الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: فى تقسيم الغنى إِلى عال وسافل
ولما كان الفقر إِلى الله عز وجل هو عين الغنى به- فأَفقر الناس إِلى الله أَغناهم به، وأَذلهم له أَعزهم، وأَضعفهم بين يديه أَقواهم، وأَجهلهم عند نفسه أَعلمهم بالله وأَمقتهم لنفسه أَقربهم إِلى مرضاة الله- كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمين متناسبين، فنذكر فصلاً نافعاً فى الغنى العالى. واعلم أَن الغنى على الحقيقة لا يكون إِلا لله الغنى بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع، وكما أَن كونه مخلوقاً أَمر ذاتى له، فكونه فقيراً أَمر ذاتى له كما تقدم بيانه، وغناه أَمر نسبى إِضافى عارض له، فإِنه إِنما استغنى بأَمر خارج عن ذاته فهو غنى به فقير إِليه، ولا يوصف بالغنى على الإِطلاق إِلا من غناه من لوازم ذاته، فهو الغنى بذاته عما سواه، وهو الأَحد الصمد الغنى الْحميد.
والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال. فالغنى السافل الغنى بالعوارى المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضى بهذا الغنى الذى هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذى فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده. قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره.
فصل: فى الغني العالي
أَما الغنى العالى فقال شيخ الإِسلام: "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى:
غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة، والدرجة الثانية غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءَتها من المراءَاة. والدرجة الثالثة: الغنى الحق وهو ثلاث مراتب: الأُولى شهود ذكره إِياك، والثانية: دوام مطالعة أَوليته، والثالثة: الفوز بوجوده". قلت: ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"، ومتى استغنت النفس استغنى القلب، ولكن الشيخ قسم الغنى إِلى هذه الدرجات بحسب متعلقة فقال: "غنى القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة ومعلوم أَن هذا شرط فى الغنى، لا أَنه نفس الغنى، بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى، فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أَن غناه بها نفسها، وإِنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتى بيانه إِن شاءَ الله، فالغنى إِنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته. وفى القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إِلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى إِن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإِن فاته فاته كل شيء. فكما أَنه سبحانه الغنى على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى فى الحقيقة ولا غنى بغيره أَلبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان.
وإِنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأَن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إِلى درجة الطمأْنينة لا يكون إِلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أَولى بالتقديم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سِائِرُ الْجَسَدِ، أَلا وَهِى القلب"، والقلب إِذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعاً تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإِخبات، فأَدت الحقوق سماحة لا كظماً بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك
لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغرى الظاهر والباطن فرض متعين مدة أَنفاس الحياة.
وتنقضى الحرب محموداً عواقبها
…
للصابرين، وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار فى النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد فى معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش فى الطاعات أَين كانت بقوة وأَيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل فى هذه الخلع ويجر لها فى الناس أَذيالاً وأَردانا. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإِذا استغنى سرى الغنى منه إِلى النفس. وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التى هى أَعظم خلعة تخلع عليه، فيستغنى حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأَحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات، وهذا أَمر تضيق عن شرحه عدة أَسفار بل حظ العبد منه علماً وإِرادة كما يدخل إِصبعه فى اليم، بل الأَمر أَعظم من ذلك. والله عز وجل:{أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذى هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التى ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها فى الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، وصارت برودتها فى شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت أيضاً عنها اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها، فإِنها إِذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد، فإِذا صارت برودتها حرارة، وبوبستها رطوبة
وسقيت بماءِ الحياة الذى أَنزله الله عز وجل [من السماء] على قلوب أنبيائه وجعلها قراراً ومعيناً له ففاض منها على قلوب أَتباعهم فأَنبتت من كل زوج كريم، فحينئذ انقادت بزمام المحبة إِلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأَوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأْنينتها:{يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً} [الفجر: 27- 28] ، فلنرجع إِلى كلامه.
فقوله فى الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: "إِنَّهُ سلامته من السبب" أَى من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب [غناه] واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة- أَى بالانقياد لحكمه- حصل الغنى [فحمى] للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله [عز وجل] لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ- يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه- لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله [عز وجل] ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى استفتاح صلاة الليل: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ
أَنبت، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ"، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط"، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك فى نفس الأَمر.
والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه
بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى. بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى.
الحكم الثانى: الحكم الكونى القدرى الذى للعبد فيه كسب واختيار وإِرادة، والذى إِذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أَن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكونى أَيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق ويدافع به، وله كما قال شيخ العارفين فى وقته عبد القادر الجيلانى: "الناس إِذا دخلوا إِلى القضاءِ والقدر أَمسكوا، وأَنا انفتحت لى روزنة فنازعت أَقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعاً
للقدر لا واقفاً مع القدر" اهـ، فإِن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر ابن الخطاب- وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له-: "أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إِلى قدره"، ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له فى هذا العالم إِلا به، ولا تتم له مصلحة إِلا بموجبه، فإِنه إذا جاءَه قدر من الجوع والعطش أَو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأَكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إِذا وقع الحريق فى داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإِذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماءِ والتراب وغيره حتى يطفيء قدر الله بقدر الله وما خرج فى ذلك عن قدر الله، وهكذا إِذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأَدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكونى أَن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإِن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأَسباب التى نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر فى هذه المسأَلة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أَو الشرع شاءَ أَو أَبى، فما للعبد ينازع أَقدار الرب [تعالى] بأَقداره فى حظوظه وأَسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أَقداره فى حق مولاه وأَوامره ودينه؟ وهل هذا إِلا خروج عن العبودية ونقص فى العلم بالله وصفاته وأَحكامه؟ ولو أَن عدواً للإِسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعا لقدر الله بقدره فما للاستلام والمسالمة هنا مدخل فى العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده فى المدافعة والمنازلة وخرج الأمر عن يده.
فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحمكته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما