الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ باللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [المائدة: 82 - 86]، قال قتادة:«هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم عليه السلام فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا» ، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلتْ في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} وما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هَمُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة وسمّوه وسحروه وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله
المتتابعة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} ، أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة وما ذاك إلا لما في قلوبهم ـ إذا كانوا على دين المسيح ـ من الرقة والرأفة كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]، وفي كتابهم:«من ضربك على خدك الأيمن فأَدِرْ له خدك الأيسر» ، وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحِدُهُم قسيس وقس أيضا، والرهبان جمع راهب وهو العابد مشتق من الرهبة وهي الخوف.
فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف فقال:{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحَقِّ} أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقولون:{رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، أي مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بلغ وللرسل
أنهم قد بلغوا.
وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ باللهِِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]، وهم الذين قال الله فيهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55].
ولهذا قال تعالى ها هنا: {فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} ، أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون {وَذَلِكَ جَزَاء المُحْسِنِينَ} ، أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان، وأين كان، ومع من كان، ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بها وخالفوها {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} أي هم أهلها والداخلون فيها (1).
(1) باختصار من تفسير ابن كثير.