المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ترجمته وقصته مع قومه] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ١

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله]

- ‌[فَصْلٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ خَلْقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ]

- ‌[بَابُ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا]

- ‌[ابْتِدَاءُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ

- ‌[بَابُ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْآيَاتِ]

- ‌[خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَعَظَمَةُ اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَرَّةِ وَقَوْسِ قُزَحٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ عليهم السلام]

- ‌[صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[فَصْلُ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ الْجَانِّ وَقِصَّةِ الشَّيْطَانِ]

- ‌[بَابُ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ آدَمَ عليه السلام]

- ‌[بِدَايَةُ خَلْقِ آدَمَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ قَابِيلَ وَهَابِيلَ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاةِ آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ]

- ‌[ذِكْرُ إِدْرِيسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَالطُّوفَانُ الَّذِي حَلَّ بِمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ نُوحٍ نَفْسِهِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ لِرَبِّهِ سبحانه وتعالى]

- ‌[ذِكْرُ صَوْمِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَجَّةِ نُوحٍ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّةُ هُودٍ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ صَالِحٍ نَبِيِّ ثَمُودَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَالْمُعْجِزَةُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهَا]

- ‌[ذِكْرُ مُرُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي الْحِجْرِ مِنْ أَرْضِ ثَمُودَ عَامَ تَبُوكَ]

- ‌[قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[تَرْجَمَتُهُ وَقِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ]

- ‌[ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ هِجْرَةِ الْخَلِيلِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَدُخُولِهِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ مَوْلِدِ إِسْمَاعِيلَ عليه الصلاة والسلام مِنْ هَاجَرَ]

- ‌[ذِكْرُ مُهَاجَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ]

- ‌[قِصَّةُ الذَّبِيحِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ]

- ‌[ذِكْرُ ثَنَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ]

- ‌[ذِكْرُ قَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[ذِكْرُ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام وَمَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ]

- ‌[ذِكْرُ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ عليه السلام وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الْعَمِيمَةِ]

- ‌[قِصَّةُ مَدْيَنَ قَوْمِ شُعَيْبٍ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ]

- ‌[قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ ذِي الْكِفْلِ]

الفصل: ‌[ترجمته وقصته مع قومه]

[قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام]

[تَرْجَمَتُهُ وَقِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ]

هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَخَ " 250 " بْنِ نَاحُورَ " 148 " بْنِ سَارُوغَ " 230 " بْنِ رَاغُوَ " 239 " بْنِ فَالَغَ " 439 " بْنِ عَابَرَ " 464 " بْنِ شَالَخَ " 433 " بْنِ أَرْفَخْشَدَ " 438 " بْنِ سَامِ " 600 " بْنِ نُوحٍ عليه السلام. هَذَا نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ، وَقَدْ أَعْلَمْتُ عَلَى أَعْمَارِهِمْ تَحْتَ أَسْمَائِهِمْ بِالْهِنْدِيِّ، كَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُدَدِ، وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى عُمُرِ نُوحٍ عليه السلام فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنْ تَارِيخِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ أَنَّ اسْمَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ أُمَيْلَةُ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْهُ فِي خَبَرِ وِلَادَتِهَا لَهُ حِكَايَةً طَوِيلَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْمُهَا نُونَا بِنْتُ كَرَنْبَا بْنِ كُوثَى مِنْ بَنِي أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يُكْنَى أَبَا الضِّيفَانِ قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ عُمُرُ تَارَخَ خَمْسًا

ص: 324

وَسَبْعِينَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَنَاحُورُ، وَهَارَانُ، وَوُلِدَ لِهَارَانَ لُوطٌ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام هُوَ الْأَوْسَطُ، وَأَنَّ هَارَانَ مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ أَرْضُ الْكَلْدَانِيِّينَ يَعْنُونَ أَرْضَ بَابِلَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْأَخْبَارِ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بَعْدَمَا رَوَى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بِغُوطَةِ دِمَشْقَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: بَرْزَةُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: قَاسِيُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَابِلَ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَقَامُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيهِ إِذْ جَاءَ مُعِينًا لِلُوطٍ عليه السلام. قَالُوا: فَتَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَنَاحُورُ مَلْكَا ابْنَةَ هَارَانَ، يَعْنُونَ بِابْنَةِ أَخِيهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ سَارَةُ عَاقِرًا لَا تَلِدُ. قَالُوا: وَانْطَلَقَ تَارَخُ بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَامْرَأَتِهِ سَارَةَ، وَابْنِ أَخِيهِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَنَزَلُوا حَرَّانَ، فَمَاتَ فِيهَا تَارَخُ وَلَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ بِحَرَّانَ، وَإِنَّمَا مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَهِيَ أَرْضُ بَابِلَ وَمَا وَالَاهَا. ثُمَّ ارْتَحَلُوا قَاصِدِينَ أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَهِيَ بِلَادُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَقَامُوا بِحَرَّانَ، وَهِيَ أَرْضُ الْكَشْدَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ أَيْضًا، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَالَّذِينَ عَمَّرُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ يَسْتَقْبِلُونَ الْقُطْبَ الشَّمَالِيَّ، وَيَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْفَعَالِ وَالْمَقَالِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ السَّبْعَةِ

ص: 325

الْقَدِيمَةِ هَيْكَلٌ لِكَوْكَبٍ مِنْهَا، وَيَعْمَلُونَ لَهَا أَعْيَادًا وَقَرَابِينَ. وَهَكَذَا كَانَ أَهْلُ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانُوا كُفَّارًا سِوَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَامْرَأَتِهِ، وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ عليهم السلام. وَكَانَ الْخَلِيلُ عليه السلام هُوَ الَّذِي أَزَالَ اللَّهُ بِهِ تِلْكَ الشُّرُورَ، وَأَبْطَلَ بِهِ ذَاكَ الضَّلَالَ. فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى آتَاهُ رُشْدَهُ فِي صِغَرِهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا، وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا فِي كِبَرِهِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] . أَيْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ - وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ - فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 16 - 27]

[الْعَنْكَبُوتِ: 16 - 27]

ص: 326

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ أَوَّلُ دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِإِخْلَاصِ النَّصِيحَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41] إِذْ {قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا - يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا - يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا - قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 42 - 48]

[مَرْيَمَ: 41 - 48] . يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَكَيْفَ دَعَا أَبَاهُ إِلَى الْحَقِّ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ إِشَارَةٍ، بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ عَابِدِهَا وَلَا تُبْصِرُ مَكَانَهُ، كَيْفَ تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا أَوْ تَفْعَلُ بِهِ خَيْرًا مِنْ رِزْقٍ أَوْ نَصْرٍ؟

ص: 327

ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْ أَبِيهِ {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] . أَيْ مُسْتَقِيمًا وَاضِحًا سَهْلًا حَنِيفًا، يُفْضِي بِكَ إِلَى الْخَيْرِ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ، فَلَمَّا عَرَضَ هَذَا الرُّشْدَ عَلَيْهِ، وَأَهْدَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، وَلَا أَخَذَهَا عَنْهُ بَلْ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] . قِيلَ: بِالْمَقَالِ. وَقِيلَ: بِالْفَعَالِ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] أَيْ وَاقْطَعْنِي وَأَطِلْ هِجْرَانِي فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47] أَيْ لَا يَصِلُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ، وَلَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى، بَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ نَاحِيَتِي، وَزَادَهُ خَيْرًا فَقَالَ:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ لَطِيفًا. يَعْنِي فِي أَنْ هَدَانِي لِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] . وَقَدِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، كَمَا وَعَدَهُ فِي أَدْعِيَتِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ. فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي. فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ

ص: 328

لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» . هَكَذَا رَوَاهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مُنْفَرِدًا.

وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] . هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ آزَرُ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّسَبِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ تَارَحُ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ: تَارَخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. فَقِيلَ: إِنَّهُ لُقِّبَ بِصَنَمٍ كَانَ يَعْبُدُهُ اسْمُهُ آزَرُ.

ص: 329

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ، وَلَعَلَّ لَهُ اسْمَانِ عَلَمَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَقَبٌ، وَالْآخَرُ عَلَمٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 75]

[الْأَنْعَامِ: 75 - 83] . وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ مُنَاظَرَةٍ لِقَوْمِهِ، وَبَيَانٌ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَةَ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ لَا تَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا أَنْ تُعْبَدَ مَعَ اللَّهِ عز وجل؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ تَطْلُعُ تَارَةً وَتَأْفُلُ أُخْرَى، فَتَغِيبُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ

ص: 330

، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي بِلَا زَوَالٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلًا عَدَمَ صَلَاحِيَةِ الْكَوْكَبِ - قِيلَ: هُوَ الزُّهَرَةُ - لِذَلِكَ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ مِنْهَا وَأَبْهَى مِنْ حُسْنِهَا، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَبَهَاءً، فَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مُسَيَّرَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَرْبُوبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام: 78] . أَيْ طَالِعَةً {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 78 - 80] . أَيْ لَسْتُ أُبَالِي فِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ، بَلْ هِيَ مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ كَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مَنْجُورَةٌ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْعِظَتَهُ هَذِهِ فِي الْكَوَاكِبِ لِأَهْلِ حَرَّانَ فَإِنَّهُمْ كَانَ يَعْبُدُونَهَا، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَخْبَارٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لَا يُوثَقُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَتِ الْحَقَّ، وَأَمَّا أَهْلُ بَابِلَ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَاظَرَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا، وَكَسَرَهَا عَلَيْهِمْ وَأَهَانَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] .

ص: 331

وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 51]

[الشُّعَرَاءِ: 69 - 83] .

ص: 332

وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 83]

[الصَّافَّاتِ: 83 - 98] .

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عليه السلام أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَحَقَّرَهَا عِنْدَهُمْ، وَصَغَّرَهَا، وَتَنَقَّصَهَا فَقَالَ:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] . أَيْ مُعْتَكِفُونَ عِنْدَهَا وَخَاضِعُونَ لَهَا {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] . مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا صَنِيعُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَنْدَادِ {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54] . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85] . قَالَ قَتَادَةُ: فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. وَقَالَ لَهُمْ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72] . سَلَّمُوا

ص: 333

لَهُ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ دَاعِيًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا الِاقْتِدَاءُ بِأَسْلَافِهِمْ، وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الضَّلَالِ مِنَ الْآبَاءِ الْجُهَّالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75] . وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهَا وَتَنَقَّصَ بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَضُرُّ لَضَرَّتْهُ أَوْ تُؤَثِّرُ لَأَثَّرَتْ فِيهِ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] . يَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ لَنَا، وَتَنْتَقِصُ بِهِ آلِهَتَنَا، وَتَطْعَنُ بِسَبَبِهِ فِي آبَائِنَا تَقُولُهُ مُحِقًّا جَادًّا فِيهِ أَمْ لَاعِبًا قَالَ:{بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56] . يَعْنِي: بَلْ أَقُولُ لَكُمْ ذَلِكَ جَادًّا مُحِقًّا، وَإِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّكُمْ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْخَالِقُ لَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَقَوْلُهُ:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] . أَقْسَمَ لَيَكِيدَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَى عِيدِهِمْ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا خُفْيَةً فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَحْضُرَهُ، فَقَالَ:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88] . عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَوَصَّلَ إِلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إِهَانَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ الْحَقِّ فِي بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُكَسَّرَ، وَأَنْ تُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ فِي بَلَدِهِمْ {فرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] . أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا مُسْتَخْفِيًا

ص: 334

فَوَجَدَهَا فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيَهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْأَطْعِمَةِ قُرْبَانًا إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِازْدِرَاءِ:{أَلَا تَأْكُلُونَ - مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ - فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 91 - 93] ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَبْطَشُ وَأَسْرَعُ وَأَقْهَرُ، فَكَسَّرَهَا بِقَدُومٍ فِي يَدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] أَيْ حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] . قِيلَ: إِنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ الْكَبِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ غَارَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَوَجَدُوا مَا حَلَّ بِمَعْبُودِهِمْ {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59] .

وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، وَهُوَ مَا حَلَّ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ عَنْ أَنْفُسِهَا مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا مِنْ جَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، وَكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ، وَخَبَالِهِمْ:{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59] . أَيْ يَذْكُرُهَا بِالْعَيْبِ، وَالتَّنَقُّصِ لَهَا، وَالِازْدِرَاءِ بِهَا فَهُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهَا، وَالْكَاسِرُ لَهَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] . {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] . أَيْ فِي الْمَلَأِ الْأَكْبَرِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَقَالَتَهُ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَيُعَايِنُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا أَكْبَرَ مَقَاصِدِ الْخَلِيلِ عليه السلام أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَيُقِيمَ عَلَى جَمِيعِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عليه السلام لِفِرْعَوْنَ:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] .

ص: 335

فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَجَاءُوا بِهِ. كَمَا ذَكَرُوا: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62] . قِيلَ: مَعْنَاهُ هُوَ الْحَامِلُ لِي عَلَى تَكْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ فَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا جَمَادٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] . أَيْ فَعَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ فَقَالُوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] . أَيْ فِي تَرْكِهَا لَا حَافِظَ لَهَا، وَلَا حَارِسَ عِنْدَهَا {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] . قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] . أَيْ فِي عِبَادَتِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سَوْءٍ أَيْ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالُوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] . أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِسُؤَالِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْخَلِيلُ عليه السلام: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66] . كَمَا قَالَ: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] . قَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْرِعُونَ. {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] . أَيْ كَيْفَ تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَتُصَوِّرُونَهَا وَتُشَكِّلُونَهَا كَمَا تُرِيدُونَ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ؟ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي فَمُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ مَخْلُوقَةٌ، فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا مِثْلَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَادَتُكُمْ

ص: 336

لَهَا بِأَوْلَى مِنْ عِبَادَتِهَا لَكُمْ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَالْآخَرُ بَاطِلٌ لِلتَّحَكُّمِ؛ إِذْ لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ تَصْلُحُ وَلَا تَجِبُ إِلَّا لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97] . عَدَلُوا عَنِ الْجِدَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمَّا انْقَطَعُوا وَغُلِبُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ حَجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، لِيَنْصُرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سَفَهِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَادَهُمُ الرَّبُّ جل جلاله، وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَبُرْهَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68] . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا يَجْمَعُونَ حَطَبًا مِنْ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَمَكَثُوا مُدَّةً يَجْمَعُونَ لَهُ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا مَرِضَتْ تَنْذِرُ لَئِنْ عُوفِيَتْ لَتَحْمِلَنَّ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى جَوْبَةٍ عَظِيمَةٍ فَوَضَعُوا فِيهَا ذَلِكَ الْحَطَبَ، وَأَطْلَقُوا فِيهِ النَّارَ فَاضْطَرَمَتْ وَتَأَجَّجَتْ وَالْتَهَبَتْ، وَعَلَاهَا شَرَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، ثُمَّ وَضَعُوا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي كِفَّةِ مَنْجَنِيقٍ صَنَعَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ هِيزَنُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْمَجَانِيقَ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخَذُوا يُقَيِّدُونَهُ وَيُكَتِّفُونَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ. فَلَمَّا وُضِعَ الْخَلِيلُ عليه السلام فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَكْتُوفًا، ثُمَّ أَلْقَوْهُ

ص: 337

مِنْهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قِيلَ لَهُ:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 173]

[آلِ عِمْرَانَ: 173 - 174] . الْآيَةَ.

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ» .

وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لَهُ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ مَلَكُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ فَأُرْسِلَ الْمَطَرَ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَيْ لَا تَضُرِّيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] لَأَذَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدُهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ يَنْتَفِعْ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِنَارٍ، وَلَمْ يُحْرَقْ مِنْهُ سِوَى وَثَاقِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ أَيْضًا مَلَكُ الظِّلِّ. وَصَارَ إِبْرَاهِيمُ

ص: 338

عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ الْجُونَةِ حَوْلَهُ النَّارُ، وَهُوَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَلَا هُوَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ كَلِمَةٍ قَالَهَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَمَّا رَأَى وَلَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ نَظَرَتْ إِلَى ابْنِهَا عليه السلام فَنَادَتْهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَجِيءَ إِلَيْكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ حَوْلَكَ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ لَا يَمَسُّهَا شَيْءٌ مِنْ حَرِّ النَّارِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اعْتَنَقَتْهُ، وَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ عَادَتْ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ هُنَاكَ إِمَّا أَرْبَعِينَ، وَإِمَّا خَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلُ إِذْ كُنْتُ فِيهَا. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَصِرُوا فَخُذِلُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا فَاتَّضَعُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَغْلِبُوا فَغُلِبُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: الْأَسْفَلِينَ فَفَازُوا بِالْخَسَارَةِ وَالسَّفَالِ هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ نَارَهُمْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَلَا سَلَامًا، وَلَا يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَلَا سَلَامًا، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66] .

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوِ ابْنُ سَلَّامٍ عَنْهُ،

ص: 339

أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ. وَقَالَ «كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْرَجَاهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اقْتُلُوا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّارَ» . قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْتُلُهُنَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، فَإِذَا رُمْحٌ مَنْصُوبٌ فَقَالَتْ: مَا هَذَا الرُّمْحُ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْأَوْزَاغَ، ثُمَّ حَدَّثَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ جَعَلَتِ الدَّوَابُّ كُلُّهَا تُطْفِئُ عَنْهُ إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ جَعَلَ يَنْفُخُهَا عَلَيْهِ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ حَدَّثَتْنِي سَائِبَةُ مَوْلَاةُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ

ص: 340

فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ قَالَتْ: هَذَا لِهَذِهِ الْأَوْزَاغِ نَقْتُلُهُنَّ بِهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَنَا «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ كَانَ يَنْفُخُ عَلَيْهِ» . فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِهِ.

ص: 341