المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها - شفاء الضرر بفهم التوكل والقضاء والقدر

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها

الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها بخيبر، فلم تؤثر عليه في ذلك الوقت، فقاد الجيوش بعد ذلك ودخل المعارك الكبرى وانتصر فيها، وفاوض الأعداء، واستقبل الوفود، ومارس حياته العادية اليومية بصورة طبيعية حتى وافاه الأجل المحتوم بصورة طبيعية ، وتأثير السم عليه بعد ذلك عند نهاية الأجل إنما هو لرفع درجاته وعلو منزلته عند الله تعالى، ولينال بذلك مقام الشهداء، وبهذا نعلم أنه لا تعارض بين عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبين ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى.

وقال الشيخ ابن باز عن نفس هذا الإشكال ما يلي: لم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يُخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها، أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يعصم منه عليه الصلاة والسلام، بل أصابه شيء من ذلك، فقد جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديداً، فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم. اهـ. والله أعلم.

وأما ما وقع للأنبياء والأولياء من أنواع الابتلاء فلا يُقال أنه من ضعف التوكل، ولا يدل على نقصه عندهم؛ بل التوكل عقيدة سابقة للمخوف يريدها الله من العبد، ومن منافعها أن تكون عونا له على تحمل ما يحذره ويخافه، وما يقع بعد ذلك منه إنما هو ابتلاء وامتحان، أو كفارة ورفع درجة، تزيد الإيمان والتقوى؛ قال تعالى:"ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما".

وللعلم حفظ الله للعبد ليس المراد به حفظه في بدنه وأهله وماله فحسب بل يشمل حفظ دينه وحفظه من الزيغ والضلال بعد الهداية والإسلام والله أعلم.

‌السؤال الثاني:

هل التوكل يُنافي الأخذ بالأسباب؟

التوكل على الله لا يُعارض فعل الأسباب؛ ولا ينافيها؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ"، وقال سبحانه:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"، وقد دلت السنة على ذلك. فالأخذ بالأسباب من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، لكن الأخذ بالأسباب يكون دون الاعتماد عليها وحدها، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه، فاعتماد المرء على الأسباب وحدها خلل في عقيدته، وترك أخذه بالأسباب خلل في عقله، وقد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب وهذا ظن الجهال، فليس من شرط التوكل ترك مباشرة الأسباب الدافعة للضرر ، والرافعة للظلم، بل الواجب السعي لإزالة الضرر وجلب المصالح، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

ص: 40

الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: من الآية159].

فأمره بالأخذ بالأسباب، وهي هنا الاستشارة في الأمور وتقليب النظر فيها، فإذا اطمأن قلبه وعزمت نفسه عليه توكل على الله في فعل ذلك، فهذا سيد المتوكلين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخل بشيء من الأسباب

ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً يدله على طريق الهجرة، وكان يدَخر لأهله قوت سنة، وإذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، فالواجب على المسلمين أن يفهموا التوكل كما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة القول أن سنة الله جارية في إعمال الأسباب مع التوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم. ومن أمثلة القرآن على ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67} قال السعدي: ذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب. {وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فالمُقدَر لا بد أن يكون، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب. اهـ.

وترك الأسباب واعتقاد تعارضها مع التوكل على الله هو من مكائد الشطان كما روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان): أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم. قال: ألق نفسك من الجبل وقل: قُدَر علي. قال: يالعين! الله يختبر العباد، وليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل. اهـ.

وقد نقل ذلك ابن الجوزي في تلبيس إبليس وقال: ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب ، وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى؛ لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة، فمنعه عطاء في المعنى، وكم زين للعجزة عجزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل، فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة، ومتى وُضِعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلاً بحكمة الواضع، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض، فإذا ترك الإنسان ذلك إهواناً بالسبب، ثم دعا وسأل، فربما قيل له: قد جعلنا لعافيتك سبباً فإذا لم تتناوله كان إهواناً لعطائنا، فربما لم نعافك بغير سبب

لإهوانك للسبب ، وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه أي مزرعته وماء الساقية رفسه بمسحاة، فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر، فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعاً ولا عقلاً اهـ.

قال ابن مفلح في الآداب: قال الشيخ تقي الدين رحمه الله الله هو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي يقدرها، فالالتفات إلى الأسباب

ص: 41

شرك في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغير ذلك ما يشاء. ا. هـ

وقال أيضاً: وقال أحمد للميموني: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغني عن الناس، وقال رجل للفضيل بن عياض رحمه الله لو أن رجلاً قعد في بيته وزعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق به حتى يعلم أنه وثق به لم يمنعه شيئاً أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد الله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (الجمعة: من الآية10، ولا بد من طلب المعيشة. ا. هـ

وقال ابن العربي في أحكام القرآن، عند تفسير قوله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك. قال: فيها جواز التعلق بالأسباب، وإن كان اليقين حاصلاً، لأن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يعني القدر يقين، والذي يدلك على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان، كما جرى لموسى صلى الله عليه وسلم في لقاء الخضر، وهذا بين فتأملوه. ا. هـ. والمقصود أن تعلق القلب بالله تعالى لا يتعارض مع تعلق البدن بالأسباب ، وأن حقيقة التوكل هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمه معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر.

وعمل القلب لا بد أن يؤثر في عمل الجوارح والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل -أي الأخذ بالأسباب-فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرَز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ {آل عمران:159} ، وقد قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها -أي الناقة- وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي وحسنه الألباني.

فمن كان توكله صحيحاً أخذ بالأسباب.

أما حكم الأخذ بالأسباب على التعيين فهو يختلف باختلاف المسبب المطلوب إيجاده، فقد يكون الأخذ بالأسباب واجباً، وذلك إذا كان فعله لتحصيل واجب، كتحصيل أسباب الواجبات الشرعية كالعلم بأحكام الصلاة والصيام ونحوهما من الواجبات، وقد يكون الأخذ بالأسباب حراماً، وذلك إذا كان السبب المطلوب فعله يؤدي إلى حرام، كالأسباب المفضية إلى الزنا وشرب الخمر ونحوهما، وهكذا يكون الأخذ بالأسباب مكروها ومستحباً بحسب ما يفضي إليه، وبهذا يُعلم أن الأخذ بالأسباب مُختلف المراتب من جهة الحكم، وأنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر ولا التوكل ولا الثقة في الله تعالى.

ص: 42