المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ونذكر أيضًا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي - شفاء الضرر بفهم التوكل والقضاء والقدر

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: ونذكر أيضًا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي

ونذكر أيضًا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. اهـ. والله أعلم.

‌السؤال العاشر:

يتوهم بعض المسلمين وجود تناقض بين قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)} (البقرة)، وبين قوله تعالى:{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)} (الصافات)؛ حيث إن الموضع الأول يفيد أن بعض رسل بني إسرائيل قد قتلوا، وأن أعداءهم تمكنوا منهم وانتصروا عليهم، بينما الموضع الثاني يفيد أن رسل الله تعالى منصورون في الدنيا والآخرة.

ومثل ذلك قوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) ونحن نرى الكافرين يتسلطون على المؤمنين في بلادهم وأبدانهم وأموالهم وأهليهم ،

ويتساءلون: ما تأويل هذه الآيات الكريمة؟!

بدايةًً اعلم أخي المسلم أنه لا تعارض بين الآيات الواردة بنصرة المرسلين وبين ما وقع لهم من قتل، ويمكن التوفيق بين هذه الآيات بأحد الوجوه التالية:

1) ثباتهم على دينهم وعزيمتهم على الرشد.

2) نصرتهم بالحجة والبرهان على أعدائهم.

3) أن الرسل قسمان: قسم أُمر بالجهاد، فهؤلاء نصرهم الله بالظفر على الأعداء، وقسم لم يُؤمر بالجهاد وأُمر بالصبر، وهؤلاء نُصروا بالحجة الظاهرة وهذه النصرة ثابته لجميع المرسلين والأنبياء والمؤمنين.

4) أن الحكم بنصر الرسل هو الأغلب، فلا مانع من أن يكون فيهم من لا يُنصر على عدوه.

5) أن جميع الرسل منصورون، بعضهم يكون بالظفر على العدو، وبعضهم يكون بالانتقام لهم من أعدائهم الذين آذوهم أو قتلوهم سواء كان انتقاماً حسياً أو معنوياً.

التفصيل:

يمكن التوفيق بين الآيات بواحد من هذه المعاني الخمسة وقد تكون جميعها مقصودة إذ لا تعارض بينها:

المعنى الأول: هو انتصار دعوتهم وظهور الدين وثباتهم على الأمر وعزيمتهم على الرشد، والله سبحانه وتعالى إنما بعث الرسل ودعى أتباعهم لإخلاص الدين له وللدعوة إلى عبادته وإعلاء كلمته وإظهار دينه، لا للدعوة إلى أنفسهم، وهو سبحانه وتعالى حين وعدهم النصر والغلبة، لم يعدهم كذلك لأجل أشخاصهم، وإنما وعدهم لأجل ما يحملونه من دعوة حق، ومنهاج شريعة من عنده، فبقاء دعوة الحق وانتشارها، ووجود من يحملها نصر لها وللداعي إليها، وإن كان قد مات أو قُتل ذلك الداعي.

ص: 55

كما حدث لعبد الله الغلام عندما قتله الملك، والحديث مشهور في صحيح مسلم.

فهؤلاء الأنبياء وأتباعهم لا شك أن ثباتهم على مبادئهم، هو انتصار باهر، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يُلقى في النار كان في قمة الانتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)[سورة الصافات، الآيتان: 97، 98].

والإمام أحمد رحمه الله عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.

وأصحاب الأخدود وهم يُلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويُفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[سورة البروج، الآية:8].

ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في حديث خَبَّابِ فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» صحيح البخاري.

فبين، صلى الله عليه وسلم أن الانتصار هو الثبات على الدين، وعدم التراجع مهما كانت العقبات والمعوقات.

المعنى الثاني: أن النصر قد يكون بقوة الحجة، وصحة البرهان وهذا ثابت لجميع الأنبياء والرسل وأتباعهم، قال الطبري في قوله -تعالى-:(فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فجعلنا قوم إبراهيم الأذلين حجة، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة. (تفسير الطبري. (

وكذلك نجد هذا المعنى في قوله - تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)[سورة الأنعام، الآية: 83]. والرفع هو الانتصار.

وكذلك في سورة البقرة بعد أن ذكر الله محاجة الذي كفر لإبراهيم في ربه، قال الله -تعالى- (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)[سورة البقرة، الآية: 258]. والبهت هو الهزيمة، أي انهزم الكافر وانتصر إبراهيم بالحجة والبرهان.

المعنى الثالث: أن الرسل قسمان: قسم أُمر بجهاد أعدائهم، فهؤلاء نصرهم وغلبتهم عليهم يكون بالظفر على الأعداء وقهرهم، وقسم لم يُؤمر بقتال أعدائهم، بل أُمر بالصبر على أذاهم والكف عنهم، وهؤلاء نصرهم وغلبتهم في الدنيا يكون بالحجة الظاهرة والبرهان الساطع الذي يدحض باطل الكافرين، ومن هؤلاء من قُتل؛ وذلك ليعظم أجرهم وتزداد مكانتهم رفعة عند ربهم.

ص: 56

قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بُعث منهم بالحرب، فهو الغالب في الحرب، ومن بعث بغير الحرب، فهو غالب في الحجة قلتُ وهي ثابتة لجميعهم.

قال صاحب أضواء البيان الإمام الشنقيطي رحمه الله في الجمع والتوفيق بين قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} وقوله {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون َوَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وبين قوله تعالى {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} بتصرف يسير مني قال: (قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} . وقوله {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون َوَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر به.

وقد دلت هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآية كقوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون َوَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أنه لن يقتل نبي في جهاد قط، لأن المقتول ليس بغالب، لأن القتل قسم مقابل للغلبة، كما بينه تعالى في قوله:{وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} . وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} . وقد نفى عن المنصور كونه مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} .

وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} ليسوا مقتولين في جهاد، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى:{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} ، على قراءة قتل بالبناء للمفعول، هو ربيون لا ضمير النبي

انتهى)

وقال أيضا ًفي موضع آخر: (قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} . هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل، ونظيرها قوله تعالى:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الآية.

وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ، وكقوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وقوله تعالى:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبيّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضاً كما في هذه الآية الأخيرة وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.

والذي يظهر في الجواب عن هذا أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل الله، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا

ص: 57

ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة، ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآية. أما على قراءة {قُتِلَ} بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: {رِبِّيُّونَ} لا ضمير نبي وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرهم بالحجة والبرهان فلا إشكال في الآية والله أعلم .... انتهى).

المعنى الرابع: أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض وهذا سائغ في اللغة فالحكم بنصر الرسل وغلبتهم على أعدائهم إنما هو للأكثر والمعظم، فلا مانع أن يكون فيهم من لا يُنصر على عدوه، بل يصيبه الأذى أو يُقتل؛ وذلك ابتلاء لهم يعظم به أجرهم، وترتفع به درجتهم عند ربهم.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره لنصرة الرسل الواردة في الآية {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} (غافر: 51): (والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، والمراد واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا لننصر رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما بينا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه.

انتهى).

المعنى الخامس: أن جميع الرسل منصورون كما نطقت بذلك الآيات وهي على ظاهرها، وليس المقصود بالنصر هنا النصر في المعركة فقط، بل ذلك أحد معاني النصر وإلا فقد يكون نصرهم بأمور أخرى ذكرها القرآن الكريم ومنها:

1 -

المنع والحفظ، فيكون نصرهم هنا بمنعهم من أعدائهم والحيلولة بين أعدائهم وبين ما يريدون، كما حصل ذلك لنبي الله صالح عليه السلام حين تآمر عليه تسعة من المفسدين ليقتلوه فأهلكهم الله وقومهم أجمعين، كما قال سبحانه وتعالى:"وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ".

وهكذا نجى الله عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود ومنعهم من قتله ورفعه سبحانه وتعالى إليه كما قال عز وجل:"وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً".

وكذلك نجى الله محمداً محمد صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وقد أحاطوا بداره يوم الهجرة ووصلوا إلى الغار الذي اختفى فيه هو وصاحبه أبو بكر كما قال سبحانه:"إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا".

2 -

العون على الأعداء كما قال سبحانه وتعالى:"وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ"، يعني نعينكم، والعون على الأعداء من النصر الذي أعطاه الله لرسله وأنبيائه على

ص: 58

أعدائهم كما حصل لمحمد محمد صلى الله عليه وسلم من العون على أعدائه في غزوة بدر وحنين وفتح مكة وغيرها.

3 -

الظفر المادي والتمكين، كما قال سبحانه وتعالى:"وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللهِ"، ومثل قوله سبحانه:"وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"، وقد مكّن الله تعالى لكثير من الأنبياء والمرسلين فظفروا بأعدائهم كما حصل لسليمان وداود عليهما السلام.

4 -

الانتقام من الأعداء وإهلاكهم في الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى:"وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ"، وقوله:"وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ". وهذا الانتقام قد يكون في حال وجود النبي بينهم، وذلك كما حصل من إهلاك الله لقوم نوح وعاد وثمود؛ فقد أهلكهم الله ونصر أنبياءه ونجى الله المؤمنين. أو يكون بعد وفاته، كما انتقم الله عز وجل ممن قتل يحيى وزكريا، حيث سلَّط عليهم أعداءهم فسفكوا دماءهم وأهانوهم، كما انتقم الله ممن أراد صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط عليهم الروم فأهانوهم وقتلوهم وظهروا عليهم، وسوف ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً؛ فيقتل المسيح الدجال ويضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام وهذا من أعظم النصر.

وقد يكون هذا الانتقام معنوياً كما حصل للحجاج بن يوسف عند ما قتل سعيد بن جبير، ذاق ألوان العذاب النفسي حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعاً ويقول: ما لي ولسعيد، حتى مات وهو في همه وغمه.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره ( ..... وما معنى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثلوا به، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من هم بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله، والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله): إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا (وجهين كلاهما صحيح معناه. أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره - بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقاً، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى،

ص: 59

من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن الفضل قال: ثنا أسباط، عن السدي قول الله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم. والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، والمراد واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا لننصر رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما بينا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه

انتهى).

وأما وجه الجمع بين قوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وبين ما نرى في الواقع وهو أن المسلمين يُسامون سوء العذاب ويُضطهدون من الكفار:

قوله تعالى): ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (، في معنى هذه الآية أوجه للعلماء:

منها: أن المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلا، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهم ويشهد له قوله في أول الآية: فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين الآية، وهو ظاهر. قال ابن عطية: وبه قال جميع أهل التأويل، كما نقله عنه القرطبي، وضعفه ابن العربي قائلاً أن آخر الآية غير مردود إلى أولها.

ومنها: أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلا، يمحو به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم، كما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان، أنه قال:" وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن الله قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "، ويدل لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية، وقوله: وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، وقوله): وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)، إلى غير ذلك من الآيات.

ومنها: أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا شرعاً، فإن وجد فهو بخلاف الشرع. وهذا صحيح بلا شك.

ص: 60