المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعفي فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غلو - عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك

[صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثانيفي بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها

- ‌الفصل الثالثفي بيان الانحرافِ عن العقيدة وسبل التوقي منه

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثانيمفهومُ كلمةِ الربِّ في القرآن والسُّنَّة وتصوُّرات الأمم الضّالَّة

- ‌الفصل الثالثالكونُ وفطرتُهُ في الخُضُوعِ والطَّاعةِ لله

- ‌الفصل الرابعفي بيانِ منهج القرآن في إثبات وُجُودِ الخالقِ ووحدانيَّته

- ‌الفصل الخامسبيانُ استلزامِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ لتوحيد الأُلوهيَّة

- ‌ توحيد الألوهية

- ‌الفصل الثانيفي بيان معنى الشَّهادتين وما وقعَ فيهما من الخطأ

- ‌أولًا: معنى الشَّهادتين:

- ‌الفصل الثالثفي التشريع

- ‌ معنى العبادة:

- ‌الفصل الخامسفي بيانِ مفاهيمَ خاطئةٍ في تحديد العبادة

- ‌الفصل السادسفي بيان ركائز العبودية الصحيحة

- ‌ توحيد الأسماء والصفات

- ‌أولًا: الأدلَّةُ من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت الأسماء والصفات

- ‌ثانيًا: منهجُ أهل السّنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته:

- ‌ثالثًا: الرّدُّ على من أنكَرَ الأسماءَ والصّفاتِ، أو أنكر بعضها:

- ‌الباب الثالثفي بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية

- ‌الباب الرابعأقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه

- ‌الفصل الثانيالسحرُ والكهانةُ والعِرافة

- ‌الفصل الثالثتقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها

- ‌الفصل الرابعفي بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية

- ‌الفصل الخامسفي بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته

- ‌الفصل السادسالحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الفصل السابعادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم

- ‌الفصل الثامنحكم الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية

- ‌الفصل التاسعالنظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية

- ‌الفصل العاشرفي الرقى والتمائم

- ‌الفصل الحادي عشرفي بيان حكم‌‌ الحلف بغير اللهوالتوسل والاستغاثة والاستعانة بالمخلوق

- ‌ الحلف بغير الله

- ‌ التوسل بالمخلوق إلى الله تعالى:

- ‌الفصل الأول: في وجوب محبة الرسول وتعظيمه، والنهي عن الغلو والإطراء في مدحه

- ‌الفصل الثانيفي وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والاقتداء به

- ‌الفصل الثالثفي مشروعية الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابعفي فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غُلُوّ

- ‌الفصل السادسفي النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى

- ‌الباب السادسالبدع

- ‌ تعريف البدعة

- ‌ أنواع البدع:

- ‌الفصل الثانيظهور البدع في حياة المسلمين والأسباب التي أدت إليها

- ‌الفصل الثالثموقف الأمة الإسلامية من المبتدعةومنهج أهل السنة والجماعة في الرّدّ عليهم

- ‌ موقف أهل السُّنَّة والجماعة من المبتدعة:

- ‌الفصل الرابعفي بيان نماذج من البدع المعاصرة

- ‌ الاحتفال بمناسبة المولد النبوي:

الفصل: ‌الفصل الرابعفي فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غلو

‌الفصل الرابع

في فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غُلُوّ

أهل البيت هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرُمتْ عليهم الصدقة، وهم آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وبنو الحارث بن عبد المطلب، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ثُمَّ الذي لا يشك فيه من تدبّر القرآن، أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .

فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] .

أي: واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن، من الكتاب والسنة. قاله قتادة وغير واحد.

واذكرن هذه النعمة التي خُصِصْتُنَّ بها من بين الناس: أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها أولاهُنَّ بهذه النعمة، وأخصُّهُنَّ من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نصَّ على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وقال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج

ص: 160

بكرًا سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم (يريد أنها لم تتزوج غيره) فناسب أن تُخصَّصَ بهذه المزية، وأن تُفردَ بهذه المرتبة العليَّة، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية) انتهى من تفسير ابن كثير.

فأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خُم (اسم موضع) :«أُذكّركم الله في أهل بيتي» .

فأهل السنة يحبونهم ويكرمونهم؛ لأن ذلك من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وإكرامه، وذلك بشرط: أن يكونوا متبعين للسُّنَّة مستقيمين على الملة، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وبنيه، أما من خالف السنة، ولم يستقم على الدين، فإنه لا تجوز موالاته ولو كان من أهل البيت.

فموقف أهل السنة والجماعة من أهل البيت موقف الاعتدال والإنصاف، يتولون أهل الدين والاستقامة منهم، ويتبرءون ممن خالف السنة وانحرف عن الدين، ولو كان من أهل البيت، فإن كونه من أهل البيت ومن قرابة الرسول، لا ينفعه شيئًا حتى يستقيمَ على دين الله، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] .

»

ص: 161

«فقال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفيّةُ عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا» .

والحديث: «من بَطَّأ عمله لم يسرع به نسبه» .

ويتبرأ أهل السُّنَّة والجماعة من طريقة الروافض؛ الذين يُغلون في بعض أهل البيت، ويَدَّعون لهم العصمة، ومن طريقة النواصب؛ الذين ينصبون العداوة لأهل البيت المستقيمين، ويطعنون فيهم، ومن طريقة المبتدعة والخرافيين الذين يتوسلون بأهل البيت، ويتخذونهم أربابًا من دون الله.

فأهل السنة في هذا الباب وغيره على المنهج المعتدل، والصراط المستقيم الذي لا إفراطَ فيه ولا تفريط، ولا جفاء ولا غلو في حق أهل البيت وغيرهم، وأهل البيت المستقيمون يُنكرون الغلو فيهم، ويتبرءون من الغُلاة، فقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الغلاة الذين غَلَوا فيه بالنار، وأقرّه ابن عباس رضي الله عنه على قتلهم، لكن يرى قتلهم بالسيف بدلًا من التحريق، وطلب علي رضي الله عنه عبد الله بن سبأ رأس الغُلاة ليقتله؛ لكنه هرب واختفى.

ص: 162

الفصل الخامس فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم

ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم

ما المراد بالصحابة، وما الذي يجب اعتقاده فيهم؟

الصحابة جمع صحابي: وهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، والذي يجب اعتقاده فيهم أنهم أفضل الأمة، وخير القرون؛ لسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، وتحمل الشريعة عنه، وتبليغها لمن بعدهم، وقد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .

ص: 163

وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8، 9] .

ففي هذه الآيات أن الله سبحانه أثنى على المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالسبق إلى الخيرات، وأخبر أنه قد رضي الله عنهم، وأعدّ لهم الجنات، ووصفهم بالتراحم فيما بينهم، والشّدّة على الكُفَّارِ، ووصفهم بكثرة الركوع والسجود، وصلاح القلوب، وأنهم يعرفون بسيما الطاعة والإيمان، وأن الله اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار، كما وصف المهاجرين بترك أوطانهم وأموالهم من أجل الله ونصرة دينه، وابتغاء فضله ورضوانه، وأنهم صادقون في ذلك، ووصف الأنصار بأنهم أهل دار الهجرة والنُّصرة، والإيمان الصادق، ووصفهم بمحبة إخوانهم المهاجرين، وإيثارهم على أنفسهم، ومُواساتهم لهم، وسلامتهم من الشح، وبذلك حازوا على الفلاح. هذه بعض فضائلهم العامة، وهناك فضائل خاصة ومراتب يفضل بها بعضهم بعضًا رضي الله عنهم وذلك بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة.

فأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم هؤلاء الأربعة، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، ويَفْضُلُ المهاجرون على الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة

ص: 164

الرضوان، ويَفْضُل من أسلم قبل الفتح وقاتل؛ على من أسلم بعد الفتح.

2 -

مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال والفتنة:

سبب الفتنة: تآمَرَ اليهودُ على الإسلام وأهله، فدسوا ماكرًا خبيثًا تظاهر بالإسلام كذبًا وزورًا هو: عبد الله بن سبأ، من يهود اليمن، فأخذ هذا اليهودي ينفث حقده وسمومه ضد الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين: عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه - ويختلق التهم ضده، فالتف حوله من انخدع به من قاصري النظر وضعاف الإيمان ومحبي الفتنة، وانتهت المؤامرة بقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه مظلومًا، وعلى أثر مقتله حصل الاختلاف بين المسلمين، وشبَّت الفتنةُ بتحريضٍ من هذا اليهودي وأتباعه، وحصل القتال بين الصحابة عن اجتهادٍ منهم.

قال شارح الطحاوية: (إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق، قصدُهُ إبطال دين الإسلام، والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلام، أراد أن يُفسد دين الإسلام بمكره وخبثه - كما فعل بولس بدين النصرانية - فأظهر التنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قَدِمَ على الكوفة أظهر الغُلوَّ في علي، والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك عليًّا فطلب قتله؛ فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في

ص: 165

التاريخ) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فلما قُتل عثمان رضي الله عنه تفرقت القلوب وعظُمَت الكروب، وظهرت الأشرار وذَلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان) .

وقال أيضًا مبيّنًا عذر المتقاتلين من الصحابة؛ في قتال علي ومعاوية: (ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة، ولم يُبايَع له بها حين قاتل عليًّا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، وكان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يَرونَ أن يبتدئوا عليًّا وأصحابه بالقتال؛ بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته؛ يمتنعون هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يُقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة. وهم (أي معاوية ومن معه) قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن

ص: 166

عثمان قُتِلَ مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن يُنصفنا ويبذل لنا الإنصاف.

ومذهب أهل السنة والجماعة في الاختلاف الذي حصل والفتنة التي وقعت من جرائها الحروب بين الصحابة، يتلخص في أمرين:

الأمر الأول: أنهم يمسكون عن الكلام فيما حصل بين الصحابة، ويكفون عن البحث فيه؛ لأن طريق السلامة هو السكوت عن مثل هذا، ويقولون:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .

الأمر الثاني: الإجابة عن الآثار المروية في مساويهم، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن هذه الآثار منها ما هو كذب قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم.

الوجه الثاني: أن هذه الآثار منها ما قد زيد ونقص فيه، وغُيِّرَ عن وجهه الصحيح، ودخله الكذب، فهو محرف لا يلتفت إليه.

الوجه الثالث: أن ما صح من هذه الآثار - وهو القليل - هم فيه معذورون؛ لأنهم إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فهو من موارد الاجتهاد الذي إن أصاب المجتهد فيه فله أجران، وإن أخطأ

ص: 167

فله أجر واحد، والخطأ مغفور؛ لما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» .

الوجه الرابع: أنهم بشر يجوز على أفرادهم الخطأ، فهم ليسوا معصومين من الذنوب بالنسبة للأفراد؛ لكن ما يقع منهم فله مكفرات عديدة منها:

1 -

أن يكون قد تاب منه، والتوبة تمحو السيئة مهما كانت، كما جاءت به الأدلة.

2 -

أن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم، إن صدر، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .

ولهم من الصُّحبة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغمر الخطأ الجزئي.

3 -

أنهم تُضاعفُ لهم الحسنات أكثر من غيرهم، ولا يساويهم أحد في الفضل، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المُدَّ من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أُحد ذهبًا إذا تصدق به غيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم -) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وسائر أهل السنة والجماعة

ص: 168

وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفرُ لهم بالتوبة، ويرفع لها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33- 35] .

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 15، 16] انتهى) .

وقد اتخذ أعداء الله ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سببًا للوقيعة بهم، والنيل من كرامتهم، وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتّاب المعاصرين؛ الذين يهرفون بما لا يعرفون، فجعلوا أنفسهم حكمًا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يصوّبون بعضَهم، ويخطئون بعضَهم، بلا دليل، بل بالجهل واتباع الهوى،

ص: 169

وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم؛ حتى شككوا بعض ناشئة المسلمين - ممن ثقافتهم ضحلة - بتاريخ أمتهم المجيد، وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون؛ لينفذوا بالتالي إلى الطعن في الإسلام، وتفريق كلمة المسلمين، وإلقاء البُغض في قلوب آخر هذه الأمة لأولها، بدلًا من الاقتداء بالسلف الصالح، والعمل بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .

ص: 170