الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذِكْرُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ]
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ وُلِدَ وَلِأَبِيهِ مِائَةُ سَنَةٍ بَعْدَ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُ أُمِّهِ سَارَّةَ حِينَ بُشِّرَتْ بِهِ تِسْعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112]
[الصَّافَّاتِ: 112، 113] . وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ «الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.» وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمَّا تَزَوَّجَ رِفْقَا بِنْتَ ثَبْوَائِيلَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ كَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَدَعَا اللَّهَ لَهَا فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامَيْنِ تَوْءَمَيْنِ أَوَّلُهُمَا سَمَّوْهُ عِيصُو، وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْعِيصَ. وَهُوَ وَالِدُ الرُّومِ، وَالثَّانِي خَرَجَ وَهُوَ آخِذٌ بِعَقِبِ أَخِيهِ فَسَمَّوْهُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَكَانَ إِسْحَاقُ يُحِبُّ الْعِيصَ أَكْثَرَ مِنْ يَعْقُوبَ لِأَنَّهُ بِكْرُهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُمَا رِفْقَا
تُحِبُّ يَعْقُوبَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ الْأَصْغَرُ. قَالُوا: فَلَمَّا كَبِرَ إِسْحَاقُ، وَضَعُفَ بَصَرُهُ اشْتَهَى عَلَى ابْنِهِ الْعِيصِ طَعَامًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَصْطَادَ لَهُ صَيْدًا، وَيَطْبُخَهُ لَهُ لِيُبَارِكَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ لَهُ، وَكَانَ الْعِيصُ صَاحِبَ صَيْدٍ فَذَهَبَ يَبْتَغِي ذَلِكَ فَأَمَرَتْ رِفْقَا ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يَذْبَحَ جَدْيَيْنِ مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ، وَيَصْنَعَ مِنْهُمَا طَعَامًا، كَمَا اشْتَهَاهُ أَبُوهُ، وَيَأْتِيَ إِلَيْهِ بِهِ قَبْلَ أَخِيهِ لِيَدْعُوَ لَهُ وَقَامَتْ فَأَلْبَسَتْهُ ثِيَابَ أَخِيهِ، وَجَعَلَتْ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَعُنُقِهِ مِنْ جِلْدِ الْجَدْيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِيصَ كَانَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ وَيَعْقُوبَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهِ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَدُكَ. فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَجَسَّهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَّا الصَّوْتُ فَصَوْتُ يَعْقُوبَ، وَأَمَّا الْجَسُّ وَالثِّيَابُ فَالْعِيصُ، فَلَمَّا أَكَلَ وَفَرَغَ دَعَا لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ إِخْوَتِهِ قَدْرًا، وَكَلِمَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الشُّعُوبِ بَعْدَهُ، وَأَنْ يَكْثُرَ رِزْقُهُ وَوَلَدُهُ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَاءَ أَخُوهُ الْعِيصُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِدُهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ الَّذِي اشْتَهَيْتَهُ. فَقَالَ: أَمَا جِئْتَنِي بِهِ قَبْلَ السَّاعَةِ وَأَكَلْتُ مِنْهُ وَدَعَوْتُ لَكَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ. وَعَرَفَ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَجْدًا كَثِيرًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ تَوَاعَدَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، وَسَأَلَ أَبَاهُ فَدَعَا لَهُ بِدَعْوَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَجْعَلَ لِذُرِّيَّتِهِ غَلِيظَ الْأَرْضِ، وَأَنْ يُكْثِرَ أَرْزَاقَهُمْ وَثِمَارَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهُمَا مَا يَتَوَاعَدُ بِهِ الْعِيصُ أَخَاهُ يَعْقُوبَ أَمَرَتِ ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَخِيهَا لَابَانَ الَّذِي بِأَرْضِ حَرَّانَ، وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ إِلَى حِينِ يَسْكُنُ غَضَبُ أَخِيهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِهِ، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا إِسْحَاقَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَيُوصِيَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ فَفَعَلَ فَخَرَجَ يَعْقُوبُ عليه السلام مِنْ عِنْدِهِمْ آخِرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي مَوْضِعٍ فَنَامَ فِيهِ أَخَذَ حَجَرًا فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ
وَنَامَ فَرَأَى فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ مِعْرَاجًا مَنْصُوبًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا الْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ فِيهِ وَيَنْزِلُونَ، وَالرَّبُّ تبارك وتعالى يُخَاطِبُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي سَأُبَارِكُ عَلَيْكَ، وَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ، وَأَجْعَلُ لَكَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَلَمَّا هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ فَرِحَ بِمَا رَأَى، وَنَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا لَيَبْنِيَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْبَدًا لِلَّهِ عز وجل، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَرْزُقُهُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ لِلَّهِ عُشْرُهُ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ دُهْنًا يَتَعَرَّفُهُ بِهِ. وَسَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بَيْتَ إِيلَ أَيْ بَيْتَ اللَّهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ الَّذِي بَنَاهُ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي قَالُوا: فَلَمَّا قَدِمَ يَعْقُوبُ عَلَى خَالِهِ أَرْضَ حَرَّانَ إِذَا لَهُ ابْنَتَانِ اسْمُ الْكُبْرَى لَيَا، وَاسْمُ الصُّغْرَى رَاحِيلُ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ رَاحِيلَ، وَكَانَتْ أَحْسَنَهُمَا، وَأَجْمَلَهُمَا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْعَى عَلَى غَنَمِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا مَضَتِ الْمُدَّةُ عَمِلَ خَالُهُ لَابَانُ طَعَامًا، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَزَفَّ إِلَيْهِ لَيْلًا ابْنَتَهُ الْكُبْرَى لَيَا، وَكَانَتْ ضَعِيفَةَ الْعَيْنَيْنِ قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَعْقُوبُ إِذَا هِيَ لَيَا، فَقَالَ لِخَالِهِ: لِمَ غَدَرْتَ بِي، وَأَنْتَ إِنَّمَا خَطَبْتُ إِلَيْكَ رَاحِيلَ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِنَا أَنْ نُزَوِّجَ الصُّغْرَى قَبْلَ الْكُبْرَى فَإِنْ أَحْبَبْتَ أُخْتَهَا فَاعْمَلْ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى وَأُزَوِّجُكَهَا. فَعَمِلَ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ مَعَ أُخْتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ كَافٍ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ يَعْقُوبَ عليه السلام دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا وَإِبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ. وَوَهَبَ لَابَانُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنِ ابْنَتَيْهِ جَارِيَةً؛
فَوَهَبَ لِلَيَا جَارِيَةً اسْمُهَا زُلْفَا، وَوَهَبَ لِرَاحِيلَ جَارِيَةً اسْمُهَا بَلُهَا، وَجَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ضَعْفَ لَيَا بِأَنْ وَهَبَ لَهَا أَوْلَادًا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَدَتْ لِيَعْقُوبَ رُوبِيلُ، ثُمَّ شَمْعُونُ، ثُمَّ لَاوِي، ثُمَّ يَهُوذَا، فَغَارَتْ عِنْدَ ذَلِكَ رَاحِيلُ، وَكَانَتْ لَا تَحْبَلُ فَوَهَبَتْ لِيَعْقُوبَ جَارِيَتَهَا بَلْهَا فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا سَمَّتْهُ دَانَ، وَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا آخَرَ سَمَّتْهُ يَفْثَالِي، فَعَمَدَتْ عِنْدَ ذَلِكَ لَيَا فَوَهَبَتْ جَارِيَتَهَا زُلْفَا مِنْ يَعْقُوبَ عليه السلام فَوَلَدَتْ لَهُ جَادَ وَأَشِيرَ غُلَامَيْنِ ذَكَرَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَتْ لَيَا أَيْضًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا خَامِسًا مِنْهَا وَسَمَّتْهُ أَيْسَاخَرَ، ثُمَّ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا سَادِسًا سَمَّتْهُ زَابِلُونَ، ثُمَّ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ بِنْتًا سَمَّتْهَا دِينَا، فَصَارَ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ يَعْقُوبَ، ثُمَّ دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى رَاحِيلُ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا مِنْ يَعْقُوبَ، فَسَمِعَ اللَّهُ نِدَاءَهَا وَأَجَابَ دُعَاءَهَا فَحَمَلَتْ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا عَظِيمًا شَرِيفًا حَسَنًا جَمِيلًا سَمَّتْهُ يُوسُفَ كُلُّ هَذَا، وَهُمْ مُقِيمُونَ بِأَرْضِ حَرَّانَ، وَهُوَ يَرْعَى عَلَى خَالِهِ غَنَمَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ عَلَى الْبِنْتَيْنِ سِتَّ سِنِينَ أُخْرَى فَصَارَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، فَطَلَبَ يَعْقُوبُ مِنْ خَالِهِ لَابَانَ أَنْ يُسَرِّحَهُ لِيَمُرَّ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لَهُ خَالُهُ: إِنِّي قَدْ بُورِكَ لِي بِسَبَبِكَ فَسَلْنِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: تُعْطِينِي كُلَّ حَمَلٍ يُولَدُ مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبْقَعَ، وَكُلَّ حَمَلٍ مُلْمِعٍ أَبْيَضَ بِسَوَادٍ، وَكُلَّ أَمْلَحَ بِبَيَاضٍ، وَكُلَّ أَجْلَحَ أَبْيَضَ مِنَ الْمَعْزِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَمَدَ بَنُوهُ فَأَبْرَزُوا مِنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ التُّيُوسِ لِئَلَّا يُوَلَدَ شَيْءٌ مِنَ الْحُمْلَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَسَارُوا بِهَا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ قَالُوا: فَعَمَدَ يَعْقُوبُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قُضْبَانٍ رَطْبَةٍ بِيضٍ مِنْ لَوْزٍ وَدُلْبٍ، فَكَانَ يُقَشِّرُهَا بَلْقَاءَ وَبَيْضَاءَ، وَيَضَعُهَا فِي مَسَاقِي الْغَنَمِ مِنَ الْمِيَاهِ لِيَنْظُرَ الْغَنَمُ إِلَيْهَا فَتَفْزَعَ، وَتَتَحَرَّكَ أَوْلَادُهَا فِي بُطُونِهَا فَتَصِيرَ أَلْوَانُ حُمْلَانِهَا كَذَلِكَ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ الْمُعْجِزَاتِ. فَصَارَ لِيَعْقُوبَ عليه السلام أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ وَدَوَابُّ وَعَبِيدٌ، وَتَغَيَّرَ لَهُ وَجْهُ خَالِهِ وَبَنِيهِ، وَكَأَنَّهُمُ انْحَصَرُوا مِنْهُ.
وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَعْقُوبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ، وَوَعَدَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهِ فَأَجَابُوهُ مُبَادِرِينَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَسَرَقَتْ رَاحِيلُ أَصْنَامَ أَبِيهَا، فَلَمَّا جَاوَزُوا وَتَحَيَّزُوا عَنْ بِلَادِهِمْ لِحَقَهُمْ لَابَانُ وَقَوْمُهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَابَانُ بِيَعْقُوبَ عَاتَبَهُ فِي خُرُوجِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعِلْمِهِ، وَهَلَّا أَعْلَمَهُ فَيُخْرِجَهُمْ فِي فَرَحٍ وَمَزَامِرَ وَطُبُولٍ، وَحَتَّى يُوَدِّعَ بَنَاتِهِ وَأَوْلَادَهُنَّ، وَلِمَ أَخَذُوا أَصْنَامَهُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ يَعْقُوبَ عِلْمٌ مِنْ أَصْنَامِهِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَخَذُوا لَهُ أَصْنَامًا فَدَخَلَ بُيُوتَ بَنَاتِهِ وَإِمَائِهِنَّ يُفَتِّشُ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، وَكَانَتْ رَاحِيلُ قَدْ جَعَلَتْهُنَّ فِي بَرْدَعَةِ الْجَمَلِ، وَهِيَ تَحْتَهَا فَلَمْ تَقُمْ، وَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا طَامِثٌ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِنَّ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَاثَقُوا عَلَى رَابِيَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا: جَلْعَادُ. عَلَى أَنَّهُ لَا يُهِينُ بَنَاتِهِ
وَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يُجَاوِزُ هَذِهِ الرَّابِيَةَ إِلَى بِلَادِ الْآخَرِ لَا لَابَانُ وَلَا يَعْقُوبُ، وَعَمِلَا طَعَامًا وَأَكَلَ الْقَوْمُ مَعَهُمْ، وَتَوَدَّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَتَفَارَقُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ يَعْقُوبُ مِنْ أَرْضِ سَاعِيرَ تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ يُبَشِّرُونَهُ بِالْقُدُومِ، وَبَعَثَ يَعْقُوبُ الْبُرُدَ إِلَى أَخِيهِ الْعِيصُو يَتَرَقَّقُ لَهُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ، فَرَجَعَتِ الْبُرُدُ وَأَخْبَرَتْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ الْعِيصَ قَدْ رَكِبَ إِلَيْكَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَخَشِيَ يَعْقُوبُ مِنْ ذَلِكَ، وَدَعَا اللَّهَ عز وجل وَصَلَّى لَهُ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ وَتَمَسْكَنَ لَدَيْهِ، وَنَاشَدَهُ عَهْدَهُ وَوَعْدَهُ الَّذِي وَعَدَهُ بِهِ. وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ شَرَّ أَخِيهِ الْعِيصَ، وَأَعَدَّ لِأَخِيهِ هَدِيَّةً عَظِيمَةً وَهِيَ؛ مِائَتَا شَاةٍ، وَعِشْرُونَ تَيْسًا، وَمِائَتَا نَعْجَةٍ، وَعِشْرُونَ كَبْشًا، وَثَلَاثُونَ لِقْحَةً، وَأَرْبَعُونَ بَقَرَةً، وَعَشَرَةٌ مِنَ الثِّيرَانِ، وَعِشْرُونَ أَتَانًا، وَعَشَرَةٌ مِنَ الْحُمُرِ، وَأَمَرَ عَبِيدَهُ أَنْ يَسُوقُوا كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَحْدَهُ، وَلْيَكُنْ بَيْنَ كُلِّ قَطِيعٍ وَقَطِيعٍ مَسَافَةٌ فَإِذَا لَقِيَهُمُ الْعِيصُ فَقَالَ لِلْأَوَّلِ: لِمَنْ أَنْتَ؟ وَلِمَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ فَلْيَقُلْ: لِعَبْدِكَ يَعْقُوبَ، أَهْدَاهَا لِسَيِّدِي الْعِيصَ. وَلْيَقُلِ الَّذِي بَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ: وَهُوَ جَاءَ بَعْدَنَا. وَتَأَخَّرَ يَعْقُوبُ بِزَوْجَتَيْهِ وَأَمَتَيْهِ وَبَنِيهِ الْأَحَدَ عَشَرَ بَعْدَ الْكُلِّ بِلَيْلَتَيْنِ، وَجَعَلَ يَسِيرُ فِيهِمَا لَيْلًا وَيَكْمُنُ نَهَارًا، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ تَبَدَّى لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَظَنَّهُ
يَعْقُوبُ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ فَأَتَاهُ يَعْقُوبُ لِيُصَارِعَهُ وَيُغَالِبَهُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ فِيمَا يُرَى إِلَّا أَنَّ الْمَلَكَ أَصَابَ وَرِكَهُ فَعَرَجَ يَعْقُوبُ، فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعْقُوبُ. قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْعَى بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَّا إِسْرَائِيلُ. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ وَمَا اسْمُكَ؟ فَذَهَبَ عَنْهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَصْبَحَ يَعْقُوبُ وَهُوَ يَعْرُجُ مِنْ رِجْلِهِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النِّسَا، وَرَفَعَ يَعْقُوبُ عَيْنَيْهِ فَإِذَا أَخُوهُ عِيصُ قَدْ أَقْبَلَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَخَاهُ الْعِيصَ سَجَدَ لَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ تَحِيَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ، كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ لِآدَمَ تَحِيَّةً لَهُ، وَكَمَا سَجَدَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَأَبَوَاهُ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، فَلَمَّا رَآهُ الْعِيصُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاحْتَضَنَهُ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، وَرَفَعَ الْعِيصُ عَيْنَيْهِ، وَنَظَرَ إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَهَبَ اللَّهُ لِعَبْدِكَ. فَدَنَتِ الْأَمَتَانِ وَبَنُوهُمَا فَسَجَدُوا لَهُ، وَدَنَتْ لِيَا وَبَنُوهَا فَسَجَدُوا لَهُ، وَدَنَتْ رَاحِيلُ وَابْنُهَا يُوسُفُ آخِرًا فَسَجَدَا لَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا، وَرَجَعَ الْعِيصُ فَتَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَلَحِقَهُ يَعْقُوبُ بِأَهْلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي وَالْعَبِيدِ قَاصِدِينَ جِبَالَ سَاعِيرَ، فَلَمَّا مَرَّ بِسَاحُورَا ابْتَنَى لَهُ بَيْتًا وَلِدَوَابِّهِ ظِلَالًا، ثُمَّ مَرَّ عَلَى أُورْشَلِيمَ قَرْيَةِ سَحِيمٍ فَنَزَلَ قَبْلَ الْقَرْيَةِ وَاشْتَرَى مَزْرَعَةَ بَنِي حَمُورَ أَبِي سَحِيمٍ بِمِائَةِ نَعْجَةٍ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ فُسْطَاطَهُ وَابْتَنَى ثَمَّ مَذْبَحًا فَسَمَّاهُ إِيلَ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَائِهِ لِيَسْتَعْلِنَ
لَهُ فِيهِ وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ الَّذِي جَدَّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، وَهُوَ مَكَانُ الصَّخْرَةِ الَّتِي أَعْلَمَهَا بِوَضْعِ الدُّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا.
وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ هُنَا قِصَّةَ دِينَا بِنْتِ يَعْقُوبَ مِنْ لَيَا، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ سَحِيمِ بْنِ حَمُورٍ الَّذِي قَهَرَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا وَإِخْوَتِهَا، فَقَالَ إِخْوَتُهَا: لَا نَفْعَلُ إِلَّا أَنْ تَخْتَتِنُوا كُلُّكُمْ فَنُصَاهِرَكُمْ وَتُصَاهِرُونَا، فَإِنَّا لَا نُصَاهِرُ قَوْمًا غُلْفًا. فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاخْتَتَنُوا كُلُّهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُمْ مِنْ أَلَمِ الْخِتَانِ، مَالَ عَلَيْهِمْ بَنُو يَعْقُوبَ فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَقَتَلُوا سَحِيمًا وَأَبَاهُ حَمُورًا لِقَبِيحِ مَا صَنَعُوا إِلَيْهِمْ، مُضَافًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ فَلِهَذَا قَتَلَهُمْ بَنُو يَعْقُوبَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ غَنِيمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ حَمَلَتْ رَاحِيلُ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، وَهُوَ بِنْيَامِينُ إِلَّا أَنَّهَا جَهَدَتْ فِي طَلْقِهَا بِهِ جَهْدًا شَدِيدًا، وَمَاتَتْ عَقِيبَهُ فَدَفَنَهَا يَعْقُوبُ فِي أَفَرَاثٍ، وَهِيَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَصَنَعَ يَعْقُوبُ عَلَى قَبْرِهَا حَجَرًا، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِقَبْرِ رَاحِيلَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَكَانَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ الذُّكُورُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَمِنْ لَيَا؛ رُوبِيلُ، وَشَمْعَونُ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَأَيْسَاخَرُ، وَزَابِلُونَ. وَمِنْ رَاحِيلَ؛ يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَمِنْ أَمَةِ رَاحِيلَ؛ دَانٌ، وَنَفْثَالِي. وَمِنْ أَمَةِ لَيَا؛ جَادٌ، وَأَشِيرُ. عليهم السلام، وَجَاءَ يَعْقُوبُ إِلَى أَبِيهِ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ حَيْثُ كَانَ يَسْكُنُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مَرِضَ إِسْحَاقُ وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدَفَنَهُ ابْنَاهُ الْعِيصُ وَيَعْقُوبُ مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.