الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
مقدمة
…
عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
تأليف: د. صالح بن عبد الله العبود
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة4.
1 سورة آل عمران: 102.
2 سورة النساء: 1.
3 سورة الأحزاب: 70.
4 هذه تسمى خطبة الحاجة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وهي مشروعة بين يدي الحاجة؛ كعقد النكاح، أو تقرير حق، ورد باطل، أو درس، أو مؤلف
…
ونحو ذلك، وهي في:(مسند أحمد)(1/ 392، 432) ، و (سنن أبي داود)(2/ 591)، و (الترمذي) (3/ 413) - وقال:"حسن" -، والنسائي (6/ 89) ، وابن ماجة (1/ 609) ، والدارمي (358) ؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكلهم رووه في (كتاب النكاح، باب خطبة النكاح) ، وفي (صحيح مسلم) صدره عن ابن عباس (الجمعة، رقم 46) ، وآخره عن جابر (رقم 43 و 44، ج1/ 593) . وقال الألباني: "ورد عن ستة من الصحابة"، وذكرهم. وانظر:(رسالة خطبة الحاجة) . إلا أن السياق يزيد وينقص وما أثبته هنا سياق رواية ابن مسعود وما بين القوسين زيادة ثابتة في بعض الروايات كما يقول الشيخ الألباني.
ولا يدرك هذا الخير ويجتنب ذلك الشر إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى باتباع كتابه وهدي نبيه في العلم والعمل وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، و "يد الله على الجماعة"1.
ونعني بالجماعة: الذين اجتمعوا على كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مهيمنا على ما قبله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي أرسل بكمال الدين وتمام النعمة والكتاب المهيمن والحكمة الجامعة، إلى قيام الساعة وإلى الناس كافة، وبايعوا أميرا منهم على ذلك، واجتمع أمرهم عليه؛ فإنه لا إسلام إلا بالجماعة، ولا
1 انظره حديثا مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتاب السنة لابن أبي عاصم (ج 1 ص40)، قال الألباني في تخريجه:"حديث صحيح".
جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة.
ولقد بعث الله محمداً على حين فترة من الرسل، وعلى حين تفرق بين الناس - خصوصاً العرب - تفرقا شديدا، وكانوا في ضلال مبين، كما وصفهم الله عز وجل بقوله:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. قال ابن كثير: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: من قبل هذا الرسول. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ؛ أي: لفي غيٍّ وجهلٍ ظاهر جلي بيَّن لكل أحد"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعلم أن الله سبحانه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، وقد مقت أهل الأرض: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، ماتوا - أو أكثرهم - قبل مبعثه. والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ، أو بدين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي من عربي وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه: من نجم، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو غير ذلك. والناس في جاهلية جهلاء، من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد. وغاية البارع منهم علما وعملا: أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوبا بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله، أو يشتغل
1 سورة آل عمران: 164، والجمعة:2.
2 تفسير ابن كثير: 1/ 424.
ويتحصل من ذلك أن الولاية والإمارة تنعقد شرعا بإحدى ثلاث طرق هي:
1-
إما بالشورى والاختيار؛ كما انعقدت لأبي بكر رضي الله عنه.
2-
أو بالوصية؛ كما انعقدت لعمر رضي الله عنه بوصية من أبي بكر رضي الله عنه.
3-
أو بالغلبة؛ كما انعقدت لمعاوية رضي الله عنه عام 40هـ - بعد تنازل الحسن، وهو عام الجماعة؛ كما سبق بيانه.
أما عثمان رضي الله عنه، فقد انعقدت له بالشورى والوصية معاً، وعلي رضي الله عنه انعقدت له بالاختيار والمغالبة، ومن بعده الحسن، لكنه تنازل لمعاوية؛ جمعا لكلمة المسلمين، وحقنا للدماء، وتركا للمغالبة وسفك الدماء.
وهذه الطرق الثلاث التي تنعقد بها الإمارة والولاية كما سبق بيانها هي السنة النبوية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بها عند الاختلاف وحدوث التفرق، وأوصى بها صلى الله عليه وسلم، كما في حديث العرباض بن سارية "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم
ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" 1.
وكان من سنتهم أن من أتاهم وأمرهم جميع يريد أن يفرق جمعهم وينازع الأمر أهله: أن يدفعوه، وإن لم يندفع إلا بالمقاتلة؛ قاتلوه وقتلوه كائنا من كان؛ جمعا للكلمة، ودرءاً للتفرق والفتن، وحفاظا على الجماعة، والتزاما للسمع والطاعة؛ فقد استقر لديهم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة للأمير، وإن كان عبداً متأمراً.
غربة الإسلام:
ولكن مع كثرة المحدثات وغلبة الجهل يصبح الإسلام غريبا، ويتفرق أمر المسلمين، فيصيرون فرقا كثيرة بعد أن كانوا أمة واحدة؛ كما حصل ذلك في واقع المسلمين اليوم، وطريق العودة إلى وحدتهم هو إعزازهم أهل السنة والجماعة منهم، ولزم جماعتهم وإمامهم، ولا طريق غير ذلك.
وقد بدأت غربة الإسلام بعد مضي قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو خير القرون، ثم مضى القرن الذي يليه، ثم الذي يليه أيضاً، كما روى البخاري في صحيحه في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
1 رواه أحمد في (المسند)(4/126- 127) ، وأبو داود في (السنن)(باب لزوم السنة، ح4443)، والترمذي - وقال:"حديث حسن صحيح" - في (العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، 7/438، ح2815) ، وابن ماجه في (المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم 42) ..
"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"1.
وكلما جاء زمان كان الذي بعده شراً منه، وكانت غربة الإسلام فيه أشد كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"2.
هذا في غالب الأحوال. وقد جعل الله دين محمد صلى الله عليه وسلم باقياً إلى قيام الساعة، فلم تخل الأرض من قائم له بحجته أبداً، كما بدأ، كما روى مسلم في صحيحه:"لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة"3.
وكما روى البخاري في صحيحه في المناقب عن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"4.
وممن يقيم الله بهم الحجة الأئمة المجددون، فكلما جاء قرن من القرون التي تنطمس فيه أكثر معالم الدين، ويكاد ينتقض حبله، وتتعطل
(ج 4 ص189) .
2 وكذلك رواه مسلم عن ابن عمر، انظر (ج 1 / 130) ، ورواه غير مسلم من طرق عديدة انظر تخريجه في كتاب غربة الإسلام، لابن رجب الحنبلي.
(ج 4 ص1453) .
(ج 4 ص 187) .
بعمل القليل منه مشروع وأكثر مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا القليل، أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة، فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب، لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا، ولا يغني من العلم الإلهي شيئا، باطله أضعاف حقه - إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله، والاضطراب، وتعذر الأدلة عليه والأسباب"1.
فأنعم الله عليهم بأن بعث إليهم نبي الهدى ورسول الرحمة بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأظهر الله دينه وجمع عليه المسلمين أمة واحدة، اجتمعت قلوبهم على الصراط المستقيم، وألف بينهم الإسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم: ولو أنفق جميعاً ما في الأرض ما ألف بين قلوبهم ولكن الله ألف بينها بهذه النعمة العظمى، رسوله ودينه.
قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألفَ بينهم إنه عزيز حكيم} 2.
ولما قبض الله رسوله إليه وتوفاه، لم تزل الأمة المسلمة مجتمعة على دينه الباقي واجتمعت على خليفته أبي بكر، حين بين لهم الحق، وأزاح
1 اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم ص 2، 3.
2 الأنفال: 62، 63.
الإشكال عنهم في موته صلى الله عليه وسلم، وأكد لهم بقاء دينه إلى يوم القيامة، وكانوا يرجعون إلى بيانه في ما يشكل عليهم لأنه أعلم الأمة بميراث نبيها ولأنه صاحبه الأول وصديق الأمة، ولذلك اجتمع الناس عليه1.
ثم اجتمع الناس كذلك على الفاروق، عمر بن الخطاب، حيث أوصى به أبو بكر رضي الله عنهما فواصل بهم مسيرة الهدى والرشاد يبلغون دين الله مجتمعين أمة واحدة، حتى قصروا قيصر، وكسروا كسرى، وهكذا في بقية زمن الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم، وبعد زمانهم، والمسلمون يلتفون حول أهل السنة والجماعة منهم، وهم سوادهم الأعظم ومركز ثقلهم، ومازالوا على مسيرتهم في إبلاغ دين الله ونشره للناس، حتى بلغوا به مشارق الأرض ومغاربها تماما كما زُوِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن ملك أمته سيبلغ ما زُويَ له منها.
فقد روى مسلم وغيره عن ثوبان: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" الحديث2.
ثم حدث ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن وظهورها في الأمة
كما روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم
1 انظر: تاريخ ابن جرير الطبري (ج 3 ص202، 203) ، وتاريخ ابن كثير وما أورد من روايات صحيحة (ج 5 ص241- 254) .
2 صحيح مسلم: (ج 4 ص2215، 2216) .
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة والصدقة - ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم. فقلت: أنا. قال: أنت، لله أبوك. قال حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه"1.
وافترقت الأمة المسلمة بسبب تلك الفتن إلى فريقين عظيمين، حتى أصلح الله بينها بالحسن بن علي رضي الله عنهما؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 2، وذلك حين تنازل الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، واجتمع الناس على معاوية أميراً للمؤمنين بعد ذلك عام 40هـ -، وسمي ذلك العام عام الجماعة، لاجتماع المسلمين بعد فرقتهم.
وهكذا استقرت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده في ثبوت الولاية وانعقادها
1 صحيح مسلم: ج 1 ص 128.
2 أخرجه البخاري (2704 و3629 و3746 و7109) وغيره.
معظم أصوله ودعائمه من تلاعب الجهال به، وقبض العلم بموت العلماء، وارتفاع أهل الجهل وترأسهم، بعث الله عز وجل من يجدد لهم تدينهم ويردهم إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل القرون الفاضلة بالدعوة والتعليم وحسن القدوة والجهاد، وذلك مصداق الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"1.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "هذا الحديث إسناده جيد رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوى وآخرون"2.
وقال الألباني: "حديث صحيح، والسند صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم"3.
وقال عبد المتعال الصعيدي: "قال السيوطي: اتفق الحفاظ على صحته منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل، ونص الحافظ ابن حجر على صحته"4.
1 سنن أبي داود، ج 2، كتاب الملاحم باب 1 ص 424.
2 هامش ص 10 من كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. تأليف أحمد بن حجر آل بوطامي.
3 انظر: تخريج الألباني لأحاديث كتاب إصلاح المساجد للقاسمي هامش ص 6، وسلسلة الأحاديث الصحيحة ج 2 ص150 ورقمه 599.
4 انظر: المجددون في الإسلام، تأليف عبد المتعال الصعيدي ص 8، 9.
وقال الإمام أحمد في خطبة كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله) 1: "الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، (بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد) 2، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"3.
وليس من شرط المجدد أن يكون واحداً بعينه، أو صنفاً خاصاً من الناس بل الأمر كما ذكر الشيخ ابن باز أن الحافظ ابن كثير قال في النهاية - لما ذكر هذا الحديث - ما نصه: "وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر - والله أعلم - أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء، من محدثين ومفسرين وفقهاء
1 تصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع رئاسة البحوث العلمية.
2 ما بين القوسين زيادة من كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح وقد أسند هذه الخطبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع اختلاف في بعض ألفاظها، انظر ص 2، 3.
3 الرد على الجهمية ص 13، 14.
ونحاة ولغويين إلى غير ذلك من الأصناف، والله أعلم"1.
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: "وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوماً في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول صلى الله عليه وسلم"2.
ويقول أيضا: "ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسُّها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفاته، بصفات كماله ونعوت جلاله وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ من غير زيادة ولا تخريف ومن خير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له ويكفر بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شعائرهم وحقيقة ملتهم، وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه"3.
1 من تعليق ابن باز على كتاب (الشيخ محمد
…
لأحمد آل بوطامي، ص 10. وانظر: النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير، ج1 ص 39.
2 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج 3 ص 153.
3 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج 3 ص 154.
ومن هؤلاء المجددين؛ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد شهد له بذلك الجم الغفير من أكابر أهل العلم والدين.
يذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم أن أكابر أهل عصر الشيخ شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين والهند وغيرهم، وتواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه، والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين1.
وقد ذكره الشيخ محمد رشيد رضا من المجددين2 وقال: "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى مجددا للإسلام في بلاد نجد، بإرجاع أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة"3.
وقال أيضاً بعد أن ذكر المجددين: "ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسانه رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة"4.
1 الدرر السنية ج12 ص 9.
2 تاريخ الإمام محمد عبده، ج 1 ص (ح) في التصدير، ط/ 1350 هـ.
3 الوهابيون والحجاز: ص6.
4 مقدمة الشيخ رشيد رضا للطبعة الثانية لكتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني (ص11) ط5 / 1395هـ.
وكذلك عبد المتعال الصعيدي عده من المجددين في كتابه (المجددون في الإسلام) وترجم له في ذلك الكتاب1.
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز - بعد ما أشار إلى أئمة الهدى الذين يمن الله بهم في الفترات - ما نصه: "وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين، والدعاء المصلحين الإمام العلامة والحبر الفهامة، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر والداعي إلى سنة خير البشر، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، طيب الله ثراه، وأكرم في الجنة مثواه"2.
وقد شهد بذلك، للشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيرون، من الثقات العدول غير من ذكرنا هنا، يطول المجال باستقصاء شهاداتهم، والمقصود: إقامة الشهادة بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين، وقد قامت ولله الحمد قياما لايدع شكا في أنه من المجددين، فإنه عالم عامل، ومن أولئك الذين يوجدهم الله لإقامة حجته ووصل حبل الإسلام الممتد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يأتي أمر الله، وكلما مات منهم علم أبدل الله به علما آخر، من أئمة الهدى وأعلام الهداية، ومنارات الإرشاد، وزعماء
1 المجددين في الإسلام: (ص437 –441) .
2 مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السفلية ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه، بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص3 –4.
الإصلاح. ولقد تجرد الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدعوة إلى الله على حين غربة من الإسلام في القرن الثاني عشر، وكان على بصيرة، حيث كان عارفا بما عليه الصدر الأول، من السلف الصالح، خبيرا بما انْحلَّ من عرى الإسلام لدى أهل عصره، وتحولوا عنه فقام مجاهدا، ليرد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم النافع والعمل الصالح، والإيمان والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين وعباداتهم، والاعتقاد في الأحبار والأشجار، والعيون والغيران، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأقوال والأعمال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار. وقيض الله له من آل سعود الذين وازروه على نصرة دين الله ورسوله، فأقبلوا على معرفة ما عنده، من العلم والإرادة، حتى إذا عرفوا صدق مواقفه للحق، نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة، والسيف والعزيمة، يريدون ما عند الله تعالى، فصنع له من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على السنة الإسلامية كلما كان في مزيد عز ونصر وظهور، ونحن لا نزال، ولن نزال - إن شاء الله تعالى - ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح التي نشرها هؤلاء، ونصرها هؤلاء، تحت دوحتي العلم والوفاء، دوحة علماء الدعوة - من ورثة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودوحة أنصارها- من ورثة الأمير الراشد محمد بن سعود، جزاهم الله خير الجزاء.. والحمد لله، العزيز الرحيم.
وقد اخترت أن يكون موضع رسالتي للدكتوراه عام (1399هـ) :
(عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي) لأهميتها ولأنه من المجددين فعقيدته عقيدة سلفية، وعقيدة السلف الصالح عقيدة تجديد حية، تواكب الإصلاح والرقي المشروع في كل عصر ومصر، وتساير التقدم والنمو الخيري المشروع وتزيده زكاء وبرا وشرعية، ولا تعوقه أو تؤخره أبدا، إنها الاعتقاد الجازم بأنه لا يصلح ولا يقبل سوى اتباع سبيل المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، في هذا الدين وفي تفسيره، فتفوقوا على الشرق والغرب، وسادوا العالم كله، وكانت كلمتهم هي النافذة. وقد {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2.
قال الإمام مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما
1 سورة التوبة: 100.
2 سورة النساء: 115.
خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا". قال مالك:"أعجبني عزم عمر في ذلك"1.
وقال وهب بن كيسان فيما رواه عنه الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح أولها"2.
ومن يتأمل الواقع الذي نعيشه يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول المجاورة وغير المجاورة، هو من أثر عقيدة الشيخ السلفية، التي دعا إليها وناصره آل سعود عليها، كما يجد المتأمل المنصف إضاءة التاريخ الإسلامي بذلك. وإن عقيدةً هذا شأنها لاريب أن البحث عنها والدراسة فيها، أهم موضوع لتحصيل العلم النافع والمعتقد الصحيح السليم، وآمن شيء هو العلم النافع والمعتقد الصحيح؛ لأن من استمسك بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، عصم من ضلال الكفار وفسادهم الذي نغزى به من الشيوعيين وغيرهم، من الشرق والغرب، تحت شعارات زائفة ودعاوى باطلة لاينخدع بها إلا من فرغ قلبه وجوارحه، من عقيدة السلف الصالح وسلوكهم.
ومما قاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، في أهمية هذا الموضوع: "هذا الأصل الأصيل، والفقه الأكبر، هو أولى ما كتب فيه الكاتبون،
1 كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، للقيرواني ص 117.
2 التمهيد لابن عبد البر 23/ 10.
وعنى به دعاة الهدى، وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليها بالنواجذ، وينشر بين جميع الطبقات، حتى يعلموا حقيقته، ويبتعدوا عما يخالفه".. إلى أن قال: في تعليل أهمية نشره "لعظم شأنه، وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولاسيما قبور من يسمونهم بالأولياء، واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر، وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل، في غالب البلدان الإسلامية، من تحكيم القوانين الوضعية، والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله، الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها"1.
لذلك كان موضوع عقيدة الشيخ محمد موضوعا مختارا، وفيما يلي أركز أسباب اختياري له في ثلاثة أسباب فحسب:
1-
إن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدة تجديد سلفية، اعتقدناها واعتمدناها في ديننا ودنيانا، وهي أساس وحدتنا السعودية، اجتمعنا عليها بعد الفرقة، واهتدينا بها بعد الضلال، وكانت حال أهل نجد، وأهل الجزيرة العربية قبيل ظهور هذا الإمام المجدد بعقيدته السلفية - أسوأ الأحوال - فقد كانوا متفرقين ومختلفين، يبغي بعضهم على بعض،
1 مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول، العدد الثاني ص 450-455.
والإسلام بينهم غريب، والضلال ظاهر والمنكر أصبح معروفاً لديهم ومألوفاً. وسنبين ذلك في مبحث البيئة قبل ظهوره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم إِن الله تعالى جمع أهل نجد بالتوحيد، كما دعا إليه الشيخ وبينه عن عقيدة سلفية سليمة، وأعزهم الله بعد ذلتهم، بالنصر المبين، وأغناهم بعد فقرهم بالخير العميم، واستنارت بينهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفت البدع، وزالت الفرقة، تحي راية التوحيد، التي يحملها أنصار الشيخ من آل سعود، وتطهر الحرمان الشريفان وما جاورهما، من البناء على القبور، ودعاء غير الله، والطيغان، والبدع والخرافات، ونودي في أرجائهما بالعدل والأمان، وبطلت سنن جاهلية، وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وبطلت جوائز القبائل التي يأخذونها على الحجاج إذا مروا بهم، واختفى قطاع الطرق، وسراق الأعراب 0فأمنت السبل واطمأنت البلاد واستقام العباد بتلك العقيدة السلفية التي أظهرها الشيخ وآل سعود، حتى أصبح السعودي علَما يعرف بهذه العقيدة في الغالب، وهذا الظهور يدل على علم الشيخ وصدق أنصاره، ولقد كان علم الشيخ علما أصيلا بميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفه لنا في مؤلفاته ورسائله، وردوده وأجوبته جمعا وتأليفا، وبيانا واستنباطا، ميراثا نبويا، ورثه لمن بعده، كما ورثه هو عن من قبله، ويتوارثه العلماء إلى ما شاء الله تعالى، كما ورد "أن
العلماء ورثه الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر"1.
وكان وفاء آل سعود وصدقهم موافقا لمراد الله ورسوله، فكانت الوحدة، ونعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة - في هذا العهد السعودي الميمون.
كما قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها وأخشى أن يلهو ويغتر، وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها، مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم.. فلذا رغبت في مشاركة وارثي هذا الإمام المجدد عقيدته السلفية، وعلمه الأصيل، وولاءه لأنصار دين الله ورسوله، من آل سعود الكرام، ومن ذلك أن أخصص بحثي للدكتوراه فيها وفي أثرها، عسى الله أن يهب لي حظاً وافرا، من هذا العلم النافع، والمعتقد السلفي السليم الآمن، ونشره وإظهاره للناس، عن علم واتباع، لا عن تقليد وابتداع وأسأل الله أن لا يغير ما بنا من نعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة والاجتماع والوحدة، والله ذو الفضل
1 انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم قبل القول والعمل، ج1 ص25.
2 سورة الأنعام: 82.
والجلال والإكرام.
2-
الحاجة إلى كتابة عقيدة الشيخ، وعرضها، مجموعة ومرتبة ومنسقة، في رسالة جامعية، بأسلوب الدراسات العلمية المنهجية، لتيسيرها ونشرها، والدعوة إليها بهذا الأسلوب المألوف، سيما وقد تقاصرت الهمم، وضعفت النفوس عن الصبر، على مشقة البحث الطويل، لكثرة المشاغل، ونقص العلم.
وعقيدة الشيخ، مبعوثة في مؤلفاته ومراسلاته، وردوده وأجوبته، واستنباطاته ونبذه وسائر آثاره، في شتى الفنون والعلوم، ولما جمعت مؤلفاته العامة بلغت مجلدات كبيرة وكثيرة، والشيخ رحمه الله، إنما كان يؤلف بحسب ما تستدعيه حاجات الناس، وتقتضيه مصالحهم، ويلجئ إليه واقع حياتهم، وحالتهم الاعتقادية والواقع المؤلم للتصحيح والإصلاح بعقيدة السلف الصالح في الأصول والفروع، فهذا جعله يهتم بما هو الأولى والأهم، وما يناسب أهل زمانه ويلائمهم، ولقد خاطبهم بما يعقلون ويفهمون، بلهجتهم وأسلوبهم، على أتم وجه وأكمله، ونفع الله بعلمه وعمله.
وأردت أن أقوم بهذه الرسالة بكتابة عقيدة الشيخ وعرضها، عسى أن يكون ذلك من المناسب لأهل زماننا، فيستدعيهم قراءة وقبولا، وفي صحيح البخاري، في كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا
تعسروا"، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس"1.
وفي صحيح مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من ذلك من أجورهم شيئا"2.
وفي صحيح البخاري، في كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة، وكتابة أهل العلم بالعلم إلى البلدان، عن أنس بن مالك قال:"كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب: فقيل له: إنهم لا يقرأون كتاباً إلا مختوما، فاتخذ خاتما، من فضة نقشه (محمد رسول الله) كأنى أنظر إلى بياضه في يده"3.
وقد أورد الخطيب البغدادي، في كتابه "تقييد العلم" مجموعة طيبة من الأحاديث والأخبار والأقوال والشواهد، عن السلف ترخَص بكتابة العلم، وتبين فضلها في عرضه وحفظه ونشره، وتجميل كتبه وتحسينه. وقال: "قد أوردت من مشهور الآثار ومحفوظ الأحاديث والأخبار عن رسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين صلى الله عليه ورضى عنهم أجمعين، في جواز كَتْبِ العلم وتدوينه، وتجميل ذلك الفعل وتحسينه ما إذا
1 صحيح البخاري ج 7 ص 101.
2 صحيح مسلم ج 4 ص 2060.
3 صحيح البخاري ج 1 ص 24.
صادف بمشيئة الله قويَ شك رفعه، أو عارض ريب قمعه ودفعه"1.
3-
بيان أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح. على الرغم من أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح، ولم يبتدع في ذلك شيئاً، خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، لكن طالما حكم عليه وعلى ما ظهر به من هذه العقيدة بالبدعة، بغير علم وطالما جُعلت عقيدته محل أخذ ورد كثير ليس في العالم البعيد عن دائرة الإسلام. ولكن في ذات الدائرة الإسلامية وفيما بين المسلمين أنفسهم.
فهل يا ترى ثم ثغرات مبتدعة في الإسلام فتحت على ابن عبد الوهاب وأتباعه في عقيدته؟ أم أنها محكمة البناء، صحيحة في الادعاء، أصيلة في الانتماء؟ لكن دخل عليها هؤلاء من باب مخالفتها لما كانوا عليه، وكان عليه آباؤهم وأجدادهم، من تقاليد عمياء وعادات جهلاء، في دينهم واعتقاداتهم، كانت معروفة ومألوفة لديهم، وقد درجوا عليها يعدونها ديناً يقربهم إلى الله ويحسبونها قربة مسنونة، فما فجأهم إلا والشيخ يطلع عليهم بما لا يعهدون وبما لا يعرفون، فاستنكروا ولقنهم الشيطان حجج أمثالهم السابقين مثل: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على
1 القسم الثالث الفصل الرابع، ص 115، 116 ط 2، 1395هـ.
آثارهم مقتدون" فمن هنا حكموا على عقيدة الشيخ بالبدعة؟ أو من باب الحسد والبغي دخل عليه أقوام لديهم علم وجاه كما قيل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
…
فالقوم أعداء له وخصوم
وهذا وذاك من الأبواب المفتوحة، والسنن الجارية في هذه الدنيا ليبلوا الله أهلها أيهم أحسن عملاً؟ وسنة الله في الذين خلوا من قبل على امتداد التاريخ، والله هو العزيز الغفور.
هذا أيضاً مما دفع بي إلى أن أستوعب مؤلفات الشيخ وآثاره، في هذا المبحث ثم أستخلص منها عقيدته مباشرة، ليعلم من يقصد الحق أنها عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه، وأعد لهم جناته التي تجري من تحتها الأنهار، وإن خالفت ما عليه أكثر من يدعي الإسلام، وهم ليسوا من الإسلام في شيء. أما من لا يريد الحق فتقوم عليه الحجة بيسر ووضوح "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة".
نصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم. والدين النصيحة.
والله المستعان عليه نتوكل وإليه المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا ولقد كتب عن تاريخ الشيخ وحياته، وفكره، ودعوته،
ومؤلفاته، وآثاره وأقوال الناس فيه، الشيء الكثير الجيد، من قبل العلماء، والباحثين، والكتاب وقد استفدت من ذلك كثيراً.
لكني بالإضافة إلى الأسباب المتقدم ذكرها أردت بهذا البحث أن أدلي بدلوي مع الدلاء، وأن أتطفل على العلماء، وأسهم بسهم مع الفضلاء، تشبهاً بهم، وحباً لهم، ولمنهجهم وموضوع بحثهم، وإن لم أكن في مقامهم وسبقهم، فاللاحق يتبع السابق، كما يتبعه من بعده، وقال الله تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.
وأسأل الله تعالى أن يجزي عنا العلماء، وورثة الأنبياء خير الجزاء
…
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الشكر:
أحمد الله وأشكره، ولا أحصي ثناء عليه سبحانه وتعالى، بل هو كما أثنى على نفسه عز وجل.
وأمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثني عليه وأشكره، فقد بلغ رسالة ربه ونصح لنا خير النصح، وأتمه، وجاهد في ذلك جهاداً كبيراً، وحرص علينا حرصاً بالغاً وشملنا الله برأفته ورحمته، فهو الرحمة المهداة، والنعمة
1 سورة البقرة: 148.
العظمى، فجزاه الله عنا خير ما جزى به نبياً عن أمته، وصلى عليه وسلم على الدوام، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الرحمة والرضوان.
ثم أشكر المشرف عليّ في هذا البحث، فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد فقد قام بالإرشاد والتوجيه، وأفادني في ذلك فائدة كبيرة.
كما أشكر فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان، فإنه شجعني على المواصلة بفرع العقيدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وأشكر الدكتور عبد الله الصالح العثيمين، حيث كَرُمَ وأهداني نسخة من مؤلفه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وكذلك الزملاء الكرام، سليمان السلومي، وسليمان العريني، وسليمان السعود، وعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ومحمد الفلاح، وجارنا محمد الصافي، فقد أعاروني كتباً استفدت منها.
ولا أنسى وكيل إمارة حائل صديقنا الشيخ مقبل بن شيخنا الشيخ محمد الصالح المقبل فقد صور لي مخطوطاً بعنوان الرسائل المرقومة للشيخ محمد بن عبد الوهاب من مكتبة خاصة بحائل.
كما أشكر صهري، ناصر العتيق، وعمي إبراهيم العبود - على ما قاما به من جلب بعض المراجع من الرياض، وأشكر ولدي عبد الله فقد ساعدني بما قام به من تخفيف مشاغل البيت عني.
وعموماً أشكر كل من أفادني في ذلك، وأسأل الله أن يجزيهم عني خيراً وهو القريب المجيب.
وأشكر الجامعة الإسلامية فقد وجدت فيها محضنا من محاضن العلم والرعاية حين تشرفت بالانتماء إليها.
وأشكر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد على ما توزعه من مراجع هامة في الموضوع كان لي منها نصيب كبير.
كما أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فقد منحتني مؤلفات الشيخ في مجموعة طبعتها وكذلك مجموعة بحوث أخرى عن الشيخ وعقيدته.
وكل ذلك يسر الله لي به الاستفادة والبحث، ولله الحمد.
وأختم بشكر حكومتنا السعودية - فلقد نعمت بظلهم، وتعلمت بمدارسهم ونشأت في خيرهم، ومنذ نشأتي وأنا أتقلب في معاقلهم العلمية والتربوية، منذ الإبتدائية السعودية في المذنب عام 1367هـ، إلى الجامعة الإسلامية حالياً، وفي كل معقل نتلقى الميراث النبوي والحجة الرسالية، والعلم النافع في الدنيا والآخرة، بأمانة وقوة وأمن ورعاية.
والحمد الله رب العالمين والشكر له، والصلاة والسلام على رسول الله في البدء والختام، فإن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم
خطّة البَحْثِ
هذا وقد جعلت موضوع البحث من مقدمة ومدخل وبابين وخاتمة.
فأما المقدمة: فتضمنت بياناً لأهمية الموضوع وأسباب إختياري له والشكر وخطة البحث.
وأما المدخل: فيشتمل على مبحثين.
الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.
والثاني: مبحث في حياة الشيخ يتضمن ترجمته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه.
وأما البابان:
فالباب الأول: هو في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ويتضمن أربعة فصول:
الفصل الأول: في منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته.
الفصل الثاني: في مجمل عقيدة الشيخ.
الفصل الثالث: في عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه: المقام الخبري - والمقام الطلبي.
الفصل الرابع: هو في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها.
الباب الثاني: في أثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي - ويتضمن خمسة فصول:
الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ، وأسباب ومبادئ تأثيرها.
الفصل الثاني: في أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها.
الفصل الثالث: في أثرها في الدور الثاني.
الفصل الرابع: في أثرها في الدور الثالث.
الفصل الخامس: في أثرها في خارج سلطانها من العالم الإسلامي.
وأما الخاتمة: فهي تتضمن خلاصة البحث ونتيجته.