الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
بيانُ استلزامِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ لتوحيد الأُلوهيَّة
ومعنى ذلك أنَّ من أقرَّ بتوحيد الربوبية لله، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبِّر للكون إلا الله عز وجل لزمه أن يُقرَّ بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه، وهذا هو توحيد الألوهية، فإنَّ الألوهية هي العبادة؛ فالإله معناه: المعبود، فلا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاثُ إلا به، ولا يُتوَكَّلُ إلا عليه، ولا تذبح القرابين وتُنذر النذورُ ولا تُصرفُ جميعُ أنواع العبادة إلا له؛ فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية؛ ولهذا كثيرًا ما يحتجُّ الله - سُبحانه - على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22] .
فأمرهم بتوحيد الألوهية، وهو عبادتهُ، واحتجَّ عليهم بتوحيد الرُّبوبية الذي هو خلقُ الناس الأولين والآخرين، وخلقُ السماءِ والأرضِ وما فيهما، وتسخير الرياح وإنزالُ المطر، وإنباتُ النبات، وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد، فلا يليق بهم أن يُشركوا معه
غيره؛ ممَّنْ يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا من غيره، فالطريق الفطري لإثبات توحيد الألوهية: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية؛ فإن الإنسان يتعلق أولًا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضره؛ ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرّبه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلة بينه وبينه، فتوحيد الربوبية بابٌ لتوحيد الألوهية؛ من أجل ذلك احتجَّ الله على المشركين بهذه الطريقة، وأمر رسوله أن يحتجَّ بها عليهم، فقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84- 89] .
وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102] .
فقد احتج بتفرُّدِه بالربوبية على استحقاقه للعبادة، وتوحيد الألوهية: هو الذي خلق الخلق من أجله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ومعنى (يعبدون) : يُفردوني بالعبادة، ولا يكون العبدُ موحدًا بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية؛ حتى يُقرَّ بتوحيد الألوهية، ويقومَ
به، وإلا فإنَّ المشركين كانوا مُقرِّينَ بتوحيدِ الربوبية، ولم يُدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهم يُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] ، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] .
وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن زعمَ أنَّ التوحيدَ هو الإقرارُ بوجود الله، أو الإقرار بأن الله هو الخالق المتصرف في الكون، واقتصر على هذا النوع؛ لم يكن عارفًا لحقيقة التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسل؛ لأنه وقفَ عندَ الملزوم وترك اللازم، أو وقف عند الدليل وترك المدلول عليه.
ومن خصائص الألوهية: الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل والاستغاثة، وغاية الذّلِّ مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره.