المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: حاجة طالب العلم إلى الذكاء والزكاء - طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء

[محمد بن خليفة التميمي]

الفصل: ‌المطلب الأول: حاجة طالب العلم إلى الذكاء والزكاء

‌المبحث الثاني: السبيل إلى تحمل العلم الشرعي

‌المطلب الأول: حاجة طالب العلم إلى الذكاء والزكاء

المطلب الأوّل: حاجة طالب العلم إلى الذّكاء والزّكاء

لو نظرت في أصناف طلبة العلم لوجدتهم لا يخرجون عن أحد أصناف ثلاثة:

صنف أوتي ذكاء وفهماً، مع زكاء نفس وحسن سريرة، فحَمَلَهُ ذكاؤه على الجد في طلب العلم والسعي في تحصيله، وحَمَلَهُ زَكَاءُ نفسه وطُهْرُها على العمل بهذا العلم وتطبيقه.

وصنف ثاني: أوتي ذكاء ولم يؤت زكاء، فحمله ذكاؤه على حفظ العلم وتحصيله، ومنعه زكاؤه من العمل به وتطبيقه وهذا علمه حجّة عليه لا حجّة له يوم القيامة.

وصنف ثالث: حرم الأمرين معاً، فليس عنده ذكاءٌ يحصل به العلم وليس عنده زكاءٌ يطبق به العلم.

وهذه الأصناف الثلاثة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِمَ وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1.

وفي هذا الحديث شبّه النبي صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كُلاًّ من العلم والغيث سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب، وشبه القلوب بالأودية وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:

1 أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 79) ، ومسلم في صحيحيه (رقم 228) .

ص: 14

إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج.

فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.

والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع.

وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فهو يحفظه للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه"1.

والأرض الثالثة: أرض قاع وهو المستوي الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه شيئاً، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ.

فالصنف الأول من الناس: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل وهذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"من فقه في دين الله ونفعه الله به فعلم وعلم".

والصنف الثاني: من أوتي الذكاء وحرم الزكاء فهو بذكائه حفظ ونقله لغيره.

والصنف الثالث: لا هذا ولا هذا، فهو قد حُرِمَ الذكاء والزكاء، فهو لذلك لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأساً.

فاسْتَوْعَبَ الحديثُ أصناف الناس في مواقفهم من العلم الشرعي؛ فيعلم من الحديث السابق أن طالب العلم لابد له من أمرين متلازمين لأجل تحصيل العلم وهما الذكاء والزكاء.

فلابد له من زكاء نفس وصلاح سريرة واستقامة دين من أجل أن يحمله ذلك على:

1-

إخلاص القصد وإصلاح النية في طلب العلم.

2-

كبح جماح الشهوة والغفلة المانعتين من طلب العلم.

1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/225. وابن ماجه في السنن 236.

ص: 15

3-

دفع الشبهات التي تصد عن طلب الحق.

4-

القيام بحق هذا العلم تعلّماً وعملاً وتعليماً.

ولابد له من ذكاء يعينه على تحصيل العلم والجد في طلبه وعندما سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما دغفل بن حنظلة فقال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ " قال: "حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول"1.

فلابد من عقل يحسن معه صاحبه أخذ العلم بأحسن طريق وأيسره ليعينه ذلك على فهم النصوص ومعرفة المسائل حين استيعابها، ويؤكد حاجة العبد إلى الذكاء والزكاء أن الإنسان بطبعه له قوتان:

أولاً: قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة وهذه هي القوة العلمية النظرية التي أسميناها هنا الذكاء.

ثانياً: قوة الإرادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل وهذه هي القوة العملية التطبيقية.

ولذلك كان مدار الإيمان على أصلين هما:

الأصل الأول: تصديق الخبر والذي يكون في القوة العلمية النظرية.

الأصل الثاني: طاعة الأمر والذي يكون في القوة الإرادية العملية.

ويتبعهما أمران آخران:

الأمر الأول: دفع شبهات الباطل التي تمنع من كمال التصديق.

الأمر الثاني: دفع شهوات الغي المانعة من كمال الامتثال.

لأن الشبهة تؤثر فساداً في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها الإنسان بدفعها، ودفعها إنما يكون بالعلم الصحيح.

والشهوة تؤثر فساداً في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها الإنسان بتزكية النفس.

ولذلك قال الله في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم 2] .

فقوله: {مَا ضَلَّ} دليل على كمال علمه ومعرفته وأنه على الحق المبين.

وقوله: {وَمَا غَوَى} دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين.

1 جامع بيان العلم وفضله 1/378 برقم 531.

ص: 16

وقد وصف صلى الله عليه وسلم بذلك خلفاءه من بعده فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" 1، فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال.

ولذلك جاءت النصوص بالحث على العلم وطلبه وتحصيله، والحث على زكاء النفس وسلامة القلب ومما ورد في ضرورة زكاء القلب قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج 46] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد كله وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله ألا وهي القلب"2.

فعلى طالب العلم أن يحرص على سلامة قلبه فذلك الذي ينفعه عند الله قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء 89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، وسلم من البدع، وسلم من الغي، وسلم من الباطل، فهو القلب الذي سلم لعبودية ربه حياءً وخوفاً وطمعاً ورجاءً، فقدم حب الله على حب من سواه، وخوفه على خوف من سواه، ورجاءه على رجاء من سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله صلى الله عليه وسلم تصديقاً وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، وبالتالي سلَّم جميع أحواله وأقواله وأعماله ظاهراً وباطناً لله وحده3.

فلا بد أن يطهر طالب العلم قلبه من كل غش ودنس وغل وحسد وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم - كما قال بعضهم -: صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصلح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها.

1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/126-127، وأبو داود في السنن برقم 4607، والترمذي في السنن برقم 2676، والدارمي في المسند 1/44.

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه رقم52، ومسلم في صحيحه، مساقاة رقم 107.

3 مفتاح دار السعادة 1/41-42.

ص: 17