المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي - عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي - جـ ١

[صالح بن عبد الله العبود]

الفصل: ‌المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي

‌المدخل

‌المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي

.

المَدْخَلُ

ويشتمل على مبحثين:

1-

المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.

2-

المبحث الثاني: في حياة الشيخ - ويتضمن ترجته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه.

ص: 35

المبْحَث الأولُ: في الْبِيئَةِ مِنْ حَوْلِ الشّيْخِ فِي العَالَمِ الإسْلَامِيَّ

لقد كانت البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البلدان الإسلامية قد تحولت عن صبغتها الإسلامية في غالب أحوالها سواء في العقيدة أو في السياسة، وقد حدث في أكثرها ما هو أشد من أحوال الجاهلية الأولى في العقيدة والسياسة، وما من شك أن المجتمع يفقد رشده وأمنه واستقراره إذا غلبت عليه عقيدة الجاهلية، وظهرت فيه البدع والشركيات.

وهكذا كانت البيئة بصفة عامة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فزار بعض البلدان وشهد بيئتها وبعض البلدان الأخرى التي لم يزرها سمع عنها.

وفيما يلي شيء من تفصيل ذلك:

في الأحوال السياسية والدينية:

أما في الأحوال السياسة والدينية فيما سبق ظهور الدولة السلفية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتجاوب الأمير الراشد محمد بن سعود - فكانت كما يلي:

نجد وأحوالها:

أما نجد فإنها منذ مدة طويلة قبل ظهور دعوة الشيخ محمد لم تشهد سلطاناً قوياً صالحاً يحكم وجوده على سير الحوادث داخلها، ويوحد

ص: 37

أجزاءها، ويحدث فيها استقراراً سياسياً وأمناً شاملاً، فقد كانت محكومة بغلبة الأخيضريين العلويين الذين أعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية واستمر ملكهم على اليمامة حتى غلبهم القرامطة سنة 317 هـ1.

ويذكر حمد الجاسر في كتابه (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ) أن المؤرخين يكادون يجمعون على أنه في سنة 1253هـ تقريباً استولى الأخيضريون أسرة علوية على اليمامة، وكانوا سيئي السيرة فلم يقتصر ضررهم على إضعاف تلك المدينة وتشتيت أهلها عند غزوهم إياها. بل شمل غيرها من مدن نجد في ذلك العهد وانقشع أهلها من جورهم إلى أرض مصر، ولم ينتزع أحد منهم هذه الولاية إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر وهم ذوو شوكة ومن فرقة الزيدية، يقولون في الآذان:(محمد وعلي خير البشر وحي على خير العمل) .

ويقرر الجاسر أنه منذ أن حكم هؤلاء الأخيضريون اليمامة وما حولوها من نجد إلى قيام الدولة السعودية بنصرة الدعوة الإصلاحية الدينية بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري واليمامة وما حولها تعيش فترة من التاريخ مجهولة إلا نتفاً ضئيلة من بعض المؤرخين، لأن حكم الأخيضريين قضى على مدينة الحجر قصبة اليمامة وشرد أهلها وأضعف شأنها، ثم بزوال الأخيضريين لم تحكم اليمامة حكماً قوياً ولم تقم فيها أية دولة ذات

1 تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص 28، وتاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد

تأليف حسن خلف الشيخ خزعل ص 36.

ص: 38

شأن ليهتم المؤرخون بأمرها، وبلاد نجد أصبحت كلها مجزأة إلى إمارات متفرقة وأصبحت خاضعة للدويلات الصغيرة التي حكمت البحرين والأحساء مثل القرامطة والعيونيين والجبريين الذين منهم أجود بن زامل الجبري. وكل هؤلاء اتخذوا الأحساء قاعدة لحكمهم الذي امتد إلى بلاد نجد1.

وكانت الحروب بين البلدان النجدية قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة مستمراً وحاداً وعنيفاً - ولذا كانت نجد متمزقة بين إمارات صغيرة متعادية ومتفككة، في كل قرية أمير وفي نفس الوقت يتهدده طامع في إمارته وربما يكون أقرب أقربائه2، فهو خائف ومخيف وسياسته انبثقت من هذه الحالة، وما كان بين أمراء القرى في الغالب وفاق، ولكن كل أمير يتربص بالآخر ويتحين فرص الوثوب عليه، وقد وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتمزق بن أميرين متعاديين أو ثلاثة أو أكثر كل منهم يدعي لنفسه الولاية كما هو شأن حُرِيملاءَ حيث كانت منقسمة بين قبيلتين كان أصلهما واحد ثم افترقوا إلى حزبين كل منهم يدعي القول له وليس للآخر على الثاني قول، والبلد لا يرأسه رئيس واحد، أو مجموعة

1 انظر: مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، بقلم حمد الجاسر ص 69- 79.

2 انظر: ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد

سابقة سنة 1111هـ ج 1 / 122- 123 وسوابق ابن بشر عموماً تبين هذه الأحوال السياسية. انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. للدكتور العثيمين.

ص: 39

متحدة في هدف واحد، فذلك يزع الجميع إن كان قوياً1.

وذكر ابن بشر في سابقة سنة 1120هـ أن ناصر بن حمد غدر بفوزان أمير التويم أو رئيسه فتولى في بلد التويم محمد بن فوزان ثم تمالأ عليه رجال فقتلوه منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد وهم أربعة رجال فلم يستقم لأحدهم ولاية فقسموا البلد أرباعاً كل واحد شاخ في ربعها فسموا المربوعة أكثر من سنة، قال ابن بشر:(وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها على غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة ولا نعرف الأشياء إلا بأضدادها فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال وصار فيها أربعة رجال كل منهم يدعي الولاية على ما هو فيه)2.

نجد لم تشهد نفوذاً عثمانياً:

ولم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها3 ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارهم حامية تركية في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية فمن خلال رسالة تركية عنوانها قوانين آل عثمان در

1 انظر: ابن بشر تاريخ نجد

1/ 9.

2 ابن بشر- عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1/ 158.

3 تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني.

ص: 40

مضامين دفتر ديوان) يعني (قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان) ألفها - يمين علي أفندي - الذي كان أميناً للدفتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافق لسنة 1609م ونشرها ساطع الحصري ملحقاً من ملاحق كتابه (البلاد العربية والدول العثمانية) .

ومن خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى (32) إيالة منها (14) إيالة عربية وبلاد نجد ليست منها ما عدا الأحساء إن اعتبرناه من نجد1. ثم إن نفوذ العثمانيين ما لبث أن ضعف في جزيرة العرب نتيجة لمشاكلهم الداخلية والخارجية2، فاضطروا في نهاية الأمر إلى ترك اليمن بسبب ثورة أئمة صنعاء ضدهم، واضطروا إلى مغادرة الأحساء أيضاً أمام ثورة زعيم بني خالد براك بن غرير وأتباعه سنة 1080هـ3.

1 انظر: البلاد العربية والدولة العثمانية، ساطع الحصري ص 230- 240 ز وانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، محمد كمال جمعة ص 13.

2 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور العجلاني ص 47.

3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب

للدكتور العثيمين ص 10، 11. وعنوان المجد، سابقة (1080هـ) .

ص: 41

أشراف الحجاز:

وأما الحجاز فقد كان يحكمه الأشراف تحت سلطان الدولة العثمانية، وفي القرن الثاني عشر ابتداء من أوله كان هؤلاء الأشراف في منازعات بينهم وحروب كانت تقوم بين الأخ وأخيه والعم وابن أخيه وتهدر فيها الدماء وتستحل الحرمات. فكان معدل ولاية الأمير على مكة سنة أو سنتين، لكثرة الاغتيال والغدر والخلاف، وكان من هوانهم على السلطان العثماني أنه يوكل أمرهم أحياً إلى واليه على مصر وكان والي مصر يولي من يشاء ويعزل من يشاء باسم السلطان.

ولقد تعاقب على إمارة مكة خلال القرن الثاني عشر وحده بنحو ثلاثين شريفاً لم ينعم واحد منهم بالاستقرار وصارت السلطة مثار نزاع لا نهاية له، يفرض أقواهم على الآخرين ويتدخل السلطان التركي أحيانا في النزاع ليجلس على كرسي الحكم أحد الخصوم، ولا يتورع هؤلاء الأمراء المتنازعون عن أن يصلوا بمعاركهم إلى قلب الأماكن المقدسة مخالفين بذلك نصوص القرآن والسنة، وأهملت أمور الدين حتى لم يعد الشريف محل ثقة بأمور الإسلام في نظر المسلمين.

هذه حالة شرفاء مكة في أول ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما كانوا قادرين على عدوانهم على أهل نجد كما كانوا من قبل منذ القرن العاشر الهجري أو على غير أهل نجد لضعفهم وتخاذلهم وخوف بعضهم من بعض ومع هذا فقد اتخذوا تدابير عدائية في مكة ضد دعوة

ص: 42

الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة سلف الصالح - فقد اعتبروه وأنصاره وهابية مبتدعة فمنعوهم من الحج، بل أطلقوا عليهم الكفر1.

الدولة العثمانية في حكم الزوال:

ولقد كانت الدولة العثمانية بأجمعها وفيما امتدت إليه سلطتها منذ أوائل القرن الثاني عشر للهجرة النبوية في حكم الزوال قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد انهزم سلاطين آل عثمان أمام النمسا وروسيا والبندقية وغيرها من دول النصرانية بتوقيعهم ما يسمى (صلح كارلوفتسي) عام 1110هـ (1699م) وهو وثيقة انهزامهم عن حماية بلدانهم الإسلامية من هذه الدول النصرانية المعادية للإسلام والمسلمين، وبموجب تلك الهزيمة طمع الأروبيون بإزالة الدولة نهائياً وسموا سلطان آل عثمان (الرجل المريض) واتفقوا على اقتسام تركته لكن اختلفوا في نصيب كل منهم من هذه التركة التي هي البلاد العثمانية الإسلامية، فكان هذا الاختلاف هو الذي أخرهم عن إزالة شبح السلطان العثماني مدة من الزمان.

وفي الحقيقة أن السلطان العثماني أصبح منذ ذلك الوقت ليس له من الأمر في الدولة العثمانية شيء وإنما لبعض الوزراء الذي كان أصلهم من

1 انظر: تاريخ مكة، دراسات في السياسة والعلم والإجتماع والعمران، أحمد السباعي ج 2 ص 80، 93، ص 94- 101. والبدر الطالع للشوكاني ج 2 ص 7. وانظر: تاريخ البلاد العربية للدكتور منير العجلاني ص 30- 32.

ص: 43

عناصر أجنبية أوربية ومن يهود الدونمة وماسون سالونيكا المتظاهرين بالإسلام، ومن المعجبين بكفر (النصارى) وإِلحاد القوميين والعلمانيين1. حتى انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبدة وضعيفة لا تستطيع إخضاع من في حكمها، فكثر السلب والنهب وفقد الأمن2.

ويقول محمد كمال جمعة: "وكانت قصور السلاطين والوزراء وكبار رجال الدولة مملؤة بالجواري والسبايا وكان بعض أولئك السبايا أجنبيات من بلاد أجنبية فكن عيوناً لدولهن على الدولة العثمانية"3.

وقال أيضاً: "وقد تعالى سلاطين هذه الدولة على الرعية فإذا خاطبوا الرعية كانوا لا يوجهون الخطاب إليها مباشرة بل يقولون لولاتهم بلغوا عبيد بابنا العالي"4.

1 انظر: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية لمحمد كمال جمعة ص 11، 12. وانظر: فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام لصالح بن عبد الله العبود. - رسالة ماجستير - ص 36- 56.

2 حاضر العالم الإسلامي - تأليف لوثروب الأمريكي - في تعليق شكيب آرسلان ج 1/ 259.

3 انتشار دعوة الشيخ

ص 12.

4 المصدر السابق

ص 13.

ص: 44

وكانت الدولة العثمانية تؤيد التصوف في مختلف طرائقه وبصورته التي بعدت عن الإسلام بعدا شاسعاً، وكانت قد دخلت من عادات بغضها نصرانية، كالرهبانية واللعب بذكر الله، وابتداع أساليب فيه، كالرقص والغناء والصياح، والأشعار والتصفيق والمدائح والموالد، وبعضها من الهندوسية أو الفارسية أو اليونانية كدعوى الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود. والدولة العثمانية كانت ترى هذا اللون من صميم الدين الإسلامي، فكان السلاطين يخضعون لمدعي التصوف ويبالغون في تعظيمهم، بل يغلون فيهم حتى غلب اعتقاد العامة منهم على همم العلماء المصلحين. وهذا بالإضافة إلى القباب والقبور والمزارات التي يقصدها الناس بالذبح والنذر والقرب والدعاء وهي منتشرة وكثيرة في ظل الدولة العثمانية وحمايتها1.

وهي الدولة التي كانت تُعدُّ أكبر الدول الإسلامية في أيامها وكان سلاطينها يعدون خلفاء للمسلمين، وكانت تُعد دولة سنية ولا يوجد للمسلمين دولة أوسع منها في ذلك الزمان قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب.

1 انظر: المصدر السابق

ص 14- 19.

ص: 45

الدولة الصفوية الرافضية:

أما الدولة الصفوية المعاصرة للدولة العثمانية في ذلك الزمان وإن كانت تدعي الإسلام فهي دولة رافضية على مذهب الإمامية وكانت تغالي في الرفض حتى إنها تحارب الدولة العثمانية لأنها منسوبة إلى السنية أشد الحرب بتحريض نصارى الإنكليز، ثم انتهت بمقتل نادر شاه عام 1160هـ واضطرب أمر بلاد فارس، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سن الخامسة والأربعين رحمه الله1.

الدولة المغولية في الهند:

وكان في ذلك الزمان يوجد في الهند الدولة المغولية2. لكنها كانت بقية ورثها أبناء ملك الهند المغولي الأكبر خان وقد قرّب الشاعر الشيعي المسمى الملا مبارك وولديه - أبا الفائز (وكان شاعراً متصوفاً) وأبا الفضل (وكان فيلسوفاً على طريقة الصوفية المنحرفة) - وجعل فتح الله الشيرازي من أكابر علماء الشيعة من فارس مستشاره الشرعي وهو شديد الوطأة على علماء أهل السنة، وألغى اللسان العربي من بلاطه وجعل الفارسي، مكانه وكان ميالاً إلى التصوف المنحرف ويراه أرقى طريقة إسلامية وهو على طريقة تصوف أهل وحدة الوجود، وله عقائد أخرى

1 انظر: (انتشار دعوة الشيخ

) (ص 19 - 20) .

2 انظر: الموسوعة العربية الميسرة فيها كلمة عن (مغول) وأنهم ظهروا بزعامة جنكز خان ثم ادعوا الإسلام كما هو معروف تاريخياً.

ص: 46

منها تناسخ الأرواح - أخذه عن البراهمة1.

مما دعا أمثال الشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) في نهاية هذا العصر المغولي أن يقوم بجهود تكسر الجمود وتطلق العقول لتتمشى مع صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان2. وعندما انتهت دولة المغول في الهند، وطمعت البرتغال الكافرة في مسلمي الهند بسبب فساد ملوك هذه الدولة المغولية، قامت حروب داخلية كثيرة وتغلب فيها الهندوس واستعمرت مسلمي الهند شركة الهند الشرقية الإنجليزية حوالي سنة 1175هـ3.

وهذا يبين لنا كيف كان حال المسلمين في الهند قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

1 انظر: حاضر العالم الإسلامي، تأليف لوثروب الأمريكي ج 4/ 30- 309. وموجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، للمودودي ص 69- 79. وحركة الإنطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله الدهلوي في التجديد لمحمد إسماعيل السلفي ص 56.

2 حركة الانطلاق الفكري ص6، ص 270، 271 - موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه للمودودي ص 79، 80.

3 انظر: المصدر السابق انتشار دعوة الشيخ

ص 20، 21.

ص: 47

في المغرب الأقصى:

وكان في المغرب الأقصى دولة العلويين الذين بدأ حكمهم عام 1075هـ ومع أنها دولة مغربية اقتصرت على إقليم المغرب كانت غير سليمة بسبب الفتن بين العرب والبربر والصوفية المنحرفة المنتشرة خصوصاً الطريقة الشاذلية والبدع في الدين1.

في غرب أفريقيا:

وكان في غرب أفريقيا مجموعة إمارات الهوسا، التي كان أمراؤها قد انتسبوا إلى الإسلام ولكن أكثرهم لم يكن ملتزماً به، وكانت البدع والطرق الصوفية خصوصاً القادرية منتشرة بين قبائل الهوسا من المسلمين والكثير من رعايا إمارات الهوسا ما يزالون على الوثنية، ويسود الجميع روح العصبية للقبيلة إلى جانب الفساد والمظالم في إمارات الهوسا والحروب المستمرة بينها2.

في وسط آسيا:

وفي أوساط آسيا، كانت روسيا النصرانية في عهد بطرس الأكبر قد استولت على من ينتسب إلى الإسلام في تركستان الشرقية. وكان هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام في وادي نهر سيحون يكونون إمارات متفرقة مما أدى إلى ضعفها أمام مطامع روسيا النصرانية، وكانت البدع والطرق

1 انظر: المصدر السابق

ص 21، 22.

2 انظر: المصدر السابق

ص 22، 23.

ص: 48

الصوفية خصوصاً النقشبندية منتشرة هناك.

في الصين:

وفي الصين شقي من ينتسب إلى الإسلام بحكم أسرة المانشو التي عملت على إرضاء البوذيين بمضايقة المسلمين.

في أندونيسيا:

وفي أندونيسيا لم يؤلف المنتسبون إلى الإسلام دولة قوية تلم شملهم ولكن كوّنوا ممالك صغيرة سادتها الخلافات الداخلية وانتشرت فيها البدع ومخلفات جاهلية الهنود والصين والخرافات القديمة، وتغلبت على مقدراتهم الشركة الهولندية1.

وهكذا كان حال أهل البلدان الإسلامية في أول القرن الثاني عشر الهجري.

وبمقارنة شرك المشركين في زمان الشيخ بشرك مشركي أهل الجاهلية الأولى فإننا نجد أن مشركي الجاهلية الأولى يشركون في الرخاء ويخلصون الدعاء لله في الشدة - وأما مشركو هذا الزمان فإنهم يشركون في الرخاء والشدة على حد سواء.

قَال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين - لأن الأولين يشركون في

1 المصدر السابق ص 23-25.

ص: 49

الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدة والدليل قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] اهـ من القواعد الأربع.

وكان الواقع المشهود والذي سجله أهل التاريخ هو أن كثيراً ممن يعبد الأولياء وأضرحة المشائخ والسادة إنما يفزعون في حال الشدة وحلول المصائب بهم إلى الاستغاثة بمعبوداتهم من دون الله من جني وولي ومعتقد، فهو يهتف بدعاء غير الله إن قام وإن قعد، ترى الرافضي إن حمل شيئاً ثقيلاً هتف يستعين فيقول يا علي أو يا حسين، ومثله من يعبد ولياً أو غيره كمن يهتف ويستهل بالبدوي، وعبد القادر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في حال الشدائد والكوارث راجياً منهم كشف ضره وشفاء مريضه.

هذا فضلاً عن حال السرور والرخاء - فإنه في تلك الحال يقترب إلى معبوداته بما لا يصلح إلا لله تعالى، يرجو مزيد رخائه، ودوام سروره، فهو على الشرك دائما في كل أحواله بخلاف المشركين الأولين الذين ذكر الله قصتهم في القرآن كما ذكرنا آنفاً.

ومن تَتَبع آثار الشيخ القولية يمكن استبيان صورة للحالة التي واجهها رحمه الله ورآها منحرفة عن الدين الحق الذي جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وقدمنا قوله من القواعد الأربع في بيان الحد الذي وصل إليه شرك المشركين في زمانه وهو أمر واقع قد رصده أهل التاريخ ولا يزال باقياً في البلدان التي لم تستنر بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة كما دعا

ص: 50

رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي يفعل عند البدوي بمصر وعند مشاهد الرافضة بإيران والعراق وغير ذلك.

قال الشيخ في معنى (لا إله إلا الله) : "إنها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات حتى محمد صلى الله عليه وسلم حتى جبريل فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، وأن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر وهو الذي يسميه الفقراء الشيخ ويسميه العامة السيد وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطةً بينه وبين الله، فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائط هم الذين يسميهم الأولون الآلهة. والواسطة هو الإله فقول الرجل لا إله إلا الله إبطال للوسائط".

ثم إن الشيخ جعل يبين أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية- وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] . قال ومع هذا الإقرار يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام ولم يحرم دماءهم وأموالهم لأنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية وهو أنه لا يدعى إلا الله وحده لا شريك له ولا يستغاث

ص: 51

ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فمن استغاث بغيره فقد كفر ومن ذبح لغيره فقد كفر ومن نذر لغيره فقد كفر.

والشيخ يبين ذلك ليشخص مشابهة جاهلية أهل زمانه في اعتقادهم لأولئك الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتهم عليهم فيقول: "فإن قال قائل من المشركين نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم نريد بذلك الوجاهة والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر، فقل كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك".

كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .

وكما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .

إلى أن قال الشيخ رحمه الله-إذا عرفت هذا وتأملته جيدا فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليك نبيك صلى الله عليه وسلم وتبين لك أن كثيرا من الناس

ص: 52

عنه بمعزل وتبين لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) .

ثم يحث رحمه الله على الكفر بالطواغيت ومعاداتهم وبغضهم وبغض من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم وقال ما عليَّ منهم أو قال - ما كلفني الله بهم فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم وفرض عليهم الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم.

ثم قال الشيخ: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفراً من الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] .

فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشائخ فلم يدعوا أحداً منهم ولم يستغيثوا به بل أخلصوا لله وحده لا شريك له واستغاثوا به وحده فإذا جاء الرخاء أشركوا.

وأنت ترَى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني وأجل من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله المستعان.

ص: 53

وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويقال له الأشقر ويوسف وأمثالهم". اهـ1.

ويقول الشيخ رحمه الله في رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذ ذاك مقيم في العيينة بعد أن بين لهم معنى (لا إله إلا الله) كما سبق - "إذا عرفتهم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس - كلهم كفار مرتدون - عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفَّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر - فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلي خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم".

ويقرر الشيخ رحمه الله تعالى وجود متصوفة إتحادية فيقول: "وكذلك أيضاً من أعظم الناس ضلالاً متصوفة في معكال وغيره، مثل: ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي

1 انظر: نص هذا البيان في روضة ابن غنام جـ1 /175 –178، وتحرير الأسد لروضة ابن غنام ط1 1381 هـ مط المدني ص467 –471، ومجموعة التوحيد، ط السفلية بمصر ص 250- 253 والدرر السنية، ط 2 جـ 2 ص 58- 61. وزيد رضي الله عنه مدفون بنجد والزبير رضي الله عنه بالبصرة فكان أكثر المعاصرين للشيخ يستغيثون بهما، وبالجيلاني، بل في نجد يستغيثون بأُناسٍ يدعون إلى عبادة أنفسهم مثل شمسان وإدريس ويوسف كما ذكر الشيخ هنا وفي غيره.

ص: 54

وابن الفارض. وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى، فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته".

ويبين الشيخ رحمه الله حالة علماء السوء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له - إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد صلى الله عليه وسلم من شهادة أن لا إله إلا الله - وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم، قاموا يجادلون ويلبسون على الناس، ويقولون كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات آل فلان أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا؟ ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضرر ودعائهم كفر ينقل عن الملة فيقول الناس لهم إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟

ويبين الشيخ أن من جهالتهم بمعنى لا إله إلا الله أنهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ والصبيان أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله قالوا: قولوا لهم يتركون الحرام.

قال الشيخ رحمه الله: "وهذا من عظيم جهلهم فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه - وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائماً قائما؟ من

ص: 55

الظلم الذي لا يخرج من الإسلام بل إما أن يؤدي صاحبه بالقصاص وإما أن يغفره الله؟ " ا. هـ

"وقد سجل تحتها عبد الله بن عيسى فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم - يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن: "إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"

ثم مضى ابن عيسى يقرر شأنها ويدلل عليها من كتاب الله تعالى ويحث على معرفتها ويبين حكم من أشرك فيها إلى أن قال: "فالله الله عباد الله لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما عَلمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب"1 إلى أن قال: "وأما الاتحادي ابن عربي صاحب الفصوص المخالف للنصوص وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين" إلى قوله

1 انظر: الرسالة التي أرسلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذا ذاك مقيم في بلد العيينية، وما سجله عليها الشيخ عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية في روضة ابن غنام 1/ص145-150، وفي تحرير الأسد ص341-348. انظر: الدرر السنية جـ8 ص70-73.

ص: 56

"فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا لغيره، فإن قال جاهل: أرى عبد الله توه يتكلم في هذا الأمر فيعلم أنه إنما تبين لي الآن وجوب الجهاد في ذلك علي وعلى غيري - لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلى أن قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} "اهـ1.

ويبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما عليه أكثر البوادي عنزة وآل ظفير وأمثالهم من عدم إقرارهم بالبعث وعدم اتباعهم كتاب الله وأنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر، وأنهم عايفينه ومتبعون ما أحدث أباؤهم مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله وفيهم من نواقض الإسلام أكثر من المائة ناقض كسَبِّ الشرع أو سَبِّ الأذان إذا سمعوه ومع ذلك صرح من يدعي العلم وأنه من العلماء أنه لا يوجد في الجزيرة رجل واحد كافر2.

وقد بين الشيخ غلط الكثير في ستة أصول عظيمة من أصول الدين بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظنه الظانون فقال ما خلاصته:

"أولاً: إخلاص الدين لله - قد أظهر الشيطان لهم أن الإخلاص

1 المصدر السابق روضة ابن غنام ص150.

2 انظر: الرسالة التي أرسلها الشيخ إلى محمد بن عيد من مطاوعة ثرمداء في روضة ابن غنام 1/ 107 - وفي تحرير الأسد لروضة ابن غنام 283- 289.

ص: 57

تنقص للصالحين وتقصير في حقوقهم وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم.

ثانياً: أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق.. ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وأن الأمر بالاجتماع لا يقوله إلا زنديق أو مجنون.

ثالثاً: السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً.. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به؟

رابعاً: بيان العلم والعلماء ومن تشبه بهم وليس منهم

ثم صار هذا أغرب الأشياء وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وأما العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وجدَّ في التحذير عنه والنهي عنه هو الفقيه العالم.

خامساً: بيان الله للأولياء وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعدائه المنافقين والفجار

ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه فليس منهم، ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، ولا بد من ترك الإيمان والتقوى، فمن تقيد بالإيمان والتقوى فليس منهم.

سادساً: كشف شبهة الشيطان وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق الموصوف بكذا وكذا، أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي

ص: 58

بكر وعمر، فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتما لا شك ولا إشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما.

فسبحان الله وبحمده، كم يبين الله سبحانه شرعاً وقدرا، ً خلقاً وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون"1.

وكان بعض الناس في عهد الشيخ يتحايل بطريقة الوقف أو الهبة أو القسمة لحرمان النساء من حقهن تحايلاً وصفه الشيخ في إحدى رسائله بقوله: "إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد تفضيل بعض أولاده على بعض، أو يريد أن يحرم نسل البنات" إلى أن قال: "ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تقرب إلى الله ويوقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله" ووصف الشيخ هذا (بالجنف والإثم) وشدد النكير على فاعله وأقام الأدلة الشرعية على بطلانه"2.

1 انظر: الدرر السنية، جـ 1 ص 99- 101.

2 انظر: فتوى الشيخ في إبطال وقف الجنف والإثم في مؤلفات الشيخ - القسم الخامس، الشخصية رقم 12 ص 78- 85. وانظر: روضة ابن غنام 1/ 124- 129. وانظر: حمد الجاسر، المرأة في حياة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 2.

ص: 59

وقدمت هذه النقول التي اخترتها مما كتبه الشيخ نفسه وصدق على بعضها ابن عيسى قاضي الدرعية أمثلة صادقة تبيِّن صورة واضحة لواقع البيئة من حول الشيخ وحال الناس في زمانه رحمه الله من دين الله الذي بعث به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

تابع (1) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية

تابع للمبحث الأول:

تصوير ابن غنام للواقع الديني:

ويذكر المؤرخ حسين بن غنام حالة الناس قبيل قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الإسلام الذي أرسل الله به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأورد هنا خلاصة ذلك:

في مطلع القرن الثاني عشر الهجري كان أكثر الناس قد انهمكوا في الشرك وارتدوا إلى الجاهلية وانطمست بينهم أنوار الإسلام والسنة، لذهاب أهل العلم والبصيرة وغلبة أهل الجهل واستعلاء ذوي الأهواء والضلال- نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلال ظانين أنهم أدرى بالحق وأعلم بطريق الهدى.

عدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الأولياء والصالحين من الأموات والأحياء يستغيثون بهم في النوازل والكوارث، ويقبلون عليهم في الحاجات والرغبات، ويعتقدون النفع والضر في الجمادات كالأحجار والأشجار، ويعبدون أهل القبور ويصرفون لهم الدعاء والنذور في حالتي

ص: 60

الضراء والسراء سواء زائدين على مشركي الجاهلية الأولى حيث كانوا إذا مسهم الضر لا يدعون إلا الله مخلصين له الدين، أما إذا نجاهم الله فهم مشركون. لكن هؤلاء أحبوا أوثانهم من دون الله محبة أعظم من محبتهم لله؛ سرت في سويداء قلوبهم وبدت على صفحات وجوههم وألسنتهم وجوارحهم وبذلوا أعمارهم وحياتهم في دفع الحق ومن يبديه، وهذا ليس في قطر دون آخر ولكنه في غالب الأقطار، كما أنه ليس في أول زمن الشيخ فحسب، بل كان بدؤه من قديم حيث التغيير والابتداع والاختلاف بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان من بعده، من أهل القرون الفاضلة ثم تعاقبت العصور وتوالت السنون والغي يزداد والضلال ينتشر حتى جاء من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والبدع لأنهم وجدوا آباءهم وأجدادهم وأسلافهم عليه فقالوا إنا على آثارهم مقتدون.

وقد نص على ذلك كثير من العلماء في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع والحوادث وما غير من منار الدين وشعائر الإسلام.

كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، يأتون عند قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة فيدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب، وكان عندهم مشهوراً بذلك ومذكوراً بقضاء الحوائج.

وكانوا يزعمون أن في قريوة في الدرعية قبور بعض الصحابة فعكفوا على عبادتها وصار أهل تربتها أعظم في صدورهم من الله.

وفي شعيب غبيراء، يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور وهو

ص: 61

مكذوب يأتون من المنكر عنده ما لا يعهد مثله.

وكان الرجال والنساء يأتون بليدة الفدا لفحل النخل الذي فيها ويفعلون عنده أقبح الأفعال ويتبركون به ويعتقدون فيه، فكانت المرأة إذا تأخرت عن الزواج تأتيه فتضمه بيديها ترجو أن يفرج عنها كربها وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل الحول.

وكانت طوائف من الناس تنتاب شجرة الطرفية يتبركون بها ويعلقون الخرق عليها إذا ولدت المرأة ذكرا لعله يسلم من الموت.

وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن امرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت فانفلق لها الغار وأجارها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويبعثون بصنوف الهدايا إليه.

وكان عندهم رجل يزعمونه من الأولياء اسمه (تاج) سلكوا فيه سبيل الطواغيت، فصرفوا إليه النذر، وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجاً وكان هو يأتي إليهم من بلدة الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج، وكان أهل البلاد المجاورة يعتقدون فيه اعتقاداً عظيماً حتى خافه الحكام وهابه أعوانه وحاشيته الناس فلا يتعرضون لهم بما يكرهون، ويدعون فيه دعاوى فظيعة، وينسبون إليه حكايات قبيحة، وكانوا لكثرة ما تناقلوها وأذاعوها - يصدقون ما فيها من مين وزور، زعموا أنه أعمى وأنه يأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي

ص: 62

ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم، وأعرضوا عن إخلاص الدعاء لله وحده رب العالمين.

وأما ما يفعل في الحرم المكي الشريف - زاده الله رفعة وتشريفاً - فهو يزيد على غيره كثيراً، ففي تلك البقاع المطهرة تأتي جماعات الأعراب من الفسوق والضلال والعصيان ما يملأ القلب أسى وحزناً - فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود، وتظاهر بذلك جم غفير، ولم يكن لأهل العلم تغيير، بل صادموا الحق (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) .

فمن ذلك ما يفعل عند قبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم خراجاً فإن أعطي ما أراد انصرف وإلا عاداهم وحاربهم، فصاروا يأتون قبره بالسماعات والعلامات يستغيثون به عند حلول المصائب ونزول الكوارث. وكذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، يعظمون أمره ويحذرون سره ويطلبون عنده الشفاعة ومغفرة الذنوب.

وإن التجأ سارق أو متعد أو غاصب إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما يكره، ولا يخشى معاقبة، أما إن تعلق جان مهما تكن جنايته صغيرة، بالكعبة فإنه يسحب منها سحباً لا يرعون للكعبة حرمة.

ومن ذلك أيضاً: ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلاة؛ من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات، وارتفاع الأصوات

ص: 63

عندهما بالدعاء والاستغاثة وتقديم الفدية، مما لا يسوغ لمسلم أن يبيحه فضلاً عن أن يراه قربة وعبادة، وكذلك ما يأتونه عند قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف من هذه الأمور التي تشمئز منها نفس الجاهل فكيف بالعالم؟

يقف عند قبره المكروب والخائف متضرعاً مستغيثاً في حالة عبوديته، وينادي أكثر الباعة في الأسواق:(اليوم على الله وعليك يا ابن عباس) ثم يسألونه ويسترزقونه.

وأما ما يفعل عند قبره عليه الصلاة والسلام من الأمور العظيمة المحرمة - كتعفير الخدود، والانحناء، والسجود خضوعاً وتذللاً، واتخاذ ذلك القبر عيداً - فهو أعم من أن يخفى، وأعظم من أن يذكر، لشهرته وشيوعه. وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله وكفى بذلك زجراً ووعيداً ونهى عما يفعل عنده الآن غالب العلماء، وغلظوا في ذلك تغليظاً شديداً.

ويكل اللسان عن وصف ما يفعل عند قبر حمزة، وفي البقيع وقبا، ويعجز القلم عن بيانه مهما يكتفي بذكر القليل منه:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وأما يفعل في جدة فقد عمت به البلوى وبلغ من الضلال والفحش الغاية، فعندهم قبر طوله ستون ذراعاً عليه قبة، يزعمون أنه قبر حواء، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيأه، فيجبي عنده السدنة من الأموال كل سنة ما يكاد أن لا يخطر بالبال ولا يدخل إنسان ليسلم على أمه إلا

ص: 64

عجل بتقديم الدراهم - وكيف لا

أيبخل أحد من اللئام فضلاً عن الكرام، ببذل بعض حطام الدنيا في سبيل الدخول على أمه والسلام عليها.

وعندهم معبد يسمى العلوي، فاقوا في تعظيمه جميع الخلائق: فلو دخل قبره سارق أو غاصب أو قاتل لم يعترضه مؤمن ولا فاسق بمكروه، ولم يجرؤ أحد أن يخرجه منه، فمن استجار بتربته أجير، ولم ينله أحد من الحكام بأذى.

وفي سنة 1210هـ عشر بعد المائتين والألف اشترى تاجر من أهل جدة أموالاً من تجار الهند والحسا القادمين تزيد على سبعين ألف ريال فانكسر بعد أيام وأفلس وتغيرت حاله ولم يبق عنده ما يقابل نصف الذي عليه، فهرب إلى ذلك المعبد مستجيراً، فلم يتقدم إليه من الناس شريف ولا وضيع ولا كبير ولا صغير، وترك بيته وما فيه من مال ومتاع، ولم يرزأ بقليل ولا كثير، حتى اجتمع التجار ورأوا أن ينظروه وييسروا عليه، وجعلوا المال عليه نجوماً في سنين وكان بعض أهل الدين من المشيرين بذلك.

وأما ما يجري في بلدان مصر وصعيدها من الأمور التي ينزه الإنسان عن ذكرها خصوصاً عند قبور الصلحاء والعباد، كما ذكرها الثقات في نقل الأخبار وروايتها فأكثر من أن يحصى.

فمنها: أنهم يأتون قبر أحمد البدوي وقبور غيره من العباد والزهاد

ص: 65

والمشهورين بالخير فيستغيثون ويندبون ويسألونهم المدد ويستحثونهم على كشف المصائب، ويتداولون بينهم حكايات، وينسبون إليهم كرامات، ويحكون في محافلهم خرافات من أفحش المنكرات فيقولون فلان استغاث بفلان. فسارع إلى إغاثته!. وفلان شكا لصاحب ذلك القبر حاله فأغاثه وكشف عنه ضره. وفلان شكا إليه حاجته فأزال عنه فقره. وأمثال هذا الهذيان المليء بالزور والبهتان.

ويصدر هذا الكلام في ذلك البلاد وهي مملؤة بالعلماء وذوي التحقيق والعرفان، ويبقى ذلك المنكر لا يزال بل ربما تنشرح له صدورهم.

وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك والفتن، فأكثر من أن يستقصى - فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر يسمى الهادي، كانوا يغدون عليه جميعاً ويروحون يدعونه ويستغيثون به، فتأتيه المرأة إذا تعسر حملها أو كانت عقيماً فتقول عنده كلمة عظيمة قبيحة - فسبحان من لا يعاجل بالمعاقبة على الذنوب.

وأما أهل برع فعندهم البرعي، وهو رجل يرحل إلى دعوته كل دان وقاص، ويؤتى إليه من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال، ويقيمون عند قبره للزيارة ويتقربون إليه بالذبائح، كما حقق أخباره من شاهدها.

وأما أهل الهجرية: فعندهم قبر يسمى علوان وقد أقبل عليه العامة في نوائب الزمان واستغاث به منهم كل لهفان ويسميه غوغاؤهم منجي الغارقين، وأغلب أهل البر والبحر منهم يطربون عند سماع ذكره

ص: 66

ويستغيثون به وإن لم يصلوا إلى قبره وينذر له في البر والبحر وعند أهل بلده نذوراً تزيد عن الحصر ويفعلون عند قبره السماعات والموالد ويجتمع عنده أنواع من المعاصي والمفاسد وليس في أقطار اليمن مثله في الاشتهار، ولهم في حضرته أمور يفعلونها تديناً كطعنهم أنفسهم بالسكاكين والدبابيس ويقولون وهم يرقصون طربين وقد ملأ الوجد ألبابهم (يا سادتي قلبي بكم معنى) .

وأما حال حضرموت والشحر ويافع وعدن: فقد ثوى فيهم الغي والضلال عندهم العيدروس يفعل عند قبره من السفه والشرك ما يكفي ذكر مجمله.

يقول قائلهم: "شيء لله يا عيدروس!

شيء لله يا محيي النفوس!! ".

وأما بلدان الساحل فعندهم الكثير:

أهل المخا عندهم الشاذلي - أكثرهم يدعوه ويستغيث به، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكره قعوداً وقياماً وينتابون تربته وحدانا وجمعاً.

وأهل الحديدة عنهم الشيخ صديق يعظمونه ويغلون فيه إلى أنه لا يمكن أحد أن يركب البحر أو ينزل منه إلى البر حتى يجيء إليه ويسلم عليه ويطلب منه الإعانة والمدد فيما أراد.

وأما أهل اللحية فعندهم الزيعلي واسمه عندهم الشمس لأن قبره ليس عليه قبة، يصرفون إليه جميع النذور ويعظمونه ويدعونه أشد ما

ص: 67

يكون ذلك عبادة وضراعة، ويحكي عنه أهل البادية منهم أنه كان رسولاً في حاجة فأراد أن يدخل بلده والشمس متدلية للغروب فقال لها قفي فوقفت وسمعت قوله وامتثلت فدخل بلده نهارا.

وعندهم قبر رابعة مشهور لا يحلفون يمينا صادقا إلا بها.

وفي أراضي نجران الطامة المعضلة وهو الرئيس المعروف بالسيد فقد أتى أهل نجران وما يليهم من الأعراب والقبائل من تعظيمه والغلو فيه والاعتقاد الشركي ما أفضى بهم إلى الضلال والإلحاد، صرفوا له من أنواع العبادة سهماً وجعلوا فيه للألوهية قسماً حتى كادوا يجعلونه لله نداً وكان عندهم بذلك الحال شهيراً - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

وأما في حلب ودمشق وأقصى الشام وأدناه فهو مما لا يوقف له على حد ولا يمكن ضبط قدره بحسب ما يحكيه من يشاهد ذلك أو يراه من العكوف على عبادة القبور وصرف القربان إليها والنذور والمجاهرة بالفسوق والفجور وأخذ المكوس وإحلال الدستور الوضعي محل الشريعة الربانية وتنظيم عمل البغايا ووضع الخراج عليهن من مهورهن الخبيثة.

وفي الموصل وبلدان الأكراد وما يليها من سائر البلاد وفي العراق عموماً وفي المشهد وبغداد خصوصاً ما لا يقدر على حصره وتعداده مما يفعل عند قبر الإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنهم من الدعاء والاستغاثة بهم والطلب منهم في سائر الأوقات والأزمان ويحصل من التعظيم والتذلل عندهم والخضوع أعظم

ص: 68

مما يصدر بين يدي الله في الصلاة، واشتهر عندهم أن كثيراً ممن يفعل ذلك وجرب وجد أنهم لقضاء الحوائج ترياق مجرب.

وأما مشهد علي رضي الله عنه فقد صيرته الرافضة (لعنها الله) وثناً يعبد، يدعونه بخالص الدعاء من دون الله تعالى ويصلونله في قبته ويركعون ويسجدون، وليس في قلوبهم من تعظيم الله معشار ما فيها لعلي رضي الله عنه يحلفون بالله الأيمان الكاذبة ولا يخافون، أما علي فلا يحلف به أحدهم كاذباً أبداً، ويجزمون أن عنده مفاتح الغيب. ولهذا يقولون إن زيارته أفضل من سبعين حجة، ولقد غلوا فيه وأتوا من الشرك أعظم مما فعل النصارى بالمسيح سوى دعوى الولدية، وزخرفوا على قبره قبة مذهبة.

ومثل ذلك الشرك يفعل عند مشهد الحسين والكاظم.

ولقد شب فيهم على ذلك الكفر الرعاع والأطفال وشابوا عليه، فلا يسمع بينهم ذكر الله وإنما ديدنهم ذكر علي والحسين وبقية الآل

وكفى بما ذكر حجة عليهم في خروجهم عن الإسلام.

وكذلك جميع قرى الشط والمجرة وما حول البصرة وما توسط فيها من تلك القبب والمشاهد كقبر الحسن البصري والزبير رضي الله عنهما يطلبون منهما الفرج ويصرفون لهما من العبادة الدعاء والإستغاثة عند الشدائد لا يجحد إلا مباهت مكابر.

وأما في القطيف والبحرين فالبدع الرفضية الشركية والمشاهد الوثنية التي لا تكاد تخفى على أحد من الناس.

ص: 69

وعلى العموم فإن من رأى أفعال الناس في بلاد المسلمين مما أشرنا إليه وهو عارف بالإيمان تبين له غربة الإسلام في ذلك الزمان وصيرورة الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية غايتهم ومقصدهم وسرهم في الخلق والإيجاد.

وهذا في الغالب الأكثر وليس عليه جميع المسلمين حيث إن الله تعالى لا يجمع الأمة على ضلالة ولا يعمها بالسفاهة والجهالة كما ثبت ذلك في صحيح الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أخبر أيضاً أن في أمته أناس لا يزالون بهديه يستمسكون إلى قيام الساعة كما أن أكثرهم في أزمنة الغربة مخطؤون وعن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه منحرفون

وهذا مما زينه الشيطان واقتضته الطباع الناقصة والنفوس البشرية حتى إن ذلك يوجد من بعض العلماء المنتسبين إلى أحد المذاهب المعتصبين فلا يقبلون من الدين رأياً ولا رواية إلا ما كان لأصحابهم به عمل أودراية، فيرفض السنن النبوية واتباعه ولو عرف أن الحق ليس مع مذهبه وقد يحمله التعصب على الطعن في الأئمة وثلبهم، وكذلك من المتعبدة والمتصوفة من يرى طريقة العلم سفاهة وضلالاً، ويدعي أن العلماء لم يشربوا من صافي الشريعة ومعينها. كبرت فرية وكذبة من هؤلاء المتصوفة.

وقال ابن غنام عن الذبح للجن تقرباً إليهم وقصد الذابح أن يبرأ مريضه من شكواه: "ومن العجب أن ذلك يفعل في بلدان العارض وغيرها لا ينكره أحد من علمائهم على من فعله بل منهم من يفتي الجهال بذلك فيقول: اذبحوا على هذا الصبي أو هذا المريض ذبيحة سوداء للجن

ص: 70

ولا تسموا عليها، وقصده بذلك أن الجن يزيلون ذلك المرض إذا ذبحت لهم تلك الذبيحة.

فلما أظهر الله هذا الشيخ، ونهى عن ذلك، وبلغ الناس كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم؛ أن ذلك كفر وردة؛ ينكر ذلك عليه من يزعم أنه من العلماء فهل يشك أحد من العلماء أن ذلك كفر وشرك وعبادة للجن

نعوذ بالله من الطبع على القلب"1.

انتهى ما أردت تلخيصه وتحريره من روضة ابن غنام في وصف البيئة التي كانت من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله زمانا ومكانا2.

وصف الشيخ عبد اللطيف غربة الدين:

ومثل ذلك ذكره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في نبذته المفيدة عن حال جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين أتى على وصف أهل عصره ومصره، وقرر أن غربة الإسلام قد اشتدت بينهم وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن وقبول أحاديث الكهان والطواغيت، والآثار

1 روضة.. . 1/ 137، 138.

2 انظر: تاريخ ابن غنام، روضة الأفكار، ج1 ص 5 - 25، 137، 138. وتحرير الأسد لروضة ابن غنام، ص 10- 19، وص20 -26.

ص: 71

الموضوعات والحكايات المختلقة والمنامات كما يفعل أهل الجاهلية، وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأولياء والصالحين والأوثان والأصنام والشياطين والأحجار والجمادات، فيستغيثون بهم ويتعلقون ويتبركون بآثارهم وقبورهم في جميع الأوقات حتى نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

واستمر الشيخ عبد اللطيف في وصف البيئة على نحو ما وصف ابن غنام رحمهما الله تعالى1.

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في نصيحة للإمام فيصل بن تركي "ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل (ويعني به معرفة الله بصفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وعبادته وحده لا شريك له والكفر بما سواه من الآلهة والأنداد) وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل وكل بلد وكل قطر وكل جهة فيما نعلم فيها من الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خارجي ينكر الكرامات وكذلك في باب الأسماء والصفات رؤساؤهم وأحبارهم معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحرفات وهم يظنون أنهم من أهل التنزيل

1انظر: الرسائل والمسائل ج 3/381- 388.

ص: 72

والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم في باب العبادات رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات وهذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات"1.

كلام ابن بشر عن فشو الشرك:

وقال المؤرخ ابن بشر ما نصه: "وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها والاستعاذة بالجن والذبح لهم ووضع الطعام لهم وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم وضرهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر.

والسبب الذي أحدث ذلك في نجد - والله أعلم - أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار وصار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون، فإذا كان في أحد من أهل البلد مرض أو في بعض أعضائه أتى أهله إلى متطببة ذلك القطين من البادية فيسألونهم عن دواء علته فيقولون لهم: اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا إما خروفاً بهيماً أسود وإما تيساً أصمع وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهلة، ثم يقولون لهم: لا تسموا الله على ذبحه. وأعطوا المريض منه كذا وكذا وكلوا منه كذا وكذا واتركوا كذا وكذا فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجاً. وربما

1 الرسائل والمسائل ج3/157.

ص: 73

يوافق وقت الشفاء حتى كثر ذلك في الناس وطال عليهم الأمد فوقعوا بهذا السبب في عظائم - وليس للناس من ينهاهم عن ذلك فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورؤساء البلدان وظلمتهم لا يعرفون إلا ظلم الرعايا والجور والقتال لبعضهم بعضاً"1.

قول الشيخ ابن باز - عن الحالة الدينية:

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، كان الشرك الأكبر قد انتشر في نجد حتى عبدت القباب والأشجار وعبدت الغيران وعبد من يدعي بالولاية وهو من المعتوهين أو المجانين، واشتهر في نجد السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلى من شاء الله وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها وقل القائم لله والناصر لدين الله. وهكذا في الحرمين الشرفين وفي اليمن اشتهر فيها ذلك الشرك وبناء القباب على القبور ودعاء الأولياء والإستغاثة بهم. وفي اليمن من ذلك ما لا يحصى ما بين قبر وما بين غار وبين شجرة وبين مجذوب ومجنون يدعى من دون الله ويستغاث به مع الله وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم وذبح الذبائح لهم وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم وخوف شرهم"2.

1 ابن بشر عنوان المجد، 1/6، 7.

2 محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته، محاضرة للشيخ عبد العزيز بن باز، الدار السعودية للنشر، ص23-24.

ص: 74

كلام الشيخ ابن حميد - عن الإنحراف الواقع:

ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد بعد أن تحدث عن أسباب رؤية الشيخ محمد بن عبد الوهاب للواقع من حوله: "كل ذلك قد أعطاه النظر الفاحص لما عليه قومه وبنو جلدته ومن جاورهم من البلدان من الانحراف عن طريق الإسلام الصحيح يصل في بعض الحالات إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة. فقد رأى في تلك المناطق مرتعا للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافا مع أصول الدين، فكان هناك قبور تنسب إلى بعض الصحابة يقصدها الناس ويطلبون منها حاجاتهم ويستغيثون بها لرفع كروبهم وقضاء حاجاتهم، ولقد وصل الحال في بعضهم أن اتجهت العوانس من النساء إلى فحل من فحول النخل يرددون بعبارة مسجوعة:(يافحل الفحول أريد زوجا قبل الحول) وكما انتشرت هذه الخرافات في نجد رأى مثلها في الحجاز وفي البصرة والزبير وسمع مثلها في العدن واليمن فوزن هذه الأفعال المنكرة بميزان الوحيين كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتقين فرآهم في بعد عن منهج الدين وروحه - حيث رأى أنهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل؟ ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة؟ رآهم غيروا أصول الدين وفروعه إلا القليل

هذه إشارة إلى

ص: 75

وضعهم الديني"1.

كلام الشيخ البسام:

أن بيئة العالم الإسلامي من حول الشيخ محمد (بيئة جاهلة جافية، متقاطعة متباعدة)2.

وصف الأمير الصنعاني ظهور البدع وطغيان الضلال:

وإذا تجاوزنا علماء الدعوة من نجد والتمسنا ما يقوله العلماء من غيرهم - فإننا نجد الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني يصف ظهور المبتدعات وطغيان الضلال وغربة الدين في قصيدته البائية المشهورة فيقول:

طغى الماء من بحر ابتداع على الورى

فلم تنج منه مركب وركاب

وطوفان نوح كان في الفلك أهله

فنجاهم والغارقون تباب

فأنى لنا فُلْكٌ ينجي وليته

يطير بنا عما نراه غراب

وأين إلى أين المطار وكل ما

على ظهرها يأتيك منه عجاب

نسائل من دار الأراضي سياحة

عسى بلدة فيها هدى وصواب

فيخبر كل عن قبائح ما رأى

وليس لأهليها يكون متاب

ـ1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته، للشيخ عبد الله بن حميد مطبوعة ضمن هداية الناسك ومعه مجموعة

رسائل الطبعة السابعة 1398هـ، ص 91- 92.

2 علماء نجد، خلال ستة قرون 1/42.

ص: 76

لأنهم عدّوا قبائح فعلهم

محاسن يرجى عندهن ثواب

كقوم عراة في ذرا مصر ما علا

على عورة منهم هناك ثياب

يدورون فيها كاشفي عوراتهم

تواتر هذا لا يقال كذاب

يعدون في مصر من فضلائهم

دعاؤهم فيما يرون مجاب

وفيها وفيها كل مَا لا يعده

لسان ولا يدنوا إليه خطاب

وفي كل مصر مثل مصر وإنما

لكل مسمى والجميع ذئاب

ترى الدين مثل الشاة قد وثبت لها

ذئاب وما عنه لهن ذهاب

لقد مزقته بعد كل ممزق

فلم يبق منه جثة وإهاب

وليس اغتراب الدين إلا كما ترى

فهل بعد هذا الإغتراب إياب

فيا غربة هل يرتجى منك أوبة

فيجبر من هذا البعاد مصاب

فلم يبق للراجي سلامة دينه

سوى عزلة فيها الجليس كتاب

ويعني بالكتاب القرآن الكريم إلى أن قَال يصف موقف أهل الأرض مما حواه القرآن الكريم:

ولكن سكان البسيطة أصبحوا

كأنهم عما حواه غضاب

فلا يطلبون الحق منه وإنما

يقولون من يتلوه فهو مثاب

فإن جاءهم فيه الدليل موافقاً

لما كان للآباء إليه ذهاب

رضوه وإلا قيل هذا مؤول

ويركب في التأويل فيه صعاب

تراه أسيراً كل حبر يقوده

إلى مذهب قد قررته صحاب

ص: 77

هذا ما يصف به الأمير الصنعاني أهل زمانه من بعدهم عن كتاب الله وعدم رجوعهم إليه ولكن يسخرونه في تقرير مذاهبهم التي جعلوها هي الأصول التي يزنون بها دينهم أما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي غربة شديدة في أراضي المسلمين وبلدانهم وأمصارهم وحل محلها في الظهور والإشتهار المبتدعات والعصبية للمذاهب المخالفة.

والشيخ الصنعاني معاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وزمانه هو زمانه - ولقد أثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقصيدة مطلعها:

سلام على نجد ومن حل في نجد

وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

وفي هذه القصيدة أيضاً بيان صورة صحيحة للبيئة التي كانت في ذلك الزمان كقوله يتحدث عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويصف ما لاقاه من ضلال الناس:

ويعمر أركان الشريعة هادماً

مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد

أعادوا بها معنى سواع ومثله

يغوث وود بئس ذلك من ود

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفرد

وكم عقروا في سوحها من عقيرة

أهلت لغير الله جهلاً على عمد

وكم طائف حول القبور مقبل

ومستلم الأركان منهن باليد

إلى آخر ما أنشده رحمه الله من هذه القصيدة الجيدة، وقد ذكر إنكاره للغلو الذي اشتمل عليه دلائل الخيرات وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن

ص: 78

الغلو ولكن الجهال صيروا دلائل الخيرات أعظم من القرآن، فأقبلوا على تلاوته هاجرين لكتاب الله القرآن العظيم.

ثم ذكر بدعة التعصب للمذاهب المخالفة للدليل حتى إن من خالفها لدليل من القرآن والسنة يناله من المتعصبين كل الأذى بأنياب الأفاعي والسباع وأسواط الذم والغيبة والجفاء والتنقيص بلا حق ولا ذنب سوى أنه يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرد إلى وحي الله المنزل - هذا الذي عده الجهال ذنباً - فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم ذكر بدعة التصوف وطريقة ابن عربي وضلالهم المنتشر إلى أن قَال رحمه الله تعالى:

ومن يطلب الإنصاف يدلي بحجة

ويرجع أحيانا ويهدي ويستهدي

وهيهات كل في الديانة تابع

أباه كأن الحق في الأب والجد

وقد قَال قبلهم كل مشرك

فهل قدحوا هذي العقيدة من زند

كذا أصحاب الكتاب تتابعوا

على ملة الآباء فرداً على فرد

وهذا اغتراب الدين فاصبر فإنني

غريب وأصحابي كثيرٌ بلا عد

إذا ما رأوني عظموني وإن أغب

فكم أكلوا لحمي وكم مزقوا جلدي1

هذه الشهادة من عالم أهل اليمن الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني الحسيني.

1 ديوان الصنعاني ص 18- 22، ص128- 133.

ص: 79

شهادة الشيخ حسين بن مهدي النعمي:

ومن اليمن أيضاً نورد شهادة من أحد علمائها الموثوقين هو العالم المحقق الشيخ حسين بن مهدي النعمي المتوفى سنة 1187هـ يصف لنا البيئة وواقع الناس في زمانه فيقول: "إن ما فشا في العامة، ومن امتاز عنهم بالاسم فقط، هو كون هجير أهم عند الأموات ومصارع الرفات: دعاؤهم والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار القافة والإضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال والله قد علم ما في طي ذلك كله من قبيح الخلائق والأفعال، وارتكاب ما نهى الله عنه وإضاعة حقوق ذي العزة والجلال، والالتجاء المحقق إلى سكان المقابر في فتح أرحام العقام، وتزويج الأرامل والأيامى من الأنام واستنزال السحائب والأمطار واستماحة المآرب والأوطار، ودفع المحاذير من المكاره والشدائد، والإناخة بأبوابها لنيل ما يرام من الحوائج والمقاصد وبالجملة: فأي مطلب أو مهرب.

ترى هنالك ربع المشهد مأهولاً، وقد قطعت إليه المهامة وعورا وسهولا والنداء لساكنه: أن يمنح أو يريح، والتأدب والخضوع والتوقير والرغبة، ومشاعر الرهبة. وينضاف إلى ذلك - خصوصاً في الزيارات في الأعياد والموالد - نحر الأنعام، وترك الصلاة وصنوف الملاهي، وأنواع المعاصي للمليك العلام، وكثيرون لا طمع في حصرهم، ولعلهم العموم،

ص: 80

إلا من شاء الله: إن لم تلد زوجة أحدهم أو طال مرض مريض منهم، أو صاب امرأة التوق إلى النكاح، أو قحطت الأرض، أو دهمهم نازل من عدو، أو جراد أو غيرهما أو راموا أمراً عناهم تحصيله. فالولي في كل ذلك نصب العين، وإذا جرى المقدور بنفع أو دفع ضر، أو حصول مكروه كان المركوز في عقيدتهم التي لا يتحولون عنها: أن ذلك ثمرة الاستغاثة به، والإنابة إليه في الأولين. ودليل ضعف الاعتقاد، أو اختلال شرط من المنيب أو نحوهما في الثالث. فصار مدار التصرف والحصول له خاصة، أو مع الله في شيء دون شيء.

وحاصل معتقدهم: أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت. كما سيأتي تحقيق هذا وشرح وقوعه في أفعال من علا هذه العقيدة، وذكر ألفاظهم مبينة مفسرة مصرحة بما حكيناه عنهم، وأنهم قد ذهبوا هذا المذهب المشروح آنفا في سكان التراب، وأنزلوهم هذه المنزلة المحكية من مساواة رب الأرباب وقد سردنا بعضها للبيان ولئلا يتمكن الخصم من جحود، أو يقدر على مدافعة، وليعرف كل سامع لما نمليه: أن القائل بأن العوام قد يقع منهم عبارات موهمة، وقصارى أمرهم: التوسل! إما غالط أو خالط، أو جاهل للدين. وإلا؛ فما بعد هذا! ".

ثم مضى يشرح أفراد وقائع هذا الشرك وذكر ألفاظهم الصريحة في مقارفة الشرك والاعتقاد في المقبورين إلى أن قَال: (وشواهد هذا ظاهرة في حالاتهم تلك. بحيث أن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة

ص: 81

وأقطار متباعدة، ونواحي متباينة لما كانوا قد نشؤوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه من قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد. فتجدهم إذا شكا أحدهم على الآخر نازلة نزلت، فلعله لا يخطر له في بال، إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟ وقد يضرب له الأمثال بأن فلاناً كان أمره كذا، وفلاناً كان أمره كذا، حتى أنسوا بهذا الباب أكثر مما يصفه الواصف، وبقدر أنسهم به تناسوا ما رسمه لهم الرسول الحكيم الناصح الأمين وجهلوه بالمرة، وانطمست لديهم معالمه.

وبعضهم قد يعرف شيئاً من ذلك ولكنه يؤثر عليه ما ذكر: إما لعدم وثوقه بذلك وإما لغلبة انفعال نفسه لخاطر السوء، وإما لسلطان العادات والتقليد، وبعضهم - وهو أقلهم كفراً - يجعل البابين محلاً صالحاً مدخلاً للدفع والنفع، حتى إنا شاهدنا ما لا يحصى قدره الآن: إذا سقطت دابة أحدهم، أو عثر هو أو بغتته حادثة من هذا القبيل نادى ببديهة الحس: يا هادياه يا ابن علوان يا جيلاني.

ويقول: ومن عجيب ما أتته العامة من طرائف هذا الباب وغرائبه الفاحشة، التي زعم ذلك المخادع القائل (إنها مجرد توسل وعبارة موهمة) ما شاهدناه بالمعاينة مكتوباً على راية مشهد من المشاهد (هذه راية البحر التيار. فلان بن فلان، به أستغيث وأستجير، وبه أعوذ من النار) وإلى هذا اللفظ زيادة تركتها لأني لا استثبتها الآن. وهي من هذا النمط المستطرف.

ص: 82

ومن عجيب طرائفهم في هذا الباب قول بعضهم من قصيدة. وهي شيء يقشعر منه الجلد، وإنما حكيناه لما زعم شيوخهم المخادعون: إنها عبارة موهمة بنزلة لغو اليمين.

يا سيدي يا صفي الدين يا سندي

يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري

أنت الملاذ لما أخشى ضرورته

وأنت لي ملجأ من حادث الدهر

امدد بمواد اللطف منك وكن

لي الكفيل بكشف الضر والظفر

وامنن علي بتوفيق وعافية

وخير خاتمة مهما انقضى عمري

وكف عنا أكف الظالمين إذا

امتدت بسوء وأمر مؤلم نكر

فإني عُبَيدُك الراجي لودك ما

آمله ياصفي السادة الغرر

وقد مددت يد الرجوى على ثقة

مني لنيل الذي أملت من وطري

انتهى المراد نقله منها.

فلا ندري: أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة من كيفية مطلب أو تحصيل مأرب؟ وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث لخالقه من الأمر؟ فإن كان هذا، أوْ ما يعطى شيئاً منه (عبارة موهمة بمنزلة لغو اليمن) فعلى السفسطة السلام.

فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا ولا لما هو أقل منه، كما سنشرح لك حاله إن شاء الله

ص: 83

تعالى1.

ومن غرائب شرك العامة في هذا الباب: ما حدثنا به الثقات الأثبات عن حي من الأعراب، حضرت أحدهم الوفاة، فقيل له قل لا إله إلا الله. فقال: أين الله؟ قل يا عمراه. كذا حدث أولئك ذلك سيد الحي بمجمع من أهل المحل على وجه اليقين المشهور عندهم.

ومن ذلك أن حيا من أهل البوادي إذا أرسلوا أنعامهم للمرعى. قَالوا: في حفظك يا فلان، يعنون ساكن مشهدهم، وإنهم إذا أرادوا السفر إلى جهة استأذنوه والعمل في الجواب على سادن المشهد، حتى إنه إذا اشتد المرض برجل من العامة شد رحاله إلى قبر الولي يستجير به، أو عنده من الموت.

ومن ذلك أن امرأة كف بصرها ومات ولدها، فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك فيَّ.

ومن ذلك: وهو من أشهر عجائبهم المعلومة، في نواحي من البلدان - شراؤهم الأولاد - بزعمهم من الولي بشيء معين، فيبقى ثمنه رسما جاريا، يؤدى كل عام لصندوق الولي وإن كانت امرأة، فمهرها له، أو نصف مهرها إذْ هي مشتراة منه ولعله يفقد شيئٌ من هذا في بعض النواحي، فكم له من أخوات عند التصفح.

1 انظر: معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص 185- 189 فقد شرح حالهم في ذلك الموضع.

ص: 84

ومن ذلك - وهو من طرائفهم الشهيرة أيضا - ترك أشجار ومراع حول المشهد لمكان قربها منه، مع الحاجة الشديدة إليها. فتبقى على ممر الأزمان سائبة.

ومن عجائبهم: ما حدث به جمع من أهل الدين أنه وقع في زيارة بعض المشاهد اجتماع خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال. فكان هناك من القبائح ما منه السجود للمعتقد.

شاهد ذلك الجمع ما ذكرنا عيانا. فلعل هذا: (عبارة موهمة، بمنزلة اللغو في اليمين)

ثم يقول: ولو كان المتكلم بهذا في غير مكة - شرفها الله تعالى - لجوزنا أنه لم يبلغه، ولم ير شيئا من هذه الضروب التي سردناها أو نظائرها.

ومن ذلك - وهو من غرائب الانحلال من الدين - أن جماعة من العامة خرجوا من مسجد بجوار مشهد، بعد أن صلوا فريضة من المكتوبات. فدخلوا المشهد. فرفعوا وضموا، وركعوا إلى جدار القفص.

ومن ذلك - وهو أيضا من طرائف ما يحكى - أن رجلا سأل من فيه مسكة من عقل فقال: كيف رأيت الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة الأيام فريضة.

فقال السائل: قد تحملها عنهم الشيخ!

ص: 85

قلت: وباب (قد تحمل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد، وهو أمر شهير في العامة، ولعل هذا عند هذا المخادع الخائن لنفسه وللناس (عبارة موهمة) كما قَال!!

فقل لي: أي ملة - صان الله ملة الإسلام - لا يمانعها كل ذلك، ولا يدافعها؟ قلت: ولقد أذكرني هذا ما سمعت بعض الأفاضل يحدث به: أن رجلين قصدا الطائف من مكة المشرفة، وأحدهما يزعم: أنه من أهل العلم، فقال له رفيقه - ببديهة الفطرة-: أهل الطائف لايعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس.

فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية. لأنه يعرف الله.

ويضاهيها: ما حكاه لنا بعض من جاور بالبلد الحرام: أن رجلا كان ببعض المشاهد بمكة، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف. فقال له بعض كبرائها: مقامك هنا أكرم.

وما شئت بهذا الطغيان المجاوز!!

وبالله لو ذهبنا ننقب عما يحادون الله به من هذه الجهالات، وما يجترئ عليه السفهاء هنالك. لحصلنا على ما يفوت الطاقة ضبطه إلا تكلفا - إن كان - وفي الناس من يخالف الله، ويستحي من معارضة الكتاب والسنة بالسماجة والقحة، وفي الناس من يتحاشى عن الإفراط - وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.

ص: 86

ويقول: ومن طريف أخبارهم: أن منهم من يمرض، فيلازم المشهد، يستجير به من ذلك المرض، ويتوصل إلى زوال ما به من الداء الَّذي أضناه، وخصوصا إذا كان من نوع المانيخوليا، أو أمراض العقل - قائلا بلسان الحال والمقال أيضا (وإذا مرضت فهو يشفين) .

يقول: ومنهم من يمكث في المشهد أياما محبوسا بلا صلاة قط، زاعما أنه في حبس الولي وقيده، ولا يطلقه إلا لحاجته، وما في عقله الَّذي تقوم به الحجة عليه اختلال وإنما فسدت فطرة الأغلف بطارئ العوائد، حتى كأنه لا يعقل ومن طريف أقوالهم في أوليائهم: أنه يضرب من تظلم منه، أو شكى به إليه - بصيغة المبني للفعول فيهما - ويعزل الوالي إذا لم يزره، ويهب الولد إذا جومعت المرأة عند مشهده، ويسلب السلاح ويقيد ويفك الأسرى والمحبسين، ويهدي الضالين ويجير القوم، ويترك بنادقهم قصباً، وعاقلهم خنثي، لا أنثى ولا ذكر، ويعاقب من أخذ من ضريحه ورقة للتبرك بها في الحال، حتى صار في بعض الجهات: أن المرأة لا تدخل عند زوجها، حتى تزور الولي، وأن رجلاً زعم أن ولياً نبه عليه في النوم: أن يبني عليه قبة - قَال: فبنيت خوفاً منه.

قلت: وباب تنبيه الأموات - أي بإضافة تنبيه إلى فاعله- كباب (تحمل الشيخ الصلاة وغيرها) في السعة والشيوع. والله يغلقها كلها بنصر دينه.

ومن عجيب أمرهم: أن امرأة جاءت قبراً، فجعلت تقول: يا سيدي

ص: 87

بعت ما لي ورحلت إليك من مسافة كذا، سألتك بالله أن تشفي ولدي فإني جارة الله وجارتك.

ويقول: إن القوم سحبت عليهم العادات والخيالات، وتعفى في قلوبهم رسوم الفطر والأديان، وجر الشيطان أذياله عليها. ما هم بالمحل الذي يزعمه لهم الخابطون.

ومن أذيال مصيبة المشاهد التي أصيب بها الإسلام وشعائرها ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما لا تكون متروكة مهجورة وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك وغير ذلك ما يجعلها مزابل ومشاهد الأموات: محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، وبها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة.

وسرد أشياء كثيرة إلى أن قَال: فهذه قطرة سردناها ليعلم الأغبياء ما صار عليه الحال مما لا يحصى كثرة، وجميع سكان البسيطة إلا من أنقذ الله قد مسهم هذا المرض المضني، وعمهم هذا الداء العضال، وإن تفاوتوا في الإيغال والإغراق في هذه الضلالة، فكل - إلا ما شاء الله - قد أخذ بحظه، وشارك في أصل المعنى، من تعليق أمرهم بسكان القبور في جملة أمرهم، وأما تفاصيلها: فغير مقدورة، فلقد أحيوا هذه المشاهد بالتردد والدعاء، والنداء والعكوف، والمثول والتأدب، والتوقير والخضوع مما لا يحصل بعضه في بيوت الله والصلاة المكتوبة، إلا مالا نسبة بينه وبين ما في

ص: 88

عرصات المشاهد، بحيث ينتابها ويهبط إليها ويحبها ويسمح بالبذل الكثير لها، ويضيع لأجلها ولده وأهله.

وكثير من الناس لا يقوم في حق الله تعالى برائحة من ذلك. ولا يعرف الصلاة ولا المساجد، وهو اللائق بمن سلك تلك السبيل، ثم يتكلمون بما يناسب حالاتهم هذه، من مثل: أكرمنا الشيخ، أوْ بيَّن لنا إشارة، أو حصل لنا ما نطلب، ونجانا مما نهرب، وشفى مريضنا، وأنزل الغيث لنا، إذا قصدناه وسألناه.

ويقول: هذا مذهب عامة المقابريين.

ويقول: "وأما الحاذقون بها فهل أتتك أنبائهم؟ إنهم يقولون: هؤلاء المقربون هم المخصوصون من الله بالإمداد والملقى إليهم مقاليد التصرف والتصريف في عالم الإيجاد، ومن حبي بهذه الحبوة بذلنا له محض التأليه والصبوة، وما سألناه ودعوناه إلا أمرا مُكن منه وصرف فيه وولي نظره وتدبيره بولاية عامة تمكينية فالسؤال والاستغاثة، وما هو من واديهما هو من ذي أهلية تامة قائمة صالحة لتأهيلنا إياها جميع ما أنكر منا من معاملتها، والواقف بنا على مجرد التوسل فقط- كما قيل أيضا على عامتنا - هو في القضية عامي، أو واهم وللحقيقة التي نحن بها غير محقق ولا فاهم". انتهى.

"فهذه الدسيسة هي - فيما علمنا - روح البحث، وسر المسألة عند حذاقهم السابقين في الصناعة. وقد شافهني بذلك أحد خواصهم

ص: 89

الموسومين بالفقه والفطنة في هذا الباب زعما منه أنه قد امتطى صهوة التحقيق، وارتقى ذروة التدقيق. أترى هذا من محاسن الكلام؟ ألا تقول: برأ الله عنه ملة الإسلام، وقدسها عن وضر هذا العار والملام؟ "

ثم يقول: "وإذا فقهت هذا: انتقلت منه - إن شاء الله تعالى - إلى فهم ما يؤثر عن قوم ممن يدعى المحبة والقرب والولاية، ودعاويهم الطويلة العريضة المشروحة في مؤلفاتهم ومنظومهم ومنثورهم.

وممن شرح عنهم بعضا مما أشرنا إليه ما نقله تقي الدين الفاسي في تاريخ مكة، والمحقق الأهدل في شرح دعاء أبي حربه، وقبله القاضي إسماعيل بن أبي بكر المقري الشاوري الشرحي الزبيدي الشافعي، وقصيدته الرائية مشهورة في هذا المعنى. وغير ما ذكرنا أيضا كثير يفوت حصرهم".

ويقول: "ولقد سمعنا في هذا المقام حكاية شنيعة، وهي: إن بعض كبراء الصوفية ركب البحر ومعه مريده، فهاجت ريح خيف منها. فجعل الأستاذ يقول: يا الله فطفق المريد يقول كذلك. فكاد يغرق. فأشار إليه الأستاذ أن يهتف باسمه ففعل فنجا. وهي مشهورة عند كثير من الناس، ولا أعرف الآن موضعها فأنقلها بصفتها"1.

1 وقال محمد حامد الفقي: "نقلها الشعراني في الطبقات عن الحنفي الَّذي ضمه بمصر وأنه كان يذهب كل يوم بعد العصر، فيجتاز النيل من الشاطئ الشرقي إلى الغربي مشيا على الماء هو وتلاميذه. ويقول لهم: قولوا: يا حنفي. فقال واحد منهم يا الله: فغرق. فأخرجه الحنفي وأنبه على أن دعا الله (نفس المرجع ص184 هامش".

ص: 90

ويقول: "إن هذا شيء لا يختص به الواحد والاثنان، ولا البلدة ولا البلدتان ولا القطر ولا القطران، بل عم أمر المشاهد وعبادة الأموات البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى آل الأمر إلى أن عاد غصن الشرك غضا طريا، ويبلغنا من ذلك الكثير، الَّذي لا تحويه السطور، سوى ما سمعناه وشاهدناه. ونحن ببلد أقل شيء فيها هذا القبيل بحمد الله، بل يكاد يلتحق بالمعدوم بالنظر إلى ما سواها، وإلا فمن سكن بفرس، والمخا، وصعده وغيرها من قطرنا هذا خاصة، - كيف سواه؟ - رأى العجب، إن كان قلبه حيا.

وبالجملة: فأمر العامة في هذا النحو غريب بالنسبة إلى الإسلام، فإن كل من عرف الحقيقة، ونظر إلى ما صاروا إليه من ذلك: وجد المضادة لله وتوحيده فاشية في كثير من أفعالهم وأقوالهم، وتقلبهم وتصرفاتهم. والطمع في حصره طمع في محال، كضبط الريح والبحر، وهو ظاهر شهير على رؤوس الخلائق.

وإنما جهل قدره ومنافاته، لما دعت إليه الرسل، لما تعفت رسوم شرعهم عند الأكثرين ولأنسهم بكثير من أضدادها، وبضدها تتبين الأشياء".

ويقول: "وما سقنا هذه الكلمات عن العامة إلا على سبيل المثال". ويذكر أن هذا واقع وكثير جداً في البلدان الإسلامية، وتركت شيئاً كثيراً

ص: 91

وهاماً من وصفه وأخباره خشية الإطالة وأحيل عليه1.

شهادة الإمام الشوكاني:

وهذه شهادة ثالثة من عالم آخر هو الإمام الشوكاني المشهور، من أهل اليمن، ومن أعلام أهل السنة الموثوقين نقتطفها من مؤلفاته كمؤلفه (كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) يقرر وجود المعتقدين في الولي والقبر والمشهد ممن ينسب إلى الإسلام ويزعم أنه من المسلمين، وأن هذا هو الشرك بالله لأن الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر2.

ويقول: "ولا فرق بن أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجراً أو شجراً أو ملكاً أو شيطاناً كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية. وبين أن يكون إنساناً من الأحياء أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم يعلم هذا ويقربه فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد وللحي كما يكون للميت".

إلى أن قَال: "وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن

1 انظر: معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، تأليف العلامة المحقق حسين بن مهدي النعمي، ص169-185.

2 الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص18.

ص: 92

إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، فالاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريباً منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد أو قريبا من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الَّذي يعتقده.

وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع أو استدفاعه لضر قائلا يا فلان افعل لي كذا وكذا وعلى الله وعليك وأنا بالله وبك.

وأما التقرب للأموات فانظر ماذا يجعلونه من النذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء.

(فإن قلت) إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه (قلت) وهكذا كانت الجاهلية؛ فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الَّذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه

ص: 93

سابقا"1.

قلت: الشيخ الشوكاني هنا يخالف السلف الصالح فيجيز التوسل بذوات الصالحين، والصواب: عدم جوازه وقد يصل إلى البدعة - والله أعلم-.

ونعود إلى كلام الإمام الشوكاني فيقول: (ولكن؛ من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك، والمتوسل به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح ولا تعظيم ولا اعتقاد؛ لأن المدعو هو الله سبحانه وهو أيضاً المجيب ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكاً أو استقلالاً. ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوي الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه يا فلان منادياً لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه، ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالاً فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من

1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الثالث الفتاوى رقم 14 ص 68- 69.

ص: 94

قولهم يا ابن العجيل يا زيلعي. يا ابن علوان. يا فلان وهل ينكر هذا منكر أو يشك فيه شاك؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم حتى إنهم في حرم الله ينادون يا ابن عباس. يا محجوب. فما ظنك بغير ذلك - فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام

فإنا لله وإنا إليه راجعون".

وبعد أن يقرر الإمام الشوكاني أن ما يفعله القبوريون من الدعاء والاستغاثة والتقرب بأنواع القرب إلى غير الله تعالى من الأموات وغيرهم أنه هو الشرك. ولا يتفطن له أهل العلم لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس، من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين، ويوقدون في المشهد الشموع ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون

ص: 95

لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت، والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والإلتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف النحائر، فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه وإذا سمع من يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه لا يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاق، وتعاودته العصور، وتناوبته الدهور، وهكذا كل شيء يقلد الناس أسلافهم ويحكمون العادات والتقاليد المستمرة، وبهذه الذريعة الشيطانية والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي عن يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم وأنسوا إليه حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم،

ص: 96

ونالوا ذلك المرشد بكل المكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهكذا كثير موجود في كل فرقة من القرق لا ينكره إلا من هو منهم في غفلة"1.

كلام حافظ وهبة:

يقول: "كانت نجد - من الوجهة الدينية - كسائر الأمصار الأخرى: مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافى مع أصول الدين الصحيحة. فقد كان كثير من القبور التي تنسب إلى الصحابة يحج الناس إليها. ويطلبون منها حاجاتهم، ويتوسلون بالمقبورين إلى دفع كروبهم. فكانوا في الجبيلة يؤمون قبر زيد بن الخطاب لتحسين حالهم وإجابة ملتمسهم، كما كان أهل الدرعية التي صارت فيما بعد معقل التوحيد ومقر حكم آل سعود - يضرعون إلى مثل هذه القبور لمثل هذه الأغراض. وأغرب من ذلك توسلهم بفحل النخل في بلدة (منفوحة) واعتقادهم أن من تؤمه من العوانس تتزوج لعامها. فكانت من تقصده تقول (يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبل الحول) وكان في الدرعية غار يقدسونه ويزعمون أنه كان ملجأ لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة، واتخذت في أحد الجبال الصخرية مأوى لها فانشق لها الكهف بمعجزة لتأوي إليه.

فهذه الروايات تكشف عما كانت عليه نجد من العقيدة الدينية

1 كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 18- 20، ص 26- 29.

ص: 97

الفاسدة.

ومن حيث السياسة:

فقد كانت ولايات العرب منقسمة إلى ولايات عديدة، يحكم كل واحدة منها أمير لا تربطه وجاره أية رابطة.

ومن أشهر هؤلاء الأمراء بنو خالد في الأحساء، وآل معمر في العيينة، والأشراف في الحجاز، وآل سعود في الدرعية، والسعدون فيما بين النهرين، وغيرهم.

وقد كان سكان بلاد العرب، - وهم الحضر - في حروب دائمة مع البدو سكان البادية، وكذلك الأمراء على قدم الاستعداد عندما تسنح الفرص للتعدي على جيرانهم إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد.

أما من حيث الأحكام: فلم يكن هناك قانون أو شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم1.

كلام الكاتب الأمريكي لوثورب ستودارد:

وإذا ما تجاوزنا أمثال هؤلاء من علماء المسلمين فإننا نجد ما يقوله المنصفون من غيرهم مطابقاً لهذه الأقوال الصادقة في وصف البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي أسلفنا أمثلتها، ونسوق فيما يلي مثالاً لأقوال المنصفين، هو ما يقوله لوثورب ستودارد الأمريكي، في

1 جزيرة العرب في القرن العشرين، ص 319- 320.

ص: 98

كتابه، (حاضر العالم الإسلامي) بترجمة الأستاذ عجاج نويهض، وتعليقات شكيب أرسلان.

ففي الجزء الأول في الفصل الأول تحت عنوان: (اليقظة الإسلامية) ما نصه: "في القرن الثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فأربد جوه وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاً من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشي ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين، كسلطان تركيا

" إلخ.

إلى أن قَال: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة، سجفاً من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد من الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين، يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبون في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشْرب

ص: 99

الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهُتِكَت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة، والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه النبي1 على من استطاعه ضرباً من المستهزءات، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين وهبطوا مهبطاً بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدهى الإسلام لغضب، وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان" اهـ.

وعند ذلك علق الأمير شكيب أرسلان على وصفه هذا للعالم الإسلامي بقوله: "لو أن فيلسوفاً نقريساً من فلاسفة الإسلام أو مؤرخاً عبقرياً بصيراً بجميع أمراضه الاجتماعية، أراد تشخيص حالته في هذه القرون الأخيرة، ما أمكنه أن يصيب المحز، وأن يطبق المفصل تطبيق هذا الكاتب الأمريكي ستودارد"2.

إقرار خصوم الشيخ بالانحراف:

ثم إذا التفتنا إلى غير المنصفين نجد أن خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ممن يزعمون أنهم علماء لا ينكرون حالة الناس الدينية السيئة ولا السياسية، ولا ينكرون وجود القباب على القبور، ووجود تقديس أشجار

1 هكذا قَال الكاتب الأمريكي والحقيقة: أن الحج فرضه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

2 انظر: حاضر العالم الإسلامي، ط الحلبي، 1352هـ، ج1/259-260.

ص: 100

وأحجار وغيران ونحوها، ووجود أولياء مزعومين، ووجود من يدعو مثل ذلك من دون الله وينذر له ويذبح ويتقرب إليه بأنواع من العبادة لا ينكرون عموم البلوى بهذه المظاهر المنحرفة في نجد وفي غيرها بل يؤكدونها ويقررون أن السواد الأعظم عليها تبريراً لها، إنهم يحاولون التماس مشروعيتها وتسويغها وتخطئة الشيخ بل تضليله في إنكارها كقولهم: إن الصالحين لهم شفاعة تطلب منهم أمواتاً وأحياءً وكقولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة فيدعونه ليتوسط لهم عند الله ويشفع فيجيب دعاءهم ويقربهم، وكقولهم: إن الشرك لا يتصور وقوعه في بلاد المسلمين، وإن المسلم لا يرتد مهما عمل، فإذا قَال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو دعا الأولياء واستغاث بهم في كشف الضر!، ومثل قولهم: المعين لا يكفر، ونحو هذا من تبريرات فاسدة وتلبيسات قبيحة ولو كانت غربة الدين غير واقعة وانحرافات الأكثر غير صحيحة لكان هؤلاء المعارضون أسرع الناس بياناً وتقريراً لشيوع الإسلام وتأريخاً له، كيف لا؟ وهم الحريصون على تفنيد أقوال الشيخ وتسفيه حركته، لكن الواقع بهتهم، والحال فضحهم، فراحوا يسوغون ويؤولون ويلتمسون المعاذير، ويحتجون بالآباء والأجداد، والتقاليد والعادات، وموضوعات الحديث وضعيفها، ومشتبهات القضايا والمقولات، تاركين محكم الأدلة، وواضح الآيات، لأغراض في نفوسهم، وشهوات في صدورهم، وأمراض في قلوبهم.

وكيف نذهب بعيدا، وقد أنكر علماء السنة العدول، ما شهدوا

ص: 101

عليه من حوادث حدثت في الدين، ووقعت بين المسلمين، وبين أيدينا مصنفاتهم منذ القديم من الزمان، يفندون هذا الواقع المؤلم، وينكرونه، ويعينونه بالإنكار والإبطال، مثل تعظيم القبور، وبناء القباب عليها والمشاهد، واتخاذها مساجد ومعابد، وعبادة أهلها من دون الله بأنواع من العبادة، كدعائها والذبح لها والتقرب إليها بأنواع القرابين والصدقات.

ومن هؤلاء الأئمة: محمد بن وضاح القرطبي (197-286هـ) في كتابه البدع والنهي عنها، ومحمد بن سحنون (202-256هـ) وأبو زكريا، يحيى بن عون، المتوفى سنة 298هـ في الرد على أهل البدع، وكذلك الأئمة الأربعة يردون على أهل البدع وأتباعهم كذلك، فهذا الإمام أحمد في (رده على الجهمية والزنادقة) ومن أتباعه ابن تيمية وابن القيم الحنبليان، وردودهم شهيرة، والشيخ قاسم بن قطلوبغا ولد سنة 802هـ وتوفى سنة 879 هـ ويعرف بقاسم الحنفي. كيف كان رده على أهل البدع بدعهم؟ خصوصا في شرحه كتاب درر البحار، للقونوي الحنفي في اختلاف المذاهب الأربعة1.

وهذا الإمام الطرطوشي المتوفى ما بين سنتي (520-525هـ) من المالكية في كتاب: (الحوادث والبدع) الَّذي نشر بتحقيق، محمد الطالبي، وطبعته دار الأصفهاني بجدة.

1 انظر: الضوء اللامع، للسخاوي، ج د/ 184-190، والفوائد البهية في تراجم الحنفية، للكنوي، ص99.

ص: 102

وأبو شامة المتوفى سنة 665هـ من الشافعية، في كتابه:(الباعث في إنكار البدع والحوادث) والشاطبي في كتابه (الاعتصام) ومحي الدين البركوي الحنفي في رسالته التي ألفها: (في زيارة القبور) .... وغيرهم من العلماء، ألفوا رسائلهم، وأنكروا ما وقع من الحوادث، واشتد نكيرهم على غلاة القبور، حتى نسبوا أعمالهم إلى الشرك الأكبر والكفر. وماتوا قبل أن يخلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وقد ذكر غالب هؤلاء العلماء وأمثالهم أن الشرك عم الابتلاء به في زمانهم وصاحوا بأهله من أقطار الأرض وذكروا أن الدين عاد غريبا1.

ولننظر ما قرره الفقهاء من كل مذهب، من نواقض الإسلام في باب أحكام الردة مما يدل على أن هذه الناحية لها معنى واقعي، ليس من باب الخيال بعيدا عن الأحداث الواقعة لأن ذلك ليس من شأن فقهاء المسلمين، بل شأنهم مواجهة الأحداث بأحكام فقهية من الإسلام، وكل أولئك الفقهاء العلماء يعالجون ما حدث في زمانهم، ولاشك أن البلاء ازداد سوءاً، كلما مر الزمان من بعدهم خاصة في أول القرن الثاني عشر الهجري.

وقد أطلت النفس، في بيان صفة البيئة، قبيل ظهور الشيخ، لبيان أن الشيخ رحمه الله ظهر على بيئة عاد الإسلام فيها غريبا، ومن يمارس أعمال

1 انظر: روضة ابن غنام ج1/ 74-95، ص115-121.

ص: 103

الشرك هم الأكثر الغالب خلافا لما يذهب إليه الدكتور العثيمين من أن ابن غنام متحمس للدعوة وابن بشر كذلك فكان هذا التحمس من الأمور التي دفعتهما إلى إصدار أحكام على الحالة التي كان عليها النجديون من حيث العقيدة تنقصها الدقة، وأنه من المقارنة بين المصادر المختلفة يبدو أن الحالة الدينية التي كانت سائدة في نجد آنذاك لم تكن بالصورة التي أظهرتها بها المصادر المؤيدة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب1 - وقال بالحرف الواحد:(ربما كان تحمس ابن غنام لهذا الدعوة المباركة من الأمور التي دفعته إلى تعميم حكمه على أهل نجد قبل ظهورها ليوضح مقدار فضلها)2.

وقال عن ابن بشر أيضا: "وابن بشر كما هو واضح من تأمل تأريخه كان أيضا من المتحمسين لدعوة الشيخ وأنصارها، وموقف كهذا قد يؤدي إلى إصدار أحكام تنقصها الدقة) 3.

وهذا غير صحيح فابن غنام وابن بشر لم يصدرا حكما عاما وهذا واضح للقارئ من تاريخهما كما بيناه في النقل عنهما آنفا، ولم ينفردا بما ذكراه عن حالة نجد وغيرها الدينية والسياسية قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد

1 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته، وفكره، للدكتور العثيمين، تحت بحث الحالة الدينية في نجد، بـ: العقيدة وأركان الإسلام ص19، 20، 21.

2 مجلة الدارة ع 3، س 4 شوال 1398 هـ.

3 المصدر السابق.

ص: 104

الوهاب كما بيناه من كلام الصنعاني والبسام وغيرهما قبل قليل. ولم ينكر أحد من ابن غنام وابن بشر، أو غيرهما، وجود علماء في الفقه ووجود مسلمين، غير أن وجودهم لم يقض على اعتقاد أكثر الناس بالطواغيت أمثال تاج وشمسان وحسين وإدريس، وبالأشجار والأحجار والقبور والقبب وتقديس الصالحين والأولياء وعبادتهم كما قضى عليه وجود الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمناصرة الأمير محمد بن سعود في نجد وما حولها. أما ما بعد فلا يزال؛ كما هو الشأن في مصر، وغيرها إلى يومنا هذا، فوجود العلماء فيها أهل الدراية والتحقيق لم يقطع المظاهر المنافية للإسلام من مجتمعهم.

وقد سبقني إلى هذه الملاحظة الأستاذ صالح محمد الحسن في تعقيبه حول مقال الدكتور العثيمين في (مجلة الدارة) فقد لاحظ أن الدكتور العثيمين حين بحث الناحية العقيدية ذلك الزمن في مقاله أنهى تحليله بأن هناك جهلة يمارسون أعمالا شركية لكن عدد هؤلاء كان فيما يظهر قليلا، وأن هذه النتيجة تشكيك في الدور الَّذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من محاربة مظاهر الشرك والعودة بالأمة إلى الكتاب والسنة عقيدة وسلوكا ومنهاج حياة، وتظهر الشيخ محبا للزعامة لأن الناس كانوا على العقيدة السليمة إلا النزر اليسير منهم1.

1 مجلة الدارة، ع 1، س 5 ربيع الثاني 1399هـ ص 352-358.

ص: 105