الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة، أي: ولن يجعل لهم عليهم حجة، ويبينه قوله تعالى: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا وهذا المعنى حق بلا ريب، والذي يظهر أن جميع المعاني السابقة كلها صحيحة ولا تعارض بينها.
السؤال الحادي عشر:
ما تأويل ما خرجه الطبري فقال حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، حدثنا أبو حكيمة قال: سمعت أبَا عُثْمان النَّهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وهو يطوف بالكعبة: اللهم إن كنت كتبتَني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الذّنب والشِّقوة فامحُني وأثبتني في أهل السّعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب.
وفي أثر آخر ورد ما يلي: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ، وَلا يُمَنُّ عَلَيْكَ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، ظَهْرَ اللاجِئِينَ، وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، وَمَأْمَنَ الْخَائِفِينَ. إِنْ كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنِّي شَقِيٌّ، فَامْحُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ شَقَائِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنِّي مَحْرُومٌ مُقَتَّرٌ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ، فَامْحُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ حِرْمَانِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لَكَ فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّكَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. سورة الرعد آية 39 قَالَ: فَمَا قَالَهُنَّ عَبْدٌ قَطُّ إِلا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما من حيث الثبوت وصحة الإسناد فلا يصح هذا الدعاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال محقق كتاب (الدعاء) الدكتور/ عبد العزيز بن سليمان البعيمي، الأستاذ المشارك بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: هذا الأثر فيه علتان موجبتان لتضعيفه، الأولى: ضعف عبد الرحمن بن إسحاق. والثانية: الانقطاع بين القاسم بن عبد الرحمن وبين جده عبد الله بن مسعود اهـ.
وكذلك من ناحية الدعاء نفسه وصحة معناه، فإنه لا يصح، لأن ما في أم الكتاب لا يمحى، على الصواب إن شاء الله؛ وإنما يكون المحو والإثبات في صحف الملائكة ونحوها ليوافق ما هو مكتوب في أم الكتاب.
قال العلامة السعدي: {يمحوا الله ما يشاء} من الأقدار {ويثبت} ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال:{وعنده أم الكتاب} أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها وهي فروع له وشعب. فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا، لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا
للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ هـ.
وقال الشيخ العثيمين: يقول رب العالمين عز وجل: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي اللوح المحفوظ ليس فيه محو ولا كتاب، فما كتب في اللوح المحفوظ فهو كائن ولا تغيير فيه، لكن ما كتب في الصحف التي في أيدي الملائكة فهذا:(يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) هـ.
وفي (فتح الباري) للحافظ ابن حجر: المحو والإثبات بالنسبة لما في علم المَلَك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق اهـ.
ولذلك كانت الرواية المقبولة عن ابن مسعود رضي الله عنه فيها المحو والإثبات ليس من أم الكتاب، ولكنه يكون بما يوافق أم الكتاب.
قال الشيخ الألباني: روى ابن جرير من طريق شريك عن هلال بن حميد عن عبد الله بن عكيم عن عبد الله أنه كان يقول: "اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب". ورجاله ثقات لولا ضعف حفظ شريك؛ لكنه يتقوى بطريق حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: "اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة". رواه ابن جرير والطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات رجال مسلم إلا أن أبا قلابة لم يدرك ابن مسعود؛ كما قال الهيثمي، ولكنه شاهد قوي للطريق الموصولة قبله هـ.
وقد سئل شيخ الإسلام سؤالا طويلا وفيه: هل شرع في الدعاء أن يقول: "اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت:{يمحو الله ما يشاء ويثبت} ؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ فكان مما أجاب به رحمه الله: والجواب المحقق أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب
…
وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت". والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات. وأما اللوح المحفوظ، فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم هـ.