: ((أتدري ما حق الله على العباد، وحق العباد على الله؟)) قال الله ورسوله أعلم.
وهذا من آداب طالب العلم، إذا سئل عن شيء؛ أن يقول الله أعلم، ولا يتكلم فيما لا يعلم.
قال ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) .
يعني أن لا يعذب من عبده وهو لا يشرك به شيئاً؛ لأن نفي الشرك يدل على الإخلاص والتوحيد، ولا إخلاص وتوحيد إلا بعبادة.
فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ فقال ((لا تبشرهم فيتكلوا)) .
يعني لا تبشرهم فيتكلوا على ما يجب، ولا يقوموا بما ينبغي أن يقوموا به من النوافل، ولكن معاذاً رضي الله عنه أخبر بها عند موته تأثماً. يعني خوفاً من إثم كتمان العلم فأخبر بها.
ولكن قول الرسول: ((لا تبشرهم فيتكلوا)) فيه إنذار من الاتكال على هذا، وأن الإنسان يجب أن يعلم أنه لابد من عبادة.
وكذلك الأحاديث التي ذكرها المؤلف كلها في سياق الرجاء. منها أن المؤمن يسأل في القبر، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا هو القول الثابت الذي قال الله فيه:(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[إبراهيم: 27] ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والميت في قبره يسأل عن ثلاث: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضا ما ذكره رحمه الله من صفة محاسبة العبد المؤمن، أن الله عز وجل يأتي يوم القيامة، فيخلو بعبده المؤمن، ويضع عليه كنفه يعني ستره ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا، ويقرره بالذنوب، فإذا أقر قال ((كنت سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى كتاب حسناته باليمين)) .
ومن ذلك أيضا أن المؤمنين كل واحد منهم يهودياً أو نصرانياً يوم القيامة، ويقال: هذا فكاكك من النار، يعني هذا يكون بدلك في النار، وأما أنت فقد نجوت.
فنحن يوم القيامة إن شاء الله تعالى كل واحد منا يجعل بيده يهودي أو نصراني يلقى في النار بدلاً عنه، يكون فكاكاً له من النار.
ولا يلزم من هذا أن يكون اليهود والنصارى على قدر المسلمين، فالكفار أكثر من المسلمين بكثير، من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم؛ لأن بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون كلهم في النار وواحد في الجنة.
وذكر المؤلف أيضا حديثاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرض على الصحابة. فقال ((أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)) يعني: نصف أهل الجنة من هذه الأمة، والنصف الباقي من بقية الأمم كلها، وهذا يدل على كثرة هذه الأمة، لأنها آخر الأمم، وهي التي ستبقى إلى يوم القيامة.
وقد جاء في السنن والمسند، أن صفوف أهل الجنة مائة وعشرون، منها ثمانون من هذه الأمة، فتكون هذه الأمة ثلثي أهل الجنة، وهذا من رحمة الله عز وجل ومن فضل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطى أجر كل من عمل بسنته وشريعته.
* * *
23/434 ـ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات)[هود: 114] . فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) متفق عليه.
24/435 ـ وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصبت حداً، فأقمه علي، وحضرت الصلاة، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله، إني أصب حداً، فأقم في كتاب الله. قال:((هل حضرت معنا الصلاة؟)) قال: نعم ((قد غُفِر لك)) متفق عليه.
وقوله: ((أصبت حداً)) معناه: معصية توجب التعزير، وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي؛ كحد الزنا والخمر وغيرهما، فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة، ولا يجوز للإمام تركها.
25/436 ـ وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة، فيحمده عليها)) رواه مسلم.
((الأكلة)) بفتح الهمزة وهي المرة الواحدة من الأكل: الغدوة والعشوة ،
والله أعلم
26/437 ـ وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عله وسلم قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم.
27/438 ـ وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة ـ بفتح العين والباء ـ السلمي رضي الله عنه قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً، جراْء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت قال: ((أنا نبي)) .
قلت: وما نبي؟ قال: ((أرسلني الله)) .
قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء)) .
قلت: فمن معك على هذا؟
قال: ((حر وعبد)) . ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما قلت: إني متبعك، قال:((إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)) .
قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم نفر من أهلي المدينة،
فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟
قال ((نعم أنت الذي لقيتني بمكة)) قال: فقلت: يا رسول الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟
قال ((صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل، فإنه الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جنهم؛ فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار)) .
قال: فقلت: يا نبي الله، فالوضوء حدثني عنه.
فقال: ((ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق فينتثر، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه، إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل، وفرَغ قلبه لله تعالى، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) .
فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة، انظر ما تقول! في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله تعالى، لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين أو ثلاثا، حتى عد سبع مرات، ما حدثت أبداً به، ولكني سمعته أكثر من ذلك. رواه مسلم.
قوله: ((جُرآء عليه قومه)) : هو بجيم مضمومة وبالمد على وزن علماء، أي: جاسرون مستطيلون غير هائبين. هذه الرواية المشهورة، ورواه الحميدي وغيره:((حِراء)) بكسر الحاء المهملة، وقال: معناه: غِضاب ذوو غم وهم، قد عيل صبرهم به، حتى أثر في أجسامهم، من قولهم: حري جسمه يحرى، إذا نقص من ألم أو غم ونحوه، والصحيح أنه بالجيم. قوله صلى الله عليه وسلم:((بين قرني الشيطان)) أي: ناحيتي رأسه، والمراد التمثيل، معناه: أنه حينئذ يتحرك الشيطان وشيعته، ويتسلطون. وقوله:((يقرب وضوءه)) معناه: يحضر الماء الذي يتوضأ به. وقوله: ((إلا خرت خطايا)) هو بالخاء المعجمة: أي سقطت، وراء بعضهم ((جرت) بالجيم، والصحيح بالخاء، وهو رواية الجمهور. وقوله:((فينتثر)) أي: يستخرج ما في أنفه من أذى، والنثرة: طرف الأنف.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله كلها أيضاً فيها من
الرجاء ما فيها، فمن ذلك أن الصلوات الخمس تكفر السيئات التي قبلها، كما في قصة الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة، والذي أصاب حداً وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيمه عليه، فإن الصلاة هي أفضل أعمال البدن وهي تذهب السيئات، قال الله تعالى:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114] .
ولكن لابد أن تكون الصلاة على الوجه الذي يرضاه الله عز وجل، كما في حديث عمرو بن عبسة حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ وأرشده إلى أن لها لأوقات محدودة، وهناك أوقات ينهى الإنسان أن يصلي فيها.
ثم أرشد النبي صلى اله عليه وسلم عمرو بن عبسة إلى صفة الوضوء الصحيحة؛ لأن الإنسان إذا توضأ على هذه الصفة خرجت خطاياه، وإذا صلى وقد فرغ قلبه لله كفر الله عنه.
فلابد من ملاحظة هذا القيد؛ لأن من الناس من يصلي ولكنه ينصرف من صلاته ما كتب له إلا عشرها أو أقل؛ لأن قلبه غافل وكأنه ليس في صلاة؛ بل كأنه يبيع ويشتري أو يعمل أعمالاً أخرى حتى تنتهي الصلاة.
ومن وساوس الشيطان أن الإنسان يصلي فإذا كبر للصلاة؛ انفتحت عليه الهواجس من كل مكان، فإذا سلم زالت عنه، مما يدل على أن هذا من الشيطان، يريد أن يخرب عليه صلاته حتى يحرم من هذا الأجر العظيم.
وفي حديث عمرو بن عبسة فوائد كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ غريباً خائفاً متخفياً عليه الصلاة والسلام، جاءه عمرو بن عبسة وقد رأى ما عليه
أهل الجاهلية وأنهم ليسوا على شيء، فصار يتطلب الدين الصحيح الموافق للفطرة، حتى سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فجاء إليه، فوجده مستخفياً في بيته، لم يتبعه إلا حر وعبد ـ أبو بكر وبلال ـ لم يتبعه أحد، وفي هذا دليل على أن أبا بكر رضي الله عنه أول من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، ثم آمن بعده من الأحرار على بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو: ((إنك لا تستطيع أن تعلن إسلامك في هذا اليوم، ولكن اذهب فإذا سمعت أني خرجت فأتني)) فذهب وأتى إليه بعد نحو ثلاثة عشرة سنة في المدينة، بعد أن هاجر وقال له: أتعرفني؟ قال ((نعم)) . وأخبره أنه يعرفه، لم ينس طوال هذه المدة.
ثم أخبره مما يجب عليه لله عز وجل من حقوق، وبين له أن الإنسان إذا توضأ وأحسن الوضوء؛ خرجت خطاياه من جميع أعضائه، وأنه إذا صلى فإن هذه الصلاة تكفر عنه، فدل ذلك على أن فضل الله عز وجل أوسع من غضبه، وأن رحمته سبقت غضبه. نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته إنه جواد كريم.