المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالثفي بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية - عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك

[صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثانيفي بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها

- ‌الفصل الثالثفي بيان الانحرافِ عن العقيدة وسبل التوقي منه

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثانيمفهومُ كلمةِ الربِّ في القرآن والسُّنَّة وتصوُّرات الأمم الضّالَّة

- ‌الفصل الثالثالكونُ وفطرتُهُ في الخُضُوعِ والطَّاعةِ لله

- ‌الفصل الرابعفي بيانِ منهج القرآن في إثبات وُجُودِ الخالقِ ووحدانيَّته

- ‌الفصل الخامسبيانُ استلزامِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ لتوحيد الأُلوهيَّة

- ‌ توحيد الألوهية

- ‌الفصل الثانيفي بيان معنى الشَّهادتين وما وقعَ فيهما من الخطأ

- ‌أولًا: معنى الشَّهادتين:

- ‌الفصل الثالثفي التشريع

- ‌ معنى العبادة:

- ‌الفصل الخامسفي بيانِ مفاهيمَ خاطئةٍ في تحديد العبادة

- ‌الفصل السادسفي بيان ركائز العبودية الصحيحة

- ‌ توحيد الأسماء والصفات

- ‌أولًا: الأدلَّةُ من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت الأسماء والصفات

- ‌ثانيًا: منهجُ أهل السّنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته:

- ‌ثالثًا: الرّدُّ على من أنكَرَ الأسماءَ والصّفاتِ، أو أنكر بعضها:

- ‌الباب الثالثفي بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية

- ‌الباب الرابعأقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه

- ‌الفصل الثانيالسحرُ والكهانةُ والعِرافة

- ‌الفصل الثالثتقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها

- ‌الفصل الرابعفي بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية

- ‌الفصل الخامسفي بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته

- ‌الفصل السادسالحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الفصل السابعادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم

- ‌الفصل الثامنحكم الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية

- ‌الفصل التاسعالنظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية

- ‌الفصل العاشرفي الرقى والتمائم

- ‌الفصل الحادي عشرفي بيان حكم‌‌ الحلف بغير اللهوالتوسل والاستغاثة والاستعانة بالمخلوق

- ‌ الحلف بغير الله

- ‌ التوسل بالمخلوق إلى الله تعالى:

- ‌الفصل الأول: في وجوب محبة الرسول وتعظيمه، والنهي عن الغلو والإطراء في مدحه

- ‌الفصل الثانيفي وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والاقتداء به

- ‌الفصل الثالثفي مشروعية الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابعفي فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غُلُوّ

- ‌الفصل السادسفي النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى

- ‌الباب السادسالبدع

- ‌ تعريف البدعة

- ‌ أنواع البدع:

- ‌الفصل الثانيظهور البدع في حياة المسلمين والأسباب التي أدت إليها

- ‌الفصل الثالثموقف الأمة الإسلامية من المبتدعةومنهج أهل السنة والجماعة في الرّدّ عليهم

- ‌ موقف أهل السُّنَّة والجماعة من المبتدعة:

- ‌الفصل الرابعفي بيان نماذج من البدع المعاصرة

- ‌ الاحتفال بمناسبة المولد النبوي:

الفصل: ‌الباب الثالثفي بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية

‌الباب الثالث

في بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية

ولمحة تاريخية عن الكفر والإلحاد والشرك والنِّفاق

ويتضمّن الفصول التالية:

الفصل الأول: الانحراف في حياة الشعوب.

الفصل الثاني: الشرك - تعريفه وأنواعه.

الفصل الثالث: الكفر - تعريفه وأنواعه.

الفصل الرابع: النفاق - تعريفه وأنواعه.

الفصل الخامس: بيان حقيقة كل من: الجاهلية - الفسق - الضلال - الردة: أقسامها، وأحكامها.

ص: 69

الفصل الأول

الانحراف في حياة البشرية

خلق الله الخلق لعبادته، وهيأ لهم ما يعينهم عليها من رزقه، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58] .

والنفسُ بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تعبدُه لا تُشرك به شيئًا، ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوز في الفطرة، والشرك طارئ ودخيل عليها، قال الله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يُولَدُ على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه» . فالأصلُ في بني آدم: التوحيد.

والدينُ الإسلام، وكان عليه آدم عليه السلام، ومن جاءَ بعدَهُ من ذُرّيته قُرونًا طويلة، قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] .

ص: 70

وأوَّلُ ما حدثَ الشركُ والانحراف عن العقيدة الصحيحة في قوم نوح، فكانَ عليه السلام أول رسول إلى البشرية بعد حدوث الشرك فيها:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .

قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرةُ قرون؛ كلهم على الإسلام.

قال ابن القيم (وهذا القولُ هو الصواب قطعًا؛ فإنَّ قراءة أُبيّ بنِ كعبٍ - يعني: في آية البقرة -: (فاختلفوا فبعث الله النبيين) .

ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] .

يريد رحمه الله أنَّ بعثةَ النبيين سببُها الاختلاف عما كانوا عليه من الدين الصحيح، كما كانت العربُ بعد ذلك على دين إبراهيمَ عليه السلام؛ حتى جاء عمرو بن لحي الخزاعي فغيّر دينَ إبراهيم، وجلبَ الأصنام إلى أرض العرب، وإلى أرض الحجاز بصفة خاصة، فعُبدت من دون الله، وانتشر الشركُ في هذه البلاد المقدسة، وما جاورها؛ إلى أن بعثَ الله نبيه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى التوحيد، واتّباع ملَّة إبراهيم، وجاهد في الله حق جهاده؛ حتى عادت عقيدة التوحيد

ص: 71

وملة إبراهيم، وكسَّر الأصنام وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على العالمين، وسارت على نهجه القرون المفضَّلَة من صدر هذه الأمة؛ إلى أن فشا الجهل في القرون المتأخرة، ودخلها الدخيلُ من الديانات الأخرى، فعاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة؛ بسبب دعاة الضلالة، وبسبب البناء على القبور، متمثلًا بتعظيم الأولياء والصالحين، وادعاء المحبة لهم؛ حتى بنيت الأضرحة على قبورهم، واتخذت أوثانًا تُعبدُ من دون الله، بأنواع القُربات من دعاء واستغاثة، وذبح ونذر لمقامهم. وسَموا هذا الشرك: توسُّلًا بالصالحين، وإظهارًا لمحبتهم، وليس عبادة لهم، بزعمهم، ونسوا أن هذا هو قول المشركين الأولين حين يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .

ومع هذا الشرك الذي وقع في البشرية قديمًا وحديثًا، فالأكثرية منهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، وإنما يُشركون في العبادة، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .

ولم يجحد وجودَ الرب إلا نزرٌ يسير من البشر، كفرعون والملاحدة الدهريين، والشيوعيين في هذا الزمان، وجحودهم به من باب المكابرة، وإلا فهم مضطرون للإقرار به في باطنهم، وقرارة نفوسهم، كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] .

ص: 72

وعقولهم تعرف أن كل مخلوق لا بد له من خالق، وكل موجود لا بد له من موجد، وأن نظام هذا الكون المنضبط الدقيق لا بد له من مدبر حكيم، قدير عليم، من أنكره فهو إما فاقد لعقله، أو مكابر قد ألغى عقله وسفه نفسه، وهذا لا عِبرةَ به.

ص: 73

الفصل الثاني

الشرك: تعريفه، أنواعه

أ - تعريفه: الشرك هو: جعل شريك لله تعالى في ربوبيته وإلهيته.

والغالب الإشراك في الألوهية؛ بأن يدعو مع الله غيره، أو يَصرفَ له شيئًا من أنواع العبادة، كالذبح والنذر، والخوف والرجاء والمحبة. والشركُ أعظمُ الذنوب؛ وذلك لأمور:

1 -

لأنه تشبيه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فمن أشرك مع الله أحدًا فقد شبهه به، وهذا أعظم الظلم، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، فمن عبد غير الله فقد وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وذلك أعظم الظلم.

2 -

أن الله أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .

3 -

أن الله أخبر أنه حرَّم الجنة على المشرك، وأنه خالد مخلد في نار جهنم، قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .

ص: 74

4 -

أنَّ الشركَ يُحبطُ جميعَ الأعمال، قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] .

5 -

أنَّ المشرك حلالُ الدم والمال، قال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرتُ أن أقاتلَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .

6 -

أنَّ الشركَ أكبرُ الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين

» الحديث.

قال العلامة ابن القيم: (أخبر سُبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يُعرفَ بأسمائه وصفاته، ويُعبدَ وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات

ص: 75

والأرض، كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .

فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله، وأنزلَ كُتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل، ومن أعظم القسط: التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه؛ وإن الشرك ظلم كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشد منافاةً لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر) .

إلى أن قال: (فلما كان الشرك منافيًا بالذات لهذا المقصود؛ كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل لمشرك عملًا، أو يقبلَ فيه شفاعة، أو يَستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء؛ فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه ندًّا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربَّه، وإنَّما ظلَمَ نفسه) انتهى.

7 -

أنَّ الشركَ تنقص وعيب نزه الرب سبحانه نفسه عنهما، فمن أشرك بالله فقد أثبت لله ما نزه نفسه عنه، وهذا غاية المحادَّةِ لله تعالى،

ص: 76

وغاية المعاندة والمشاقَّة لله.

ب - أنواع الشرك

الشرك نوعان:

النوع الأول: شرك أكبر يُخرج من الملة، ويخلَّدُ صاحبُهُ في النار، إذا مات ولم يتب منه، وهو صرفُ شيء من أنواع العبادة لغير الله، كدعاء غير الله، والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله من القبور والجن والشياطين، والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو يُمرضوه، ورجاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكُربات، مما يُمارسُ الآن حولَ الأضرحة المبنية على قبور الأولياء والصالحين، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] .

والنوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة؛ لكنه ينقص التوحيد، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهو قسمان:

القسم الأول: شرك ظاهر على اللسان والجوارح وهو: ألفاظ وأفعال، فالألفاظ كالحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . وقول: ما شاء الله وشئت، قال صلى الله عليه وسلم: لما قال له

ص: 77

رجل: ما شاء الله وشئت، فقال:«أجعلتني لله نِدًّا؟ ! قُلْ: ما شاءَ الله وحده» . وقول: لولا الله وفلان، والصوابُ أن يُقالَ: ما شاءَ الله ثُمَّ شاء فلان؛ ولولا الله ثمَّ فلان، لأن (ثم) تفيدُ الترتيب مع التراخي، وتجعلُ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] .

وأما الواو: فهي لمطلق الجمع والاشتراك، لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا؛ ومثلُه قول: ما لي إلا الله وأنت، و: هذا من بركات الله وبركاتك.

وأما الأفعال: فمثل لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، ومثل تعليق التمائم خوفًا من العين وغيرها؛ إذا اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاء أو دفعه، فهذا شرك أصغر؛ لأن الله لم يجعل هذه أسبابًا، أما إن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر لأنه تَعلَّق بغير الله.

القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإرادات والنيات، كالرياء والسمعة، كأن يعمل عملًا مما يتقرب به إلى الله؛ يريد به ثناء الناس عليه، كأن يُحسن صلاته، أو يتصدق؛ لأجل أن يُمدح ويُثنى عليه، أو يتلفظ بالذكر ويحسن صوته بالتلاوة لأجل أن يسمعه الناس، فيُثنوا عليه ويمدحوه. والرياء إذا خالط العمل أبطله، قال الله تعالى:

ص: 78

{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخوفُ ما أخافُ عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» .

ومنه: العملُ لأجل الطمع الدنيوي، كمن يحج أو يؤذن أو يؤم الناس لأجل المال، أو يتعلم العلم الشرعي، أو يجاهد لأجل المال. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تَعِسَ عبدُ الدينار، وتَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط» .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه؛ فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يُخلصَ لله في أفعاله وأقواله، وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يُقبلُ من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .

ص: 79

وهي ملَّةُ إبراهيمَ عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفَهِ السُّفهاء) انتهى.

يتلخَّصُ مما مرّ أن هناك فروقًا بين الشرك الأكبر والأصغر، وهي:

1-

الشرك الأكبر: يُخرج من الملة، والشرك الأصغر لا يُخرج من الملة، لكنه ينقص التوحيد.

2-

الشرك الأكبرُ يخلَّدُ صاحبه في النار، والشرك الأصغر لا يُخلَّد صاحبُه فيها إن دَخَلها.

3-

الشركُ الأكبرُ يحبطُ جميعَ الأعمال، والشركُ الأصغرُ لا يُحبِطُ جميع الأعمال، وإنما يُحبِطُ الرياءُ والعملُ لأجل الدنيا العملَ الذي خالطاه فقط.

4-

الشرك الأكبر يبيح الدم والمال، والشرك الأصغر لا يبيحهما.

ص: 80

الفصل الثالث

الكفر: تعريفه - أنواعه

أ - تعريفه:

الكفر في اللغة: التغطية والستر، والكفر شرعًا: ضد الإيمان، فإنَّ الكُفرَ: عدم الإيمان بالله ورسله، سواءً كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل مجرد شك وريب أو إعراض أو حسد، أو كبر أو اتباع لبعض الأهواء الصادة عن اتباع الرسالة. وإن كان المكذب أعظم كفرًا، وكذلك الجاحدُ والمكذِّب حسدًا؛ مع استيقان صدق الرسل.

ب - أنواعه:

الكفر نوعان: النوع الأول: كفر أكبر يخرج من الملة، وهو خمسة أقسام:

القسم الأول: كُفرُ التَّكذيب، والدَّليلُ: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] .

القسم الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، والدليل قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] .

ص: 81

القسم الثالث: كفرُ الشّكِّ، وهو كفر الظّنّ، والدليل قوله تعالى:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35- 38] .

القسم الرابع: كفرُ الإعراضِ، والدليلُ قولُه تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] .

القسم الخامس: كفرُ النّفاقِ، والدليلُ قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقين: 3] .

النوع الثاني: كفرٌ أصغرُ لا يُخرجُ من الملة، وهو الكفرُ العملي، وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة كُفرًا، وهي لا تصلُ إلى حدِّ الكفر الأكبر، مثل كفر النعمة المذكور في قوله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] .

ومثلُ قتال المسلم المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلمِ فُسوقٌ، وقتالُه كفر» .

ص: 82

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَرجعوا بعدي كُفَّارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعض» .

ومثل الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» .

فقد جعل الله مُرتكِبَ الكبيرة مُؤمنًا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .

فلم يُخرج القاتلَ من الذين آمنوا، وجعله أخًا لولي القصاص فقال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] .

والمرادُ: أخوة الدين، بلا ريب.

وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .

إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . انتهى من شرح الطحاوية باختصار.

ص: 83

وملخص الفروق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر:

1-

أنَّ الكفر الأكبر يُخرجُ من الملة، ويحبط الأعمال، والكُفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال، لكن ينقصُها بحسبه، ويعرِّضُ صاحبَها للوعيد.

2-

أنَّ الكفرَ الأكبرَ يُخلد صاحبه في النار، والكفر الأصغر إذا دخل صاحبه النار فإنه لا يخلد فيها؛ وقد يتوب الله على صاحبه، فلا يدخله النار أصلًا.

3-

أنَّ الكفرَ الأكبرَ يُبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يُبيحُ الدم والمال.

4-

أن الكفر الأكبر يُوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنهُ لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحَبُّ ويُوالى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويُعادى بقدر ما فيه من العصيان.

ص: 84

الفصل الرابع

النفاق: تعريفه، أنواعه

أ - تعريفه:

النفاق لغة: مصدر نافق، يُقال: نافق يُنافق نفاقًا ومنافقة، وهو مأخوذ من النافقاء: أحد مخارج اليربوع من جحره؛ فإنه إذا طلب من مخرج هرب إلى الآخر، وخرج منه، وقيل: هو من النفق وهو: السِّرُ الذي يستتر فيه.

وأما النفاق في الشرع فمعناه: إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر؛ سمي بذلك لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] .

أي: الخارجون من الشرع.

وجعل الله المنافقين شرًّا من الكافرين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] .

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 9، 10] .

ص: 85

ب - أنواع النفاق:

النفاق نوعان: النوع الأول: النفاقُ الاعتقادي: وهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام، ويُبطن الكفر، وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، وقد وصَفَ الله أهله بصفات الشر كلها: من الكفر وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة الإسلام. وهؤلاء مَوجودون في كل زمان، ولا سيما عندما تظهر قوة الإسلام ولا يستطيعون مقاومته في الظاهر، فإنهم يظهرون الدخول فيه؛ لأجل الكيد له ولأهله في الباطن؛ ولأجل أن يعيشوا مع المسلمين ويأمنوا على دمائهم وأموالهم؛ فيظهر المنافق إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس يهديهم بإذنه، وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه، وقد هتك الله أستار هؤلاء المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن الكريم، وجلى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها ومن أهلها على حذر. وذكرَ طوائف العالم الثلاث في أول البقرة: المؤمنين، والكفار، والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وعموم

ص: 86

الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدًّا؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة؛ يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.

وهذا النفاق ستة أنواع

1 -

تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

تكذيبُ بعض ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم

3 -

بُغضُ الرسول صلى الله عليه وسلم

4 -

بغضُ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

5 -

المسرَّة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم.

6 -

الكراهية لانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم.

النوع الثاني: النفاق العملي: وهو عمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء الإيمان في القلب، وهذا لا يُخرج من الملة، لكنه وسيلة إلى ذلك، وصاحبه يكونُ فيه إيمان ونفاق، وإذا كثر صارَ بسببه منافقًا خالصًا، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:«أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا»

ص: 87

«اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .

فمن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع، فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، ومَن كانت فيه واحدة منها صار فيه خصلة من النفاق، فإنه قد يجتمع في العبد خصال خير، وخصال شر، وخصال إيمان، وخصال كفر ونفاق، ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك.

ومنه: التكاسل عن الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ فإنه من صفات المنافقين، فالنفاق شر، وخطير جدًّا، وكان الصحابة يتخوفون من الوقوع فيه، قال ابن أبي مليكة:(أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلُّهم يخاف النفاق على نفسه) .

الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر:

1 -

إن النفاقَ الأكبرَ يُخرجُ من الملَّة، والنفاقَ الأصغر لا يُخرجُ من الملَّة.

2 -

إن النفاق الأكبر: اختلاف السر والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر: اختلاف السر والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.

3 -

إن النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، وأما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن.

4 -

إن النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، ولو تاب فقد اختلف

ص: 88

في قبول توبته عند الحاكم. بخلاف النفاق الأصغر؛ فإن صاحبه قد يتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وكثيرًا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوبُ الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه الله عنه، والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخرّ من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: «ذلك صريح الإيمان» . وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: «الحمدُ لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة» ، أي حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان) انتهى.

وأما أهل النفاق الأكبر، فقال الله فيهم:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] . أي: إلى الإسلام في الباطن، وقال تعالى فيهم:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد اختلف العلماءُ في قبول توبتهم في الظاهر؛ لكون ذلك لا يُعلم، إذ هم دائمًا يظهرون الإسلام) .

ص: 89

الفصل الخامس

بيان حقيقة كل من الجاهلية - الفسق - الضلال - الردة: أقسامها، أحكامها

1 -

الجاهلية:

هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالله ورسله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر، وغير ذلك نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: (فإنَّ من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلًا بسيطًا، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلًا مركبًا، فإن قال خلاف الحق عالمًا بالحق، أو غير عالم، فهو جاهل أيضًا، فإذا تبيّن ذلك فالناس قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون، من يهودية ونصرانية، فهو جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة.

فأما بعد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تكون في مصر دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكونُ في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلمَ فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام، فأما في زمان مطلق فلا

ص: 90

جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، والجاهلية المقيدة قد توجد في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية

» وقال لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» ونحو ذلك) انتهى.

وملخص ذلك: أن الجاهلية: نسبة إلى الجهل، وهو عدم العلم، وأنها تنقسم إلى قسمين:

1 -

الجاهلية العامة: وهي ما كان قبل مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد انتهت ببعثته.

2 -

جاهلية خاصة ببعض الدول، وبعض البلدان، وبعض الأشخاص، وهذه لا تزال باقية، وبهذا يتضح خطأ من يُعمّمونَ الجاهلية في هذا الزمان فيقولون: جاهلية هذا القرن أو جاهلية القرن العشرين، وما شابه ذلك، والصواب أن يُقالَ: جاهلية بعض أهل هذا القرن، أو غالب أهل هذا القرن؛ وأما التعميم فلا يصحُّ ولا يجوزُ؛ لأنه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم زالت الجاهلية العامة.

ص: 91

2 -

الفسق:

الفسق لغة: الخروج، والمراد به شرعًا: الخروج عن طاعة الله، وهو يشمل الخروج الكلي؛ فيقالُ للكافر: فاسق، والخروج الجزئي؛ فيقال للمؤمن المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب: فاسق.

فالفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وهو الكفر، فيسمَّى الكافرُ فاسقًا، فقد ذكر الله إبليسَ فقال:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ، وكان ذلك الفسق منه كُفرًا.

وقال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ، يريد الكفار، دلَّ على ذلك قوله:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] .

ويُسمَّى مرتكب الكبيرة من المسلمين: فاسقًا، ولم يُخرجهُ فسقُهُ من الإسلام، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] .

وقال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] .

وقال العلماء في تفسير الفسوق هنا: هو المعاصي.

ص: 92

3 -

الضلال:

الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، وهو ضد الهداية، قال تعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15] .

والضلالُ يطلق على عدة معان:

1 -

فتارةً يُطلقُ على الكفر، قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] .

2 -

وتارة يُطلقُ على الشرك، قال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] .

3 -

وتارة يُطلقُ على المخالفة التي هي دون الكفر، كما يقال: الفرق الضالة: أي المخالفة.

4 -

وتارة يُطلق على الخطأ، ومنه قولُ موسى عليه السلام:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] .

5 -

وتارةً يُطلقُ على النسيان، ومنه قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] .

6-

ويُطلقُ الضلالُ على الضياع والغيبة، ومنه: ضالة الإبل.

ص: 93

4 -

الردة وأقسامها وأحكامها:

الردة لغة: الرجوع، قال تعالى:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21] .

أي: لا ترجعوا، والردة في الاصطلاح الشرعي هي: الكفرُ بعد الإسلام، قال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] .

أقسامها: الردة تحصل بارتكاب ناقضٍ من نواقضِ الإسلام، ونواقضُ الإسلام كثيرة ترجع إلى أربعة أقسام، هي:

1 -

الردة بالقول: كسبِّ الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو ملائكته، أو أحد من رسله. أو ادّعاء علم الغيب، أو ادّعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها. أو دعاء غير الله، أو الاستعانة به فيما لا يقدر عليه إلا الله، والاستعاذة به في ذلك.

2 -

الردة بالفعل: كالسجود للصنم والشجر، والحجر والقبور، والذبح لها. وإلقاء المصحف في المواطن القذرة، وعمل السحر، وتعلمه وتعليمه، والحكم بغير ما أنزل الله معتقدًا حله.

3 -

الردة بالاعتقاد، كاعتقاد الشريك لله، أو أن الزنا والخمر والربا حلال، أو أن الخبز حرام، وأن الصلاة غير واجبة، ونحو ذلك مما أُجمع على حله، أو حرمته أو وجوبه، إجماعًا قطعيًّا، ومثله لا يجهله.

ص: 94

4 -

الردة بالشك في شيء مما سبق، كمن شكَّ في تحريم الشرك، أو تحريم الزنا والخمر، أو في حل الخبز، أو شك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو رسالة غيره من الأنبياء، أو في صدقه، أو في دين الإسلام، أو في صلاحيته لهذا الزمان.

5 -

الردة بالترك، كمن ترك الصلاة متعمدًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» وغيره من الأدلة على كفر تارك الصلاة.

وأحكامها التي تترتب عليها بعد ثبوتها هي:

1 -

استتابة المرتد، فإن تاب ورجعَ إلى الإسلام في خلال ثلاثة أيام قبل منه ذلك وترك.

2 -

إذا أبى أن يتوبَ وجب قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّلَ دينه فاقتلوه» .

3-

يُمنع من التصرف في ماله في مدة استتابته، فإن أسلم فهو له؛ وإلا صار فيئًا لبيت المال، من حين قتله، أو موته على الردة. وقيل: من حين ارتداده يصرف في مصالح المسلمين.

4-

انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه؛ فلا يرثهم ولا يرثونه.

5-

إذا ماتَ أو قُتلَ على ردته فإنه لا يُغسَّلُ ولا يُصلَّى عليه ولا يُدفنُ في مقابر المسلمين، وإنما يُدفَنُ في مقابر الكفّار، أو يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين.

ص: 95