المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأما التداوي بالمُحرَم فحرام، وأما التداوي بالمكروه فالأولى تركه، وللعلامة - شفاء الضرر بفهم التوكل والقضاء والقدر

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: وأما التداوي بالمُحرَم فحرام، وأما التداوي بالمكروه فالأولى تركه، وللعلامة

وأما التداوي بالمُحرَم فحرام، وأما التداوي بالمكروه فالأولى تركه، وللعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كلام جيد في هذا الموضوع في كتابه (شرح كتاب التوحيد) عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:"هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". متفق عليه.

قال رحمه الله تعالى: واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يُباشرون الأسباب - أصلاً - كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال الله تعالى:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3. أي كافيه.

إنما المُراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم له ليس لكونه سبباً، لكن لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت.

أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً:"ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء".

وعن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءاً إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" رواه أحمد. قال ابن القيم: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. ا. هـ.

وعلى ضوء ما سبق، فتناول الأدوية المباحة لدفع الأمراض لا ينافي العقيدة ولا التوكل، بل هو أمر مطلوب والله أعلم.

‌السؤال الخامس:

الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بكثير من الوعود في الحياة الدنيا ولا نراها تتحقق فما تأويل ذلك؟

وعود الله الكريمة للمؤمنين لا بد أن تحصل وتتحقق لمن أقام شرطها، ولكن بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق، التي هي ابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار، فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2} ، وقال تعالى:

ص: 44

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2 - 3} ، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179} ، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، ومن ذلك ابتلاء الله لخليله إبراهيم عليه السلام بأمره بذبح ولده بعدما بلغ معه السعي، فقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {الصافات:106} ، قال الطبري: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكر فيه أنه بلاء شديد ومحنة عظيمة. انتهى.

وقد ابتلاه الله أيضاً بالإلقاء في النار وبتسليط جبار من الجبابرة على امرأته سارة، وبوضع امرأته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ولا ماء، وغير ذلك. ولكن الله نجاه وحفظه وأهل بيته، وأجزل له المثوبة في الدنيا مع ما ينتظره من ثواب الآخرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:120

123}، فصار إبراهيم عليه السلام مثلاُ يلزم الاقتداء به، ومثالاً ينبغي القياس عليه، فالجزاء من جنس العمل، فكل من أحسن في عبادة الله كان جزاؤه عند الله الإحسان، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ {الرحمن:60} ، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10} ، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:31} ، فمن استجاب لأمر الله وصبر على امتحانه واستقام على أمره نال في الدنيا الحياة الطيبة، وفاز في الآخرة بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، كما حصل للصحابة الكرام رضي الله عنهم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد وما كان فيها من البلاء المبين والقرح الشديد، قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران:172 - 173 - 174} .

فللبلاء في حق المؤمنين طعم آخر، حتى إن خواصهم ليفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالعطاء، مع ما يُدَخر لهم في الآخرة من الأجر المُضاعف، كما قال أبو سعيد الخدري: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم

ص: 45

ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه. وصححه الحاكم والبوصيري والألباني.

فإذا كان هذا البلاء في ذات الله تعالى ونصرة لدين الله فهو أحب إليهم وأيسر عليهم، كما قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {الأحزاب:22} ، وقال أيضاً: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146} .

وأما غير المؤمن القوي الموفق فإنه إذا امتُحن فقد يخسر دينه ودنياه والعياذ بالله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {الحج:11} .

وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {العنكبوت:10 - 11} . ثم اعلم أخي الكريم أن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:216} ، فعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يُبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وحسنه الألباني.

واعلم أخي أن وعود الله متحققة لا محالة لمن أقام شرطها قال تعالى (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)(التوبة: من الآية111) وقال أيضاً "وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"(الرعد: من الآية31) فعلى المسلم أن يُحسن الظن بربه لا سيما تجاه وعوده الكريمة ولماذا نسيء الظن بربنا وقد علمنا أنه لا يُخلف وعده ولِمَ نتشاءم، والله تعالى يقول:"أنا عند ظن عبدي بي" فمن أحسن الظن به أعانه وبلغه مُراده، ومن أساء بالله الظن لن يعطيه الله تعالى إلا ظنه، وقد استوجب مسيئو الظن بالله غضبه ولعنته قال الله تعالى:"الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً"(الفتح: من الآية6).

وإن من أسماء الله تعالى البر الرحيم الودود العزيز اللطيف وغيرها من الأسماء الحسنى، فربٌ هذه أسماؤه وتلك صفاته يُظن به ظن السوء؟!!! والله ما قدرنا الله حق قدره، وما عرفناه حق معرفته، فالمتأمل في الأسماء الحسنى للخالق تعالى لن يجد بُداً من التفاؤل وحسن الظن به والثقة بما عنده من الخير والعطاء الجزيل.

وحسن الظن بالله من العبادات الجليلة، والطاعات القلبية العظيمة التي تدل على حب العبد لربه وتصديقه بوعده وقد قال تعالى:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج/47].

ص: 46

والسبب ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، هو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه ، قال تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7].

ولا يُشكل على هذا ما يمر على القارئ من آيات قد يُفهم منها أن فيها نوعاً من مشروعية التردد في تصديق وعد الله، أو الشك في ذلك، كقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وكقوله عز وجل:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، فإن هذه الآيات إنما تحكي حالةً عارضة تمر بالإنسان ـ بسبب ضعفه حيناً، وبسبب استعجاله أحياناً ـ وليست حالةً دائمةً، وإذا كان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، فهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح في صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ

} إلى قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42، 47].

والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً لنصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مُضي السنن، فإن الله لم يتعبدنا بهذا ولا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!.

ص: 47