الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
َ إِلى أَن يقتص منهم ثم يردون، فمن عصى منهم بعد ردّه كرر أَيضاً عليه ذلك التناسخ هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية بعدها أَبداً فينتقل إلى الجنة من وقته.
وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإِسلام رجل يقال له أَحمد بن حائط طرد أُصول القدرية وشريعتهم التى شرعوها لله فأَوجبوا بها عليه وحرموا. وذهب المجوس إِلى أَن هذه الآلام والشرور من الإِله الشرير المظلم فلا تضاف إِلى الإِله الخير العادل ولا تدخل تحت قدرته، ولهذا كان أَشبه أهل البدع بهم القدرية النفاة. وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، وليس لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته، ولا بد فى النار من إِحراق ونفع وفى الماءِ من إِغراق ونفع، وليس وراءَ ذلك شيء، فهذه مذاهب أَهل الأَرضِ فى هذا المقام.
ولما انتهى أَبو عيسى الوراق إِلى حيث انتهت إِليه أَرباب المقالات فطاش عقله ولم يتسع لحكمة إِيلام الحيوان وذبحه صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، فأَقام عليها المآتم وناح، وباح بالزندقة الصراح. وممن كان على هذا المذهب أَعمى البصر والبصيرة كلب معرّة النعمان المكنى بأبى العلاءِ المعرى، فإِنه امتنع من أَكل الحيوان زعم لظلمه بالإِيلام والذبح، وأَما ابن خطيب الرى فإِنه سلك فى ذلك طريقة مركبة من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشائين وهذبها ونقحها واعترف فى آخرها بأَنه لا سبيل إِلى الخلاص من [المطالبات] التى أَوردها على نفسه إلا بالتزام أَنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالقصد والاختيار، فأَقر على نفسه بالعجز عن أَجوبة تلك المطالبات إِلا بإِنكار قدرة الله ومشيئته وفعله الاختيارى، وذلك جحد لربوبيته، فزعم أَنه لا يمكنه تقرير حكمته إلا بجحد ربوبيته، ونحن نذكر كلامه بأَلفاظه. وقال فى "مباحثه المشرقية":
الفصل السادس: فى كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى
، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين:
المقدمة الأُولى- الأُمور التى يقال لها: إِنها شر إِما أن تكون أموراً عدمية، أو أُموراً وجودية. فإِن كانت أموراً عدمية فهى على أقسام ثلاثة:
لأنها إما أن تكون عدماً لأمور ضرورية للشيء فى وجوده مثل عدم الحياة، وإما أن تكون عدماً لأُمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى أو أن تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأما الأمور الوجودية التى يقال لها شرور فهى كالحرارة المفرقة لاتصال العضو.
واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه، مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإِن الموت والعمى لا حقيقة لهما إِلا أَنهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك شر، [فإذا] ليس لهما اعتبار آخر بحسبه يكونان شرين. وأما عدم الفضائل المستغنى عنها- مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أَن ذلك ليس بشر، وأما الأُمور الوجودية فإِنها ليست شروراً بالذات بل بالعرض، من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئاً من الأفعال التى يقال لها شر إِلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وأما شريته فبالقياس إلى شيء آخر، فالظلم مثلاً يصدر عن قوة ظلامة للغلبة وهى القوة الغضبية والغلبة هى كمالها وفائدة خلقتها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر وإنما كان شراً للمظلوم لفوات المال وغيره عنه، والنفس الناطقة كمالها الاستيلاءُ على هذه القوة فعند قهر الغضبية يفوت النفس ذلك الاستيلاءُ ولا جرم كان شراً لها. وكذلك النار إذا أحرقت فإن الإحراق [كمالها] ولكنها شر بالنسبة إلى من زالت [سلامته] بسببها.
وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطاعة فى قطع رقبة إنسان، فإن كون الإنسان قوياً على استعمال الآلة ليس شراً له بل خيراً، وكذلك كون الآلة قطاعة هو خير لها، وكذلك كون الرقبة قابلة للانقطاع كل ذلك خيرات، ولكن القتل شر من حيث أنه متضمن لزوال الحياة، فثبت بما ذكرنا أَن الأُمور الوجودية ليست شرور بالذات بل بالعرض. والله أعلم.
المقدمة الثانية: أن الأشياء إما أن تكون مادية، أو لا تكون، فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوة فلا يكون فيها شر أصلاً، وإن كانت مادية كانت فى معرض الشر، وعروض الشر لها [إما أن يكون فى ابتداء تكونها أو بعد تكونها] أما الأول فهو أن تكون المادة التى [يتكون] إنساناً أو فرساً يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة، فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأن الفاعل حرم بل لأن المنفعل له لم يقبل، وأما الثانى وهو أن يعرض
الشر للشيء وطروءُ طاريء عليه بعد تكونه فذلك الطاريء إِما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم السحب وإظلال الجبال الشاهقات إِذ صار مانعاً من تأْثير الشمس فى [النبات] ، وإما شيء يفسد مثل البرد الذى يصل إلى النبات بسبب ذلك استعداده للنشوءِ والنمو.
وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بينا أَن الشرّ بالحقيقة إِما عدم ضروريات الشيء، وإِما عدم منافعه. [فنقول] :[الموجود] إِما أن يكون خيراً من كل الوجوه، وشراً من كل الوجوه أَو خيراً من وجه وشراً من وجه. وهذا على تقدير أقسام: فإِنه إِما أَن يكون خيره غالباً على شره، أو يكون شره غالباً على خيره، أَو متساوياً خيره وشره، فهذه أقسام خمسة.
أما الذى يكون خيراً من كل الوجوه وهو موجود-[أما] الذى يكون كذلك لذاته- فهو الله تبارك وتعالى، وأما الذى يكون [خيره] لغيره فهو العقول والأَفلاك، لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من [كمالاتها] أما الذى كله شر أو الغالب فيه أَو [المتساوي] فهو غير موجود لأن كلامنا فى الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم الكمال الزائد، [وإذا عنينا بالشر] ذلك فلا شك أن ذلك مغلوب والخير غالب لأَن الأَمراض وإن كثرت إِلا أَن الصحة أَكثر منها، فالحرق والغرق والخسف، وإن كانت قد تكثر إِلا أن السلامة أكثر منها.
فأما الذى يكون خيره غالباً على شره فالأولى فيه أن يكون موجوداً لوجهين: الأَول أَنه إِن لم يوجد فلا بد وأَن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإِذا فى عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفى وجوده يكون الخير أَغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أولى، مثاله النار: فى وجودها منافع [كثيرة وأيضاً مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها] بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، وكانت مفاسد عدمها أَكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.
الثانى- وهو الذى يكون خيره ممزوجاً بالشر- ليس إلا الأُمور التى تحت كرة القمر فلا شك، أَنها معلولات العلل العالية، فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها، وهى خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض، فإِذاً لا بد من وجود هذا القسم.
فإِن قيل: فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: لأَنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول،
وذلك مما قد فرغ منه.
وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث.
قلت: لمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به.
ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإنما ألجأَه إِلى التزام القول بإِنكار الفاعل المختار فى هذا المقام تسليمه لهم الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة التى قادت إِلى التزام بعض أَنواع الباطل ولو أَعطى الدليل حقه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إِلى حق الطائفة الأُخرى، وتحيز إِلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة، وهو تقرير لما [جاءوا] به بجميع طرق الحق، لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأَن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته، وأَن له المشيئة النافذة [والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت] عليه من الإِحراق، والماءِ عما خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب
الله سبحانه، وأَن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل الأسباب التى نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها، وأَن تلك الأَسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أَشد منافاة للحكمة وإبطالاً لها، واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبابتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها [عنها] قدح فى الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التى عليها نظامه وبها قوامه.
ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحياناً إِذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التى أُلقى فيها إِبراهيم وجعلها عليه برداً وسلاماً عن الإِحراق لما فى ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماءِ عن إِغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإِسالة والتقاء أَجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التى ظهرت فى الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وملكه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن [جعلها] كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إِن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباءِ أنه ليس فى الإِمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون: لا تعطيل فى الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هى المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التى ربط بها خلقه وأَمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها.
ثم المحذور اللازم من إِنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإِن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا تخليص الحرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه [ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه] وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وفى ذلك تعطيل ربوبيته للعاملين، ففروا من محذور بالتزام
عدة محاذير، واستجاروا من الرمضاءِ بالنار.
وهذا كما نزهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوّه على مخلوقاته، فإنه فرار من التحيز والجهة، ثم جعلوه سبحانه فى كل مكان مخالطاً للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأْنف العاقل من مجاورته، ففروا من تخصيصه بالعلوّ فعمموا به كل مكان.
ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا: ليس فوق العرش رب يعبد، ولا إِله يُصَلَى له ويسجد، ولا ترفع إليه الأَيدى، ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، ولا عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بل عرج به إلى عدم صرف، ولا فرق بالنسبة إِليه بين العرش وبين أَسفل السافلين، ومن المعلوم أَنه ليس موجوداً فى أَسفل سافلين، فإذا لم يكن موجوداً فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.
فلما [رأت] الحلولية وإِخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما فى ذلك من الإِحالة قالوا: بل هو هذا الوجود السارى فى الموجودات [الظاهر] فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو فى الماء ماءٌ، وفى الخمر خمر، وفى النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغير أَو كبير طيب أَو غيره، تعالى الله عما يقول أعداؤه علواً كبيراً، وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأَفعال المتجددة به، ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته [لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته] وجعلوه لازماً لذاته كالمضطر إلى صدوره عنه.
وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا فى تشبيه، ثم شبهوه بخلقه فى أَفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه فى سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له- لئلا يشبّهه- فقد شبهه بالأَحجار التى لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم.
ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس، والآفات الممتنع منهم الكلام، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أَهل الموقف، ومجيئه يوم [القيامة]
للقضاء بين عباده فراراً من تشبيهه بالأجسام فقد شبهه بالجماد الذى لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيء ولا يأْتى ولا ينزل، ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل حذراً من تشبيهه بالفاعلين لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث [الذين] لا يقصدون بأفعالهم غاية محمودة ولا غرضاً مطلوباً محبوباً، ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاء حذراً من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلد فى [أطباق] النيران من استنفد عمره كله فى طاعته إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة فإنها تحبط جميع تلك الطاعات وتجعلها هباءً منثوراً، ويخلد فى جهنم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة:{فَهَدى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] .
"قاعدة": كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين: إما أَن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها، وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد، لكنها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقياداً للحق وثباتاً عليه فليبشر، فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.
"قاعدة": إذا ابتلى الله عبده بشيء من أَنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.
وكانت البلية فى حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إِلى محبوبها سبباً ما مثله سبب وقوله تعالى فى ذلك هو الشفاءُ والعصمة:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وإِن لم يرده ذلك البلاءُ
إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه فى الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص فى حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق.
"قاعدة": فى مشاهد الناس فى المعاصى والذنوب
الناس فى البلوى التى تجرى عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون- بحسب شهودهم لأَسبابها وغايتها- أَعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد:
أحدها: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إِذ لا تشهد إلا طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم فى ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة فى الوصول إِليها، وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها.
المشهد الثانى: من يشهد مع ذلك مجرد [الحكم] القدرى وجريانه عليه، ولا يجوز شهوده ذلك. وربما رأى أن الحقيقة هو توفية هذا المشهد حقه، ولا يتم له ذلك إلا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلاً ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أَنه يشهد نفسه مطيعاً من وجه وإِن كان عاصياً من وجه آخر فيقول: أَنا مطيع للإِرادة والمشيئة وإِن كنت عاصياً للأمر، فإِن كان ممن يرى الأَمر تلبيساً وضبطاً للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعاً لا عاصياً، كما قال قائلهم فى هذا المعنى:
أصبحت منفعلاً لما يختاره
…
منى ففعلى كله طاعات
وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذى يشهده المشركون عبّاد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا:
{لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، وقالوا:{لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ،
{وإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقُكُم اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] ، فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أَمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] ، والله أعلم.
المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبى القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدرى به، ولا عزة الرب فى قضائه ونفوذ أَمره، بل قد فنى بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق: إِما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين- فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله- مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد أقل قدراً من أن يحدث فى نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما لإنكاره القضاءَ والقدر جملة وتنزيهه للرب [تعالى] أن يقدر على العبد شيئاً ثم يلومه عليه، فأما الأول وإن كان مشهده صحيحاً موجباً له أن لا يزال لائماً لنفسه مزرياً عليها ناسباً للذنب والعيب إليها معترفاً بأنه يستحق العقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإِنه لم يشهد عزة الرب [تعالي] فى قضائه ونفوذ أمره الكونى ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه، وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها فى سلسلة إرادته وشهوته.
وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطى التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقه، بحيث يشهد سر قوله صلى الله عليه وسلم:"وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ [بعفوك] من عقوبتك، وأعوذ بك منك ".
فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاءَ لم يكن، فالفرار
منه إليه والاستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
منكر القضاء والقدر- فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه [فهو] ممنوع عن شهود عزة الرب فى قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله، وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن الله غليظ، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه.
المشهد الرابع: مشهد التوحيد والأمر، فيشهد انفراد الرب بالخلق، ونفوذ مشيئته وتعلق الموجودات بأسرها به وجريان حكمه على الخليقة وانتهاءها إلى ما سبق لها فى علمه وجرى به قلمه، ويشهد ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاءِ بالأعمال واقتضاءها له ارتباط المسببات بأسبابها التى جعلت أسباباً مقتضية لها شرعاً وقدراً وحكمة، فشهوده توحيد الرب [تعالى] وانفراده بالخلق ونفوذ مشيئته وجريان قضائه وقدره يفتح له باب الاستعاذة ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وشهوده أمره تعالى ونهيه وثوابه وعقابه يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع والقيام بالأمر والرجوع على نفسه باللوم والاعتراف بالتقصير، فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعمالها.
فهذا هو العبد الموفق المعان الملطوف به المصنوع له الذى أُقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق، وهذا هو مشهد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهو مشهد أَبيهم آدم إِذ يقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول:{رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْس لِى بِهِ عِلْمٌ، وإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ومشهد إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ يقول: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ
يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78- 82]، وقال فى دعائه:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] .
فعلم صلى الله عليه وسلم أن الذى يحول بين العبد وبين الشرك وعبادة الأصنام هو الله لا رب غيره، فسأله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. وهذا هو مشهد موسى إذ يقول فى خطابه لربه:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} [الأعراف: 155] ، أى إِنْ ذلك إلا امتحانك واختبارك، كما يقال فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من الفتنة التى هى الفعل المسيء كما فى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] وكما فى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فإن تلك فتنة المخلوق، فإن موسى أعلم بالله [تعالى] بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإنما هى كالفتنة فى قوله:{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] ، أى ابتليناك واختبرناك وصرفناك فى الأحوال التى قصها الله [سبحانه] علينا من لدن ولادته إِلَى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه.
والمقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده بالخلق والحكم وفعل السفهاء ومباشرتهم الشرك، فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأَضاف الذنب إلى فاعله [وجانيه]، ومن هذا قوله:{رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى} [القصص:16]، قال تعالى:{فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وهذا مشهد ذى النون إذ يقول: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين} [الأنبياء: 87]، فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول فى دعائه:"اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ".
فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع
الوجوه إليه سبحانه، ثم قال:"وأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ"، فتضمن ذلك التزام شرعه وأَمره ودينه، وهو عهده الذى عهد إلى عباده، وتصديق وعده وهو جزاؤه وثوابه فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب، ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذى يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التى لا يتعداها فقال:"ما استطعت" أى أَلتزم ذلك بحسب استطاعتى وقدرتى.
ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة، ومشهد التقصير من نفسه- فقال:- "أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ"، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معاً، ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتديء بها، والذنب إلى نفسه وعمله، فقال:"أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى"، فأَنْتَ المحمود والمشكور الذى له الثناء كله والإحسان كله ومنه النعم كلها.
فلك الحمد كله ولك الثناءُ كله ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه كما قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناءَ عليه ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه، ثم لما قام هذا بقلب الداعى وتوسل إليه بهذه الوسائل قال:"فَاغْفِرْ لِى فإِنه لا يغفر الذنوب إِلا أَنت".
ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه وسلسلة الهوى وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أَسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه وناصره ووليه، عالم بأن نجاته فى يديه وناصيته بين يديه وأَنه لو شاءَ طرده عنه وخلَّصه من يديه، فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفات إلى وليه وناصره والتضرع إليه والتذلل بين يديه، وكلما أراد اغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأْفته ورحمته فانجذبت دواعى قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه، كعبد قد شدت يداه إلى عنقه وقدم لتضرب عنقه وقد استسلم للقتل، فنظر إلى سيده أمامه وتذكر عطفه ورأْفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة طرح نفسه بين يديه ومد له عنقه وقال:
أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتى بين يديك، ولا خلاص لى من هذا العدو إلا بك وإنى مغلوب فانتصر.
فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف، وفوقه مشهد أجلَّ منه وأعظم وأخص تجفو عنه العبارة، وإن الإشارة إليه بعض الإشارة، وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل تعبر منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده، فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد أَيقن العبد أنه فى قبضته وأنه هو قاتله لا غيره، وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورحمته ورأفته وجوده وكرمه، فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كل نسب، فانقطع تعلقه بشيء سواه، فهو معرض عن عدوه الذى كان سبب غضب سيده عليه، قد محا شهوده من قلبه، فهو مقصور النظر إلى سيده وكونه فى قبضته ناظر إلى ما يصنعه، منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه.
ومثل الأول مثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت وذلك العبد يشهد دنوَّ عدوه له، ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرحمه، ولكن ما يحصل للثانى فى مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبه فهو يخنقه خنقة وهو لا يشهد إلا خنقه له، فهو يقول: اخنق خنقك، فأنت تعلم أن قلبى يحبك.
وفى هذا المثل إشارة وكفاية، ومن غلظ حجابه وكتفت طباعه لا ينفعه التصريح فضلاً عن ضرب الأمثال. والله المستعان وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله. فهذه ستة مشاهد.
المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمة الله فى تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
الثانى: تعريف العبد عزة الله سبحانه فى قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع: استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال
بين يديه.
الخامس: إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه.. فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذلّ وتيقن وتمنى أنه وأنه.
السادس: تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطائة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله منَّ به عليه لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه فى ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمه فى قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءَته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.
الحادى عشر: أن يعامل عباده فى إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل فى ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثانى عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يعريه من رداءِ العجب بعمله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ، العَجَبَ"، أو كما قال.
الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذى يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله فى توفيقه وعصمته، فإن من تربى فى العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل توبة بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذى يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعلمه كائناً ما كان، ولو لم يكن فى فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً.
العشرون: أنه يوجب له التيقظ
والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذى ذاق المرض والدواء.
الثانى والعشرون: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب.
الثالث والعشرون: أن تكون فى القلب أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها فيمن عليه اللطيف الخبير، ويقضى عليه بذنب ظاهر فيجد أَلم مرضه فيحتمى ويشرب الدواءَ النافع فتزول تلك الأمراض التى لم يكن يشعر بها، ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه فى طاعته، فيكون التذاذه فى ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه.
وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع فى الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنَّت وتضرعت واستعانت بربها ليردَّها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومأْلفها ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه فى أثر إلهى لا أحفظه.
السادس والعشرون: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب فى الإنسان أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعى لم يكن إِنساناً بل ملكاً، فالذنب من موجبات البَشرية، كما أن النسيان من موجباتها، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"، ولا يتم الابتلاءُ والاختبار إلا بذلك. والله أعلم.
السابع والعشرون: أن ينسيه رؤية
طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.
الثامن والعشرون: أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً ولا له على أحد حقاً. فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإِكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله، فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح فى نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه، وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق شاكياً ترك قيامهم بحقه ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذى الحكمة الباهرة التى بهرت عقول العالمين.
التاسع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه فى شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثانى علامة الشقاوة.
الثلاثون: أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجِّيراه: ربِّ اغفر لى ولوالدى وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم، وقد قال بعض السلف: إِن الله لما عتب على الملائكة فى قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ، وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبنى آدم ويدعون الله لهم.
الحادى والثلاثون: أنه يوجب
له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع وبه سبحانه مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته فى كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضى عن الاستقصاءِ فى طلب حقه قبلهم.
قاعدة: كثيراً ما يتكرر فى القرآن ذكر الإِنابة والأَمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال:{وَمَا تَوْفِيقِى إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سورة ق: 8]، وقوله:{إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، وقوله عن نبيه داود:{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [سورة ص: 24] ، والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعى القلب وجواذبه إليه، وهى تتضمن المحبة والخشية، فإِن المنيب محب لمن أَناب إليه خاضع له خاشع ذليل. والناس فى إِنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصى، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول فى أَنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده وقد حبب إليه فعل الطاعات وأَنواع القربات، وهذه الإِنابة مصدرها الرجاءُ ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله وهؤلاء أبسط نفوساً من أهل القسم الأول وأشرح صدوراً وجانب الرجاءِ ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج فى رجائهم فأَنابوا بالعبادات، ورجاء الأَولين اندرج تحت خوفهم فكانت إِنابتهم بترك المخالفات ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاءِ والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه.
ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إِليه من هذه الجهة مع قيامهم بالأَمر والنهى، ولكن إِنابتهم الخاصة إِنما هى من هذه الجهة، وأَما الأَعمال فلم يرزقوا فيها الإِنابة الخاصة وأَملهم المنيب إليه عند الشدائد والضراءِ فقط إِنابة اضطرار
لا إِنابة اختيار كحال الذين قال الله فى حقهم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدُْْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقوله تعالى:{فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلُكِ دَعُوُا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] ، وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أَرواحهم ملتفتة عن الله سبحانه معرضة عنه إِلى مأْلوف طبيعى نفسانى قد حال بينها وبين إِنابتها بذاتها إلى معبودها وإلهها الحق، فهى ملتفتة إلى غيره ولها إليه إنابة ما بحسب إيمانها به ومعرفتها له
فأَعلى أَنواع الإِنابة إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة الغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم وحين أَنابت إِليه أرواحهم لم يختلف منهم شيء عن الإِنابة، فإِن الأعضاءَ كلها رعيتها وملكها تبع للروح فلما أَنابت الروح بذاتها إِليه إنابة محب صادق المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أَنابت جميع القوى والجوارح: فأَناب القلب أَيضاً بالمحبة والتضرع والذل والانكسار.
وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت لللأمر خاضعة له وداعية فيه مؤثرة إياه على غيره، فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر، وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضاً إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليماً لحكمه.
وقد قيل: إن تدبير العبد لنفسه هو آخر الصفات المذمومة فى النفس.
وأناب الجسد بالأعمال والقيام بها فرضها وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذى كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة فى مباديها فإنها عذاب فى عواقبها، فإنابة العبد ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره، فأَين إنابة هذا من إنابة من قبله؟
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، بل هذه روحه منيبة أبداً، وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال فهى كامنة فيها كمون النار فى الزناد.
وأما أصحاب الإنابات المتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر والابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعى نفسه وطبعه. والله الموفق المعين، لا رب
غيره ولا إلَه سواه.
قاعدة: فى ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة فى الأحوال والأقوال والأعمال، وهى شيئان:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هى بذر الشيطان، والنفس فى أَرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأَعمال ولا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهى خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت فى حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها، فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟
قلت: أسباب عدة:
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثانى: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر فى بيته الذى خلقه لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر يستعر شرارها فتأْكل ما فى القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذى يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة فى فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هى وخواطر الإيمان ودواعى المحبة والإنابة أصلاً، بل هى ضدها من كل وجه، وما اجتمعا فى قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأَخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.
التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب فى غمراته غرق فيه وتاه فى ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلاً، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.
العاشر: أن تلك الخواطر هى وادى الحمقى وأَمانى الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة
والخزى، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وأَلقته فى الأسر الطويل كما أن هذا معلوم فى الخواطر النفسانية فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هى أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه فى الطاعات، واستقر بها الملك فى سلطانه واستقامت له رعيته، ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان ذلك هو سيرها وجل عملها وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجباً، ولا سنة، الثانى: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإِيمان والمحبة والإِنابة والتوكل والخشية فيفرّغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بد من التفطن لهذا.
ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات فظنوها تحقيقاً وفتحاً رحمانياً، وهم فيها غالطون، وإنما هى خيالات وفتوحات شيطانية، والميزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل المؤيد بنور النبوة. والله المستعان.
الفصل الثاني
صدق التأهب للقاءِ الله من أنفع ما للعبد وأبلغه فى حصول استقامته، فإِن من استعد للقاءِ الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وحمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبتَ قلبه إلى ربه تعالى وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أُخرى وعلوماً أُخر وولد ولادة أُخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إِلى هذه الدار بعد أَن كان فى بطن أُمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أُمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أُمه بارزاً إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أَنه قال:"يا بنى إسرائيل، إِنكم لن تلجوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين"، ولما كان أَكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها- فضلاً عن أن
يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أَم كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، إِذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه؟ ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد والمقصود أَن صدق التأَهب للقاءِ الله هو مفتاح جميع الأَعمال الصالحة والأَحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإِنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأَهب والاستعداد للقاءِ الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.
قاعدة شريفة: الناس قسمان: علية وسفلة. فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذى قال الله تعالى فيه:{وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مَكْرِمٍ} [الحج: 18] .
والطريق إلى الله فى الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذى نصبه موصلاً لمن سلكه إليه، قال الله تعالى:{وأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} [الأنعام: 153] ، فوحد سبيله لأنه فى نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة، كما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال:"هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذا سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبِيلِهِ} [الأنعام:153] " ومن هذا قوله تعالى: {اللهُ وَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] ، فوجد النور الذى هو سبيله وجميع الظلمات التى هى سبيل الشيطان.
ومن فهم هذا فهم السر فى إفراد النور وجمع الظلمات فى قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] مع أن فيه سراً أَلطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أَين فاض وعماذا حصل وأن أَصله كله واحد، وأَما الظلمات فهى متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها، وهى كثيرة جداً، لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادى جل جلاله أصلاً
لا وصفاً ولا ذاتاً ولا اسماً ولا فعلاً، وإِنما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته جل جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيء وهو نور السموات والأرض.
قال ابن مسعود: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأَرض من نور وجهه ذكره الدارمى عنه. وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور، أَنَّى أَراه،.
والمقصود أن الطريق إلى الله تعالى واحد، فإنه الحق المبين والحق واحد، مرجعه إلى واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة.
وأما ما يقع فى كلام بعض العلماء أَن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها، رحمة منه وفضلاً، فهو صحيح لا ينافى ما ذكرناه من وحدة الطريق. وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى الله، وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأَزمان والأَماكن والأَشخاص والأَحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه التى جعلها الله سبحانه لرحمته، وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأَذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امريءٍ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله.
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد بل تنوع الشريعة الواحدة مع وحدة المعبود ودينه، ومنه الحديث المشهور:" الأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلات دينهم واحد"، فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأُمهات متعددة، فشبه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها وإن تعددت فمرجعها كلها إلى أب واحد.
وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذى يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت فى طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته.
قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ على الله} [النساء: 100] .
وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أَنه رؤى بعد موته وأخبره أنه فى تكميل مطلوبه وأنه يتعلم فى البرزخ، فإِن العبد يموت على ما عاش عليه. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأْس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أَو قصر رأَى أَنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر فى ورده منها أَو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أَو مستعد لها أَظلم عليه وقته وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدى، كقضاءِ الحاجات وتفريج الكربات وإِغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له فى هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهى الغالب على أَوقاته وهى أعظم أورداه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءَت حاله.
ومنهم يكون طريقه الأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذى نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأَوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم من جامع المنفذ السالك إلى الله فى كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أَين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب من كل فريق بسهم، فأَين كانت العبودية وجدته هناك: إِن كان علم وجدته مع أَهله، أَو جهاد وجدته فى صف المجاهدين، أَو صلاة وجدته فى القانتين، أَو ذكر وجدته فى الذاكرين، أَو إحسان ونفع وجدته فى زمرة المحسنين، أَو ومراقبة ومحبه وإنابة إلى الله وجدته فى زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أَنَّى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعيتين أو فرقتين أو فرقتنى، ليس لى مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقباً له فيها عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن:{إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التوبة: 111] ، فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة
ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبه بمحبوبه فيسلو به عن جميع
المطالب سواه، فلا يبقى فى قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأَخذ بقلبه إليه وتولاه فى جميع أموره فى معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربى الوالد الشفيق ولده، فإِنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أَحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضى به من الناس حبيباً ورباً، ووكيلاً وناصراً ومعيناً وهادياً، فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حبا ًله وشوقاً إليه ويقع شكراً له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
وإلا فأى قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟ هذا ما لا يكون أبداً، ومن ذاق شيئاً من ذلك وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع فى آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب فى حياته عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكى فلا يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه، وأحزانه وحسراته مقبلة، فقد أُبدل بأُنسه وحشه وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً، وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشاً، ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها وناكباً عنها مكباً على وجهه، فأبصر ثم عمى وعرف ثم أَنكر وأَقبل ثم أَدبر ودعى فما أَجاب وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأَقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه فى فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل السافلين، وحصل فى عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه- إذ أعرض عن ربه- حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشى على وجه الأرض فروحه فى وحشة من جسمه وقلبه فى ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على
تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأَليم بسب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحداقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأَرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب، ولخرج إلى الصعدات يجأَر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب، هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أَقدر ما كان عليه، وتلك سنة الله فى خلقه كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ، كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه، فيعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعاً، فيكون معذباً فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له، وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم، فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضى وحرص لا ينفد وذل لا ينتهى وطمع لا يقلع، هذا فى هذه الدار.
وأَما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك: قد حيل بينه وبين ما يشتهى، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما فى دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين.
فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين بأرحم الراحمين، فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله وقارنه سوءُ الحال وفساده فى دينه ومآله، فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأْوى للشياطين وهدفاً للشرور ومصباً للبلاءِ، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقاً إليه ثم أَعرض عنها أَو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منه.
خصوصاً إِذا مال بتلك الإِرادة إِلى شيء من اللذات، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأَغراض والشهوات عاكفاً على ذلك فى ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطاً من الأَوج الأَعلى إلى الحضيض الأدنى، قد مضت عليه برهة من أَوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه
وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى وكان الله فى تلك الحال وليه لأَنه ولى من تولاه وحبيب من أَحبه ووالاه فأَصبح فى سجن الهوى ثاوياً وفى أَسر العدو مقيماً وفى بئر المعصية ساقطاً وفى أَودية الحيرة والتفرقة هائماً، معرضاً عن المطالب العالية إلى الأَغراض الخسيسة الفانية، كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوساً فى أسفل الحش:
فأصبح كالبازى المنتّف ريشه
…
ذيرى حسرات كلما طار طائر
وقد كان دهراً فى الرياض منعماً
…
على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أَن أَصابته من الدهر نكبة
…
إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أَعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له بأى شيء تعرض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً، وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً.
أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار، فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأَليم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه فى رضاه وطالباً رضى من سعادته فى إرضاء سواه، إِنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أَوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبداً أحبوه وإذا والى والياً والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل إنى أُحب فلاناً فأحبه، فينادى جبرائيل فى السماءِ: إِن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض، فيوضع له القبول بينهم، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته
ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ الملأُ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
قاعدة: السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به فى ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر. وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقى عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً فى الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأُخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فهو يقول: يا نفس أَبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصل فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأَنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعى فى المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين فإِن استصعبت عليه فليذكرها ما أَمامها من أحبابها، وما لديهم من الإِكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاءِ، فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها، وإن وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها فى