المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قصة نبي الله أيوب عليه السلام] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ١

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله]

- ‌[فَصْلٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ خَلْقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ]

- ‌[بَابُ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا]

- ‌[ابْتِدَاءُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ

- ‌[بَابُ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْآيَاتِ]

- ‌[خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَعَظَمَةُ اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَرَّةِ وَقَوْسِ قُزَحٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ عليهم السلام]

- ‌[صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[فَصْلُ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ الْجَانِّ وَقِصَّةِ الشَّيْطَانِ]

- ‌[بَابُ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ آدَمَ عليه السلام]

- ‌[بِدَايَةُ خَلْقِ آدَمَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ قَابِيلَ وَهَابِيلَ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاةِ آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ]

- ‌[ذِكْرُ إِدْرِيسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَالطُّوفَانُ الَّذِي حَلَّ بِمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ نُوحٍ نَفْسِهِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ لِرَبِّهِ سبحانه وتعالى]

- ‌[ذِكْرُ صَوْمِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَجَّةِ نُوحٍ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّةُ هُودٍ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ صَالِحٍ نَبِيِّ ثَمُودَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَالْمُعْجِزَةُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهَا]

- ‌[ذِكْرُ مُرُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي الْحِجْرِ مِنْ أَرْضِ ثَمُودَ عَامَ تَبُوكَ]

- ‌[قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[تَرْجَمَتُهُ وَقِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ]

- ‌[ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ هِجْرَةِ الْخَلِيلِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَدُخُولِهِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ مَوْلِدِ إِسْمَاعِيلَ عليه الصلاة والسلام مِنْ هَاجَرَ]

- ‌[ذِكْرُ مُهَاجَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ]

- ‌[قِصَّةُ الذَّبِيحِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ]

- ‌[ذِكْرُ ثَنَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ]

- ‌[ذِكْرُ قَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[ذِكْرُ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام وَمَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ]

- ‌[ذِكْرُ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ عليه السلام وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الْعَمِيمَةِ]

- ‌[قِصَّةُ مَدْيَنَ قَوْمِ شُعَيْبٍ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ]

- ‌[قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ ذِي الْكِفْلِ]

الفصل: ‌[قصة نبي الله أيوب عليه السلام]

[قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ عليه السلام]

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصَ بْنَ رَزَاحَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصَ بْنِ رَغْوِيلَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ عليه السلام. وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام يَوْمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَلَمْ تَحْرِقْهُ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَرَّرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 84] الْآيَاتِ [الْأَنْعَامِ: 84] . مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ دُونَ نُوحٍ عليهما السلام، وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء: 163] . الْآيَةَ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَامْرَأَتُهُ قِيلَ: اسْمُهَا لَيَا بِنْتُ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: رَحْمَةُ بِنْتُ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَهَذَا أَشْهَرُ فَلِهَذَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا، ثُمَّ نَعْطِفُ بِذِكْرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

ص: 506

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83]

[ص: 41 - 44] . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ إِسْحَاقُ، ثُمَّ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ لُوطٌ، ثُمَّ هُودٌ، ثُمَّ صَالِحٌ، ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ، ثُمَّ إِلْيَاسُ، ثُمَّ الْيَسَعُ، ثُمَّ عُرْفِيُّ بْنُ سَوِيلَخَ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتَّى مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَيُّوبَ بْنِ رَزَاحَ بْنِ آمُوصَ بْنِ لِيفَرَزَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي بَعْضِ هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ فَإِنَّ هُودًا وَصَالِحًا الْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا بَعْدَ نُوحٍ، وَقَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ، وَالتَّارِيخِ، وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي وَالْأَرَاضِي الْمُتَّسِعَةِ بِأَرْضِ الْبَثْنِيَّةِ مِنْ أَرْضِ حُورَانَ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كَثِيرٌ، فَسُلِبَ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ

ص: 507

بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ يَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل بِهِمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ ذَاكِرٌ لِلَّهِ عز وجل فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ، وَطَالَ مَرَضُهُ حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَتَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ، وَضَعُفَ حَالُهَا، وَقَلَّ مَالُهَا حَتَّى كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ لِتُطْعِمَهُ، وَتَقُومَ بِأَوَدِهِ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا وَهِيَ صَابِرَةٌ مَعَهُ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُصِيبَةِ بِالزَّوْجِ، وَضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ، وَخِدْمَةِ النَّاسِ بَعْدَ السَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَالْحُرْمَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ» . وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ عليه السلام إِلَّا صَبْرًا وَاحْتِسَابًا، وَحَمْدًا وَشُكْرًا، حَتَّى إِنَّ الْمَثَلَ لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ عليه السلام، وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ خَبَرٌ طَوِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ ذَهَابِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَبَلَائِهِ فِي جَسَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ عليه السلام أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ

ص: 508

بَلْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَزَعَمَ وَهْبٌ أَنَّهُ ابْتُلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَالَ أَنَسٌ ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَظَّمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ حُمَيْدٌ: مَكَثَ فِي بَلْوَاهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهِ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا قَالَتْ: يَا أَيُّوبُ لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ لَفَرَّجَ عَنْكَ. فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا فَهُوَ قَلِيلٌ لِلَّهِ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَجَزِعَتْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ، وَتُطْعِمُ أَيُّوبَ عليه السلام، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَيُّوبَ خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ بَلَائِهِ أَوْ تُعْدِيَهُمْ بِمُخَالَطَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَخْدِمُهَا عَمَدَتْ فَبَاعَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا بِطَعَامٍ طَيِّبٍ كَثِيرٍ فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ فَقَالَتْ: خَدَمْتُ بِهِ أُنَاسًا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا فَبَاعَتِ الضَّفِيرَةَ الْأُخْرَى بِطَعَامٍ فَأَتَتْهُ بِهِ فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا. قَالَ فِي دُعَائِهِ:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ

ص: 509

حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ فَجَاءَا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا. فَجَزِعَ أَيُّوبُ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ مِثْلَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانًا، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصَانِ قَطُّ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ لَهُ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ. فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ

ص: 510

غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ» . قَالَ:«وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبُ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ فَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ. قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ؛ أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ» . هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ بِتَمَامِهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَلْبَسُهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ فَتَنَحَّى أَيُّوبُ، وَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا، لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ؟ وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً. قَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ. قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ

ص: 511

رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثنا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ عليه السلام أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُرْسِلَ عَلَى أَيُّوبَ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا فِي ثَوْبِهِ فَقِيلَ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ يَكْفِكَ مَا أَعْطَيْنَاكَ قَالَ: أَيْ رَبِّ، وَمَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِكَ. هَذَا مَوْقُوفٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا.

ص: 512

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ عز وجل: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى. قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] أَيِ اضْرِبِ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ فَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَأَنْبَعَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بَارِدَةَ الْمَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهَا، وَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْأَذَى وَالسَّقَمِ وَالْمَرَضِ، الَّذِي كَانَ فِي جَسَدِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صِحَّةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَجَمَالًا تَامًّا، وَمَالًا كَثِيرًا حَتَّى صَبَّ لَهُ مِنَ الْمَالِ صَبًّا مَطَرًا عَظِيمًا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] . فَقِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقِيلَ: آجَرَهُ فِيمَنْ سَلَفَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَدَلَهُمْ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ بِكُلِّهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ:{رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء: 84] . أَيْ رَفَعْنَا عَنْهُ شِدَّتَهُ، وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ رَحْمَةً مِنَّا بِهِ وَرَأْفَةً وَإِحْسَانًا {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84] أَيْ تَذْكِرَةً لِمَنِ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ فَلَهُ أُسْوَةٌ بِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ، حَيْثُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا اسْمَ امْرَأَتِهِ. فَقَالَ: هِيَ رَحْمَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ.

ص: 513

وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا شَبَابَهَا وَزَادَهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا.

وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعِينَ سَنَةً بِأَرْضِ الرُّومِ عَلَى دِينِ الْحَنِيفِيَّةِ، ثُمَّ غَيَّرُوا بَعْدَهُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ:{خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] . هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَيُّوبَ عليه السلام فِيمَا كَانَ مِنْ حَلِفِهِ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ. فَقِيلَ: حَلِفُهُ ذَلِكَ لِبَيْعِهَا ضَفَائِرَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ اعْتَرَضَهَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ يَصِفُ لَهَا دَوَاءً لِأَيُّوبَ، فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ، فَلَمَّا عَافَاهُ اللَّهُ عز وجل أَفْتَاهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا، وَهُوَ كَالْعِثْكَالِ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّمَارِيخَ فَيَجْمَعَهَا كُلَّهَا وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ هَذَا مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ بِمِائَةِ سَوْطٍ، وَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ. وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَأَطَاعَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ الصَّابِرَةِ الْمُحْتَسِبَةِ الْمُكَابِدَةِ الصِّدِّيقَةِ الْبَارَّةِ الرَّاشِدَةِ رضي الله عنها؛ وَلِهَذَا عَقَّبَ اللَّهُ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] . وَقَدِ اسْتَعْمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَتَوَسَّعَ آخَرُونَ فِيهَا حَتَّى وَضَعُوا كِتَابَ الْحِيَلِ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَصَدَّرُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَتَوْا فِيهِ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

ص: 514

لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَحْتَجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسُلَيْمَانَ عليه السلام عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَبِيُوسُفَ عليه السلام عَلَى الْأَرِقَّاءِ، وَبِأَيُّوبَ عليه السلام عَلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِمَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ حَوْمَلَ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بِشْرُ بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ ذُو الْكِفْلِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَاتَ ابْنُهُ هَذَا، وَكَانَ نَبِيًّا فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِنَ السِّنِينَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا قِصَّةَ ذِي الْكِفْلِ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ عليهما السلام.

ص: 515