المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة   طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط الدار السلفية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌فصل: فى أن الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه

- ‌فصل: في تفسير الفقر ودرجاته

- ‌فصل: في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله

- ‌فصل: فى تقسيم الغنى إِلى عال وسافل

- ‌فصل: فى الغني العالي

- ‌فصل: فى تفسير غنى النفس

- ‌فصل: فيما يغنى القلب ويسدُ الفاقة

- ‌فصل: فى بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل

- ‌فصل: فى بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب

- ‌فصل: فى ذكر كلمات عن أرباب الطريق فى الفقر والغني

- ‌فصل: فى تحقيق نعت الفقير

- ‌فصل: فى بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم

- ‌فصل: فى بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين

- ‌فصل: فى بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده

- ‌فصل: فى تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه

- ‌فصل: فى إِثبات الحمد كله لله عز وجل

- ‌فصل: فى بيان أن حمده تعالى شامل لكل ما يحدثه

- ‌فصل: فى أن الله خلق داريْن وخصَّ كل دار بأهل

- ‌فصل: فى بيان ما للناس فى دخول الشر فى القضاء الإلهي من الطرق والأصول التى تفرعت عنها هذه الطرق

- ‌الفصل السادس: فى كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى

- ‌فصل: فى تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية

الفصل: ‌ ‌مقدمة   طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن

‌مقدمة

طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى ابن قيم الجوزية

خطبة الكتاب للمؤلف

الحمد لله الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأَبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً وأَوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجاً، وأَعقب من ضيق الشدائد وضنك الأَوابد لمن توكل عليه فرجاً، وجعل قلوب أَوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإِنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا فسبحان من أَفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذى كتبه، أَن رحمته تغلب غضبه. أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوءام، وسخر لهم البر والبحر والشمس والقمر والليل والنهار والعيون والأَنهار والضياءَ والظلام، وأَرسل إليهم رسله وأَنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره فى دار السلام، {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] ، فسبحان من {أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، ورفع لمن ائتمَّ به فأَحلَّ حلالَهُ وحرَّمَ حرامَهُ وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه فى مراقى السعادة درجاً، ووضع قهره على من أَعرض عنه ولم يرفع به رأسه ونبذه وراءَ ظهره وابتغى الهدى من غيره، فجعله فى دركات الجحيم متولجاً، فإِنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأُ العظيم وحبل الله المتين المديد بينه وبين خلقه، وعهده الذى من استمسك به فاز ونجا.

وأَشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له ولا سمى له ولا كفو له ولا صاحبة له ولا ولد ولا شبيه له ولا يحصى أَحد ثناءً عليه بل هو كما أَثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأَسمائه وصفاته مبتهجاً، ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجاً.

وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأَمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، أَرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين. أَرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أَقوم الطرق وأَوضح السبل

ص: 5

وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وسدَّ إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأَحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة و [الصغار] على من خالف أَمره. فهدى به من الضلالة وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعد القلَّة، وَأعزَّ به بعد الذلَّة وأَغنى به بعد العَيْلَة، وبصَّر به من العمى، وأَرشد به من الغى وفتح برسالته أَعيناً [عمياً] وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، فَبَلَّغ الرسالة وأَدَّى الأَمانة ونصح الأُمة وجاهد فى الله حق جهاده وعَبَدَ الله حتى أَتاه اليقين فلم يدع خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إِلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإِيمان والقرآن، وجاهد أَعداءَ الله باليد والقلب واللسان. فدعا إلى الله على بصيرة، وسار فى الأُمة- بالعدل والإِحسان وخلقه العظيم- أَحسن سيرة، إلى أَن أَشرقت برسالته الأَرض بعد ظلماتها، وتأَلفت به القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوته سير الشمس فى الأَقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعاً وإذعاناً، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أَمناً وإِيماناً، فجزاه الله عن أُمته أَفضل الجزاءِ، وصلى عليه صلاة تملأُ أَقطار الأَرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً.

أَما بعد..

فإِن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده فى قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصهم بنعمته، وفضلهم على سائر خليقته، فهى {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} [إبراهيم: 24-25] ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الإِيمان أَصلها ثابت فى القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح فى السماءِ، فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإِذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقرُّ به عيون صاحب الأَصل وعيون حفظته وعيون أَهله وأَصحابه ومن قرب منه، فإِن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأَنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأَمن به كل خائف وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته بالله، فإِذا رؤى ذكر الله فاطمأَن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءَه كله لله، فإِن سمع سمع بالله وإِن أَبْصر أَبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإِن مشى مشى بالله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه

ص: 6

يمشى، فإِذا أَحب فللَّه وإِذا أَبغض [أبغض] لله وإِذَا أَعطى فللَّه وإِذَا منع فللَّه، قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه، واتخذ رسوله وحده دليله وإِمامه وقائده وسائقه، فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائِهِ وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداءِ به والتخلق بأَخلاقه والتأَدب بآدابه

فله فى كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإِ والافتقار فى كل نفس إِليه، وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبى صلى الله عليه وسلم، فإِن الله عز وجل يقول:"وَعِزَّتِى وَجَلالِى لَوْ أَتُونِى مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، لَمَا فَتَحتُ لَهُمْ حَتَّى يَدخُلُوا خَلْفَكَ". وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس.

ولما كانت السعادة دائرة- نفياً وإِثباتاً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون، فلا جرم ضمنَّا هذا الكتاب قواعد من سلوك الهجرة المحمدية، وسميناه طريق الهجرتين، وباب السعادتين، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية؛ إذ هو باب السعادة [الأعظم] وطريقها الأَقوم الذى لا سبيل إلى دخولها إِلا منه، وختمناه بذكر طبقات المكلَّفين من الجن والإِنس فى [الدنيا و] الآخرة ومراتبهم فى دار السعادة والشقاوة. فجاءَ الكتاب غريباً فى معناه، عجيباً فى مغزاه لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب [وما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو المانّ به فإنما التوفيق بيده] وما كان فيه من [خطأ و] زلل فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ.

فيا أَيها القاريء له والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض عليك، لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. ولك ثمرته، وعليه عائدته. فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك [مغفرة و] عذراً، وإِن أبيت إلا الملام فبابه

ص: 7