الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"بسم الله الرحمن الرحيم"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد:
فهذه رسالة تتحدث حول مسائل
القضاء والقدر
والتوكل على الله والثقة بوعده من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل وقد جمعت فيها مسائل مهمة متفرقة عن هذه المواضيع وجعلتها على هيأة نقاط.
"القضاء والقدر"
- القدر هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته أو هو علم
الله وكتابته للأشياء ومشيئته وخلقه لها.
والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى مراتب القدر وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق وأفعال العباد داخلة في عموم خلقه عز وجل ولا يُخرجها عن ذلك العموم شيء.
ومفهوم هذه المراتب ما يلي:
1 -
العلم: فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم ، علم ما كان وما يكون وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي فلا يتجدد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم.
2 -
الكتابة فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة.
3 -
المشيئة فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض فلا يكون شيء إلا بمشيئته ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
4 -
الخلق فنؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده والله تعالى قد شاءها وخلقها ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة بهما يكون الفعل ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى لأن العاصي يُقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدَرها عليه ، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره ونؤمن بأن الشر لا يُنسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداًَ لأنه صادر عن رحمة وحكمة وإنما يكون الشر في مقضياته ومع هذا فإن الشر في المقضيات ليس شراً خالصاً محضاً بل هو شر في محله من وجه ، خيرٌ من وجه أو شر في محله خيرٌ في محل آخر.
والتقدير ينقسم إلى خمسة أقسام وهي:
1 -
التقدير العام لجميع الكائنات.
2 -
التقدير البشري وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على بني آدم في عالم الذر.
3 -
التقدير العمري وهو تقدير كل ما يجري على العبد من لدن نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله.
4 -
التقدير السنوي وهو تقدير ما يجري كل سنة وذلك ليلة القدر من كل سنة.
5 -
التقدير اليومي: وهو تقدير ما يجري كل يوم.
والتقدير البشري يدخل في التقدير العام على مذهب بعض أهل العلم فلا حاجة لذكره والله أعلم.
- ما شاء العبد إن لم يشأ الله لم يكن ، وما شاء الله وإن لم يشأ العبد كان.
- ما لم يشأ الله كونه فإنه لا يكون لعدم مشيئته له لا لعدم قدرته عليه.
- ينبغي للمؤمن استشعار واستحضار أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذن الله وأما الإيمان بمراتب القدر فيكفي فيها الإيمان المجمل من غير استشعاره كل حين ، بل ينبغي عدم التعمق والوسوسة في مراتب القدر فهو ذريعة الخذلان وسلم الحرمان.
- أفعال العباد الاختيارية هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً وهي من العباد فعلاً
وكسباً فالله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها.
- القدر قدران أحدهما المُثبت أو المُبرم وهو ما في أم الكتاب فهذا لا يتغير ولا
يتبدَل ، والثاني: القدر المعلَق أو المقيَد وهو ما في كتب الملائكة فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات.
- حقيقة القضاء المبرم والقضاء المعلق:
الواجب على المسلم أن يؤمن أن كل شيء في الكون واقع بقضاء من الله وقدره، فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر59} .
وفي حديث مسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.
وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
فالحذر من القدر وكذا الدعاء والإيمان، ولكن القضاء نوعان: قضاء مبرم: وهو القدر الأزلي، وهو لا يتغير، كما قال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ {قّ: 29} .
وقال صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: لقد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجل الله شيئا قبل حله، أو يؤخر شيئاً عن حله. رواه مسلم.
قال الإمام النووي: إن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل، فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك. اهـ.
وهناك قضاء معلق: وهو الذي في الصحف التي في أيدي الملائكة، فإنه يقال: اكتبوا عمر فلان إن لم يتصدق فهو كذا وإن تصدق فهو كذا، وفي علم الله وقدره الأزلي أنه سيتصدق أو لا يتصدق، فهذا النوع من القدر ينفع فيه الدعاء والصدقة، لأنه معلق عليهما، وهو المراد بقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {الرعد 39ـ 38}
وهو معنى حديث الترمذي: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر.
والحديث الآخر: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وقد سئل شيخ الإسلام سؤالا طويلا وفيه: هل شرع في الدعاء أن يقول: اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت: يمحو الله ما يشاء ويثبت؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ فكان مما أجاب به رحمه الله: والجواب المحقق أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب
…
وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ـ والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها، فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ: فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم. هـ.
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر
…
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب. اهـ.
وقال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: قال الغزالي: فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء. اهـ.
وقال العلامة السعدي: يمحوا الله ما يشاء ـ من الأقدار: ويثبت ـ ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال: وعنده أم الكتاب ـ أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها وهي فروع له وشعب، فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ. هـ.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: المحو والإثبات بالنسبة لما في علم المَلَك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق. اهـ.
- القضاء يعني قضاؤ الله عز وجل به عند وقوعه والقدر يعني تقدير الله الشيء
في الأزل ، فالقدر سابق والقضاء لاحق.
- القدر هو نظام التوحيد فمن وحَد الله وآمن بالقدر تمَ توحيده.
- التقدير الذي قدَره الله تابع لحكمته ورحمته وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات
حميدة وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.
- الله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً سواء مما يتعلق بأفعاله عز وجل أو
بأفعال عباده فهو مُحيط بها جملة وتفصيلاً بعلمه الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً.
- لا يلزم من علم الله الأزلي أن العبد مجبر:
قال الشنقيطي رحمه الله: ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
…
انتهى ثم ليعلم المسلم بأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فالله على كل شيء قدير.
- رد شبهة حول حديث "هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي"
قال صلى الله عليه وسلم من حديث طويل وفيه: " ثم خلق الله آدم، ثم خلق الخلق من ظهره، ثم قال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي". رواه الحاكم وقال صحيح.
قد يقرأ البعض هذا الحديث ويظنه دليل على صحة مذهب الجبرية في القدر والصواب أن الحديث متعلق بمرتبة العلم، فالله عز وجل قد علم عمل كل طائفة، فقال عن طائفة أهل الإيمان: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وقال عن طائفة أهل الكفر: هؤلاء للنار ولا أبالي.
ولا يشعر أحد من الطائعين أو العاصين أنه مجبور على فعل من الأفعال، بل كل منهم يفعل باختياره وإرادته. وما كتب عليهم شيء مجهول لهم، لا يعرفه واحد منهم، وإنما يعرف الخير والشر الذي أمامه، فمنهم من يتقي الله ومنهم من يعصيه. كل منهم يفعل ما يفعل مختاراً، مع أمرهم جميعاً بالخير، ونهيهم عن الشر والكفر، وتكافؤ الفرص أمام الفريقين في المؤاخذة والعذر.
وليس معنى هذا أن أعمالهم خارجة عن مشيئة الله وإرادته، بل هي بمشيئته سبحانه، فمن شاء الله هدايته للخير هداه وأعانه عليه، ومن شاء إضلاله منعه التوفيق فلم يعنه ولم يثبته. وليس في ترك إعانة من لم يعنه ظلم لهم، إذ لم يمنعهم حقاً لهم لا سيما وأن للهداية أسباباً قد تعاطاها المهتدون وللإضلال أسباب قد تعاطاها الضالون باختيارهم.
والمؤمن يوقن بأن الله تعالى غني عن خلقه، وأنه عدل رحيم لا يظلمهم مثقال ذرة، بل هو سبحانه ينعم عليهم ويتفضل، وهم يتبغضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد. فكيف يظن العبد أن الله تعالى سيظلمه؟!
فإن فهمت هذا فقد انحلت لك عقدة القدر.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة – (
اعلم أن الباعث على تخريج هذا الحديث يقصد حديث -القبضتين - وذكر طرقه أمران:
الأول: أن أحد أهل العلم – وهو الشيخ محمد طاهر الفتني الهندي – أورده في كتابه (تذكرة الموضوعات)(12)، وقال فيه:
مضطرب الإسناد ، ولا أدري ما وجه ذلك؟ فالحديث صحيح من طرق ، ولا اضطراب فيه ، إلا أن يكون اشتبه عليه بحديث آخر مضطرب ، أو عنى طريقاً أخرى من طرقه ، ثم لم يتتبع هذه الطرق الصحيحة له ، والله أعلم.
والثاني: أن كثيراً من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث – ونحوها أحاديث كثيرة
– تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية ، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق: بالجنة أو النار.
وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ ، فمن وقع في القبضة اليمنى ، كان من أهل السعادة ، ومن كان من القبضة الأخرى ، كان من أهل الشقاوة.
فيجب أن يعلم هؤلاء جميعاً أن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى 11 ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، فإذا قبض قبضة ، فهي بعلمه وعدله وحكمته ، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته ، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعة ، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى ، والعكس بالعكس ، كيف والله عز وجل يقول (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم 35 - 36
ثم إن كلاً من القبضتين ليس فيها إخبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار ، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم ، من إيمان يستلزم الجنة ، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها ، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان ، لا يكره الله تبارك وتعالى أحداً من خلقه على واحد منهما (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف 29 ، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة ، ولولا ذلك ، لكان الثواب والعقاب عبثاً ، والله منزه عن ذلك.
ومن المؤسف حقاً أن نسمع من كثير من الناس – حتى من المشايخ – التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له ، وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس ، مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة ، وإعلانه بأنه قادر على الظلم ، ولكنه نزه نفسه عنه ، كما في الحديث القدسي المشهور:(يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ..... ) ، وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة ، بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى:(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) الأنبياء 23 ، مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم ، ولكنه لا يسأل عن ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وفاتهم أن الآية حجة عليهم ، لأن المراد بها -كما حققه العلامة ابن القيم في (شفاء العليل) وغيره- أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل ، لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح ، فلا داعي للسؤال .. .انتهى).
- كل قضاء للمؤمن هو خيرٌ له وإن كان ظاهره الشر:
فإنه قد ثبت في الصحيح (أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).
- كل ما سوى الله فهو مخلوق له وكما أن ذوات المخلوقات مخلوقة فكذلك أن
صفاتها من أقوالها وأعمالها مخلوقة.
- حكم الخوض في القدر:
إن البحث في القضاء القدر من أجلِ تعلم ما يجب على المسلم اعتقاده ويصحح به إيمانه واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم لجبريل جوابًا عن سؤاله عن الإيمان: وأن تؤمن بالقدر خيره وشره. رواه مسلم فدل ذلك على أن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان التي يجب على المسلم أن يؤمن بها، ومعلوم أنه لا يتحقق هذا الإيمان الواجب إلا بعد العلم به.
وأما الخوض في القضاء والقدر بالظن وعدم العلم ومحاولة علم ما لا تهتدي العقول إلى معرفته فإنه لا يجوز. فقد روى أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب. قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم!. قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده. قال الشيخ الأرناؤوط: صحيح.
وفي رواية ابن ماجه قال: خرج رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى أصحابه وهم يختصمون في القدر. فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب. فَقَالَ: بهَذَا أمرتم أو لهَذَا خلقتم؟ تضربون القُرْآَن بعضه ببعض. بهَذَا هلكت الأمم قبلكم!. قَالَ: فَقَالَ عَبْد اللَّه بْنُ عمرو: مَا غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَا غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عَنْهُ.
وروى الطبراني من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا. وقد حسن إسناده المباركفوري في تحفة الأحوذي، وصححه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة وصحيح الجامع.
والمراد بالإمساك المذكور في الحديث عدم التكلف في إدراك سر القدر، والإمساك عن محاورة ومجادلة المنكرين له، وعدم الخوض فيه بالعقل لئلا يتأثر المجادل بالقدرية أو الجبرية؛ كذا قال المناوي في فيض القدير.
وأما كلام أهل العلم من أهل السنة فيه فهو أمر مهم لما فيه من إحقاق الحق وبيان المذهب الصحيح في شأنه ورد الشبه التي يوردها أهل الضلال والزيغ، فهذا سائغ لأهل العلم، ولا يسوغ للعوام والخائضين فيه بعقولهم المجردة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الخوض في ذلك - أي في القضاء والقدر - بغير علم تام، أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
التنازع فيه.
وفي الحديث الذي ذكرناه أخيرًا ما يدل على ذلك، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا فليس معناه - كما هو معلوم - الإمساك عن ذكر فضائل الصحابة وجهادهم، إنما معناه الإمساك عن ذكرهم بالباطل، وكذلك يقال في القدر.
أما ما يؤثر عن بعض العلماء من أن القدر سر الله في خلقه، فهذا صحيح يجب إدراكه لكل من يبحث في القدر، لكن هذا محصور في الجانب الخفي التفصيلي من القدر، ألا وهو كونه سبحانه وتعالى أضل وهدى، وأمات وأحيا، ومنع وأعطى، وقسم ذلك بين عباده بقدرته ومشيئته النافذة، فمحاولة معرفة سر الله في ذلك لا تجوز؛ لأن الله حجب علمها حتى عن أقرب المقربين، أما جوانب القدر الأخرى وحِكَمُه العظيمة ومراتبه ودرجاته وآثاره، فهذا مما يجوز الخوض فيه، وبيان الحق للناس فيه، بل بيانه مما يندب إليه، وينبغي شرحه وإيضاحه للناس؛ إذ الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي ينبغي تعلمها ومعرفتها.
- المستقبل بالنسبة للعبد أُنُف وإن كان بالنسبة لله عز وجل قد سبق به علمه
وجرى به قلمه ، والله يختص برحمته وفضله من يشاء ولا يمنع ما هو للعبد.
- الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في
التأثير.
- الإنسان مخيَر باعتبار ومسيَر باعتبار فهو مخيَر باعتبار أن له قدرة ومشيئة
واختياراً ومسيَر باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل في القدر راجع إليه ولكونه لا يخرج عمَا قدره الله له.
- لا يُحتج بالقدر على الشرع.
- محل جواز الاحتجاج بالقدر:
الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به والتوحيد والتوكل على الله والنظر إلى سبق قضائه وقدره فهو محمود مأمورٌ به وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية ، وكذلك إذا فعل ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه ثم لم يحصل له مُراده بعد اجتهاده فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره كان محموداً وكذلك إذا احتج بعد التوبة من الذنب ومغفرة الله وأيضاً يجوز الاحتجاج بالقدر والعذر به في أخطاء الخلق في حق العبد الخاص.
- حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب وظلم العباد فيما بينهم:
إن اعتذار المذنبين والظالمين واحتجاجهم بالقدر يُنافي التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي، ويعتبر خللاً في العقيدة، وينقل العبد من دائرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر، ويؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء إلا أن هناك جانب من الاعتذار لا بأس أن يقوم به الإنسان، وهذا الاعتذار هو ما كان في حق العبد الخاص، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعذر في حقه، فإذا كان الخطأ في حقك أنت أيها المسلم، فإن من السنة أن تعذر أخاك المسلم في حقك، فقد قال أنس رضي الله عنه: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي
لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه، وكان إذا عاتبني بعض أهله قال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه فلو قُضي شيء لكان). فقد كان عليه الصلاة والسلام يعذر المسلمين بالقدر للأخطاء التي تكون في حقه، فلم يكن يضربهم ولا يلومهم ولا يقرعهم وهذا إذا كان الوضع يحتمل ذلك.
أما الأشياء التي تكون في حق الله، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعذر فيها أحداً بالقدر مطلقاً، فإنه لما سرقت المرأة قطع يدها، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً: هذه المرأة قدر الله عليها بالسرقة، وما ذنبها، إذاً لا نقطع يدها، كلا؛ بل قطع يدها؛ لأن هذا حق من حقوق الله عز وجل، وكذلك لما تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قضاء الله وقدره، دعونا نستسلم للقضاء والقدر ولا نعاقب هؤلاء؛ بل قد همَّ بتحريق بيوتهم عليهم، ولما زنت المرأة، وزنى الرجل رجمهما صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرها بالقدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمر الله تعالى، ولكنه يقبل هذا إذا كان في حقه، فقد عذر أنس بالقدر في حقه كما ذكرنا وقال:(لو قضي شيء لكان) فصلوات الله وسلامه عليه ، أما عذر النفس بالذنوب، أو عذر العباد في تقصيرهم في حقوق الله تعالى، فهذا مزلق عظيم يؤدي إلى معذرة عبدة الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء، وعذر فرعون وهامان، ونمرود بن كنعان وأبو جهل وأصحابه، وسيؤدي بك الأمر إلى إعذار إبليس وجنوده، وكل كافر وظالم ومتعدٍ لحدود الله.
- أفعال العبد قسمان أفعال هو مُجبر عليها مُسيَر عليها كحركة القلب والهرم
ونحوها وأفعال هو مُخيَر فيها وهي مناط التكليف.
- الفرق بين فعل العبد اللاإرادي والفعل الإرادي المُختار:
أن ما وقع باختيار العبد هو مناط التكليف وفعل العبد الاختياري وغير الاختياري هما من جُملة القضاء والقدر.
- هل للإنسان قدرة ومشيئة أم لا؟
نعم له مشيئة وقدرة ، ومشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله عز وجل تابعتان لها.
فللعبد قدرة واختيار ومشيئة لا يجبره على فعله الاختياري أحد حتى خالقه بل يفعل ما يفعله بمحض إرادته وحسب مشيئته، لكن فعله هذا وإرادته هذه داخله في خلق الله تعالى له كما أنها مسبوقة بعلم الله الأزلي فلا يعمل عملاً إلا وقد سبق تقديره وإرادته في علم الله الأزلي وكتبه عنده في كتابه الذي جرى بما كان ويكون إلى قيام الساعة وعلم الله كاشف لا مُكره ولا تأثير لما سبق في علم الله وكتابته وتقديره على محض اختيار العبد وإرادته فكتابة الله المقادير في اللوح المحفوظ هي كتابة علم وليست كتابة إجبار والله عز وجل يعلم ما كان ، ويعلم ما يكون ، ويعلم ما سيكون ، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون فعلمه مطلق وقد أحاط بكل شيءٍ علماً ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وكتابة أفعال العباد الاختيارية في اللوح المحفوظ فرع عن علمه عن الخلق وما سيعملون
وعلى هذا فالمكتوب من أعمال العباد الاختيارية واقع لا محالة ، لا، لأن المكتوب جبر للعبد بل لأن المكتوب فرع عن علم الله المُطلق المُحيط بخلقه.
- الله سبحانه منزهٌ عن الشر والشر هو الظلم والظلم هو وضع الشيء في غير
محله فإذا وُضع في محله لم يكن شراً، فعُلم أن الشر ليس إليه وأسماءه الحسنى تشهد بذلك والله تبارك وتعالى منزهٌ عن نسبة الشر إليه بل كل ما نسب إليه فهو خير والشر إنما صار شراً لانقطاع نسبته وإضافته إليه، وإيجاد الله للعقوبة على ذنب لا يُعد شراً له بل ذلك عدل منه تعالى وتمكين الله بعض خلقه لفعل الشر وإذنه الكوني به ومشيئته لها هو خير باعتبار حكمة الله ومآلات هذا الإذن الكوني والله له الحكمة البالغة التي يُحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة علمها من علمها وجهلها من جهلها وإن كان وقوع هذا الفعل السيء والظلم من العبد يُعد عيباً ونقصاً وشراً في حقه فسبحان من يُولَي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون.
- ليس في القدر شر وإنما الشر في المقدور والشر ليس في فعل الله وتقديره
وإنما الشر في مفعولات الله لا في فعله والله تعالى لم يقدر هذا الشر إلا لخير وهذه المفعولات والمخلوقات هي شر من وجه وخير من وجه آخر فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة.
- الشر لا يُنسب إلى الله تعالى فهو منزه عن الشر ولا يفعل إلا الخير والقدر من
حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه فإنه علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه وذلك خير محض فالشر إنما هو في المقضي لا في القضاء وفي مفعولات الله لا في أفعاله عز وجل.
- حكم وصف الله عز وجل بأفعال خلقه السيئة باعتبار أنه خالقها:
لا يجوز وصف الله عز وجل بأفعال خلقه السيئة وإن كان خالقها. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم "وكونُه خَلَقَ أفعالَ العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يُوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خَلْقُهُ وتقدِيرُه، فإنَّه لا يُوصَف إلَاّ بأفعاله، لا يوصف بأفعال عباده، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنَّما يوصف بما قام به مِن صفاته وأفعاله، والله أعلم"
…
انتهى.
ثم إن الله عز وجل قد تبرأ من الشرك والظلم والكفر وأهله فلذلك توعد الكفار والمشركين والظالمين بالعذاب يوم القيامة ، ولكنه قد شاء الكفر والظلم في الحياة الدنيا لحكم ومصالح من وراء ذلك ، وفرق بين فعل الله سبحانه وبين ما هو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ما هو ظلم منه وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو المخلوق هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان هي بالنسبة إليه تكون سرقة
وزنا وصلاة وصوماً، والله تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به لا للخالق الذي خلقها وجعلها صفات، والله - تعالى - خلق كل صانع وصنعته كما جاء ذلك في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته.
ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به ، وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالاً له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها ، وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة.
ولهذا ألزم السلف بعض أهل البدع في القدر أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود:{أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، ولم تقل: نطق الله بذلك؛ بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره ، زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً تعالى الله عن ذلك؛ ولهذا قال من قال من السلف كسليمان بن داود الهاشمي وغيره ما معناه: إنه على هذا يكون الكلام الذي خلق في فرعون حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، كالكلام الذي خلق في الشجرة حتى قالت:{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} ، فإما أن يكون فرعون محقًا، أو تكون الشجرة كفرعون وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال: المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون: ليس بمتكلم. ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له. أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل.
وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم من فعل الظلم فليس هو من فعله في غيره، ولم يقم به فعل أصلا، بل لابد أن يكون قد قام به فعل، وإن كان متعدياً إلى غيره، فهذا جواب. ثم يقال لهم: الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغي واعتداء عليه. وأما من لم يكن معتدي عليه به ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له.
ثم إن الله سبحانه إذا خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو
طويلا، أو قصيرًا، أو متحركاً، أو ساكنًا أو عالمًا، أو جاهلا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًا، أو ميتًا. أو مؤمنًا أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًا، أو ظالمًا ، أو مظلومًا كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والحي والميت، والظالم والمظلوم، ونحو ذلك، والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل والشرب الذي هو أكل من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلاً ولا مأكولاً.
ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها ومتعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك ، والله تعالى أعلم.
- لا يُعصى الله قسراً بل بإذنه وهو لا يرضى ذلك ولكنه يأذن به لحكمة.
- الله خلق كل شيء الخير والشر، ولكن الشر لا يُنسب إليه، لأنه خلق الشر
لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فالشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته، أي مخلوقاته ، فعُلم أن الشر ليس إليه وأسماءه الحسنى تشهد بذلك ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله) نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم (وقوله (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (وقوله) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (وقوله (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد* وهو الغفور الودود (فبين سبحانه أن بطشه شديد وأنه هو الغفور الودود.
واسم " المنتقم " ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى (إنا من المجرمين منتقمون) وقوله (إن الله عزيز ذو انتقام (والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه) البر التواب المنتقم العفو الرءوف (ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه ; ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها: يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه
وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه.
- وجه عدم إضافة الشر مفردا إلى الله تعالى:
من المعلوم المقطوع به أن الله تعالى هو خالق كل شيء، وأنه لا تكون حركة ولا سكنة إلا بإذنه ومشيئته، ولا يوجد في الكون إلا ما قدره وقضاه، فالشر مخلوق لله تعالى كما قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {الزمر:62} . لكن الشر ليس إلى الله تعالى فهو ليس من أفعاله وإن كان من مفعولاته، وذلك أن الله إنما خلق الشر لحكم بالغة تترتب على وجوده، فخلقه وإيجاده له ليس شرا وإن كان هو في نفسه شرا. ولذا لا يضاف الشر إلى الله تعالى، بل إما أن يدخل في العموم كقوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {الزمر:62} . أو يضاف إلى سببه كقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ {الفلق:2} . أو يحذف فاعله كقول مؤمني الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ {الجن:10} . ومن الثاني قول الخليل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. {سُورَةُ الشُّعَرَاءِ:80}
قال شيخ الإسلام: وَاللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا، كَمَا قَالَ:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ: 7] وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 88] فَلِهَذَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَدًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ [اللَّهِ تَعَالَى]: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 62] وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ - مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [سُورَةُ الْفَلَقِ: 1، 2] وَالثَّالِثُ كَقَوْلِهِ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 10] وَقَدْ قَالَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [سُورَةُ الْفَاتِحَةِ: 6، 7] فَذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُ النِّعْمَةِ، وَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ، وَأَضَافَ الضَّلَالَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ [عليه السلام] {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 80]، وَلِهَذَا كَانَ لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ. وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الشَّرُّ فِي الْمَفْعُولَاتِ، كَقَوْلِهِ:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 98]. انتهى. وهذا من تمام الأدب مع الله تعالى في الخطاب بحيث لا يضاف إليه مفردا إلا أشرف قسمي أفعاله سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد، وفيه فوائد عديدة: إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن
الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب، وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم. ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني، وقال فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول. ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} . لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل. انتهى.
- سُئل ابن تيمية رحمه الله تعالى عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من
الشيطان؟ وأن الشر هو بيد العبد، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فإذا أُنكر عليه في هذه يقول: قال الله تعالى (إن الله لا يأمر بالفحشاء) ، (فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر (وإن عقيدة هذا أن الخير من الله وأن الشر بيده، فإذا أراد أن يفعل الشر فعله ; فإنه قال: إن لي مشيئة فإذا أردت أن أفعل الشر فعلته، فهل له مشيئة فعالة أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله - أصل هذا الكلام له مقدمتان: إحداهما: أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح، ويحب الحسنات ويرضاها، ويُكرم أهلها، ويُثيبهم ويُواليهم، ويرضى عنهم، ويُحبهم ويُحبونه، وهم جُند الله المنصورون، وحزب الله الغالبون، وهم أولياؤه المتقون، وحزبه المفلحون، وعباده الصالحون أهل الجنة، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهم أهل الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان، وهو يُبغض ذلك ويمقت أهله، ويلعنهم ويغضب عليهم، ويُعاقبهم ويُعاديهم، وهم أعداء الله ورسوله، وهم أولياء الشيطان، وهم أهل النار وهم الأشقياء لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق، وعاصٍ ليس بكافر ولا فاسق.
والمقدمة الثانية: أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه لا رب غيره ; ولا خالق سواه، وأنه ما شاء كان ; وما لم يشأ لم يكن ; لا حول ولا قوة إلا به ;
ولا ملجأ منه إلا إليه ; وأنه على كل شيء قدير.
فجميع ما في السماوات والأرض من الأعيان وصفاتها وحركاتها ; فهي مخلوقة له ; مقدورة له ; مصرفة بمشيئته، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه ; ولا يشركه في شيء من ذلك غيره ; بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ; له الملك وله الحمد ; وهو على كل شيء قدير، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين ; فمن يهده الله فلا مضل له ; ومن يضلل فلا هادي له.
فإذا ثبتت هاتان " المقدمتان ". فنقول: إذا أُلهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خُذل العبد فلم يعبد الله ; ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وُكل إلى حوله وقوته. فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره ; لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة ; بل (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل.
وعلى العبد أن يؤمن بالقدر، وليس له أن يحتج به على الله ; فالإيمان به هدى ; والاحتجاج به على الله ضلال وغي، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صباراً شكوراً ; صبوراً على البلاء، شكوراً على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره، سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيراً حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله.
وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله، وكانت مكتوبة على العبد ; كما قال تعالى) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وقال) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب، ولا يحتج على الله بالقدر، ولا يقول: أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب ; بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه ; لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وفعل الفاحشة، وهو الذي ظلم نفسه ; كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد، فهو الموصوف بهذه الأفعال ; وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب بهذه المحدثات، له ما كسب وعليه ما اكتسب، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة قال تعالى) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (فعلى العبد أن يصبر على المصائب، وأن يستغفر من المعائب ، والله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى
لعباده الكفر ; ولا يحب الفساد، وهو سبحانه خالق كل شيء ; وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ; ومشيئة العبد للخير والشر موجودة، فإن العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا.
وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه ; لا خالق غيره ; ولا رب سواه ; ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وقد أثبت الله " المشيئتين " مشيئة الرب ; ومشيئة العبد ; وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (وقال تعالى) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (وقد قال تعالى) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (
وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي ; فيتنازعون هذا يقول: قل كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله، والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية ; فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات، النعم والمصائب ، كما في قوله (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء ، ومعنى الآية في المنافقين: كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية ، قالوا: هذا من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا: هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس، وابتلينا لأجله بهذه المصائب، فقال الله تعالى) فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، وما أصابك من نعمة: نصر وعافية ورزق فمن الله، نعمة أنعم الله بها عليك، وما أصابك من سيئة: فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك.
كما قال في الآية الأخرى) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (وقال تعالى) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (وقال تعالى) وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم ، فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم ، فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يُلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد
ودعاه استجاب دعاءه.
كما قال) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (ومن قال: لا مشيئة له في الخير ولا في الشر فقد كذب ومن قال: إنه يشاء شيئاً من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب ; بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، بل هؤلاء الضالون ، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر، بل يقابلوه بالحق والباطل، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم ; وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه.
وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر، فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر ، كما قال تعالى) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقياً في الدنيا والآخرة ; والمؤمن سعيداً في الدنيا والآخرة والله سبحانه أعلم.
- الله خالق كل شيء لكن مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين
المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى) أفنجعل المسلمين كالمجرمين (وكما قال) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (وقال تعالى) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (وقال تعالى وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور *وما يستوي الأحياء ولا الأموات (وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ).
- الله سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وله فيما خلقه حكمة بالغة ونعمة
سابغة ورحمة عامة وخاصة وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا لمجرد قدرته وقهره بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته.
- مخلوقات الله باعتبار الخير والشر تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
1 -
شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
2 -
خير محض، كالجنة والرسل والملائكة.
3 -
فيه شر وخير، كالإنس والجن والحيوان.
- الشر في المقضي لا في القضاء.
- السيئة ذات شطرين: سبب ، وعقوبة جزاءً وفاقاً، فالسبب فهو من العبد لكفره
وظلمه وإعراضه والجزاء والعقوبة من الله.
- ليس كل ما يريد الله كوناً يرضاه ويحبه شرعاً وديانة.
فالإرادة الربانية تنقسم إلى قسمين:
1 -
كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة ولا يخرج عن مرادها شيء أبداً ولا بد أن تقع.
2 -
شرعية دينية: وتتضمن محبة الرب ورضاه ولا يلزم وقوعها فقد تقع وقد لا تقع لأنها تتعلق بفعل العبد الاختياري.
- قد يُريد الله أمراً ويشاؤه وفي الوقت نفسه لا يحبه إذ أن المراد نوعان:
1 -
مراد لنفسه إرادة الغايات ومنه خلق جبريل عليه السلام.
2 -
مراد لغيره فهو وسيلة إلى غيره مثل خلق إبليس فهو مكروه لله من حيث نفسه وذاته ومُراد له عز وجل من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مُراده فهو سبب لحصول محاب كثيرة فيجتمع الأمران بغضه له وإرادته له ولا يتنافيان فيُبغض من وجه ويُحب من وجه آخر.
- المحبوب قسمان: محبوب لذاته، ومحبوب لغيره. والمحبوب لغيره قد يكون
مكروهاً لذاته ولكن يُحب لما فيه من الحكمة والمصلحة فيكون حينئذ محبوباً من وجه ومكروهاً من وجه آخر.
- كون الله لا يريد أمراً ما لا يعني عدم قدرته عليه فالله عز وجل على كل
شيء قدير لكنه لا يفعل إلا ما يريد وفرق بين قدرة الله المطلقة وبين ما يريد فعله.
- حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحده:
أهل السنة والجماعة لا يقصرون معنى الظلم في حق الله على: (التصرف في ملك الغير، أو مخالفة من تجب طاعته) كما تقوله بعض المذاهب. فيكون الظلم ممتنعاً لذاته على الله ، بل الظلم عندهم أعم من هذا، فالظلم في حق الله سبحانه هو: وضع الشيء في غير موضعه. فالله سبحانه قادر على الظلم، لكنه منزه عنه، وقد حرمه على نفسه. وقد جمع شيخ الإسلام بين المعنيين فقال في (الرسالة الأكملية): الظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه، والله له كل شىء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره، أو مخالفة أمر من يجب
عليه طاعته، فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا، امتنع الظلم منه. وإما أن يقال: هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه، إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته، فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه. اهـ.
وقال ابن القيم في (الفوائد): زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا .... وأما أهل السنة فالظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه. اهـ. بتصرف يسير.
فالظلم لغة هو وضع الشيء في غير موضعه كما ذكرنا، وقد تمدح الله بنفي الظلم عن نفسه ونزه نفسه عنه لكمال عدله وحكمته تبارك وتعالى، وأما التأويل المذكور القائل بأن معنى الظلم مقصور على:(التصرف في ملك الغير، أو مخالفة من تجب طاعته) كما تقوله بعض المذاهب فيكون الظلم ممتنعاً لذاته على الله. فغير صحيح في اللغة ولا في المعنى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هُوَ ـ أي الظلم ـ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالما. انتهى.
وفي الحديث " ياعبادي إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولا ثناءً، إذ لايُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟
فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال:(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)
…
[الكهف:49] وأيضاً مستحيل لكمال عدله.
وقال ابن القيم رحمه الله مبينا وجه نفي الظلم عن الله تعالى: قد اتفق أهل الأرض والسماوات على أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، حَتَّى أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ بِالْعَدْلِ وَمُنَزِّهُونَ لَهُ عَنِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِعَدْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ {الملك: 11} وَقَالَ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {الأنعام: 130} فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وقد
اختلفت طرق الناس في حقيقة الظلم الذي ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: هُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، قَالُوا: لِأَنَّ الظُّلْمَ إِمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِمَّا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَكِلَاهُمَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَإِنَّ اللَّهَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَمْرٌ تَجِبُ طَاعَتُهُ، قَالُوا: وهو قول كثير من الفقهاء أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثم ذكر قول القدرية المتضمن لنفي خلق أفعال العباد ثم قال: وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَا يُسَاوِي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَيَضَعُهَا مَوْضِعَهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَا يُعَاقِبُ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً، وَتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِذَيْنِكَ التَّفْسِيرَيْنِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَوَضْعٌ جَدِيدٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، يُقَالُ: ظَلَمَ الرَّجُلُ سِقَاءَهُ إِذَا سَقَى مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ زُبَدُهُ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ أَظْلَمُ مِنْ حَيَّةٍ، لِأَنَّهَا تَأْتِي الْحُفَرَ الَّذِي لَمْ تَحْفُرْهُ فَتَسْكُنُهُ وَيُقَالُ: قَدْ ظَلَمَ الْمَاءُ الْوَادِي إِذَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَكُنْ يَصِلُ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَرَّاءُ: أَصْلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وهذا القول هو الصواب المعروف في لغة الْعَرَبِ وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ أَلْفَاظُهُمَا عَلَى لُغَةِ الْقَوْمِ لَا عَلَى الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّ هَذَا أَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ وَتَحْرِيفٍ وَبِدْعَةٍ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ دَائِمًا، يَصْطَلِحُونَ عَلَى مَعَانٍ يَضَعُونَ لَهَا أَلْفَاظًا مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَحْمِلُونَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ. انتهى بتصرف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث:"لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم".قال: يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك؛ لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب. وكذلك قوله تعالى:{وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد} . يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما؛ لاستحقاقهم ذلك وإن الله لا يريد الظلم. اهـ.
وقال ابن تيمية أيضاً معلقاً على ذات الحديث في موضع آخر: والتحقيق أنه إذا قدر أن الله فعل ذلك فلا يفعله إلا بحق لا يفعله وهو ظالم، لكن إذا لم يفعله فقد يكون ظلما يتعالى الله عنه. اهـ.
وقال بعض أهل العلم بأن تعذيب المطيع ومن لا ذنب له يعتبر من هذه الحيثية هو من الظلم الذي تنزه الله تعالى عنه وإلا لو عذبه في الدنيا لمقتضى آخر كالابتلاء والاختبار ونحوه فلا يكون ظلماً.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في أحد دروسه:} والمستحيل ما لا يمكن وجوده، والجائز ما يمكن وجوده وعدمه، والواجب ما لا يمكن عدمه، والموجودات إما من قبيل الجائز أو من قبيل الواجب أو من قبيل المستحيل.
ونرجع في استحالة الشيء وعدمه قطعاً إلى الشرع؛ أي إلى الكتاب والسنة، فيما يتعلق بالشرعيات، وإلى الواقع وأهل الخبر فيما سوى ذلك، وإلا لأمكن كل واحد أن يقول: هذا مستحيل، كما قال أهل التعطيل: إن الله مستحيل أن يكون له وجه، ومستحيل أن يكون له يد، ومستحيل أن يكون له عين، وما أشبه ذلك.
لكن الكلام على الواقع، فالمستحيل غير ممكن، والواجب غير ممكن عدمه، والجائز ما أمكن وجوده وعدمه.
ولنضرب لهذا أمثلة: فوجود إله مع الله مستحيل ولا شك، وعدم الله مستحيل، ووجود الله واجب، ووجود الآدمي جائز؛ لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدميين وجائز ألا يخلق، وتعذيب الله سبحانه وتعالى للطائع ممتنع وإن كان يمكن أن يقع، لكنه ممتنع شرعاً، وممتنع عقلاً من وجه آخر، ممتنع شرعاً لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحداً، وتعذيب الطائع ظلم، قال الله تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)(طه: الآية112) إذاً فهو مستحيل شرعاً، وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله عز وجل؛ لأن الله منزه عن الظلم لذاته. فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث: ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم))، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لن يدخل أحد الجنة بعمله)) قالوا: ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).قلنا لا إشكال، أما الأول: فمعناه أن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهم مستحقون للعذاب، وهو غير ظالم، وهم إنما يستحقون متى خالفوا؛ بترك الطاعة أو بفعل المعصية.
وأما الثاني: فالباء في قوله: ((بعمله)) للمعاوضة، يعني لو رجعنا إلى التعويض لم يدخل أحد الجنة؛ لأن الإنسان لو حُوسب على أدنى نعمة من الله لهلك، لكن برحمة الله سبحانه وتعالى
…
انتهى.
ويقول أحد أهل العلم عن ذات الحديث: الإشكال أننا تصورنا أن العذاب كائن قبل العمل والنص لا يدل عليه بل يدل أن العذاب لو كان لكان بعد العمل بدليل قوله لو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام
يريد أن يطمئننا ويثبت قلوبنا بأنه لو فُرض أن الله سيعذب خلقه فلن يكون ذلك إلا بذنوب تستحق ذلك، فليطمئن كل إنسان إلى عدل الله وقدره وحكمته، وأنه لا يعذب أحداً إلا مستحقاً للعذاب، والدليل على دقة هذا الفهم أنه رد على ما حاك في صدر ابن الديلمي من القدر، وأنه ربما فهم من بعض الآيات أن الله يعذب من يشاء أو أن الله قدر كل شيء، وعليه فلا مهرب من قدر الله، فكيف يعذب الله الناس ولا مهرب لهم من القدر؟!!! فجاء الحديث يرسخ عنده وعندنا أنه لو فرض أن الله عذب جميع الخلق فلن يكون ذلك إلا بعد استحقاقهم ذلك بالذنوب ، وهو معنى قوله " لعذبهم وهو غير ظالم لهم " ولا يعذب الله من لا يرتكب الذنب
…
انتهى).
وقيل بأن معنى الحديث أنه لا ينجو أحد من الخلق بعمله معاوضةً لعظيم فضل الله عليه وفي ذلك يقول ابن القيم في (شفاء العليل): هذا الحديث حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه، وله شأن عظيم، وهو دال على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما، وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد؛ فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي؟ وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله؟ ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا. اهـ.
وذكر كلاما طويلا ومفيدا، ثم أطال النفس في تقرير عظيم إحسان الله إلى خلقه وإنعامه عليهم بما لا يقدرون عن إحصائه فضلا عن شكره وأداء حق عبوديته، وأنه لا ينجو أحد منهم بعمله، ثم قال رحمه الله: فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم. اهـ.
وقال في آخر الباب: وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد، كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به، وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا. اهـ.
وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين في موضع آخر من (شرح العقيدة السفارينية) عن هذا الحديث فقال: الجواب عنه يكون من أوجه: أولاً: ينظر في صحة الحديث. ثانياً: فإذا صح كان المعنى أن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان تعذيبه إياهم في غير ظلم، أي لكان تعذيبه إياهم بسبب منهم وهو المعصية. ثالثاً: لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك بأن يقابل إحسانه بإحسانهم، فإنه إذا قابل إحسانه بإحسانهم صار إحسانهم ليس بشيء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد الجنة بعمله" أي من باب المقابلة، لأن الله لو حاسبنا على
وجه المناقشة لكان فعلنا للخيرات دَيناً علينا، لأنه هو الذي منَّ علينا بذلك، وحينئذٍ لو عذبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه لعذبنا وهو غير ظالم، هذا إذا صح الحديث، وعلى ذلك فلا يكون في هذا إشكال. اهـ.
وقال ابن القيم أيضاً مقرراً هذا المعنى: الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال ابن القيم كذلك في (مفتاح دار السعادة): لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم. اهـ.
وأما ابن رجب فنحا نحوا آخر في (جامع العلوم والحكم) حيث قال: في هذا الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم. وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم، لقدر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالم لهم حينئذ. اهـ.
وعلى هذا يتبين لنا بأن الظلم المنفي عن الله عز وجل والذي حرمه الله على نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه، ومنع ذي الحق حقه، كأن ينقص أحداً من ثواب حسناته، أو يحمل أحداً أوزار غيره ، وليثق المسلم أن كل مخلوق له حق عند الله عز وجل فسيأخذه لا محالة وهذا متفق عليه بين جميع المسلمين وإن اختلفت مذاهبهم في معرفة وبيان تفصيل هذه الحقوق ، ولهذا صدق القائل حين قال:
ما للعباد عليه حق واجب * كلا ولا سعي لديه ضائع.
إن عذبوا فبعدله أو نعموا * فبفضله وهو الكريم الواسع.
ثم اعلم أخي المسلم بأنه ليس للناس على الله حق إلا ما أحقه الله على نفسه، وقد أحق الله على نفسه لعباده حقوقا كثيرة، منها: حق النصرة للمؤمنين، كما قال تعالى [وكان حقا علينا نصر المؤمنين] ومنها أن لا يعذب من لم يشرك به شيئا، فقد ثبت في ((الصحيحين)) من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي
الله عنه، وهو رديفه: يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم. فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، ومنها أن من حفظ الله منهم حفظه ووجده تجاهه.
وهنا مسألة مهمة وهو أنه لا يجب العدل في الفضل إنما العدل يكون في الحقوق علماً بأن الله عز وجل لا يتفضل على أحد من خلقه إلا بسبب وموجب من العبد علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم بمن يصلح لفضله فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود على قيراط قيراط، ثم عملت النصارى على قيراط قيراط، ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين "، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال:" هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ " قالوا: لا، فقال:" فذلك فضلي أوتيه من أشاء " رواه البخاري.
- من أسباب امتناع الله عز وجل عن الظلم:
سبب الظلم الرئيسي هو الفقر والحاجة والله هو الغني الحميد ولا يحتاج إلى أحد من خلقه فقد كان ولم يكن قبله شيء قال تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (.
السبب الثاني للظلم: الجهل والجهل هو معرفة الأشياء على غير حقيقتها أو عدم معرفتها أصالةً والله عز وجل هو العليم الذي لم يُسبق علمه بجهل وقد أحاط بكل شىء علماً وهو علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور قال تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ) وبالتالي جميع أسباب الظلم ممتنعة على الله سبحانه قال تعالى {إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُم يَظْلِمُونَ).
- دحض شبهة حول تشريع الذبح للأضاحي قربة لله:
قال الرازي عند تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال: المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله. قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح. واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة، فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها. وهذا كالمكابرة في الضروريات. (قلتُ هذا الكلام من الرازي فيه نظر) وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض، وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح. وقال أصحابنا: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه. والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول. اهـ.
وقال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): وَقَدْ ألقى إبليس إِلَى البراهمة ست شبهات
…
الشبهة الخامسة: قالوا: قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان، والجواب: أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض، وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عَلَيْهِ هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه، ومتى اشتبه علينا أمر فِي فرع لم يجز أن نحكم عَلَى الأصل بالبطلان. ثم قد ظهرت حكمة ذلك فإنا نعلم أن الحيوان يفضل عَلَى الجماد، ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم والفطنة والقوى النظرية والعملية، وحاجة هَذَا الناطق إِلَى إبقاء فهمه ولا يقوم فِي إبقاء القوى مقام اللحم شيء، ولا يستطرف تناول القوي الضعيف، وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم، فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة، وأما ألم الذبح فإنه يسير. وَقَدْ قيل إنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أَوْ سكتة لم يحس الإنسان بألم،
فَإِذَا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إِلَى محل الحس ولهذا قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته. اهـ.
قلتُ وقد ثبت علمياً أن ما تجده البهيمة من ألم في الذبح الشرعي ما هو إلا ألم يسير جداً لا يكاد يُذكر وفي ذلك يقول د. جواد الهدمي الحاصل على دكتوراه في علوم الدواجن التطبيقية وأمراضها/ لندن في بحث له منشور على النت باسم "الإعجاز العلمي في التخدير بالذبح ووجوب عدم نخع الذبائح " ولكن الحقيقة العلمية أن الألم عند الحيوان المذبوح لا يستمر لأكثر من ثوان قليلة، لأن جميع أجهزة الجسم تكون منشغلة في إمداد الدماغ بالدم.
فالأعصاب التي تحوي الدم تتلقى الأوامر من المخ بإمداده بالدم بسبب نقص الدم عند ذبح الحيوان، وتبدأ عضلات الجسم بالتشنج وردود الأفعال والتي من خلالها يتدفق الدم عبر الأوعية الدموية باتجاه القلب، ثم يوجه القلب هذه الدماء باتجاه المخ، ولكنها سوف تخرج خارج جسد الحيوان لأنه مذبوح." ثم قال " ومن الفروق الجوهرية بين الذبح الإسلامي وغير الإسلامي، أن الذبح الإسلامي يؤدي إلي عدم الشعور بالألم وكأنه تخدير للذبيحة، والتخدير هنا كما نفهمه اليوم طبيا هو عدم الشعور بالألم، أما في الغرب فيلجأون إلي تدويخ أو إغماء الحيوان قبل ذبحه وهي شكل من أشكال التخدير البدائية التي مورست في سنوات خلت قبل تقدم وتطور الطب وتم التخلي عنها، وهذا يؤدي إلى بقاء نسبة عالية من الدم في الذبيحة، وذلك لفقدانه القدرة علي الحركة العضلية وبالتالي تسبب احتقان الجسم بالدماء. " وقال أيضاً " يدعي بعض المستشرقين أن الطريقة الإسلامية في الذبح طريقة لا إنسانية ويستدلون على ذلك بالتقلصات والاختلاجات التي يقوم بها الحيوان بعد عملية الذبح.
والحقيقة أنه عكس ذلك تماماً فإن الطريقة الإسلامية في الذبح إذا أجريت بالطريقة الصحيحة تقطع الدم والهواء فوراً عن الدماغ فيصاب الحيوان بإغماء كامل ويفقد الحس تماماً والاختلاجات التي تحدث هي عبارة عن أفعال انعكاسية لها أهمية كبيرة في تخليص الذبيحة تماماً مما بها من الدم."
وقال " لا بد هنا من التفريق بين عدم الوعي وعدم الإحساس بالألم فالحيوان هنا مع عملية الذبح يكون كامل الوعي لكنه عديم الإحساس بالألم فالمخ والقلب نشيطان وهي من المتطلبات الفسيولوجية والتشريحية للتخلص من الدم. "
ثم قال " وإن ما نراه في الحيوان من رفس وتشنج وما شابه ذلك هي من مؤثرات بقاء الحياة في الجهاز العصبي، ولا يشعر الحيوان المذبوح بها على الإطلاق."
وعموماً على المسلم أن يعتقد أن الله عز وجل لا يضع الشيء في غير موضعه، ولا يمنع ذي الحق حقه ولا يظلم خلقه مثقال حبة من خردل أياً كانوا ، هذا وإن كنا قد نختلف في تعيين هذه الحقوق على التفصيل.
- كيفية الجمع بين اعتقاد أن القدر خيره وشره من الله وبين محبة الله عز وجل:
لا تلازم بين اعتقاد أن القدر خيره وشره من الله وبين محبة الله سبحانه وتعالى وذلك مثل المريض والطبيب والمرض فالمريض هو العبد والمرض هو الشر المقدور والطبيب هو الله عز وجل وله المثل الأعلى فهذا المريض يحب الطبيب ويبغض المرض والعلاج المر لكن لعلمه بنصح الطبيب فهو يحب الطبيب وإن كان يكره ويبغض المرض وعلاجه المر.
- الله عز وجل أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وقضاؤه وقدره لا يخرج عنهم
وهو أعلم بمصالح عباده منهم وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك فهو من عدله فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل علماً أنه ليس من لوازم الرحمة أن تكون ظاهرة لبادي الرأي فقد تكون الرحمة هي عين بعض المصائب للصالحين والأولياء وذلك باعتبار مآلها ويدلك على ما قررناه ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع فخفضه ورفعه من عدله وإحسانه إلى خلقه من فضله.
والإنسان لا يعلم عاقبة أمره وقضاء الله لعبده المؤمن عطاء وإن كان في صورة منع ، ونعمة وإن كان في صورة محنة ، وبلاءه عافية وإن كان في صورة بلية ’ والله يعلم ونحن لا نعلم ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل وكان مُلائماً لطبعه.
- الله عز وجل له الحكمة البالغة في كل فعل من أفعاله وقد تظهر لنا الحكمة وقد
تخفى ولا يلزم أن ندرك حكمته عز وجل في كل شيء أو أن يدرك ذلك كل أحد.
- على المسلم أن يعلم أن لله تعالى في جميع أفعاله حكماً جليلة ظهرت لنا أو
خفيت فالله عز وجل لم يُطلع خلقه على جميع حكمه بل أعلمهم بما شاء وما خفي عليهم أكثر مما يعلموه فأفعال الله وأوامره لا تخلو من الحكم الباهرة العظيمة التي تُحيَر العقول وإن كُنا لا نعلمها على وجه التفصيل لأن عدم العلم بالشيء لا يلزم منه عدمه.
- من حِكم خلق إبليس أن يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات
والمتقابلات وأن يكمل الله لأوليائه مراتب العبودية وحصول الابتلاء ليكون محكاً يمتحن به الخلق ليتبين به الخبيث من الطيب وظهور آثار أسماء الله تعالى ومقتضياتها ومتعلقاتها واستخراج ما في طبائع البشر من الخير بإرسال الرسل ومن الشر بخلق إبليس ، وغيرها من الحكم.
ومن حِكم خلق المصائب والآلام الدنيوية استخراج عبودية الضراء وهي الصبر كما تُستخرج عبودية السراء وهي الشكر وطهارة القلب والخلاص من الخصال القبيحة كآفات القلوب المعلومة من كبر وعجب وفرعنة وقسوة قلب ونحوها والنظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية وإيقاظ المبتلى من غفلته ومعرفة قدر العافية وحصول رحمة أهل البلاء والصلاة من الله والرحمة والهداية وحصول الأجر وكتابة الحسنات وحط الخطيئات والعلم بحقارة الدنيا وهوانها والدخول في زمرة المحبوبين وغير ذلك من الحكم.
- القدر سر الله في خلقه والبحث فيه بحث في بحر عميق مظلم وحيرة عقول
وأفهام إلا من سلمه الله تعالى ، وكل الخلق سائرون إلى ما خلقهم الله له بناءً على علمه بما سيعملون واقعون فيما قدر عليهم وهذا القدر لا يخرج عن العدل والفضل.
- الواجب على العبد في باب القدر أن يؤمن بقضاء الله وقدره ويؤمن بشرع الله
وأمره ونهيه فعليه تصديق الخبر وطاعة الأمر فإذا أحسن حمد الله تعالى وإذا أساء استغفر الله تعالى وعلم أن ذلك بقدر الله.
- أحوال المسلم مع أقدار الله المؤلمة:
1 -
الصبر وهو واجب وهو أن يرى هذا المقدور ثقيل عليه لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط.
2 -
الرضا وهو مستحب وذلك بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً.
3 -
الشكر وهو أعلى المراتب وذلك بأن يشكر الله عز وجل على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير السيئات وربما لزيادة الحسنات.
- الشكوى إذا لم تكن على سبيل التسخط وعدم الرضا بالمقدور فلا تُبطل العمل
ولا تتعارض مع الصبر ولابد للمصدور أن ينفث ، إلا أن الصبر وعدم الشكوى أولى.
- قد يُريد العبد شيئاً والخير في عكسه والرب أعلم بالعبد من نفسه ولا يريد
لعبده إلا ما هو خيرٌ له ولا يأمره إلا بما فيه مصلحة له.
- هناك فرق بين ما أريد بنا وما أريد منا فما أراده الله بنا طواه الله عنَا إلا ما
أطلعنا عليه من خلال رسوله وما أرداه منَا أمرنا بالقيام به فلنُشغل أنفسنا فيما أريد منا عما أريد بنا.
- القضاء والقدر يُعالج بالقضاء والقدر.
فالمعتدي على النفس أو المال أو البضع (العرض) يسميه العلماء صائلاً، ودفع الصائل بما يندفع به مشروع، ويُدفع بالأخف فما فوقه والأخف كالزجر والتهديد، ويختلف حكم دفع الصائل باختلاف ما يريد الاعتداء عليه، فإن كان يريد أخذ المال فدفعه جائز لا واجب، والمُعتدى عليه مُخيَر بين أن يدفع عن ماله، وبين أن يعطيه المال، وكذا في الدفع عن النفس، وأما في الدفع عن البضع (العرض) فقد قال كثير من العلماء بوجوب الدفع، ومما ينبغي أن يُعلم أن الواجب دفع الصائل بالأخف فالأخف، فلا يجوز قتله إن كان يندفع بما دون ذلك. فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل جاز قتله، ولا إثم على القاتل.
فإذا صال عليك إنسان يريد قتلك أو أخذ مالك أو انتهاك عرضك أو قتل معصوم أو أخذ ماله أو انتهاك عرضه فإنك تدفعه بالأسهل فالأسهل فإن لم يندفع إلا بالقتل فلك قتله والله عز وجل هو الذي سلَط الصائل على العبد بسبب ذنوبه ولا يظلمُ ربَك أحداً وإن كان هذا الصائل أحياناً ظالماً مُستحقاً للعقوبة. فحق الله سبحانه الاستغفار وحق الصائل المُدافعة.
- الله عز وجل قد شرع دفع الصائل ومدافعة الشر.
- الله عز وجل قد شرع مكافأة المُحسن إلينا بالمعروف.
- لا مانع من مباشرة الأسباب لكن المحظور أو الممنوع أن يلتفت إليها، ويظن
بها التأثير المستقل، فالمسبب هو الله سبحانه وتعالى، وهو النافع الضار.
- يجب على المسلم فعل الأسباب المشروعة المقدور عليها لتحقيق المراد فإن
أتت الأمور على ما يريد حمد الله وإن أتت على خلاف ما يريد تعزَى بقدر الله وعلم أن ذلك كله وقع بقدر الله وخيرة الرب لعبده خيرٌ من خيرة العبد لنفسه.
وإذا جاءت أقدار الله على خلاف ما يُريد المسلم وقد بذل الأسباب المشروعة لتحقيق المراد فليقل قدر الله وما شاء فعل ولا يسترسل مع أحزانه ويعلم أن ربه قضى ما هو خير له ولو بعد حين ولو لم يدركه عقله في الحال.
- الأخذ بالأسباب لا يعارض الإيمان بالقدر:
المسلم مأمور بأن يأخذ بما قدر عليه من الأسباب الحسية، فيشغل جوارحه بما وظيفتها الاشتغال به وهو السعي والحركة، ويكون قلبه معلقا بربه لا بغيره عالما أنه لا يصيبه إلا ما قدره له وقضاه، ولذلك قيل في تعريف التوكل كما في مدارج السالكين: إنه سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون. ومعناه أن القلب يسكن فلا يتعلق بغير الله ولا يتوجه إلى غيره تفويضا له سبحانه وعلما أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأما الجوارح فإنها تضطرب وتتحرك في السعي لا تفتر عن ذلك ركونا إلى القدر السابق فإن هذا هو العجز والحمق، والعاقل الكيس لا يعارض بين القدر السابق والأخذ بالأسباب فإن الأسباب والمسببات من قدر الله تعالى، بل يتبع وصية النبي صلى الله عليه وسلم القائل: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا
تعجز. فأمر بالأخذ بالأسباب والاجتهاد في ذلك وعدم العجز، وأمر بالاستعانة بالله التي هي من أقوى الأسباب فإنه لا يكون شيء إلا بتقديره سبحانه وبحمده.
وخذ هذه الوصية الجامعة من ابن القيم رحمه الله لعلها تضبط لك هذا الباب، يقول رحمه الله: على العبد أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَنَّ السَّبَبَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَقْضِي وَلَا يَحْكُمُ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ، فَيَأْتِي بِالْأَسْبَابِ إِتْيَانَ مَنْ لَا يَرَى النَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ وَالْوُصُولَ إِلَّا بِهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا لَا تُنْجِيهِ، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُ فَلَاحًا، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَيُجَرِّدُ عَزْمَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا حِرْصًا وَاجْتِهَادًا، وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، تَجْرِيدًا لِلتَّوَكُّلِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ يَقُولُ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ» فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُسَبِّبِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكُ تَجْرِيدَهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ - ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، شَرَائِعُهُ وَحَقَائِقُهُ - تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّة. انتهى.
- السعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب والشقي يجزع عند
المصائب ويحتج بالقدر على المعائب.
- الموقف من المصائب ومن المعائب:
أمر الله نبيه إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر ولا يتحسر على الماضي بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه فالنظر إلى القدر عند المصائب ، والاستغفار عند المعائب ; قال تعالى) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) وقال تعالى (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) قال علقمة وغيره هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
- استحباب الرضا بقضاء الله عز وجل فيه تفصيل نرضى بالقضاء الذي هو فعل
الله عز وجل وأما المقضي الذي هو فعل العبد ففيه تفصيل فإن كان مرضياً لله رضينا به كالطاعات والإيمان وإن كان غير مرضي لله لم نرض به كالمعاصي.