الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول سيق بذلك قبل بدء الخليفة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وإن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره، وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح، لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه، فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر، وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن، والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة.
استأثر الله بالمحامد والف
…
ضل وولى الملامة الرجلا
ويتبين هذا المقام في أربع آيات. إحداها قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الثانية قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الثالثة قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الرابعة قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} فمن نزل هذه الآيات على هذا الحكم علما ومعرفة وقام بموجبها إرادة وعزما وتوبة واستغفار فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرد التسليم والمسالمة، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل: فى تفسير غنى النفس
قوله فى غنى النفس أنه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة"، يريد استقامتها على الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وتجنيها لمناهيه
التى يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا يه، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شئ إلى المخلوق. فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها فى القيام بعبوديته كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول:"يا بلال أرحنا بالصلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"حبِّبَ إِلىَّ منْ دُنياَكُم النسَاءُ والطِّيبُ وجُعِلتْ قُرَّة عَينى فِى الصلاة"، فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحب، وأخبر أن قرة العين التى يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو فى الصلاة التى هى صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها. فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟ ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبادل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق جل جلاله، فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله، وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا، وقوله نورا، ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر.
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقرها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى:{إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى:{إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} [الحج: 38] ، وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ) ،