الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول الإيمان باليوم الآخر
المبحث الأول: أهمية الإيمان باليوم الآخر:
الإيمان بيوم القيامة أصل من الأصول، لا يتم الإيمان إلا به {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].
وقد ساق القرآن ضروباً متنوعة من الأساليب البيانية الراقية كي يؤكد وقوعها في نفوس العباد قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2].
ففي بعض المواضع يكون الحديث عنها خبراً مجرداً، قال تعالى:{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)} [الروم: 11]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور: 64].
ومرة يؤكد وقوعها بـ"إن"، كقوله تعالى:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه: 15]، ومرة بـ"إن" واللام، قال تعالى:{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحِجر: 85]، وقال تعالى:{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)} [العنكبوت: 5].
وفي بعض المواضع ينفي الريب والشك عن وقوعها، قال تعالى:{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)} [غافر: 59].
وفي بعض الآيات يقسم الله تعالى على أنها آتية واقعة مرة بنفسه، قال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87]، ومرة بمخلوقاته العظيمة، قال تعالى:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [سورة الذاريات: 1 - 6].
وفي بعض المواضع يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في مجال الحجج والخصام بالإقسام بربه مؤكداً وقوعها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
وفي بعض الآيات يخبر بأنها حق: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}
[سورة فاطر:5]، ومن تتبع طريقة القرآن في تأكيد الإخبار بها تحصل عنده أنواع كثيرة
(1)
.
والإيمان أمره عظيم؛ إذ هو الأساس الذي تبنى عليه السعادة في الدنيا والآخرة، فهو من أعظم مراتب الدين، فإن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حضرة أصحابه سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان:«فقال يا محمد: أخبرني عن الإسلام، قال الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت اليه سبيلاً»
- ففسر الإسلام على أنه الإتيان بهذه الأركان الخمسة: الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت- «قال: صدقت فأخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله أو أن تؤمن بالقدر خيره وشره» - ففسر الإيمان على أنه الإيمان بهذه الأركان الستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره - «قال أخبرني عن الإحسان قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
(2)
، فبين أن الإحسان ركن واحد هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهذه هي مراتب الدين الثلاث: الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، وكل مرتبة لها أركان.
والركن في اللغة: بالضم الجانب الأقوى والأمر العظيم
(3)
، (فركن الشيء: جانبه الذي يقوم عليه، فركن البيت هو جانبه الذي يقوم عليه، فالإيمان يقوم على هذه الأركان الستة فإذا سقط منها ركن لم يكن الإنسان مؤمناً به لأنه فقد ركنا من أركان الإيمان.
(1)
انظر: اليوم الآخر – القيامة الصغرى، ص 113 - 114.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/ 114 - مع الفتح)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1/ 150 - مع شرح النووي).
(3)
الفيروزآبادي، القاموس المحيط، (ص 1082)، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت 1415 هـ.
فالإيمان لا يقوم إلا على أركانه كما لا يقوم البنيان إلا على أركانه، وهذه الأركان الستة مذكورة في القرآن الكريم، تارة تذكر جميعاً وتارة يذكر بعضها، قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ذكر - جل وعلا- في هذه الآية خمسة أركان من أركان الإيمان، وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ذكر منها أربعة، وتارة يذكر منها اثنين: الإيمان بالله واليوم الآخر قال جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:62]. وأما - الإيمان بالقدر فقد ذكره في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر:49]، وفي قوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان:2]
(1)
.
ومن الأدلة على وجوب الإيمان باليوم الآخر قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون:115]، وقال تعالى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام:62]، وقال تعالى:{(27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
والإيمان باليوم الآخر يشتمل على مجموعة من الحقائق وردت في الكتاب والسنة، فلزم الإيمان بها جميعاً، ومنها: فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والساعة وأمارتها، والبعث والحشر والحساب وما يتبعه من ثواب وعقاب والصراط والجنة والنار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمة: (ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت
…
)
(2)
.
(وهذا ضابط جامع يدخل فيه الإيمان بالنصوص الواردة في حالة الاحتضار وفي القبر والقيامة والجنة والنار وجميع ما احتوت عليه من التفاصيل
…
)
(3)
.
(1)
صالح الفوزان، الإيمان بالملائكة وآثاره في حياة الأمة، ص 3، ط. الأولى، دار العاصمة، الرياض، 1413 هـ.
(2)
العقيدة الواسطية، ص 142، شرح الشيخ صالح الفوزان.
(3)
ابن سعدي، التنبيهات اللطيفة على ما احتوت العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة، ص 69، ط. الأولى، ضبط وتخريج: علي حسن عبدالحميد، دار ابن القيم، العام، 1409 هـ.
وقبل أن نتحدث عن هذه النقاط نقدم مقدمة نوضح فيها بعض الأمور التي تتعلق بالإيمان باليوم الآخر، منها: تعريف الإيمان في اللغة والشرع، وتعريف اليوم الآخر، وسبب تسميته بذلك، وأسماءه، ومدة هذا اليوم، وعلاقة الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالغيب.
فالإيمان في اللغة: هو التصديق، وفي لسان العرب: الإيمان بمعنى التصديق ضده التكذيب، يقال: أمن به قوم، وكذب به قوم
(1)
.
قال الراغب الأصبهاني
(2)
رحمه الله: "أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف "
(3)
.
والإيمان مصدر آمن يؤمن إيماناً فهو مؤمن
(4)
، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية
(5)
، وهو من الأمن ضد الخوف
(6)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريفه للإيمان: " .. فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو الإقرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والإنقياد"
(7)
.
قال الشيخ ابن عثيمين
(8)
: (الإيمان في اللغة الإقرار بالشيء عن تصديق به. إذاً فالإيمان يتضمن معنى زائداً على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام)
(9)
.
وفي الشرع: (قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان)
(10)
.
واليوم الآخر هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء. وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده
(1)
ابن منظور، لسان العرب، 1/ 140، دار المعارف، القاهرة.
(2)
أبو القاسم الحسين بن مفضل الأصبهاني أو الأصفهاني، المعروف بالراغب، سكن بغداد واشتهر بها، من آثاره: مفرادات ألفاظ القرآن، وغيرها، توفي سنة 502 هـ. انظر: الوافي بالوفيات: 13/ 29، وشذرات الذهب: 4/ 34.
(3)
المفردات في غريب القرآن: 90.
(4)
تهذيب اللغة: 15/ 368.
(5)
الصحاح: 5/ 2071.
(6)
الصحاح: 5/ 2071، والقاموس المحيط:1176.
(7)
الصارم المسلول: 519، وانظر: الفتاوى: 7/ 289.
(8)
هو أبو عبدالله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين الوهيبي التميمي، ولد في عنيزة عام 1347 هـ، إمام وخطيب الجامع الكبير بعنيزة ومحاضر بكلية الشريعة بالقصيم وعضو هيئة كبار العلماء، له مؤلفات كثيرة، توفي عام 1421. انظر ترجمته في: الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثمين لوليد الحسن، ومقدمة شرح الأصول الثلاثة للشيخ ابن عثيمين، إعداد: فهد السليمان، ط. الأولى، دار الثريا، الرياض، 1414 هـ. ومقدمة شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ط. الثانية، دار ابن الجوزي، الدمام، 1415 هـ.
(9)
ابن عثيمين، شرح العقيدة الواسطية، ص 1/ 54، ط. الثانية، دار ابن الجوزي، الدمام، 1415 هـ.
(10)
العقيدة الواسطية، مع شرح الفوزان، ص 178.
حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم
(1)
، ولتأخره عن الدنيا
(2)
.
ومدة هذا اليوم الذ يحاسب الناس فيه خمسين ألف سنة ثم يُرى سبيلهم إما إلى جنه وإما إلى نار، ويدل على ذلك قوله تعالى:{(3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: «ما من صاحب ذهب ولا فضه لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»
(3)
.. الحديث.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: يوم القيامة، وإسناده صحيح
(4)
.
(1)
ابن عثيمين، شرح أصول الإيمان، ص 40، ط. الأولى، دار الوطن، الرياض، 1410 هـ.
(2)
شرح العقيدة الواسطية، الفوزان، ص 142.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (7/ 67 – مع شرح النووي).
(4)
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (4/ 447).