الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ِِِ
الفصل الثالث: عقيدة الشيخ في التوحيد
حيث إِن الكلام في التوحيد يكون من مقامين، مقام الخبر، وهو الذي يترتب عليه توحيد المعرفة والإثبات، أي التوحيد العلمي.
ومقام الطلب وهو الذي يترتب عليه توحيد القصد والإرادة، أي التوحيد العملي.
والعلم قبل العمل وهو إمامه وقائده، وبقدر نفع العلم يكون صلاح العمل كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد: 19) .
وقال الشيخ: قال البخاري رحمه الله تعالى: باب العلم قبل القول والعمل واستدل بهذه الآية، ثم قال الشيخ: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل1.
ولذا فقد بدأنا هذا الفصل بالجانب الخبري العلمي من جانبي التوحيد، وهذا الجانب العلمي هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والصدق والكذب، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، ص 185. وانظر: صحيح البخاري ج1 ص 25. وانظر: 1/282 من هذا البحث.
2 انظر: أول التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
توحيد المعرفة والإثبات:
يعتقد الشيخ في هذا الباب أن توحيد الله تعالى هو المبني على اعتقاد أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وهذا هو توحيد الربوبية وواحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له 1 وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات كلاهما من باب واحد هو توحيد المعرفة والإثبات وهو التوحيد العلمي الخبري. وهذا التوحيد هو الأصل ولا يغلط في الإِلهية إلا من لم يعطه حقه" 2.
وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو.
وهذا حق3، وهو الذي أقر به الكفار - كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) .
ولكنهم كفروا حيث لم يعبدوا الله وحده كما هو مقتضى شهادتهم بالربوبية كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
1 إبطال التنديد، للشيخ حمد بن عتيق ص 6.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 121.
3 المرجع السابق رقم 21ص 145.
زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
(الزمر: 3) .
وتوحيد الربوبية ثابت مشهور لا يحتاج إلى دليل بل هو الدليل على توحيد الطلب كما أَنزل الله في محكم كتابه يحتج به على من كفر من خلقه - وتقدم ذكر قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} الآية.
أما توحيد الأسماء والصفات فيقول الشيخ: وأما توحيد الصفات فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات، والكفار أعقل ممن أنكر الصفات 1. ذلك أن الكفار يزعمون أن الله هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده فهم أثبتوا أن الله يتصف بأنه معبود لكن نازعوا في توحيد العبادة فقالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ولم يرضوا أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم عرفوا أنها تعني توحيد العبادة، والمتكلمون أضلهم كلامهم عن معرفة الإله فقالوا إنه القادر على الاختراع وأن الألوهية هي القدرة فإذا أقررنا بذلك فهو معنى قوله لا إله إلا الله، ثم استحوذ عليهم الشيطان فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات فنفوها وسموا من أثبتها مجسما ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة منها أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وأن معنى الإله هو المعبود فإذا كان هو سبحانه متفرداً به عن جميع المخلوقات وكان هذا وصفاً صحيحاً
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، رقم 7 ص 42.
لم يكذب الواصف به فهذا يدل على الصفات فيدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات 1.
"فمن أنكر الصفات فهو معطل والمعطل شر من المشرك ولهذا كان السلف يسمون التصانيف في إثبات الصفات كتب التوحيد وختم البخاري صحيحه بذلك قال كتاب التوحيد ثم ذكر الصفات باباً باباً. فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيدكم هو التعطيل ولهذا آل القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى"2.
ومن المعلوم لدى المسلمين أن الله تعالى أعلم بنفسه من غيره فإذا سمى نفسه ووصفها فذلك هو الفيصل في المسألة، وكذلك رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالله الذي أرسله من غيره فيصار إلى ما بينه من أسماء الله وصفاته ولا يعدل عنه، هذا مع شهادة العقل الصريح لما ثبت بالنقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن العقل الصريح هو الموافق للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الميزان مع الكتاب 3.
وبناء على ما قدمنا فإن الشيخ يعتقد أن مما دل عليه القرآن الكريم من الأسماء الحسنى التي سمى الله بها نفسه في كتابه وتعرف بها إلى خلقه ما
1 الدرر السنية ط2 ج1 ص 70.
2 الدرر السنية ط2 ج1 ص 70.
3 الدرر السنية ط2 ج2 ص 8.
يلي: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور، إلى آخر ما ورد في القرآن منها وله الأسماء الحسنى سبحانه تعالى عما يشركون 1.
وأن الله أمرنا بأن ندعوه بها ونترك من عارض من الجاهلين الملحدين - كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) .
والإلحاد فيها هو الإشراك حيث سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، وأدخلوا فيها ما ليس منها، كما ورد عن ابن عباس وعن الأعمش2.
ومن بيان الله سبحانه وتعالى في كتابه أن وصف نفسه فذكر من صفاته الألوهية والربوبية والملك في أول سورة في المصحف الفاتحة كما ذكرها في آخر سورة في المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر ما يطرق سمعك
1 انظر: الدرر السنية ط2 ج3 ص220 - ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية، مطالع الخطب يستفتحها بالأسماء الحسنى، ويختم بها.
2 المرجع السابق باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ص 124 والقسم الخامس، الشخصية رقم 33 ص ص 222، 223.
من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفة الله بها وأنه إلههم الذي لا إله إلا هو، وربهم الّذي لا رب سواه، وأنه ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده المدبر لهم كما يشاء، الذي له القدرة والسلطان يخفض ويرفع ويصل ويقطع ويعطي ويمنع لا شريك له ولا لهم ملك من دونه يهربون إليه إذا دهمهم أمره ولكن إليه المصير فهو {مَلِكِ النَّاسِ} 1.
وفي سورة الفاتحة معرفة الله على التمام ونفي النقائض عنه تبارك وتعالى. وفيها معرفة الإنسان ربه ومعرفة نفسه، فإنه إذا كان هنا رب فلابد من مربوب، وإذا كان هنا راحم فلا بد من مرحوم، وإذا كان هنا مالك فلابد من مملوك، وإذا كان عبد فلا بد من معبود، وإذا كان هنا هاد فلابد من مهدي، وإذا كان هنا منعم فلابد من منعم عليه، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلابد من غاضب، وإذا كان هنا ضال فلابد من مضل - فهذه السورة تضمنت الأولوهية والربوبية ونفي النقائص عن الله عز وجل 2.
وفي مقارنة يعقدها الشيخ بين أوَّلِ سورتي اقرأ والمدثر فيقول:
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص - ص 11- 15، ص 387، مختصر زاد المعاد ص 306 وملحق المصنفات الخطب المنبرية، ص 58- 60.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثامنة ص 384.
في أول سورة اقرأ: معرفتك بنفسك وبربك - وأول المدثر: فيه العمل المختص والمتعدي.
وفي أول سورة اقرأ: الربوبية العامة - وأول سورة المدثر: الربوبية الخاصة.
وفي أول اقرأ: فضل الله عليك - وأول المدثر: حقه عليك.
وفي أول اقرأ: ذكر بدء الخلق - وأول المدثر: ذكر الحكمة فيه.
وفي أول اقرأ: فيه أصل الأسماء والصفات وهي العلم والقدرة - وأول المدثر: فيه أصل الأمر والنهي وهو الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك 1.
وفي سورة هود ذكر الله في صدرها من العلوم علم معرفة الله بأنه حكيم خبير وأنه قدير، ثم ذكر الله شيئاً من تفصيل العلم بأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أنه عليم بذات الصدور وإن ثنوا صدورهم ليستخفوا منه واستغشوا ثيابهم، وذكر شيئاً من تفصيل في القدرة في قوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ومن معرفة الله ذكر خلق السموات والأرض في ستة أيام وكون عرشه على الماء. ومن بيان حكمته سبحانه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، مقارنة ص 366، 367.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 115، 116.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذه بخطامها فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" أخرجاه (يعني البخاري وَمُسْلِماً) .
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن إستعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته " رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وغير ذلك من نصوص صفات الله تبارك وتعالى التي وردت في السنة المطهرة وأورد الشيخ كثيراً منها في مؤلفه أصول الإيمان، ولم يضمنها بتفسير ولا استنتاج، بل أورد النصوص معزوة إلى مصادرها وبوب واختار وقسم، واكتفى بذلك لوضوحها فيمرها كما جاءت على ظهرها من غير تحريف ولا تكييف ومن غير تعطيل ولا تمثيل1.
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 232- 242، والقسم الثالث، الفتاوى ص 44. والدرر السنية، ط2، ج 3 ص 207، 208، وص 185، 186، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 130 - 135.
ويرى الشيخ أنه لا بد في معرفة الله وأسمائه وصفاته من الإثبات والنفي معاً كما جاء في القرآن وعن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعن المرسلين قبله عليهم الصلاة والسلام وهذا شَأْن أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الرسل وينفون ما نفته الرسل فلا يتبعون الهوى والظن ولا يعرضون عما جاءت به الرسل بل يأخذون به ويعملون به ويهدون ويعدلون 1.
ويرى الشيخ أن أسماء الله الحسنى دالة على صفاته وأنه يستدل بها على لازمها وهو عبادته كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) .
ففي هذه الآية: أمر بتقوى الله وهي المسألة المطلوبة والقضية المستدعاة ثم استدل على هذه القضية بأن الله سميع عليم فهذا دليل من
أسماء الله يقتضي تقواه.
وكما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18) .
وكذا الاستدلال بالأسماء والصفات على الأفعال وتعليل الأفعال بها
1 ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، الأنعام ص 106، الأعراف ص 77، 78، والنحل ص 209، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 93 ص 82، والقسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 339.
(الزمر: 53) .
وفي قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109) .
والاستدلال بالقدرة على ما يستشكل وما لا يظن وقوعه أيضاً وتنزيه الله عن مضاد الحكمة في جميع أفعاله كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 1 (الحجر: 85) .
وإذا نظرنا إلى مطالع خطب الشيخ يتضح استدلاله بالأسماء الحسنى والصفات العلية والأفعال الحكمية لله تبارك وتعالى على ما تدل عليه من المعاني الشريفة الكثيرة 2.
مثل قوله: "الحمد لله الكريم الذي أسبغ نعمه علينا باطنة وظاهرة، الرحيم الذي لم تزل ألطافه على عباده متوالية متظاهرة، العزيز الذي خضعت لعزته رقاب الجبابرة والقوي المتين الذي أباد من كذب رسله من الأمم الطاغية الكافرة"3.
وقوله: "الحمد لله اللطيف، الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرؤوف الذي برأفته تتواصل النعم والفوائد وبحسن الظن به تجري الظنون على
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجرات ص 350 والبقرة ص 27، والزمر ص 319، 336 والحجر ص 195.
2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية.
3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 15.
أحسن العوائد، وبالتوكل عليه يندفع كيد كل كائد" 1.
وقوله: "الحمد لله الكريم المنان، العزيز ذي السلطان خلق الإنسان من تراب ثم قال له كن فكان يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويصل ويقطع ويشتت ويجمع. كل يوم هو في شأن. يجيب المضطر إذا دعاه. ويغفر للمسيء إذا تاب مما أتاه ويجبر المنكسر إذا لاذ بحماه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فينادي هل من سائل فيعطى سؤله، وهل من تائب فيتاب عليه، وهل من مستغفر فيغفر له ما جناه"2 وهكذا.
وليس استدلاله هذا مقصوراً على خطبة بل هو يستدل بأسماء الله وصفاته وأفعاله وأحكامه في عقيدته السلفية وعلومه النافعة وأعماله الإصلاحية كلها.
يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في جوابه لما سئل عن عقيدة الشيخ: "إن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، فلا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان إثباتاً بلا تشبيه،
1 المرجع السابق ص 46.
2 المرجع السابق.
وتنزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك فكان الباب عندهم باباً واحداً قد اطمأنت به قلوبهم وسكنت إليه نفوسهم"1.
فهو يثبت لله تعالى الأسماء الحسنى، وصفات الكمال المطلق، الذي لا يشاركه فيه مشارك، وينزهه عن النقص والعيب والسوء والمسبة، وينفي أن يكون له شبيه أو مثيل أو نظير، وينفي خصائصه عما سواه، كما ينفي عنه ما لا يجوز عليه، ولا يلحد في صفات الله ولا في أسمائه بل يثبت ما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفي ما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في القرآن والسنة، ويرى أن الاقتصار على الوحي هو البصيرة في الاعتقاد والعمل والنذارة 2.
1 الدرر السنية، ط2 ج3 ص 208.
2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 8 ورقم 20
ص 130-135 ورقم 33 ص 222- 223 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد ص 14، وباب قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ص 50، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20 وباب قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ص 124 وباب لا يستشفع بالله على خلقه ص 145 ورسالة رقم 1 مسائل الجاهلية ص 339، 343 ورسالة رقم 8 ص 384 والقسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 56، 57، الأعراف ص 77، 88 والحجر ص 195 والنحل ص 209 والقصص 291 والزمر ص 318 والحجرات ص 354 ومختصر زاد المعاد ص 35، 36 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 93 ص 82 ورقم 102، 103 ص 95، 96 رقم 109 ص 104 ورقم 116 ص 119- 121.
ويرى أن كل ما ورد في القرآن والسنة من الأسماء والصفات كله حق، وفي غاية الحسن والكمال. وأن إثبات ذلك كله توحيد وإيمان، وأن جحد شيء منه هلاك كما ورد عن ابن عباس وَعَدَمٌ للإيمان، وأن احترام أسماء الله وصفاته وتغيير الاسم لأجل ذلك كما ورد عن أبي شريح وترك التحديث بما لا يفهم السامع حتى لا يفضي إلى تكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك من تحقيق التوحيد.
أما الاستهزاء بشيء منها فهو كفر ونفاق كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 65) .
وكما ورد عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة أن سبب نزولها مقولة رجل في غزوة تبوك 1.
وأما الألفاظ التي لم يرد إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة كلفظ
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات ص 106، 107 وباب التسمي بقاضي القضاة ونحوه ص 115 وباب احترام أسماء الله ص 116، وباب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ص 117، 118، والقسم الرابع، التفسير، الحجرات ص 354، والدرر السنية ط2 ج3 ص 185، 186، وص 207، 208، وج 1 ص 126.
الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك فهذه الألفاظ - يرى الشيخ - أنه لا يطلق إثباتها ولا نفيها وينقل الشيخ عن ابن تيمية قوله ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي.
فالصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت عما سكت الله وسكت رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، من أثبتَ بدَّعوه ومن نفى بَدَّعُوه.
وينقل الشيخ كلام أبي الوفاء بن عقيل قال أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت 1.
ويعتقد الشيخ - رحمه الله تعالى - في باب توحيد المعرفة والإثبات بأن الله هو الإله الذي لا إله إلا هو رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، رب الناس ملك الناس إله الناس. الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد كما في سورة الإخلاص، قل هو الله أحد، وهو معبود الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، وليس معبود الكافرين المخالفين
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 131، 132.
كما في سورة (قل يا أيها الكافرون) .
فـ"الله" علم على ربنا تبارك وتعالى، والإله المعبود بحق كما في قوله تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (الأنعام: 3) أي المعبود في السموات المعبود في الأرض مثل قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} والإلهية هي الجامعة لصفات الكمال كلها.
و"الرب" هو المعبود، الخالق الرازق، المالك المدبر للأمر والمتصرف فيه، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
و"العالمين" اسم لكل ما سوى الله، تبارك وتعالى، فكل ما سوى الله من ملك ونبي وإِنسي وجني وغير ذلك مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج إليه.
"الرحمن الرحيم" اسمان لله تعالى مشتقان من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر مثل العَلَاّم والعليم، قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر من الآخر رحمة.
و"مالك يوم الدين" وفي قراءة أخرى "ملك يوم الدين"، خصص الملك بذلك اليوم مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره لأن ذلك اليوم هو يوم الجزاء والحساب والدينونة {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، فالتخصيص لهذه المسألة الكبيرة، ففي الدنيا عمل بالتوحيد أو عمل
بضده وفي الآخرة لا عمل ولكن جزاء كل يجازيه مالك يوم الدين بعمله، ويدينه به إن خيراً فخير وإن شراً فشر 1.
"رب الناس" أي الذي خلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته.
"ملك الناس" أي الذي قهرهم وأمرهم ونهاهم وصرفهم كما يشاء بملكوته.
"إله الناس" الذي استعبدهم بالإلهية الجامعة لصفات الكمال كلها2.
و"الأحد" الذي لا نظير له فقوله "أحد" نفي النظير والأمثال.
و"الصمد" الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في السؤدد. فقوله:"الصمد" فيه إثبات صفات الكمال.
وفي قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} نفي الصاحبة والعيال.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 7، 8 والقسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 11- 15 والناس ص 387، 388 والقسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 186- 187، 370، ومعنى الطاغوت ص 376 والقسم الثالث، الفتاوى، المسألة 13 ص 56 وملحق المصنفات. الخطب المنبرية ص 60، والقسم الخامس، الشخصية رقم 7 ص 44.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الناس ص 387، 388.
وفي قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} نفي الشركاء لذي الجلال1.
ومعنى أنه (معبود الرسول صلى الله عليه وسلم وليس معبود المشركين كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فنفى عنهم عبادة معبوده، لأنهم إذا أشركوا لم يكونوا عابدين معبوده، وأيضاً لو عينوا الله بما ليس هو وقصدوا عبادة الله معتقدين أنه هو كأصحاب العجل، والذين عبدوا عيسى والدجال، والذين يعبدون أهواءهم، ومن عبد من هذه الأمة غير الله فهم عند أنفسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود ليس هو الله، وإِن قصد العابد الله، وأيضاً إذا وصفوه بما هو بريء منه كالصاحبة والولد وعبدوه كذلك فهو بريء من هذا المعبود، فإنه ليس هو الله وتنصرف عبادتهم إلى غير الله كما ينصرف سب قريش عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش يسبون مذمما؟ ورسول الله ليس مذمماً ولكن هو محمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك عبادة أمثالهم واقعة على موصوفهم، أيضاً ومن لم يؤمن بما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول، وقس على هذا2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الإخلاص 383 ومختصر زاد المعاد ص 35، 36.
2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة عن ابن تيمية مسألة رقم 82 ص 57.
ويثبت الشيخ أن الله تعالى سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، وقد أحاط سمعه بجميع المسموعات.
ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وقد أحاط بصره بجميع المبصرات1.
ويثبت الشيخ أن لله تعالى الوصف بأنه عالم الغيب والشهادة2، له غيب السموات والأرض3، وقد تفرد بعلم الغيب4، وسع علمه بكل شيء، وأحاط علمه بكل شيء5، أحاط علمه بالجزيئات والكليات6، وبالسر والجهر7، وبالحد والمحدود8، يعلم خفيات السرائر9، ويحصي
1 تاريخ نجد للألوسي ص 42، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، العلق ص 372.
2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 21، 22.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 248.
4 المصدر السابق، النحل ص 220.
5 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 53، 54 والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 325 والكهف ص 252 والبقرة ص 22.
6 المصدر السابق، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 70، والدرر السنية ص 2ج 2 ص 3.
7 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 204.
8 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 63- 64.
9 المرجع السابق ص 64- 66.
خطرات الفكر1، لا ينسى ولا يضل2، وهو معلم كل علم وواهبه3، فتح على عباده من حقائق المعارف ولطائف العلوم ما هداهم به إلى صراطه المستقيم4 وهو الأعلم سبحانه على الإطلاق5.
يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حَبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ولا متحرك ولا ساكن إلا وهو يعلمه على حقيقته، يعلم السر
وأخفى، إنه حكيم عليم6.
والشيخ يعتقد أن العلم والقدرة هما أصل الأسماء والصفات لله تعالى7، ويثبت الشيخ لله تعالى القدرة التامة8 المطلقة العظيمة على كل
1 المرجع السابق ص 30- 32.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، قصة موسى وفرعون ص 299.
3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 135 ص 196، 197 ورقم 133 ص 183، 184.
4 المصدر السابق، الخطب المنبرية ص 25- 27 ومسائل ملخصة رقم 79 ص 55، والقسم الأول، التوحيد ص 55 والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 327.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 151، 181، 196، 329، 352، 369، 381، 384، 389، 392.
6 تاريخ نجد للألوسي ص 42، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص 187.
7 مؤلفات الشيخ، القسم، التفسير ص 366، 367.
8 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، الزمر ص 325، والفاتحة ص18، والأنعام ص 58.
شيء، فلا يستبعد الإنسان معها شيئاً1، ويقول الشيخ: إن قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 165) . فيه إِعلام بعموم قدرته سبحانه مع عدله2.
وفي كتاب التوحيد للشيخ - باب ما جاء في المصورين - أورد الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" أخرجاه (يعني البخاري ومسلِماً) - قال الشيخ: فيه التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة)3.
ويعتقد أن الله سبحانه هو القادر على تنفيذ ما قدره وأراده4، وأن الله فعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدودة، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور5، وأن أول ما خلق الله القلم، وأنه جرى بالمقادير في تلك
1 المصدر السابق، النحل ص 220 والقصص 282.
2 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 243، 244.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 138، 139.
4 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 21، 22.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 9.
الساعة بما هو كائن إلى قيام الساعة1.
قال الشيخ: "وفي ذلك دليل على كمال علم الرب2 وقدرته وحكمته وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه".
وقال الشيخ: قال ابن القيم: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القَدَر السابق3 لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال ما كنت بأشد اجتهاد مني الآن وقال أبو عثمان النهدي لسلمان لأنا بأول الأمر أشد فرحاً مني بآخره، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها"4.
ولا يجوز أن يظن بقدر الله ما لا يليق بالله ولا يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق وعدله الكامل، فمن أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب ما جاء من منكري القدر
ص 135- 136، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 23 وأصول الإيمان باب الإيمان بالقدر ص 247. والقسم الرابع، التفسير، البقرة ص 22 والأعراف ص 73، 78،84، 85 والزمر ص325،327، والحجر ص185.
2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الثالث الفتاوى المسألة السادسة عشر ص 75.
3 انظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات،، مسائل ملخصة رقم 29ص 25.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 246، 247.
يستحق عليها الحمد وزعم أن ذلك لمشيئة مجردة وأنه يضع الأشياء في غير مواضعها ويصيب بأقداره من لا يستحقها وليس لها بأهل فذلك ظن الذين كفروا.
قال الشيخ: "وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً"1.
ولذا لا يجوز أن يعترض بلو على قدر الله، كما فعل الذين قال الله عنهم:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (آل عمران: 154) . قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (آل عمران: 168) .
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهياً صريحاً كما في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد باب قول الله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} ص 133- 134. وملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 60، 61، 105.
فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان " 1.
قال الشيخ: في كتاب التوحيد وكتاب مختصر زاد العاد: فيه النهي الصريح عن قوله "لو " إذا أصابك شيء لأن ذلك يفتح عمل الشيطان، وأرشده إلى ما هو أنفع منها، وهو أن يقول:"قدر الله وما شاء فعل " وذلك لأن قوله: لو فعلْتُ كذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه كلام لا يجدي عليه فائدة، فإنه غير مستقبل لما استدبر، وغير مستقيلٍ عثرته بلو، وفي ضمنها أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر محال فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً وإن سلم ومن التكذيب بالقدر، لم يسلم من معارضته بلو. فإن قيل فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضا؟ قيل هذا حق، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه فإذا وقع، فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أن يستقبل الفعل الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، وهو مباشرة الأسباب فهي تفتح عمل الخير، وأما العجز، فيفتح عمل الشيطان، فإنه إذا عجز عما ينفعه صار إلى الأماني الباطلة ولهذا
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في اللو ص 130. وأصول الإيمان باب الإيمان بالقدر ص 247. وانظر: صحيح مسلم، القدر ج 4/ 2052.
استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، وهما مفتاح كل شر، ويصدر عنهما الهم والحزن، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال، فمصدرها كلها عن العجز والكسل، وعنونها "لو " فإن المتمني من أَعجز الناس وأفلسهم وأصل المعاصي كلها العجز فإن العبد يعجز عن أسباب الطاعات وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها، فجمع في هذا الحديث الشريف أصول الشر وفروعه، ومبادئه وعاداته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خصال، كل خصلتين قرينتان، فقال:"أعوذ بك من الهم والحزن " وهما قرينتان، فإن المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمراً ماضياً، فهو يحدث الحزن، وإما توقع مستقبل، فهو يورث الهم - وكلاهما من العجز، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن بل بالرضى والحمد، والصبر والإيمان بالقدر وقول العبد:"قدر الله وما شاء فعل " وما يستقبل بل يدفع بالهم، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا يكون له حيلة، فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه من التوحيد والتوكل والرضى بالله رباً فيما يحب ويكره، والهم والحزن يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر. انتهى بتصرف قليل1.
ويعتقد أن ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهد
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة كتاب التوحيد، باب ما جاء في اللو ص 130، 131، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 124- 125.
قلبه، والله بكل شيء عليم.
ويقول: قال علقمة بن قيس النخعي في معنى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم1، وهذا الأثر قال عنه مؤلف تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد للشيخ: رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح2.
ويعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت " وللبخاري ومسلم عن ابن مسعود مرفوعا "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"3.
ويعتقد أن الله تعالى إذا أراد بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، وأن عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط4.
ويفرق الشيخ بين إرادة الله القدرية وإرادته الشرعية والجعل القدري
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 96.
2 تيسير العزيز الحميد ص 453.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 96.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 96، 97 وانظر تيسير العزيز الحميد ص457، 460.
والجعل الشرعي فيقول: قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص:5-6) .
هذه الإرادة القدرية.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (القصص: 39-40) هذا الجعل القدري أيضا.
أما الإرادة الشرعية فهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} (الأحزاب: 23) وأمثالها.
وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} (المائدة: 103) وأمثالها - فهذا الجعل الشرعي1.
ويعتقد أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع وارتكاب المعاصي هو من هدي الكفار، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2 (النحل:35) وهو من طريقة إبليس والعياذ بالله - حيث قال محتجا على ربه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وليس له في
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص 282، وص294.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 208.
ذلك حجة ولا لأتباعه وإنما الحق هو قول آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا)1.
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148، 149) .
قال ابن كثير: قال الضحاك: "لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده "2.
وهؤلاء في هذه الآية يزعمون أن الله لما لم يحل - وهو القادر - بينهم وبين الكفر والشرك دل على أن هذا الكفر والشرك بإرادته الشرعية ورضاه، وهي حجة داحضة باطلة.
ومما استنبطه الشيخ من قصة آدم وإبليس في هذا المعنى قوله: "إنها تفيد المعنى العظيم المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وما في معناه من النصوص، وذلك مستفاد من صنع اللعين، فإنه مع علمه بجبروت الله وأليم عذابه، وأنه لا محيص له عنه، ويعرف
1 المصدر السابق، الأعراف ص 37، وص 85، وانظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 50 ص 34، 35.
2 تفسير ابن كثير، ط الاستقامة 1373هـ، ج 2 ص 186، 187.
من الأمور ما لا يعرفه كثير من أهل العلم، ومع ذلك لم يتب ولم يرجع، بل أصر وعاند، وطلب النظرة لأجل المعصية مع علمه بعقابه وعدم مصلحته من فعله، وهذا باب عظيم من معرفة الرب وقدرته، وتقليبه القلوب كيف يشاء، وتيسيره كل عبد لما خلق له فيفعله باختياره 1.
والله لا يرضى كفرهم وشركهم وإن كان سبحانه قادراً على الحيلولة بينهم وبينه، وقادراً على هدايتهم أجمعين، فليس لهم في قدرته سبحانه حجة. وإنما الحجة البالغة له على من عصى بسبب عصيانه، ومخالفته ما أراده الله منه شرعاً، وقد عصى وخالف بهواه ورضاه وعلمه بأن عاقبة عصيانه العذاب الأليم، كما أن عاقبة الطاعة المغفرة والرحمة والرضى.
ومع أنه سبحانه غني عن طاعة المطيع، فهو يرضاها لعبده ويسخط عليه معصيته وهي لا تضر إلا العاصي2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 96.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 320 - وانظر: ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 5 ص 34- 39، والقسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 65،118، 144.
والله غني بذاته لا تزيده طاعة مطيع، ولا ينقصه العطاء على سعة جوده ولا تضره المعاصي، يطعم ولا يطعم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القدوس السلام، المبرأ عن كل عيب وآفة ونقص1.
وهو العدل الحكيم لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، ولا يحب المسرفين، ولا يحب كل مختال فخور، ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وهو لا يظلم ولا يريد الظلم بل يتنزه عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب أخذه لأنه منزه عن الفقر والحاجة والجهل والخساسة لكونه الغني القوي الحكيم ويستجيب دعوة المظلوم، وليس بينه وبينها حجاب2.
ومعنى مكر الله بالعبد هو أن العبد إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه3، وهذا عدل يحمل عباده على سعة النظر ومراقبة العواقب في إعطاء الله النعم من الدنيا كالمال والولد والبيت الرفيع وعدم الاغترار بالرتبة وغزارة العلم وصلاح العمل، والكرمات وإجابة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 250 والزمر ص 325، وتاريخ نجد للألوسي ص 41، 42.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 79 ويوسف ص 154، وقصة موسى وفرعون ص 309، والكهف ص 250، وآل عمران ص 51، والقسم الأول، التوحيد ص 20، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 34.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، مسألة رقم 12 ص 52، 54.
الدعوات، فلا يأمن العارف مكر الله إِن هو اغتر بذلك كما فعل أبو لهب، والذي آتاه الله آياته فانسلخ منها1.
وأنه سبحانه لا يعجل لعجلة أحد حتى ولو كان رسولاً، فكيف يستعجله من يزعم أنه متبع، وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، ولا يضيع أجر المحسنين2، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، وطيب يحب الطيب ولا يقبل من العمل إلا الطيب3.
والله رحيم لا يقنط من رحمته إلا القوم الخاسرون ومن ذلك رحمته سبحانه بعبده فيما حجره عليه، وجعله العقوبات من رحمته بعباده، وقد يغفر للرجل بسبب يهيئه له وهو من أكره الأمور إليه، ذلك أن طبع الإنسان الطغيان إذا استغنى ولا يخرج عن طبعه إلا بفضل الله ورحمته4.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، تبت ص 382 والأعراف ص 86، 111، 112.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 180 والبقرة ص 27، 30، يوسف ص 157، 158.
3 المرجع السابق، مختصر زاد المعاد ص 10 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 121، 160، 163.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 75، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 118 ص 124، والتفسير، العلق ص 371، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص95.
فإنه هو الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم1، وحبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان2، ووعد الذين اتقوا ربهم بأن لهم غرفاً من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار، وعد الله، لا يخلف الميعاد فهذا وعد لا نظير له في القرآن 3، وهو الغفور الرحيم 4، رؤف بالعباد 5، إنما يدخلون الجنة برحمته 6، لطيف بهم 7، رفيق يحب الرفق 8، بلطفه تنكشف الشدائد وبرأفته تتواصل النعم والفوائد، وبحسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد9.
ويثبت الله الحكمة التامة فهو الحكيم وجميع أفعاله وثوابه وعقابه على قانون العدل والإِحسان10 كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص369.
2 المرجع السابق، الحجرات ص353.
3 المرجع السابق، الزمر ص325.
4 المرجع السابق، الزمر ص 336.
5 المرجع السابق، الحجرات ص 351.
6 المرجع السابق، الزمر ص 322، 343.
7 المرجع السابق، آل عمران ص 49.
8 المرجع السابق، قصة موسى وفرعون ص 297.
9 المرجع السابق، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 46، 47.
10 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 51 ص 35 وص 37، 38.
وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 (ص: 27) .
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
ومعنى أنه سبحانه حكيم أي لا يضع الأشياء إلا في مواضعها. فمن ذلك أنه ما جعل إبراهيم إماما إلا بعد ما أتم ما ابتلاه به.
قال الشيخ: "وسئل بعضهم أيما أفضل الابتلاء أو التمكين؟ فقال: الابتلاء ثم التمكين - وإذا كان يبتلى الأنبياء هل يفعلونه أولا؟ فكيف بغيرهم؟ 2.
وكان في تحويل القبلة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين، فأما المسلمون، فقالوا:"آمنا به كل من عند ربنا " وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم.
وأما المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا.
وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله.
وأما المنافقون، فقالوا: ما يدرى أين يتوجه؟ إن كانت الأولى حقاً فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على الباطل. وكثرت
1 المصدر السابق، القسم الأول، مسائل الجاهلية ص 344.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، البقرة ص 30 والأعراف ص 112. وانظر: مختصر زاد المعاد ص 298.
أقاويل السفهاء من الناس، ولما كان شأن القبلة عظيماً وطأ قبلها سبحانه بأمر النسخ وقدرته عليه وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ثم عقبه بالتوبيخ لمن تعنت على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وهو الواسع العليم فلعظمته وسعته وإحاطته فأينما ولى عباده وجوههم فثم وجه الله وغير ذلك من الموطئات.
وبين سبحانه أن تحويل القبلة إلى البيت الذي بناه إمام الناس فكذلك البيت إمام لهم وهو أفضل القبل وهم أفضل الأمم كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب، وخصهم بأفضل الشرائع والله ذو الفضل العظيم، وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة وليتم نعمته عليهم وليهديهم، وليرى من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه1.
ومن حكمته سبحانه قي تزين ما على الأرض ليبْلوَ عباده أيهم أحسن عملاً 2. والمبتلي هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين لم يبتل عبده ليهلكه، بل ليمتحن إيمانه وليسمع تضرعه، وليراه طريحاً ببابه وليمنع الأدواء المهلكة كالكبر والعجب والقسوة 3. ومن حكمة العزيز الحكيم في تسليطه الهم والحزن على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 193- 195 باختصار.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 241، والأنعام ص 55، 58.
3 المرجع السابق، مختصر زاد المعاد ص 307.
معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ولا سبيل إلى خلاص القلب إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يصل إليه إلا هو ولا يدل عليه إلا هو. وإذا قام العبد في أي مقام كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقاً هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إليه، وليعزه بالتذلل له وليغنيه بالافتقار إليه، ولجبره بالانكسار بين يديه وليوليه بعزله أشرف الولايات، وليشهد حكمته في قدرته، ورحمته في عزته، وأن منعه عطاء، وعقوبته تأديب، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوق إليه والله يعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث يجعل رسالته، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص، فمن رده المنع إليه، انقلب عطاء، ومن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعاً، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة واتخاذ السبيل إليه وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إِعانتنا ومشيئتنا، كما قال تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فإِن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً، وإلا فمحله غير قابل للعطاء وليس معه إناء يوضع فيه العطاء فمن جاء بغير إناء، رجع
بالحرمان، فلا يلومن إلا نفسه 1.
ومن حكمة الإِدالة على المسلمين - في غزوة أحد - تعريف الله للصحابة عاقبة المعصية والفشل والتنازع ليستيقظوا ويحذروا من أسباب الخذلان وأن حكمة الله جرت بأن الرسل يدالون مرةً وَيدَال عليهم أخرى، لكن يكون لهم العاقبة، فلو انتصروا دائماً، دخل معهم المؤمن وغيره ولم يتميزوا، ولو انتصر غيرهم دائماً لم يحصل المقصود.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) .
أي ما كان الله ليذركم على هذا من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميزهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الذي يميز له بينهم بل يريد سبحانه أن يميزهم تمييزاً مشهوداً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} استدراك لما نفى من اطلاعهم على الغيب، أي: سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء كما في سورة الجن، فسعادتكم بالإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم فلكم أعظم الأجر.
ومنها استخراج عبودية الأولياء في السراء والضراء، فإذا ثبتوا على الطاعة فيما أحبوا وكرهوا، فهم ليسوا كمن يعبده على حرف.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع مختصر زاد المعاد ص 125، 126.
ومنها أنه لو بسط لهم النصر دائماً لكانوا كما يكونون لو بسط لهم الرزق، فهو المدبر لهم، كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها أنهم إذا انكسروا له استجيبوا النصر فإن خِلْعةَ النصر مع ولاية الذل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران: 123) . وفي مقابل ذلك قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} (التوبة: 26) .
ومنها أنه هيأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم، ولا يبلغونها إلا بالبلاء، فقيضه لهم، كما وفقهم للأعمال الصالحة.
ومنها أن العافيه الدائمة، والنصر والغنى يورث ركوناً إلى العاجلة ويثبط النفوس ويعوقها عن السير إلى الله، فإذا أراد الله كرامة عبد قيض له من البلاء ما يكون دواء لهذا.
ومنها أن الشهادة عنده من أعلى المراتب، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه شهداء.
ومنها أنه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيض أسباباً يستوجبون بها الهلاك مثل بغيهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، فيمحص به أولياءه من ذنوبهم ويكون من أسباب محق أعداء الله، وذكر سبحانه ذلك بقوله:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} إلى قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 139- 142) .
ومنها أن هذه الواقعة (أحد) مقدمة بين يدي موته صلى الله عليه وسلم وهذه عادته سبحانه شرعاً وقدراً أن يوطئ بين يدي الأمور العظام بمقدمات، والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حين مات رسول
الله، فجعل لهم العاقبة ثم أخبر أنه جعل لكل نفس أجلاً، ثم أخبر أن كثيراً من الأنبياء قتلوا وقتل معهم أتباع لهم كثيرون، فما وَهَن من بقي منهم أو ما وهنوا عند القتل، والصحيح أنها تتناول الفريقين.
ثم أخبر سبحانه عما استنصر به الأنبياء وأممهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم، وسؤالهم التثبيت لأقدامهم والنصر على أعدائهم، فقال:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 147) .
علموا أنه سبحانه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا، وعلموا أنه إنما يدال عليهم بذنوبهم، من تقصير في حق، أو تجاوز في حد، فوفوا المقامين حقهما المقام المقتضى وهو التوحيد والالتجاء إليه ومقام إزالة المانع من النصر وهو الذنوب والإسراف.
وأشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران إلى أمهات هذه الحكم من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} إلى تمام الستين آية من آية 121 إلى آية 180.
ففي هذه الآيات ذكرهم الله في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمة عليهم، التي إن قابلوا بها كل محنة تلاشت، وهي إرسال رسول من أنفسهم، فكل بلية بعد هذا الخير العظيم أمر يسير جداً، فأعلمهم أن المصيبة من أنفسهم ليحذروا، وأنها بقدره ليوحدوا ويتكلوا، وأخبرهم بما له من الحكم لئلا يتهموه في قدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته،
وذكرهم بما هو أعظم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم لينافسوهم، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله 1.
وابن آدم يؤذي الله إذا سب الدهر لأن الدهر هو تقلب الليل والنهار بأمر الله تعالى فهو سبحانه بيده الأمر يقلب الليل والنهار يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر ويحيي ويميت وينفي قوماً ويأتي بآخرين بخلاف الضرر فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} .
قال الشيخ: والأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشر والمكروه ذكره الخطابي قال شيخ الإسلام وهو كما قال. اهـ. ويعني شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد عقد الشيخ في كتاب التوحيد باب من سب الدهر فقد آذى الله وساق قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) .
وما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" وفي رواية لمسلم وغيره " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ".
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 234- 244 وص 256، 264 وص 266، 267.
قال الشيخ فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
والثانية: تسميته أذى لله.
والثالثة: التأمل في قوله "فإن الله هو الدهر ".
والرابعة: أنه قد يكون ساباً، ولو لم يقصده بقلبه 1.
وأنه ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم 2. ويثبت الشيخ المثل الأعلى لله سبحانه وهو العزيز الحكيم 3، فهو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء، فالمثبت هو الذي يصفه بأنه ليس كمثله شيء وقد وصف نفسه بأن له المثل الأعلى المتضمن إثبات الكمال كله له وبهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل، ومثل السوء لعادم صفات الكمال ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملاً وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص والتوكل والإنابة وغير ذلك التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 114 وأصول الإيمان ص 242- وانظر: تيسير العزيز الحميد ص 542- 547.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 236.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 215.
ومثل السوء هو العدم وما يستلزمه وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، ولما كان الرب هو الأعلى ووجهه هو الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وسائر صفاته هي العليا كان له المثل الأعلى وهو أحق به من كل ما سواه.
ويستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافآ فالموصوف بالأعلى أحدهما وحده فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير. وهذا برهان قاطع من إثبات المثل الأعلى على استحالة التمثيل.
والمثل الأعلى متضمن أربعة أمور:
1-
ثبوت الصفة العليا لله سبحانه في نفس الأمر.
2-
وجودها في العلم والتصور.
3-
الخبر عنها وذكرها وتنزيهها عن النقائص.
4-
محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه.
وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان الحب والإخلاص أقوى. وعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها1.
ويعتقد الشيخ أن عظمة الله أجل من أن يحيط بها عقل2، كما قال
1 ملخص من آخر مجلد لمصورة عن مخطوطة بعنوان: مبحث الاجتهاد والخلاف للشيخ محمد بن عبد الوهاب رقمها في المكتبة السعودية بالرياض 772/ 86.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، هود ص 125، والزمر 346.
وكما بين صلى الله عليه وسلم في تصديقه للحبر الذي قال له: " يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع والشجر على أصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثُمَّ قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على المنبر وقال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه " ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه وأنه يقول أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم" - قال ابن عمر فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا ليخرن به3.
وقد عقد الشيخ باباً في هذا الموضوع في كتاب التوحيد هو باب قول الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وأورد تحته أحاديث وآثار عن السلف
1 والقسم الأول العقيدة، كتاب التوحيد ص 148.
2 المصدر السابق ص 148 وانظر: صحيح البخاري كتاب التوحيد ص 174.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 345، 346 والحديث في صحيح البخاري ج 8 / كتاب التوحيد ص 173. ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار ص 2147- 2149.
الصالح تناسبه وكذلك في كتاب أصول الإيمان إلا أنه زاد ونقص عما أورد في كتاب التوحيد وكلها دلائل مناسبة ونصوص دالة على عظمة الرب العظيم وكبريائه ومجده وجلاله وعلوه وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه 1.
ويستنتج من عظمة مخلوقات الله أنها دلائل على عظمة الله، فالسماوات على سعتها في اليد اليمنى مطوية والأرضون جميعاً في اليد الأخرى وأنهما جميعاً في كف الرحمن كخردلة في كف أحدنا، وأن الكرسي عظيم بالنسبة إلى السماء، فالسموات في الكرسي كسبعة دراهم ألقيت في ترس {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، وكذلك العرش أَعظم بالنسبة للكرسي، فالكرسي في العرش كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض وأن العرش غير الكرسي والماء، وأن بين السماء والأرض خمسمائة عام وكثف كل سماء خمسمائة سنة وأن البحر الذي فوق السموات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام وكذلك بين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء، وأن العرش فوق الماء، وأن الله فوق العرش.
وهذه خلاصة أحاديث أوردها الشيخ رحمه الله في آخر باب من أبواب كتابه - كتاب التوحيد - وهو باب ما جاء في قول الله
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 148- 150 وأصول الإيمان ص 240- 242. انظر: القول السديد للشيخ ابن سعدي آخره.
تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . أوردها الشيخ:
عن ابن عباس موقوفاً وعن ابن زيد عن أبيه مرفوعاً، وعن أبي ذر مرفوعاً، وعن ابن مسعود موقوفاً - قال الشيخ في حديث ابن مسعود:"أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، قاله: الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - قَال: "وله طرق، وهو عن العباس بن عبد المطلب". أخرجه أبو داود. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:"وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه"1.
واعتقاد الشيخ أن الله عز وجل أعظم من كل عظيم وأكبر، وهو رب العرش العظيم وفوقه بائن من خلقه، لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ولا يحل بشيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه، وأنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء البتة، ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعال لما يريد 2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 148- 151، وانظر: قرة عيون الموحدين للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 314.
2 تاريخ نجد للألوسي ص 42.
الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحد على ملكه ولا يحتاج من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم أو يسترحمه لهم فلا له وزير ولا مشير ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه، ولا ند ولا ضد، ولا شريك، بل الكل عبيده تحت تصرفه وتدبيره وهو العزيز الحكيم، العلي العظيم 1.
وقال الشيخ في واحدة من خطبه يعظم الرب بصفاته العظيمة: "الحمد لله فاطر الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار ولا تتوهمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن ما صنعه وحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلَّمه.
ويقول في خطبة أخرى: "الحمد لله المتوحد في جلاله بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، والمتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده، الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، أطلع شمس الرسالة في حنادس الظلم سراجاً منيراً، ومنّ بها على أهل الأرض، فيالها نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، فجر
1 انظر: تاريخ نجد للألوسي ص 41، 42.
ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيراً 1.
ويقول الشيخ إِن ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعله وهو قدر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل 2.
ويقول الشيخ فمن هذا بعض عظمته وجلاله، كيف يجعل في رتبة مخلوق 3، وبين الشيخ أنه من أجل عظمته لا يستشفع به على خلقه 4، وأنه يعاذ من استعاذ به فإنه هو المستعاذ به وحده.
فهو رب الفلق، ورب الناس، وملك الناس، وإله الناس، لا يستعاذ إلا به، وقد أَخبر الله عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته رهقاً، وهو الطغيان فقال:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، وأما من عاذ به فقد عاذ بمعاذ 5.
ويعطي من سأل به6 لعظمته، وتعظم الرغبة فيما عنده7،
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 14، 48.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 346.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 346، 347، 365.
4 والقسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 145.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفلق، الناس ص 385، 387.
6 المصدر السابق ص 128.
7 المصدر السابق ص 126.
والخوف من عقابه والهيبة من عظمته 1.
وبالجملة يجب تعظيمه علماً وعملاً 2، فما عرفنا من عظمته لا يماثله فيها شيء كيف بما لم نعرف منها تعالى وجل؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
والله تعالى يملك ما في السموات وما في الأرض 3، والعبد وما له ملك لله جعله الله عنده عادية 4، والمخلوق ليس له من الأمر شيء ولو كان نبياً مرسلاً، فهذا نوح عليه السلام لم يملك هداية ابنه، بل هو المتفرد بالهداية والإضلال 5.
وقد نفى الله أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً
لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين الله أن الشفاعة جميعاً له، ولا تنفع إلا لمن أذن له الرب قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ
1 المصدر السابق ص 145 والقسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 84، 96، وهود ص 124 ويوسف ص 137.
2 المصدر السابق، المدثر ص 365.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، آل عمران ص 51.
4 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 306.
5 المصدر السابق، الأعراف ص 110، هود ص 124، والزمر ص 326، 330.
والقسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب قول الله تعالى:{إنك لا تهدي من أحببت}
ص 54.
أَذِنَ لَهُ} 1 (سبأ: 22) .
وخزائن كل شيء عنده سبحانه ولا تنفد على كثرة الإنفاق 2، له مقاليد السموات والأرض فهو على كل شيء وكيل 3، ولكمال ملكه وكمال علمه وكمال قدرته فهو يحكم بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون 4، ويخلق ما يشاء ويختار، وهو المتفرد بذلك لا شريك له قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص: 68)5.
وهو الملك الحق، ملك الناس، مالك يوم الدين، مالك الملك، تفرد بالإِحياء والإماتة وتفرد بأنه الوارث، وتفرد بحشر الجميع 6، وتفرد
1 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الشفاعة والذي قبله ص 48- 53، وكشف الشبهات ص 165، ومسائل الجاهلية ص 351، والقسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص 112، 113، والقسم الرابع، التفسير، الكهف ص 248.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص 187، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 57.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 339.
4 المصدر السابق، الزمر ص 334.
5 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 7، 8.
6 المصدر السابق، التفسير، الحجر ص 187.
بالنفع والضر 1، وتفرد بالعزة والمجد 2.
ويعتقد الشيخ أن من صفات الله الثابتة صفة الكلام 3 وليس كتكليمه سبحانه وتعالى تكليم أحد 4.
قال أبناء الشيخ وحمد بن ناصر بن معمر: "واعلم أن صفة الكلام لله تعالى قديمة أزلية لا ابتداء لها كسائر صفات الله تعالى من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وسائر الصفات لأنه تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء بجميع صفاته لم تتجدد بوصفه كما يقوله بعض أهل الأهواء والبدع من الكرامية ومن سلك سبيلهم، وأما أهل السنة والجماعة فمجمعون على ما ذكرنا من أن الله تعالى قديم بجميع صفاته الكلام وغيره.
قال الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الرد على الزنادقة لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء ومتى شاء، ولا نقول إِنه كان لا يتكلم حتى خلقه
…
إلخ.
وهذا الذي قال إمام السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يجوز غيره، والقرآن تكلم به سبحانه بمشيئته وقدرته وذلك أن أهل السنة
1 المصدر السابق، التفسير، النحل ص 200.
2 المصدر السابق، التفسير، الزمر ص 330.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 325
4 الدرر السنية، ط2، ج 3 ص 209.
والجماعة يثبتون الأفعال الاختيارية من الكلام وغيره من الصفات، كما أنه سبحانه كلم موسى بمشيئته وقدرته ويكلم من شاء من خلقه بمشيئته وقدرته إذ شاء ومتَى شَاءَ بلا كيف1.
ويعتقد الشيخ: أن كلام الله يتفاضل، لقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2 (الزمر: 55) .
وأن تكليم الله للعباد على ثلاثة أوجه:
1-
من وراء حجاب كموسى.
2-
وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء.
3-
وبالإيحاء وهذا للأولياء فيه نصيب.
والمرتبتان الأوليتان للأنبياء خاصة 3.
والرؤيا قد تكون سبب لشرع بعض الأحكام 4.
وأن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وناداه تعالى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من جانب الطور {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الآيات (القصص: 30) وقربه نجيا فناداه وناجاه 5.
1 الدرر السنية، ط2 ج 3/ ص 187.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 337.
3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 38 ص 29.
4 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 113.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص 291، والدرر السنية، ج 3
ص 209، ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 89 ص 92- 95.
وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} الآية (يوسف: 102)، الرد على مخالفي الرسل في قولهم:{لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أو نحو ذلك، لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي 1.
وإذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمرهُ الله عز وجل ".
وأن الملائكة تضرب بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير يوسف ص 177 وص 179.
تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه ن فيكذب معها مائة ألف كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء وقال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1 (سبأ: 23) .
ويثبت الشيخ لله تعالى صفة الوجه الكريم. وأنه لا يسأل بوجهه إلا غاية المطالب وأن حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وأنه ما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن 2.
ويعتقد الشيخ أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما
يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته3، بلا كيف ولا إحاطة4.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 48- 50، أصول الإيمان ص 238- 239.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ص 129، وأصول الإيمان ص 232، 237 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 28.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 10 والقسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 236.
4 الدرر السنية، ط2، ج1، ص 126.
وأن الرؤية تكون عامة وخاصة:
أما العامة: فيراه عموم الخلق.
وأما الخاصة: التي يفهم منها الكرامة: فيراه المؤمنون خاصة 1.
وقال أبناء الشيخ وحمد بن ناصر:
وأما رؤية الله تعالى يوم القيامة فهي ثابتة عندنا وأجمع عليها أهل السنة والجماعة والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، ومن ذلك قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} - وقال المفسرون: معنى أنها تنظر إلى الله عز وجل كرامة لهم من الله، وهي أعظم ما يتنعم به أهل الجنة يوم القيامة، كما ورد ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 2.
وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي لا تحيط به.
وأما قوله تبارك وتعالى لموسى: "لن تراني" الآية
…
فذكر العلماء أن المراد لن تراني في الدنيا، وأيضاً الآية دليل واضح على جوازها وإمكانها لأن موسى عليه السلام أعلم بالله من أن يسأله ما لا يجوز عليه أو يستحيل خصوصاً ما يقتضي الجهل ولذلك رد بقوله تعالى:"لن تراني" دون لن أُرَى ولنْ أُريَك وَلنْ تنظر إلي فبذلك تبين أنها دالة على مذهب أهل السنة والجماعة القائلين بإثبات رؤية الله يوم القيامة 3.
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 22 ص 20- 21.
2 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 193، 194.
3 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 139، 194.
كما يثبت أن الله يدين - كما ورد في القرآن والسنة على ما يليق بجلاله - كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فله يدان وليس كيديه يدَا مخلوقٍ، قال تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يدل على إثبات اليدين لله تعالى كما يليق به، ولو كان المراد منه مجرد الفعل، لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت الباء؟! فالفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عُدي الباب إلى يده مفردة أو مثناة ما باشرته يده.
ولو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها إختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة 1.
ولفظ اليد في القرآن جاء على ثلاثة أنواع مُفْرَدٌ كقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وكقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وجاء مثنى كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وكقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
وجاء مجموعاً كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعُدِّيَ الفعل بالباء فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعدَّ الفعل بالباء فلا يحتمل
1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 221، 222.
(ما خلقت بيدي) من المجاز ما يحتمل (عملت أيدينا) فإن كل أحد يفهم من قوله عملت أيدينا ما يفهمه من قوله علمنا وخلقنا كما يفهم من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 1.
ولو كان قوله خلقت بيدي مثل قوله عملت أيدينا لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف لما يقولون له:"أنت أبو البشر خلقك الله بيده " يعلمون لآدم تخصيصاً وتفضيلاً بكونه مخلوقاً باليدين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقبض الله سماواته بيده اليمنى والأرض بيده الأخرى " ثم ذكر أحاديث كثيرة في إثبات اليدين لله تعالى. بالتثنية والإفراد وإثبات الأصابع بالجمع والتثنية والإفراد، وإثبات الكف، والقبض واليمين والشمال، والإمساك والبسط، وغير ذلك مما لا يحتمل تأوِيلاً عن ظاهرة الدال على إثبات يدي الله حقيقة كما يليق بجلاله ليس كمثل يدي أحد 2.
وفي جواب للشيخ حمد بن ناصر بن معمر لما سئل عن اعتقاد الشيخ في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وغيره. نجد أن الشيخ رحمه الله
1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 221، 222.
2 انظر: الدرر السنية، ط2، ج3، ص 207، 221- 222. ومؤلفات الشيخ،
ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 36 ص 28، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، ص 148، 149، 150. وأصول الإيمان ص 240، 241.
تعالى يعتقد: أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه 1 بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء لا يحتاج إلى العرش ولا إلى غيره 2.
قال الشيخ حمد بن ناصر: "وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة.
قد دل ذلك بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه فوق العرش مستو على عرشه ونحن نذكر من ذلك بعضه قال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} - وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان وتنزيل السجدة والحديد إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى كقوله:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وإِخباره عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} ففرعون كذب موسى في قوله: إن الله في السماء وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} إلى غير ذلك3.
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 149- 151.
2 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 210.
3 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 210.
قال الشيخ حمد الناصر: وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون ليس على العرش سوى العدم وأن الله ليس مستوياً على العرش ولا ترفع إليه الأيدي حيث أخبر سبحانه أنه على عرشه وأنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها - ثم قال - {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} معناه أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، وليس معنى قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وخلاف ما فطر الله عليه الخلق. وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبية. وأخبر أنه ذو المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق عباده على عرشه، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وهو سبحانه قد أخبر أنه قريب من خلقه، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية من سورة البقرة (رقم 186) وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، سورة ق آية (16) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "1.
1 صحيح البخاري، التوحيد، 13/ 372.
وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} والمجادلة آية (7) . وكما في الكتاب والسنة من الأدلة الدالة على قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه عَليٌّ في دنوه، قريب في عُلُوِّه، وقد أجمع سلف الأمة على أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؟ قال علمه محيط بالكل وربنا على العرش بِلَا حد ولا صفة.
قال الشيخ حمد الناصر: وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فكثيرة جداً منها ما رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وغيرهم، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: لطمت جارية لي فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: "بلى ائتني بها " فجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها أين الله؟ فقالت في السماء فقال:"فمن أنا؟ قالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة " وفي الحديث مسألتان:
أحداهما: قول الرجل لغيره أين الله؟
والثانية: قول المسؤول: في السماء فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما
ينكر على الرسول صلى الله عليه وسلم 1.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش " وهذه الألفاظ كلها في صحيح البخاري 2.
قال الشيخ حمد الناصر: وفي صحيح مسلم عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "3.
قال الشيخ حمد الناصر: "وفي الصحيحين في قصة المعراج وهي متواترة وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السموات سماء سماء حتى انتهى إلى ربه تعالى
1 الدرر السنية، ط2، ج3 ص 221، 222، وحديث الجارية رواه مسلم في المساجد، ج1/ ص 382.
2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 234، وانظر: صحيح البخاري ج8/ 171، كتاب التوحيد، باب 15.
3 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 232 والحديث في صحيح مسلم، الإيمان ج1/ ص 161. وانظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 35 ص 28.
فقربه وأدناه وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، ينزل من عند ربه إلى موسى، فيسأله كم فرض عليك؟ فيخبره فيقول: ارجع إلى ربك فسله التخفيف.
ثم ذكر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر أحاديث كثيرة في استواء الله على عرشه وعلوه على مخلوقاته إلى أن قال: "والمقصود أن نصوص الكتاب والسنة قد نطقت، بل تواترت بإثبات علو الله على خلقه وأنه فوق سماواته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا هو، كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو وذاته المقدسة تبارك وتعالى حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، وكذا استواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، لا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات. إلى أن قال: وبالجملة فمن قال إن الله في السماء وأراد أنه في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به فقد أخطأ وضل ضلالاً بعيداً وإن أراد بذلك أن الله فوق سمواته، على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب، وهذا اعتقاد شيخ الإسلام (محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى) وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه
سلف الأمة وأئمتها، ومن لم يعتقد ذلك كان مكذباً الرسل، متبعاً غير سبيل المؤمنين 1.
ويثبت الشيخ إتيان الرب ومجيئه وإشراق الأرض بنوره يوم النفخ في الصور كما في القرآن الكريم 2، ويثبت النزول كما وردت بذلك السنة الصحيحة، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه 3.
والشيخ يثبت النزول كما يثبت غيره من الصفات الواردة في الكتاب والسنة على قاعدة الإمام مالك فيقول في النزول أيضاً: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة، ونحن لا نعلم كيفية نزوله ولكن نزوله ثابت في نفس الأمر لا يشابهه نزول المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4.
وهكذا يقر الشيخ جميع آيات الصفات وأحاديثها مع اعتقاد
1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 214- 217 بتصرف قليل.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 341.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 233، 236- 237. الدرر السنية، ط2 ج3 ص 192، 198، وص 215.
4 الدرر السنية، ط2 ج 3 ص 185 وص 215، 216، 217.
حقائقها وإثبات العلم بها وما دلت عليه من صفات الرب تبارك وتعالى وأسمائه من غير تكييف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تحريف، بل كما قال ربيعة ومالك:" الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "1.
وعلى هذا اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جميع الأسماء والصفات 2.
وقال أبناء الشيخ والشيخ حمد بن ناصر: بعد ذكرهم لكلام الإمام مالك: "وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف في جميع
1 قال الحافظ الذهبي في كتابه العلو: "هذا ثابت عن مالكٍ وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها وأَن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. انتهى كلام الحافظ الذهبي. مختصر العلو، للذهبي، إختصار الألباني ص 142، 143.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 44، والدرر السنية، ط2 ج 2 ص3، ج3 ص 207- 262، وص 191، 192. ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية، ص 8- 11، 27، 28.
الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه، وغيرها، فيقال في النزول: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة " 1.
وكتب بعض تلامذة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إليه يهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو فكتب إليه وفيما كتب قال: "قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت فاعلم أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة، وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه، وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لهذا فالإمام مالك تكلم بلسان السلف"2.
كان الشيخ حمد بن ناصر بن معمر قد سئل عن اعتقاد الشيخ فيما قد يتوهم بعض الناس التشبيه في ظاهرة من نصوص الوحي من الكتاب والسنة الواردة في صفات الرب تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ومثل قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل
1 الدرر السنية، ط2، ج3 ص 198.
2 الدرر السنية، ط2، ج 3 ص 299. وانظر: عنوان المجد ج 2/ ص 22، 23، والذي كتب إليه هو ابن بشير.
ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " - وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "
…
ونحو ذلك. وقال السائل أفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في ذلك؟ وكيف مذهبه ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره مع التنزيه، أم تؤولون وأبسطوا الكلام على ذلك وأجيبوا جواباً شافياً، تغنموا أجراً وافياً فأجاب بما نصه:
الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك ما قاله الله ورسوله وما قاله سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء المسلمين فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل نؤمن بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه، لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له، ولا كفو له، ولا ند له ولا يقاس بخلقه "سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً " فهو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل خلافاً للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافاً للمعطلة فمذهبنا مذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام،
كمالك والشافعي والثوري، والأوزاعي، وابن مبارك، والإمام وأحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشائخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة قال الإمام أحمد رحمه الله لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث وهكذا مذهب سائرهم كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى، ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى - هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضيين الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن نَفْياً وإثباتاً وهم أشد تعظيماً لله وتنزيها له، عما لا يليق بجلاله. انتهى 1.
ثم إن الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله أطال في هذا الموضوع إطالة وافية ونقل عبارات السلف بألفاظها وأفاض في نقل الأدلة وشرحها عن السلف الصالح، وفي كل ذلك يقول هذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 2، ويقع جوابه في خمس وخمسين صفحة من القطع الوسط
1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 207، 208.
2 انظر: الدرر السنية، ط2، ج3، ص 208، 217، 235.
وبالحرف المعتاد 1. وهو جواب مفيد، وفي غاية الأهمية على طوله وبسطه - أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن ييسر إفراده بالطبع والنشر مع الدراسة والتخريج لينتفع به المسلمون عاجلاً غير آجل.
- والخلاصة - أن الشيخ رحمه الله يعتقد أن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، له الأسماء الحسنى وصفات الكمال، لا سمي له مثيل، الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير فعال لما يريد وهو رب العالمين لا شريك له ولا معين، ولا ظهير ولا شفيع، لا يشفع عنده أحد إلا من أذن له وارتضى شفاعته.
وبهذا القدر يتم هذا الجانب من عقيدة الشيخ فيما يثبت لله تعالى من الأسماء والصفات وما ينزه الله عنه من العيوب والنقص ومماثلة المخلوقات، وهذا هو المقام الخبري العلمي، أحد مقامي الكلام على التوحيد، وهو البرهان والدليل والمستلزم للمقام الثاني، مقام الإنشاء العملي الطلبي والذي هو إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها.
وفيما يلي بيان ذلك من عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى - في التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
1 يقع في: الدرر السنية، ط2، ج3، من ص 207 - 262.
توحيد الإلهية والعبادة:
الكلام في توحيد الإلهية من باب الطلب والإرادة الدائر بين المحبة والكراهة نفياً وإثباتاً 1.
وفي هذا الباب يعتقد الشيخ رحمه الله أن التوحيد ينبئ على أن الله واحد في ألوهيته لا إله حق إلا هو، وألوهية الله تعالى هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً، جملة وتفضيلاً 2.
وحاصل ما يقول الشيخ في تعريف هذا التوحيد: أن التوحيد اسم لفعل العبد المأمور به، فإن كانت أعماله التعبدية كلها لله وحده فهو موحد، وإن كان فيها شرك للمخلوق فهو مشرك 3.
فالتوحيد هو إفراد الله بجميع أنوا ع العبادة لا يشركه فيها أحد، ولا يستحق العبادة أحد إلا الله، فعبادة الله خالصة له، لا يستحق شيئاً منها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ويقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله:
إذا كان الكلام في سياق التوحيد، ونفي خصائص الرب عما سواه لم يجز أن يقال، هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء، والملائكة، فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد
1 انظر: أول التدمرية، الصفحة الأولى.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 25 ص 174.
3 الدرر السنية، ط2، ج1 ص 97، ج2، ص 42، 43.
توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريراً لما يقال على هذا الوجه، وإن كان هو المسلوب، كما قالت عائشة لما أخبرها ببراءتها: والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمد إلا الله وفي لفظ بحمد الله لا بحمدك، فأقرها صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك، لأن الله سبحانه الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد، قال حيان قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول قال: ولت الحمد أهله، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: قول الأسير اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، قال عرف الحق لأهله، وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد، فقال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد، وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال: اجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده، وما أحدثه الله بغير فعل منه إضافة إلى الله وحده، كما قال لكعب بن مالك: لما قاله له: أمن عندك أم من عند الله؟ قال بل من عند الله ومعلوم أنه لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان من عند الله بمعنى أنه خلقه فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه فعل في هذه التوبة إلا أنه بلغ الرسالة 1.
ويعتقد الشيخ أن الله أمر جميع الناس بتوحيد الله في العبادة والإلهية بجميع أنواعها، ونهاهم عن ضد هذا التوحيد، والدليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (النساء: 36)2.
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 109 ص 104.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 7- 11، وثلاثة الأصول
ص 186- 187، ثلاث مسائل ص 374.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) . وهو أعظم ما أمر الله به وفرض وأوجب - كما أن أعظم ما حرم الله ونهى عنه هو ضده الشرك. قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية (الأنعام: 151) .
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية. وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه ابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
قال الشيخ: فيه عظم شأن الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف 1. وكذلك الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها اثنتا عشر مسألة، بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الإسراء: 22) . وفيها قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (نفس السورة: 23) - وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (نفس السورة: 39) . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (نفس السورة: 39) .
ولحديث معاذ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يما معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 8، 9.
ورسوله أعلم - قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قلت يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا". أخرجاه في الصحيحين.
قال الشيخ: وفي هذا أن العبادة هي التوحيد، وأن من لم يأت به لم يعبد الله ففيه معنى قوله:{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 3، 5) .
ويقرر الشيخ أن إفراد الله بالعبادة هو التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وهو أصل الدين، وهو الذي خلق الله الثقلين الجن والإنس من أجله، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) . وهو الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وفرض من أجله الجهاد، وشرع منه شريعة الإسلام، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 (النحل: 36) . ويقول رحمه الله: إعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد، فإذا لم يفعله الإنسان ويجتنب الشرك فهو كافر وكل أعماله
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7- 9، 14، 20- 22 ثلاثة الأصول ص 186 ومفيد المستفيد ص 292، وستة أصول ص 393، وكشف الشبهات ص 172 وص 381، ومعنى الطاغوت 376، 353- 355، والقسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 30 والفتاوى رقم 12 ص 52، 53 والقسم الخامس، الشخصية رقم 28 ص 189.
حابطة، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار قال الله تعالى في الأنبياء:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يزني في أيام الصوم1.
أما فضله: فهو فضلٌ عظيم، وثواب كثير، ويكفر الذنوب كما روى الترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" وكما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أخرجه البخاري ومسلم.
قال الشيخ: إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان:"فإن الله حرم على النار من قال: لا إله الله، يبتغي بذلك وجه الله" أنه ترك الشرك ليس قولها باللسان 2.
ويقول الشيخ في تلخيصه مسائل عن ابن تيمية رحمه الله:
1 الدرر السنية، ط2 ج 1 ص 69- 71 وص 92، 93 ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7، 9 وص 186 وص 370، وص 374، 375 والقسم الخامس الشخصية رقم 2 ص 16 ورقم 5 ص 36 ورقم 22 ص 150- 156.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 14.
تواترت الأحاديث بخروج من قال: لا إله إلا الله من النار إذا كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة أو خردلة أو ذرة، وكثير منهم أو أكثرهم يدخلها، وتواترت أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص، واليقين، ويموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت، وغالبهم إنما يقولها تقليداً أو عادة، وغالب ما يفتن عند الموت أو في القبر أمثال هؤلاء، كما في الحديث سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد أو إقتداء بأمثالهم، وهو أقرب الناس من قوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية (الزخرف: 22) فلا منافاة بن الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين ومات عليها امتنع أن ترجح سيئاته، فإن كان قالها على الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر فهو غير مصر على ذنب، وإن كان على وجه خلص به من الأكبر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فترجح بها الحسنات كما في حديث البطاقة، وهذا خلاف من رجحت سيئاته، لأن معه الشرك الأصغر وأتى بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان، واليقين فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآيةٍ من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فالذي قالها بيقين وصدق تام إما ألا يكون
مصراً على سيئته، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته، والذين دخلوا النار فاتهم أحد الشرطين 1.
وعلى هذا فمن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120) .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 59) .
وكما في حديث حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم أمته، وفي أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين حققوا التوحيد بتركهم الاسترقاء والاكتواء والتطير متوكلين على الله تعالى. والحديث رواه البخاري مطولاً ومختصراً، ومسلم والنسائي والترمذي 2.
ولهذا يبين الشيخ أهمية هذا التوحيد، وأن معرفته أهم من معرفة العبادات كلها حتى الصلاة 3، وهو متضمن للتوحيد كله.
فمن أتى بهذا التوحيد، فوحد الله في ألوهيته وعبادته فقد وحد الله
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 87 ص 70- 71.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد وباب فضل التوحيد، وباب من حقق التوحيد ص 7- 17 والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 378، والقسم الرابع، التفسير، آخر الكهف ص 260 والأنعام ص 58، ومختصر زاد المعاد ص 67، 77، وص 377 والقسم الثالث، الفتاوى ص 50.
3 الدرر السنية، ج 1 ص 93.
في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وربوبيته، لأن الله استعبد خلقه بالألوهية الجامعة لصفات الكمال فمن شهد أن لا إله إلا الله بصدق فقد وحد الله تعالى التوحيد كله، أما من أقر بوحدانية الله تعالى في ربوبيته وعبد الله وتألهه، لكن لم يوحد الله في التأله والعبادة، أي أنه يعبد الله وبعبد معه غيره. فهو لم يأت بتوحيد الألوهية، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، فهو وإن ادعاها وتلفظ بها فهو كاذب، بدليل شركه في العبادة والألوهية.
يقول الشيخ في تفسير قول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف: 13- 16) . فيه مسائل: ثم ذكرها ومنها الثامنة والتاسعة قال: " الثامنة: المسألة الكبرى أن من ذبح لغير الله أو دعا غيره فقد كذب بقول لا إله إلا الله، وقد دعا إلهين اثنين واتخذ ربين. التاسعة: المسألة العظيمة المشكلة على أكثر
الناس أنه إذا وافقهم بلسانه مع كونه مؤمناً حقاً كارهاً لموافقتهم فقد كذب في قول لا إله إلا الله، واتخذ إلهين اثنين وما أكثر الجهل بهذه والتي
قبلها " 1.
وهذا هو معْنى شهادة أن لا إله إلا الله للحديث الذي رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار " - قال الشيخ: فيه تفسير "لا إله إلا الله " كما ذكره البخاري 2.
فإن هذه الكلمة "لا إله إلا الله " نفي وإثبات: نفي الإِلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى من المخلوقات، حتى من المرسلين البشر وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى من الملائكة وجبريل "عليهم وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام " فضلاً عن غيرهم، من الأنبياء والصالحين وسائر المخلوقات، وإثباتها بجميع أنواعها كلها عز وجل وحده لا شريك
له3.
فإن "لا" في قولك "لا إله إلا الله" هي النافية للجنس تنفي جميع الآلهة.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 243.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 18- 19، وص 22، والدرر السنية، ج2 ص 16، 17.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363، 364، ومعنى الطاغوت ص 379، والدرر السنية، ط2، ج2، ص 45 وص 53، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 28 ص 187، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تلقين لأصول العقيدة للعامة ص 371.
و"إلا " حرف إستثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، كما أنه لا شريك له في ملكه.
و"الله " هو المعبود - هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم - وهو المقصود المدعو المرجو المخوف.
ف "الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى الذي لا تصلح العبادة إلا له.
ومعنى "التأله ": التعبد. و"الإلهية ": العبودية.
وإلهية الله: هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً جملة وتفضيلاً 1.
وتوحيد الإلهية: هو إخلاص جميع العبادة لله من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والدعاء وجميع العبادات، ظاهرها وباطنها لله تعالى وحده لا شريك له، وأن لا يجعل شيء من العبادات لغير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما 2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 105، 106 ورقم 19
ص 124، 125. والقسم الرابع، التفسير، ص 12، والقسم الخامس، الشخصية رقم 25 ص 174 ورقم 28 ص 187 ورقم 24 ص 167، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 157، وثلاثة الأصول ص 190، والدرر السنية، ط2، ج 2 ص 53.
2 انظر: إبطال التنديد، بإختصار شرح التوحيد تأليف الشيخ حمد بن عتيق، ط 3، ص 7.
قال الشيخ: "اعلم رحمك الله أن معنى لا إله إلا الله نفي وإثبات، لا إله نفي، إلا الله إثبات. تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة أنواع، المنفي: الآلهة والطواغيت، والأنداد، والأرباب - فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، وما قصدته كذلك فأنت متخذه إلها. والطواغيت من عبد وهو راض أو ترشح للعبادة. والأنداد ما جذبك عن دين الإسلام من أهل أو مسكن أو عشيرة أو مال، فهو ند لقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} - والأرباب من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته، لقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وتثبت أربعة أنواع: (القصد) كونك ما تقصد إلا الله، والتعظيم
والمحبة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} والخوف والرجاء لقوله
تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، والبراءة من الشرك وأهله كما فعل إبراهيم كسر الأصنام وتبرء من عبادها. قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
…
} الآية (الممتحنة: 4) .
هذا ما تنفيه وتثبته كلمة لا إله إلا الله 1.
1 الدرر السنية، ط2 ج 2 ص62، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية
رقم 19 ص 124 ورقم 7 ص 44، 46، والقسم الأول، التوحيد ص 33.
فلا إله إلا الله تجمع الدين كله، والأعمال الصالحة الخالصة كلها من لا إله إلا الله 1. ولذا كانت:"لا إله إلا الله " كلمة التوحيد، وكلمة الفرقان، الفارقة بين الكفر والإيمان وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وشعار الحنيفية ملة إبراهيم، وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، والتي خلقت لأجلها المخلوقات وبها قامت الأرض والسموات، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب.
فمن قالها لا بد أن يأتي بحقها، وهو العمل بمقتضاها، ومعاداة من خالفها وإن كانوا من القرابة، فإن أبا طالب لم يمتنع من قول "لا إله إلا الله " إلا من أجل ملة عبد المطلب، لأنه لو قالها، لكان معنى ذلك البراءة من آبائه. ولذا يقول الشيخ في المسائل من باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
…
} من كتاب التوحيد، فيه "المسألة الكبرى: وهي تفسير قوله: (قل لا إله إلا الله) بخلاف ما عليه من يدعي العلم " 2 يشير بذلك إلى أن يدعي العلم وهو ليس عالماً يرى أن قول لا إله إلا الله، ولاء
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 122 ورقم 22 ص 154. والقسم الرابع، التفسير، الحجر ص 196.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ص 55.
من غير براء وهذا خلاف مراد النبي صلى الله عليه وسلم منها وفهم أبي طالب لها.
ولذا كان أصل ديننا وأوله وآخره وأسه ورأسه هو "شهادة أن لا إله إلا الله " ومعرفة معناها ومحبة أهلها وجعلهم إخواننا ولو كانوا بعيدين، والكفر بالطواغيت (وهم الذين يناقضونها) ومعاداتهم وبغضهم، وبغض من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال ما علي منهم، أو قال ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، لأن الله تعالى كلفه بهم، وافترض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم 1.
نعم. فليس المراد من قوله: (لا إله إلا الله) قولها باللسان مع الجهل
بمعناها، فالمنافقون يقولنها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب، ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من قال لا إله إلا الله مخلصاً " 2 وفي رواية "خالصاً من قلبه " 3 وفي رواية
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363، 368، والدرر السنية، ط 2 ج2 ص 52- 53، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 14 ص 96 ورقم 23ص 163، والقسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 157 ومسائل الجاهلية ص 342، 351.
2 رواية مخلصاً هي في مسند الإمام أحمد ج1/ 307، 518. وج 4/ 44 وج 5/ 236.
3 رواية خالصاً من قلبه أو نفسه هي صحيح البخاري، ج1 ك العلم باب 23، ص 33.
"صادقاً من قلبه " 1 وفي حديث آخر "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله "2.
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على المراد منها رغم جهالة أكثر الناس بذلك 3.
والعجب أن الكفار الجهال على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله - قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) .
والإله عندهم هو الذي يقصد لأجل الدعاء أو النذر أو الذبح أو الاستغاثة، أو غير ذلك من أنواع العبادة يريدون بذلك شفاعة المقصود والتقرب إلى الله بهذا العمل التعبدي، فالإله عند هؤلاء العرب هو الَّذي
1 رواية صادقاً من قلبه، هي في مسند أحمد، بلفظ ((صادقاً بها)) ج4/ 402، 411.
2 رواية من قال "لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" هي في صحيح مسلم كتاب الإيمان ج1/ ص 53.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363. وانظر: كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ص 12- 14 وباب الدعاء إلى شهادة "أن لا إله إلا الله" ص 20- 23، باب تفسير التوحيد وشهادة "أن لا إله إلا الله" ص 24- 26، وباب ما جاء ص 98، وباب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ص 100، وباب من حقق التوحيد ص 15- 17، والقسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 162.
يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما تقدم.
وأعجب العجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لايخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى "لا إله إلا الله" 1 وتقدم قبل قليل إشارة إلى هذا.
يقول الشيخ بعد أن ذكر قصة موت أبي طالب على ملة عبد المطلب
وحضور أبي جهل ذلك: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قَال للرجل: " قل: لا إله إلا الله" فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام2.
ويعقد الشيخ بابا كبيرا في كتاب التوحيد ترجمته:" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" أورد تحته نصوصا من الوحي يفسر بها ترجمة الباب ثم قَال وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب، فجعل ما
1مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص157، 158. والدرر السنية ط2، ج1 ص69-71.
2مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{إنك لاتهدي من أحببت} ص55.
بعده من أبواب وتبلغ واحدا وستين بابا هي في بيان شيء من أَفْرادِ التوحيد، وبيان ضده، وشيء من أفراد ضده أو ضد كماله، وبراهين بطلان الشرك وإمكان وقوعه وأسبابه. شرحا لهذه الترجمة.
ومن النصوص المفسرة للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله التي أوردها الشيخ تحت هذا الباب قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الاسراء: 57) .
وفي هذه الآية بين الله تعالى فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين بأن دعاءهم إياهم هذا هوالشرك الأكبر حيث قال سبحانه قبلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} الآية. (الاسراء: 56، 57) .
وأورد الشيخ تحت ذلك الباب قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف: 26-28) .
وقال الشيخ: قول الخليل للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} فيه أنه استثنى من المعبودين الله ربه وذكر الله سبحانه أن هذه البراءة، وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وأورد الشيخ تحت الباب أيضا قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: 31) .
ثم يقول: في هذه الآية: "بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا مع أن تفسيرها الذي لا اشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
وكذلك أورد الشيخ في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة:165) .
قال الشيخ: إن هذه في الكفار الذين قال الله فيهم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله. فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟
وأورد الشيخ من نصوص تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه. وحسابه على الله عز وجل " صحيح مسلم، كتاب الإيمان ج1، ص 53.
قال الشيخ قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون
الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " هذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فانه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع"1. انتهى.
وفي ثلاثة الأصول أصناف في تفسير "لا إله إلا الله " قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2 (آل عمران: 64) .
ومن عبد شيئا غير الله فقد اتخذ إلها من دون الله.
فإنَّ بني إسرائيل، لما اعتقدوا في عيسى بن مريم وأمه - قال الله
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ص 24-26، والقسم الخامس، الشخصية رقم 22 ص154. والدررالسنية، ط 2، ج 2، ص 44، (هذه كلمات في معرفة شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله،. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلانة الأصول ص 190.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 19.
تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ففي هذا دليل على أن من اعتقد في مخلوق لجلب منفعة أو دفع مضرة فقد اتخذه إلها، فاذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذا حكمه فما دونهم أولى، وأيضا فان من تبرك بحجر أو شجرة أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بأصحابها أو بالحجر والشجر، فقد اتخذها آلهة والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط يريدون بذلك التبرك قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فمثل قول الصحابة في ذات أنواط بقول بني إسرائيل وسماه إلها، ففي هذا دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرفقد اتخذه إلها، وجميع ذلك باطل إلا إله واحد وهو الله وحده تبارك وتعالى علوا كبيرا كما هو معنى لا إله إلا الله1.
وقال الشيخ: "إذا فهمت ذلك فتأمل الألوهية التي أثبتها الله لنفسه
1 الدرر السنية، ط 2، ج2، ص 63-65 بتصرف قليل وتقديم وتأخير. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 12.
ونفاها عن محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وغيرهما أن يكون لهم منها مثقال ذرة من خردل فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه الفقير والشيخ تسميه العامة السيد وأشباه هذا. وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة يرضى أن يلتجىء الإنسان إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله، فالذين يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم هم الذين يسميهم الأولون الألهة والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط.
إذا عرفت هذا عرفت معنى: "لا إله إلا الله " وعرفت أن من دعا نبيا أوملكا أو جنيا أو ندبه أو استغاث به أو نذر له أو ذبح فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " 1.
ويفسر الشيخ قوله: والإله معناه الولي الذي فيه السر، فيقول في جواب له عن سؤال وجه إليه رحمه الله تعالى: إن الإله الذي فيه السر فمعلوم أن اللغات تختلف فالمعبود عند العرب والإله الذي يسميه عوامنا السر لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 364-366، والقسم الخامس، الشخصية رقم 19 ص 125 ورقم 7 ص 44، 46. والدرر السنية ط 2، ج2، ص 61، ((فرض معرفة الشهادة)) ص 63، 64، ((اعلم أرشدك الله)) .
يدعى ويرجى ويخاف ويتوكل عليه، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وسأل بعض العامة ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرت له إلا بلغة بلده، فتارة تقول هي فاتحة الكتاب وتارة تقول هي أم القرآن، وتارة تقول هي الحمد، وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم فهذا وجه الإنكار فبينوا لنا1.
ويقول- رحمه الله: "ومن أفرض عبادته عليك معرفة لا إله إلا الله علما وقولا وعملا والجامع لذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} - فاعلم أن وصية الله لعباده هي كلمة التوحيد الفارقة بين الكفر والإسلام، فعند ذلك افترق الناس سواء جهلا أو بغيا أو عنادا، والجامع لذلك اجتماع الأمة على وفق قول الله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فالواجب على كل أحد إذا عرف التوحيد وأقر به أن يحبه بقلبه، وينصره بيده ولسانه وينصر من نصره ووالاه- وإذا عرف الشرك وأقر به أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه ويخذل من نصره ووالاه، باليد واللسان
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 76.
والقلب، هذه حقيقة الأمرين، فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وفيما قدمنا يتبين أن المراد من قول (لا إله إلا الله) هو قولها باللسان وبالقلب وبالأركان تطبيقا لمعناها، وعملا بمقتضاها، وهذا ما يقرره الشيخ1.
ويقرر الشيخ أن الخلاف بين الرسل وأعدائهم ليس في أصل العبادة
ولكن في توحيد العبادة وذلك في مثل قولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 2 ولذلك عادى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي سنة الله تعالى الحكيمة.
قال الشيخ: "اعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: 112) . وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب. وحجج كما قال الله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (غافر:83) .
1 انظر: الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 62، 63، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، قصة موسى وفرعرن ص 295، والقسم الأول، مسائل الجاهلية
ص 341. والقسم الخامس، الشخصية رقم 19 ص 124 ورقم 20 ص، ص 36-139. والدرر السنية ج2، ص 44-45، وص 53.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 104.
إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج. فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عزوجل:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 6 ا-17) .
ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 75) .
والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين. كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 173) . فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان.
وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد منَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله:{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} (النحل: 89) . فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان: 33) . قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة1.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 159-. 16.
ويقرر الشيخ أن هذا التوحيد لا يدرك إلا بالتعلم والتفقه في الدين عن طريق الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المتصل بالتواتر أو بالرواية الصحيحة والحجة، فهو من العلم الذي لا يدرك إلا بالوحي من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والبصيرة في ذلك من أعظم الفرائض، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)1.
ولا بد من التحرز العظيم من ضده لأن فائدة ذلك تصحيح التوحيد، ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحقق التوحيد ويعلمه أمته، وجاء بحماية جناب التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك بالأدب والعلم والتحفظ في الأقوال والأعمال والاعتقاد حتى أبعد أمته عن هذا الحمى غاية البعد، ونهاهم عن كل قول يفضي إلى الغلو كما في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال:"إنطلقت في وفد بني عامر إلى رسول- الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس رضي الله عنه: "أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 20- 21.
يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" رواه النسائي بسند جيد1.
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يقول قائل: عبدي وأمتي- كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك. وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" وهذا من تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ2.
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: ما شاء الله وشئت،:"أجعلتني لله ندا" بل ما شاء الله وحده. رواه النسائي.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يحلف أن يقول ورب الكعبة بدلا من الحلف بها وأن يقول ما شاء الله ثم شئت بدلا من أن يقول: ما شاء الله وشئت - رواه النسائي وصححه.
ونهى عن الحلف بغير الله.
وقال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 21. وباب ماجاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد ص 146-147، ومفيد المستفيد ص 292-293.
2 المرجع السابق، باب لا يقول عبدي وأمتي ص 127، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 22 ا-124 وص 156،157.
وحسنه، وصححه الحاكم1.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تفضي إلى الشرك مثل ما رواه أبو داود باسناد حسن- قال الشيخ: ورواته ثقات- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ".
وهذا من تحقيق التوحيد في الأعمال.
وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".
وقال الشيخ فيما ينقله عن ابن تيمية:"ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن
1 القسم الأول، العقيدة، باب قول ما شاء الله يشرك وشئت ص 112-113، وباب قول الله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} ص 109، 110، ومفيد المستفيد ص 292.
آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
…
} وقال صلى الله عليه وسلم من كان آخركلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة- والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستغاثة به ورجاء له وخشية وإِجلالا 1.
ويقرر الشيخ أن من عرف أحوال المشركين القدامى2 والأمر الذي صاروا به مشركين وهو دعاؤهم غير الله طلبا للزلفى والشفاعة عند الله، وعرف حالة أكثر الناس تبين له صفة الإسلام الذي دعا إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتبين له أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ". لذلك كان تعلم هذه المسألة العظيمة، من أعظم واجبات الشريعة كيف لا؟ وهي حق الله على العبيد، أهم الأمور، والصحابة رضى الله عنهم لم يعرفوها إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين.
بل إن الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علمهم الله تعالى- قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} - وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
1 المرجع السابق، باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ص 66،67، ومفيد المستفيد ص 292 وص 293. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع ابن قاسم ج 3/ 397- 400.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 367.
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فإِذا كان هذا نبينا صلى الله عليه وسلم فكيف بمن دونه؟ وما بال الخليل صاحب الملة الحنيفية، وما كان من المشركين يخاف على نفسه وعلى بنيه وهم أنبياء حيث قال:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .
وها هو يوصي أولاده وهم أنبياء- قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.
وهذا موسى عليه السلام لما قال يارب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به قال: "قل ياموسى "لا إله إلا الله" قال: يارب كل عبادك يقولون هذا.- قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيرى، والأرضين السبع في كفة- ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
قال الشيخ: فيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه"2. لأنه لم يعمل بمقتضاها، وعمل بنقيضها.
1 الدرر السنية، ط 2، ج2 ص 56، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 10، والقسم الرابع، التفسير ص 345.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد وما
يكفر من الذنوب، ص 12-14.
وهؤلاء أهل الكتاب يدعون أول ما يدعون إلى أن يوحدوا الله- وفي رواية إلى شهادة أن لا إله إلا الله- كما في الصحيحين عن ابن عباس وسهل بن سعد رضى الله عنهم- وهذا يدل على أنهم وهم. أهل الكتاب لا يعرفونها أو يعرفونها ولا يعملون بها1.
كل هذا يؤكد أهمية تعلم التوحيد لاسيما وأن التوحيد له أعداء من الشياطين يصدون عنه ويجادلون كما تقدم بيانه. وهذا كله يؤكد أهمية تعلم التوحيد وضده والعمل بالتوحيد وترك ضده، أهمية بالغة وبالنسبة لكل إنسان مهما كان، ويؤكد عدم الالتفات لقول من يقول التوحيد عرفناه وفهمناه وأمره سهل وليس للشرك وجود ولا خطر2.
بل إذا عرف الإنسان أن الله أمر بهذا التوحيد ونهى عن ضده..
1 المرجع السابق، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20-23 وباب قول الله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ص 47، والقسم الرابع، التفسير، آيات من الزمر ص 345، والقسم الخامس، الشخصية رقم11 ص67، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم92 ص79-82.
2 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 56، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الخوف من الشرك ص 18-19. وكشف الشبهات ص 158-160 والقسم الخامس، الشخصية رقم 22 ص 156-157. والقسم الرابع، التفسير، البقرة ص 28-29، وص 40-44، والأنعام ص 53-54 وص 59-63، وص 63-68.
وجب عليه أن يعلم المأمور به ويسأل إلى أن يعرفه، وأن يعلم المنهى عليه ويسأل إلى أن يعرفه وأن يحبه ويعزم ويعمل، ولو تغيرت دنياه أو عارضه أحد من المعظمين، وأن يخلص ذلك لله وأن يجعله صوابا علي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخشى من محبطات عمله وأن يثبت عليه ويخاف من سوء الخاتمة1.
وبعد أن بينا تفسير التوحيد عند الشيخ والمراد من قوله "لا إله إلا الله" وفرضه ومكانته وأهميته وفضله نبين:
أن الشيخ رحمه الله يستدل على التوحيد وتفسيره. وعلى أن هذا التوحيد هو المطلوب الذي يرضاه الله ولا يرضى ضده بالبراهين العظيمة التى احتج الله بها على خلقه واستدل بها رسل الله ومن تبعهم على الأمم المخالفة، فاستدل بربوبية الله العامة للعالمين، وبآثار صفات الوحدانية لله تعالى بالقدرة والغنى والعلم على وجه الكمال فى مخلوقاته واستدل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وبالوحي المنزل عليه المعجز، وبسنته الصحيحة من أقواله وأفعاله وتقريره. واستدل بمخلوقات الله تعالى وعبوديتها له وفقرها وحاجتها إليه طوعا وكرها.
ويقرر الشيخ تقريب الله التوحيد بالعقل، والنقل، والأئمة، والأدلة
1 الدرر السنية ط2 ج2 ص 38 - 39 بتصرف قليل. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 162.
المصرفة يقول الشيخ: "فأما العقل فكون الإنسان الذي فى عقله: أنك تلجأ إلى الحى ولا تلجأ إلى الميت، وتطلب الحاضر ولا تطلب الغائب، وتطلب الغنى ولا تطلب الفقير.
وأما النقل ففي القرآن أكثر من أربعين مثلا.
وأما الأئمة فمثل ما يعرف أن الناس متعلقة قلوبهم بالعلماء، ويقال من أكبر الأئمة؟
ومعلوم أنه محمد وإبراهيم عليهما السلام.
فأما إبراهيم فكما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة: 124) .
ولما جعله الله إماما معلوم أنه فى التوحيد، وما جرى عليه من قومه أوقدوا له نارا إذا مر الطير من فوقها سقط فيها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم، فأي شىء هو مرسل به دعوة الصالحين هو مرسل يهدمها أو يقيمها؟ أو ساكت عنها لا قال شينة ولا زينة؟ ومعلوم أنه ما تفارق هو وقومه إلا عندها.
وأما الأدلة المصرفة فبحر لا ساحل له كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية1.
وكم كان استدلال الشيخ بربوبية الله تعالى وصفاته على التوحيد، فلقد قرر وأكد الاستدلال بالآيات والبراهين الكثيرة فى مواضع شتى من
1 الدرر السنية، ج2 ص 40.
آثاره ومؤلفاته- رحمه الله ولا أدل على ذلك من المبحث المتقدم فى الربوبية والأسماء والصفات الذي هو توحيد المعرفة والاثبات فهو توحيد العلم وقدمناه لأنه برهان توحيد الطلب فليراجع.
ونزيد ذلك إيضاحا بما نذكره هنا من الإشارة إلى وجه الاستدلال فنقول: إن الشيخ رحمه الله يرى أن توحيد الربوبية هو الإقرار بربوبية الله والإقرار بصفاته صفات الكمال دليل عظيم وبرهان ساطع على توحيد
الإلهية.
فربوبية الله للعالمين من أخص صفاته سبحانه وتعالى، وهذا أمر مسلم به حتى من الكفار، فإن الكفار الذين كانوا على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية.
قال الشيخ: "توحيد الربوبية هو الذي أقر به الكفاركما فى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . هذا الإقرار بتوحيد الربوبية يلزم منه أن يقروا بتوحيد الإلهية وأن لا يعبدوا إلا الله تعالى ولكنهم لم يقروا باللازم بل نازعوا فيه وأعلنوا استنكارهم له فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} - يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم قولوا: "لا إله إلا الله ".
لأن الإله فى كلام العرب هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله سبحانه هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين
والملائكة وغيرهم يقولون إن الله يرضى هذا ويشفعون لنا عنده، فكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه يستدل عليهم باقرارهم بتوحيد الربوبية على بطلان مذهبهم هذا، لأنه إذا كان هو المدبر وحده وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة فكيف يدعون معه غيره مع إقرارهم بهذا؟ 1.
وكذلك المنازعون للشيخ فى التوحيد هم يقرون بتوحيد الربوبية لكنهم قد أضافوا على اقتصارهم فى التوحيد على الربوبية دون الإلهية دعوى أنهم إذا قالوا لا يخلق ولا يرزق ولا يضر ولا ينفع إلا الله فقد قالوا بمقتضى لا إله إلا الله كما يقولونها بألسنتهم. ومن هنا صار الشيخ يبين التوحيد، والفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأنه لا نزاع فى توحيد الربوبية.
قال الشيخ مستدلا على منازعيه بما أقروا به: "فإذا قيل لا خالق إلا الله لا يشاركه فى ذلك ملك مقرب ولا نبى مرسل، وإذا قيل لا يرزق إلا الله فكذلك فاذا قيل لا إله إلا الله فكذلك"، ثم قال الشيخ يخاطب بعض من يراسلهم: " فتفكر رحمك الله فى هذا واسأل عن معنى الإله كما تسأل عن معنى الخالق والرازق، واعلم أن معنى الإله هو المعبود، وهذا هو تفسير
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم7 ص 42. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع ص 200-202.
هذه اللفظة باجماع أهل العلم فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل إلا إله واحد، وهو الله تبارك وتعالى علوا كبيرا" 1.
ويقول الشيخ فى تفسير قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131) فيه أن إبراهيم استجاب لله فيما أمره به وهو الإسلام، الذي هو سبب الكلام والخصومة، وأن إبراهيم وصف ربه سبحانه بما يوضح المسألة، وهو الربوبية للعالم كله، فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا التقرير والثناء والتوضيح للإسلام" 2.
وقال الشيخ فى ذكر بعض ما فى قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} 3 من بيان الحق وإبطال الباطل.
الأولى: إذا كانت المحاجة فى الله سبحانه من أقرب ما يكون إليه من المختلفين فى مسألة التوحيد، فإذا كان الله رب الجميع وأنه عدل لا يظلم بإقرار الجميع ثم افترقنا فى كوننا قاصدينه مخلصين له الدين وأنتم قصدتم
1 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 53، 54.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 35.
غيره فكيف يساوى بيننا وبينكم أو يخص بكرامته من أعرض عنه دون من قصده؟ هذا لا يدخل عقل عاقل.
وبيان ذلك بمعرفة الله تعالى فيما اجتمعنا وإياكم عليه، ومعرفة حالنا وحالكم فى المسألة، وذلك أنا مجمعون على استوائنا وإياكم فى العبودية، بخلاف ملوك الدنيا فان بعض الناس يكون أقرب إليهم من بعض بالقرابة وغيرها، ونحن مجمعون أيضا أنه لا يظلم أحدا من عبيده، بل كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، بخلاف ملوك الدنيا فانهم يأخذون مال هذا ويعطون هذا، فإذا كان الأمركذلك فكيف تدعون أنكم أولى بالله منا، ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟ وكيف يظن به أنه يساوى بين من قصده وحده لا شريك له، ومن قصد غيره وأعرض عنه؟ وهل يظن عاقل أو سفيه برجل من بني آدم خصوصا إذا كان كريما، أن من قصده وضاف عنده يكرهه ولا يضيفه، ويخص بالرضا والكرامة والضيافة من أعرض عنه وضاف عند غيره مع استواء الجميع فى القرب منه والبعد؟ هذا لا يظن فى الآدمى فكيف يظن برب العالمين؟ فتبين بقضية العقل أن ما جاءت به الرسل من الإخلاص هو الموافق للعقل، وما فعل المشركون هو العجاب المخالف للعقل، فيالها من حجة ما أعظمها وأبينها، لكن لمن فهمها كما ينبغى1.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 28-29، وانظر: ص 40، 41.
ويستدل الشيخ بمفهوم الإله عند العرب وعند أهل العلم وأنه المعبود وأن صفة الله بالإله صفة يختص بها لا يشركه فيها غيره ولذا كان قول: لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها هو الدخول فى التوحيد المطلوب والتحقق به. لأن الله تعالى هو الإله الحق الذي لا إله حقيقة إلا هو، ومعنى أنه الإله أى المألوه، والمألوه هو أعلى الغايات عند المسلم والكافر، إلا أن الكافر يزعم أن الله هو الإله الأكبر لكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلم ممن يدعى الإسلام جنى عليه اعراضه عن الوحى وإقباله على معقولات البشر فضل عن معرفة معنى الإله فظن أن معنى الإله هو القدرة على الخلق. ثم قال التوحيد لا يتم إلا بنفى الصفات فنفاها فصار الكافر أعقل منه، أما المسلمون حقا فأجمعوا مع الأنبياء فى إجماعهم على أن الإله وصف يختص الله به وهو الجامع لصفات الكمال فانه يدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات- كما قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق: آخرها) .
وقال الشيخ: "فمن أنكر الصفات فهو معطل والمعطل شر من المشرك ولهذا كان السلف يسمون التصانيف فى إثبات الصفات كتب التوحيد وختم البخارى صحيحه بذلك- قال: كتاب التوحيد ثم ذكر الصفات بابا بابا.
فبين السلف أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات فلا تكون إلا بإثبات الصفات والأفعال فتبين أن منكر الصفات منكر لحقيقة الألوهية لكن لا يدرى وتبين لك أن من شهد أن لا إله إلا الله صدقا من قلبه لابد أن يثبت الصفات
والأفعال" 1.
فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون: التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات- فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيدكم هو التعطيل ولهذا آل هذا القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى، ثم يقرر الشيخ: أن أكابر أهل العلم قد يغلطون فى مفهوم الإله ومن ثم يغلطون فى مسمى التوحيد، وينقل عن الشيخ تقى الدين ابن تيمية قوله: قد غلط فى مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته، فطائفة ظنت أنه نفى الصفات وسموا أنفسهم أهل التوحيد، وطائفة ظنت أنه ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأطالوا الكلام فى تقرير هذا الموضع، إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة، واستقلال كل من الفاعلين بالفعل محال، وإما بغير ذلك ولم يعلموا أن مشركي العرب مقرون بهذا التوحيد- قال الله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الآيات من سورة المؤمنين من آية 84 إلى آية
1 الدرر السنية، ط 2 ج1ص 70- 71.
89) . وهذا من التوحيد الواجب لكن لا يخلص من الشرك بالله الذي لا يغفره الله، بل لابد أن يخلص لله الدين فيكون دينه لله، والإله هو المألوه وكونه يستحق ذلك مستلزما لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا ومحبوبا لذاته إلا هو، فكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) وقد بينَّا أن الآية لم يقصد بها دليل التمانع فانه يمنع وجود المفعول لإفساده بعد وجوده1. ويستدل الشيخ- رحمه الله على التوحيد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أيضا فيقول:
"ولما أراد الله سبحانه إِظهار توحيده وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا. وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين2 إلى الناس كافة فأتاهم النبى صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي "لا إله إلا الله ".
والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها3- كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4 (الأنبياء:
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 67 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة مسألة رقم 92 ص 79-82.
2 الدرر السنية، ط 2 ج2 ص 46.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 157.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 64.
25) . ففي هذه الآية دليل على أن الله أوحى إلى رسله جميعا أنه مختص بالإلهية. وفى هذه الآية كما فى غيرها من الآيات الخبر عن أكبر المسائل على الإطلاق وهي تفرد الله بالإلهية وهذا هو التوحيد1، وفى الآية التعقيب المباشر بالأمر بلازم التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وذلك مثل قوله لموسى عليه وعلى محمد الصلاة والسلام {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 14) .
ذكر الشيخ أن فيه: أَمره بالاستماع لما يوحى وأن أول ذلك أكبر المسائل على الإطلاق وهو تفرده بالإلهية، وأمره بلازم التوحيد وهو إفراده بالعبادة2. ومثله قول الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: آخرها) .
وينبه الشيخ إلى طريقة القرآن فى الاستدلال والبرهنة على التوحيد وهي الطريقة العقلية الشرعية فهي عقلية حيث أن العقل يشهد بصحتها وشرعية حيث أن الشرع جاء بها ومن ذلك ما قاله الشيخ فى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
1 الدرر السنية ط 2 ج1 من كلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص ص 69- 71.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 295.
الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} (الأعراف: 59-64) .
قال الشيخ فيه: "تعريفهم أن هذا الذي استغربوا ونسبوا من قاله إلى الجهالة والجنون هو الواجب فى العقل وهو أيضا حظهم ونصيبهم من الله، لأنه سبب الرحمة ففى هذا الكلام من أوله إلى آخره من تحقيق الحق وذكر أدلته العقلية على تحقيقه وإبطال الباطل وذكر الأدلة العظيمة على بطلانه ما لا يخفى على من له بصيرة1. ومن ذلك ما نبه إليه الشيخ فى قوله تعالى فى سورة الأنعام عن محاجة إبراهيم لقومه.
قال الشيخ- رحمه الله فى تفسيره ومن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} - إلى قوله- {إِنْ هُوَ إلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 2- فيه مسائل-:
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، الأعراف ص 101، 102.
الأولى: قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} السؤال عن معنى الآلهة فإنها جمع إله وهو أعلى الغايات عند المسلم والكافر فكيف يتخذ جمادا، وهذا أعجب وأبعد عن العقل من جعل الحمار قاضيا، لأن الحيوان أكمل من الجماد فإذا كان هذا من خشب أو حجر لم يعص الله، فكيف بمن اتخذ فاسقا إلها مثل نمرود وفرعون، فإن كان اتخذه بعد موته فأعجب وأعجب.
الثانية: القدح فى حجتهم لأن السواد الأعظم ليس لهم حجة إلا هي، فيدل على الرسوخ فى مخالفتهم بالأدلة اليقينية لقوله:{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
الثالثة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن ذلك
من أعظم الأدلة على المسألة ببديهة العقل، لأن من رأى نخلاً كثيراً لا يخالجه شك أن المدبر له ليس نخلة واحدة منه. فكيف بملكوت السموات والأرض؟
الرابعة: أَن هذا النفي إنما نفي لأجل الاثبات.
الخامسة: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فلم يكمل غيره حتى كمل.
السادسة: عظم مرتبة اليقين عند الله لجعله التعليم علة لإيصاله إليه.
السابعة: براءته من شركهم نفى أولا كونها: تستحق. ونفى ثانيا عن نفسه الالتفات إليها.
الثامنة: نفي النقائص عن ربه.
التاسعة: ذكر توجهه الذي هو العمل.
العاشرة: ذكر الدليل الذي دله على النفي والاثبات.
الحادية عشرة: تحقيقه ذلك بكونه حنيفا، وهذه المسألة التي قال الله فى ضدها {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 106) .
الثانية عشرة: تصريحه لهم بما ذكرولم يدار مع كثرتهم ووحدته.
الثالثة عشرة: تصريحه بالبراءة منهم بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
الرابعة عشرة: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ولم يذكرحجتهم، لأن كلامه كاف عن كل ما يقولون.
الخامسة عشرة: أنهم لما خصموا رجعوا إلى التخويف كفعل أمثالهم، فذكر أنه لا يخاف إلا الله، لتفرده بالضر والنفع بخلاف آلهتهم فذكر النفى والاثبات.
السادسة عشرة: سعة العلم وما قبله سعة القدرة، وهاتان هما اللتان خلق العالم العلوى والسفلى لأجل معرفتنا بهما.
السابعة عشرة: أن من ادعى معرفتهما وأشكل عليه التوحيد فعجب، ولذلك قال:{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} .
الثامنة عشرة: قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} إلى آخره يدل على أنها حجة عقلية تعرفها عقولهم.
التاسعة عشرة: قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يدل على أن من أشكلت عليه هذه الحجة فليس له علم.
العشرون: البشارة العظيمة والخوف الكثير فى فصل الله هذه الخصومة، إذا عرف ما جرى للصحابة، وما فسرها لهم به النبى صلى الله عليه وسلم.
الحادية والعشرون: تعظيمه سبحانه هذه الحجة باضافتها إلى نفسه، وأنه الذي أعطاها إبراهيم عليه السلام عليهم.
الثانية والعشرون: أن العلم بدلائل التوحيد وبطلان الشبه فيه يرفع الله به المؤ من درجات.
الثالثة والعشرون: معرفة أن الرب تبارك وتعالى حكيم يضع الأشياء فى مواضعها.
الرابعة والعشرون: كونه عليم بمن هو أهل لها كما قال تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) .
الخامسة والعشرون: ذكر نعمته على إبراهيم بذريته التى أنعم عليهم بالهداية.
السادسة والعشرون: أن العلم والهداية أفضل النعم لقوله: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} .
السابعة والعشرون: هداية المذكورين أصولهم وفروعهم ومن فى درجتهم.
الثامنة والعشرون: ذكره الذي هداهم الله إليه. وهو الصراط المستقيم، وهو المقصود من القصة.
التاسعة والعشرون: التنبيه على الإستقامة.
الثلاثون: القاعدة الكلية أن هذا الطريق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ليس للجنة طريق إلا هو.
الحادية والثلاثون: التنبيه على أن الهداية إليه بمشيئته ليظهر العجب وتشكر النعمة.
الثانية والثلاثون: العظيمة التى لم يعرفها أكثر من يدعي الدين، وهي مسألة تكفير من أشرك وحبوط عمله، ولو كان أعبد الناس وأزهدهم.
الثالثة والثلاثون: ذكره أنه أعطاهم ثلاثة أشياء: الكتاب، والحكم، والنبوة، فلا يرغب عن طريقهم إلا من سفه نفسه.
الرابعة والثلاثون: ما فى قوله {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} إلى آخره من العبر والتحريض على الحرص على طلب العلم من طريقهم وما فيه من النفور من الجهل وتقسيمه.
الخامسة والثلاثون: قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أن دينهم واحد وأن شرعهم شرع لنا.
السادسة والثلاثون: النهى عن البدع فان فى التحريض عليه نهى عن ضده.
السابعة والثلاثون: كون النذير البشير مع مقاساة الشدائد فى ذلك لم يطلب منا أجرا عليه.
الثامنة والثلاثون: كونه ذكرى، ففيه الرد على من يقرأ بلا تدبر.
التاسعة والثلاثون: قوله: {لِلْعَالَمِينَ} فيه تكذيب من قال: لا يعرفه إلا المجتهد.
الأربعون: الحصر فيما ذكر، والله سبحانه أعلم1.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 63-68.
يقول عليه السلام إني عليم بتعبير الرؤيا هذه وغيرها {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} قبل إِتيانه فكيف بغير ذلك؟ ففيه مسائل:
الأولى: ذكر العالم أنه من أهل العلم عند الحاجة ولا يكون من تزكية النفس.
الثانية: إِضافة هذه النعمة العظيمة إلى معطيها سبحانه لا إلى فهم الإنسان واجتهاده.
الثالثة: ذكر سبب اكرام الله له بهذا الفضل وهو الترك والفعل فترك الشرك الذي هو مسلك الجاهلين واتبع التوحيد الذي هو سبيل أهل العلم من الأنبياء وأتباعهم.
الرابعة: ذكره أنه من هؤلاء الأكرمين فانتسب إلى البيت التي هو
أشرف بيوت أهل الأرض، وهذا جائز على غير سبيل الافتخار خصوصاً عند الحاجة.
الخامسة: أنه صرح لهم بأنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
السادسة: أن الجد يسمى أباً كما ذكر ابن عباس واحتج بالآية على
زيد بن ثابت.
السابعة: قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} قيل معناه أن الله عصمنا، وهذه الفائدة من أكبر الفوائد وأنفعها لمن عقلها، والجهل بها أضر الأشيا وأخطرها.
الثامنة: قوله: "من شيء" عام كل ما سوى الله، وهذه المسألة هي التي غلط أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، كما قَال تعالى:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13) .
التاسعة: ذكر سبب معرفتهم بالمسألة وعلمهم بها وثباتهم عليها، وهو مجرد فضل الله فقط عليهم.
العاشرة: أن فضله سبحانه ليس مخصوصاً بنا بل عام للناس كلهم لكن منهم من قبله ومنهم من رده، وذلك أنه أعطى الفطرة ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب.
الحادية عشرة: إزالة الشبهات عن المسألة التي هي أكبر الشبه، وذلك أن الله إذا تفضل بهذا كله خصوصا البيان فما بال الأكثر لم يفهم ولم يتبع فما أكثر الجاهلين بهذا وما أكثر الشاكين فيه، فقد ذكر تعالى
أن السبب أن جمهور الناس لم يشكر فأما من عرف النعمة فلم يلتفت إليها فلا إشكال فيه. وأما من لم يعرف فذلك لإعراضه ومن أعرض فلم يطلب معرفة دينه فلم يشكر.
الثانية عشرة: دعوته إياهما عليه السلام إلى التوحيد في تلك الحال فلم تشغله عن النصيحة والدعوة إلى الله فدعاهما أولا بالعقل، ثم بالنقل: وهي الثالثة عشرة.
الرابعة عشرة: قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فهذه حجة عقلية شرحها في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} الآية (الزمر: 29) .
الخامسة عشرة: أن الَّذي في الجانب الآخر هو الَّذي جبلت القلوب وأقرت الفطر أنه ليس كفو.
السادسة عشرة: أنه هو القهار مع كونه واحدا، وما سواه لايحصيهم إلا هو فهذا قوله، وهذا عجزهم فكيف يعدل به واحد منهم، أو عشرة أو مائة.
السابعة عشرة: بيان بطلان ما عبدوا من دونه بأنها أسماء لا حقيقة لها.
الثامنة عشرة: التنبيه على بطلانها بكونها بدعة ابتدعها من قبلكم فتبعتموهم.
التاسعة عشرة: بيان الواجب على العبد في الأديان السؤال عما أمر الله به ونهى عنه، وهو السلطان المنزل من السماء لايعبد بالظن وما تهوى الأنفس.
العشرون: القاعدة الكلية التي تفرع عنها تلك الجزئية وهي أن أحكام الدين والدنيا إلى الله لا إلى آراء الرجال - كما قَال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى:10) .
الحادية والعشرون: إذا ثبت أن الحكم له وحده دون الظن وما تهوى الأنفس فإنه سبحانه حكم بأن العبادة كلها محصورة عليه ليس لأحد من أهل السماء وأهل الأرض منها شيء.
الثانية والعشرون: أن هذه المسألة هي الدين القيم وكلما خالفها أو ليس منها فليس بقيم بل أعوج، فعلامة الحق أن العقول السليمة تعرف اعوجاج غيره بالفطرة، ومع هذا أنزل الله السلطان من السماء بتحقيق هذا والإلزام به، وتبطيل ذلك وتغليظ الوعيد عليه.
الثالثة والعشرون: المسألة الكبيرة العظيمة التي لو تجعلها نصب عينيك ليلا ونهارا لم يكن كثيرا، وأيضا تبين لك كثيرا من المسائل التي أشكلت على الناس وهي أن الله بين لنا بيانا واضحا أن الأكثر والجمهور الَّذي يضيقون الديار ويغلون الأسعار من أهل الكتاب والأميين لا يعلمون هذه المسألة: مع إيضاحها بالعقل والنقل والفطرة، والآيات النفسية
والأفقية 1.
وفي استنباطات الشيخ من سورة النحل الآيات (1-22) يشير إلى الأدلة والمدلول عليه قَال الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ. خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 144-147.
اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}
قال الشيخ: فيها ذكر الحكمة في إنزال الروح وهو إنذار الخلق عن الشرك، وفيها الاستدلال بخلق السموات والأرض وأنه بالحق، والاستدلال بخلق الإنسان، فذكر أولا: الخلق العام ثم الخاص وفيها الاستدلال بخلق الأنعام على اختلافها وأن ذلك لنا، وذكر الخيل والبغال والحمير في الاستدلال، والتنبيه على خلق ما لا نعلم، وفيها اللاستدلال بانزال المطر والاستدلال بخلق الليل والنهار والعلويات وتسخيرها لنا بأمره وأنها آيات مخصوصة بالذين يعقلون، وفيها الاستدلال بخلق ما في الأرض لنا على اختلافه وكثرته والآيات في ذلك وتخصيص المتفكرين بفهمها، وتسخير الله البحر وأنه الذي فعله لا غيره، والاستدلال بخلق الجبال وفي قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} الدليل القاطع البديهي الفطري الضروري، وأن الذين يدعون من دون الله ليس لهم قدرة ولا لهم علم فلا يخلقون شيئا ولا يدرون متى يبعثون، وأنهم أموات غير أحياء وذكر المدلول عليه وهو توحيد الإِلهية وأنه مع تكاثر هذه الأدلة ووضوحها أنكرته قلوب هؤلاء وسببه عدم الإيمان بالآخرة لاخفاء الأدلة وأن الشرك
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 199-205.
الثانية: إنزاله من السماء.
الثالثة: منه سبحانه.
الرابعة: ذكر عزته في هذا الموضع.
الخامسة: ذكر حكمته فيه.
والآية الثانية: فيها الأولى والثانية (يعنى منته بالكتاب، وإنزاله من السماء) .
الثالثة: إنزاله بالحق، فيفيد الرد على أكثر الناس في مسائل كثيرة.
الرابعة: تخصيصه الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله فالنعقة عليه أكبر، وعليه من الشكر أكثر، وكذلك من خص بما يشابه ذلك.
الخامسة: نتيجة إِنزاله بالحق ونتيجة الإِنعام به وهي عبادة الله بالإِخلاص- وهذه الخامسة هي الدين كله، وجعلها بين الرابعة والسادسة وهي أن الدين الخالص لله، وغير الخالص ليس له وهما قاعدتان عظيمتان.
الآية الثالثة: فيها إِبطال اتخاذ الأولياء من دونه.
والثانية: إِبطال ما غرَّهم به الشيطان أن قصدهم وجه الله لا غير، وما أجلها من مسألة.
الثالثة: الوعيد الشديد على ذلك.
الرابعة: ذكره تكفير من فعل ذلك.
الخامسة: تكذيبه.
السادسة: ذكره أنه لا يهدي هذا، وهي من مسائل الصفات.
الآية الرابعة: فيها نفي اتخاذ الولد على سبيل الاصطفاء.
الثانية: ذكر خطئهم في القياس لأنه لو يفعله لم يكن مما قالوا.
الثالثة: أنه مسبة لله بقوله سبحانه.
الرابعة: ذكره الوحدانية في هذا.
الخامسة: ذكره القهر فيه.
السادسة: الاستدلال بالأسماء والصفات على النفي والاثبات، وهي
مسائل كبيرة عظيمة.
الآية الخامسة: فيها ذكر البراهين على ما تقدم من الدين الحق وضده وهذه البراهين هي:
الأولى: خلق السموات والأرض.
الثانية: أنه بالحق.
الثالثة: تكوير المكورين.
الرابعة: تسخير النير ين.
الخامسة: ذكر عزته في هذا.
السادسة: ذكر مغفرته.
الآية السادسة: في البراهين أيضا:
الأولى: خلقنا من نفس واحدة مع هذه الكثرة.
الثانية: خلقه منها زوجها.
الثالثة: إِنزاله لنا من الأنعام هذه النعم العظيمة.
الرابعة: خلقنا في البطون.
الخامسة: أنه خلق من بعد خلق.
السادسة: أنه في الظلمات الثلاث.
السابعة: كلمة الإِخلاص.
الثامنة: التعجب من الغلط في هذا مع كثرة هذه البراهين ووضوحها.
الآية السابعة: فيها سبع جمل كل واحدة مستقلة.
الآية الثامنة: فيها ذكر حال الإنسان مع ربه.
والثانية: هذه المسألة العجيبة من حاله.
الثالثة: برهان التوحيد.
الرابعة: حِلْمهُ سبحانه.
الخامسة: أن الكافر مقر بتوحيد الربوبية.
السادسة: أنه يخلص لله وينيب في الضر.
السابعة: أن الإِجابة في هذا لا تدل على المحبة.
الثامنة: تدل على أن الحق عليه أكبر.
التاسعة: ومعرفة قدر الدنيا.
العاشرة: شدة الوعيد على هذا.
الحادية عشرة: أن الحجة عليه أكبر.
الثانية عشرة: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها.
الثالثة عشرة: ما كفاه النسيان حتى جعل الشكرجعل الأنداد.
الرابعة عشرة: أمر المؤمن أن يعظ الفاعل1.
ويستدل الشيخ بعبودية ما سوى الله طوعا وكرها وفقر المخلوقات مهما كانت إلى الله تعالى ويبين أن كل ما سوى الله عبد مربوب مخلوق
محتاج للإله الحق وليس له في الألوهية حق.
وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} .
وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} 2 الآية (النحل: 111) .
وإذا كان الله قد أنكر عبادة من لا يملك لعابده نفعا ولا ضرا كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) .
وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} .
فمعلوم أن هذا يستلزم علمه بحاجة العباد ناطقها وبهيمها، ويستلزم
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 317-321 وص 325-326.
2 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 53.
القدرة على قضاء حوائجهم، ويستلزم الرحمة الكامنة واللطف الكامل وغير ذلك من صفات الكمال ونعوت الجلال1.
وهذا معنى الإله، والإله هو الجامع لصفات الكمال، فهو أعلى الغايات المعبود المحبوب المطلوب لهذه المخلوقات.
ويرى الشيخ أن مخلوقات الله من أظهر الآيات الدالة على التوحيد2- ويقول: إذا قيل لك: من ربك؟ - فقل ربى الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لى معبود سواه والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم. فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل بآياته ومخلوقاته3، ومن آياته أن خلق وصور وشق السمع والبصر ووهب جميع الحواس4. والخلق أظهر آياته سبحانه، خاصة خلقه للإنسان، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 5.
1 انظر: الدرر السنية، ط 2، ج1ص 69-71. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 42.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، العلق ص 369.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187.
4 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 58-60، 47،48.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 369، والنحل مسألة 15
ص 204 وقصة موسى وفرعون ص 299، 305 والزمر ص 339. والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب 14ص 45.
ومن آياته المخلوقة التى خلقها وسخرها وهي دالة عليه الليل والنهار والشمس والقمر والسموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما1. والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: 37) .
ويستدل الشيخ بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 21،22) .
قال ابن كثير- رحمه الله الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص186-189.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص186، 187وص 370.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187.
ويقول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
يقول الشيخ: بعد أن أورد هذه الآية- ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 1 (البقرة: 163-165) .
هذا وقد عقد الشيخ بابا في كتاب التوحيد ترجم له بقوله: باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أورد فيه من براهين التوحيد بيان عجز المخلوقات وكل ما سوى الله عن الخلق، وفقر العالمين جميعا إلى الله تعالى بالعقل والشرع- كما وردت في النصوص الموحى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قول الله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 191، 192) .
وفي الصحيح عن أنس، قال: "شج النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {ليس لك من الأمرشىء}
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 106.
(آل عمران: 128) .
وفيه عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.
وفي رواية: "يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
وفيه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا".
قال الشيخ في مسألة: قوله للأبعد والأقرب "لا أغني عنك من الله شيئا" فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين1.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص45-47.
قال الشيخ ابن سعدي- رحمه الله في القول السديد الذي علق به على كتاب التوحيد تحت هذه الترجمة باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} - هذا شروع في براهين التوحيد وأدلته فالتوحيد له من البراهين النقلية والعقلية ما ليس لغيره، فتقدم أن التوحيدين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من أكبر براهينه وأضخمها، فالمتفرد بالخلق والتدبير، والمتوحد في الكمال المطلق من جميع الوجوه هو الذي لا يستحق العبادة سواه.
وكذلك من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين ومن عبد مع الله فان جميع ما يعبد من دون الله من ملك وبشر ومن شجر وحجر وغيرها كلهم فقراء إلى الله عاجزون ليس بيدهم من النفع مثقال ذرة، ولا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق وهو الرازق لكل مرزوق المدبر للأمور كلها الضار النافع المعطى المانع الذي بيده ملكوت كل شىء وإليه يرجع كل شىء وله يقصد ويصمد ويخضع كل شىء. فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق وعلى بطلان الشرك.
وإذا كان أشرف الخلق على الإِطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحما فكيف بغيره؟ فتباً لمن أشرك بالله وساوى به أحدا من
المخلوقين، لقد سلب عقله بعد ما سلب دينه فنعوت البارى تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو.
وكذلك صفات المخلوقات كلها، وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شؤونها، وأنه ليس لها من الكمال إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شىء منها. فمن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده وإِخلاص الدين له والثناء عليه، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه، وانصرافه عن التعلق بالمخلوقين خوفا ورجاء وطمعا1. ا. هـ بتصرف قليل.
والشيخ رحمه الله كثيرا ما يورد النصوص من الوحي الدالة على التوحيد مثل قول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 106، 107) . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: 17) .
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ
1 القول السديد بهامش كتاب التوحيد، ص 61-64.
دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5، 6) .
وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 62)1.
هذا ومن الأبواب التى عقدها الشيخ وتعد بيانا لبراهين التوحيد في كتاب التوحيد هي:
1-
باب قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2 (سبأ: 23) .
2-
باب الشفاعة3 وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 22، 23) .
قال الشيخ فيها الحجة على ابطال الشرك خصوصا ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق الشرك من القلب.
3-
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 42-44.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 48-50.
3 المصدر السابق، ص 51-53.
(القصص: 56)1.
4-
باب: (لا يستشفع بالله على خلقه)2.
5-
باب: في (حماية النبى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد)3.
6-
باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4.
7-
باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 5 وغير ذلك من الأبواب التى يطرقها الشيخ في مؤلفاته: للدلالة على التوحيد.
ومن أدلة الشيخ التاريخية على معنى التوحيد استعراضه لما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه- فمن ذلك يقول الشيخ: "وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه. وقص الله سبحانه بعضه في كتابه.
ومن أشهرذلك: قصة عمه أبى طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته. وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة. وصبر عليها، ومع ذلك كان مصدقا له، مادحا لدينه محبا لمن اتبعه، معاديا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دين آبائه واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه.
1 المصدر السابق، ص 54- 55.
2 المصدر السابق، ص 145.
3 المصدر السابق، ص 66-67، 146-147.
4 المصدر السابق، ص 124.
5 المصدر السابق، ص 148- 151.
ولولا ذلك لاتبعه. ولما مات- وأراد النبى صلى الله عليه وسلم الاستغفارله- أنزل الله عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1 (براءة:113) .
ويذكرالشيخ عن أبى محمد بن قدامة أن أبا طالب كان يقر بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم وله في ذلك أشعار منها:
ألا أبلغا عنى على ذات بيننا
…
لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب
بأنا وجدنا في الكتاب محمداً
…
نبياً كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
…
ولاخير2 ممن خصه الله بالحب
ومنها:
تعلم خيار الناس أن محمدا
…
وزيرا لموسى والمسيح ابن مريم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا
…
فإن طريق الحق ليس بمظلم
ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار. ولما حضرته الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبى أمية- فقال:"ياعم قل: لا إله إلا الله، كلمة: أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه، وهما يرددان عليه حتى كان آخركلمة قالها:"هو على ملة عبد المطلب" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 30-31.
2 ولا خير: أي لا أخير.
"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113)، ونزل قوله تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) .
وقصة وفاة أبى طالب أخرجها البخارى ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ورواها أحمد ومسلم والترمذى من حديث أبي هريرة1.
وقصة أبي طالب يتضمنها الحديث الثاني من عشرين حديثا من صحيح مسلم قام بدراسة أسانيدها وشرح متونها الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد2.
ويعلق الشيخ على هذه القصة فيقول: فيالها من عبرة ما أبينها، ومن عظة ما أبلغها. ومن بيان ما أوضحه3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 61، 62، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ص 54- 55.
2 عشرون حديثا من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها ص 44-57.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 31، والقسم الأول، العقيدة، شرح ستة مواضيع من السيرة، الموضع الرابع ص 357-358.
ومن أدلة الشيخ على التوحيد أيضا ما وقع في التاريخ الإسلامى من ذلك قصة الردة المشهورة، وموقف أبى بكر منها، وقصة أناس من بنى حنيفة وموقف ابن مسعود منهم في الكوفة، وموقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه ممن اعتقد فيه الإِلهية.
وقصة المختار بن أبي عبيد الثقفي لما زعم أنه يوحى إِليه، وموقف
عبد الله بن الزبير منه ومن امرأته لما لم تتبرأ منه. وقصة الجعد بن درهم وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة وموقف خالد بن عبد الله القسري منه حين قتله وإِجماع العلماء على استحسان قتله كما ذكر ابن القيم. وقصة بني عبيد القداح وقد كانوا مظهرين لشرائع الإسلام فلما أظهروا كفرهم، أجمع أهل العلم أنهم كفَّار وأن دارهم دار حرب مع إِظهارهم شعائر الإسلام وقصة التتارلما أسلموا ولم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه ومع هذا كفرهم العلماء وغزوهم حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين.
قال الشيخ: "وفيما ذكرناه كفاية لمن هداه الله، وأما من أراد الله فتنته: فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك. ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة من قتل من أتى بأمور يكفر بها ولو كان يظهر شعائر الإسلام وقامت عليه البينة باستحقاقه للقتل، مع أن في هؤلاء المقتولين من كان أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم في الظاهر مثل الحلاج وأمثاله. ويكتفي الشيخ بذكر هذه الأمثلة ويقول: فلو ذكرنا قصص هؤلاء لاحتمل مجلدات ولا نعرف رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو
الذين يقول عنهم من يزعم إسلامهم- إِنه ليس معهم من الإسلام شعرة إلا قول: "لا إله إلا الله". أي باللسان فقط مع اظهارهم نقيضها فهم لم يقولوها في الحقيقة ولم يعتقدوا التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ولم يعملوا بمقتضاها بل أظهروا كما يقول الشيخ إنكارهم للإسلام واستهزأوا به على عمد، وأظهروا كفرهم بالقرآن ودين الرسول صلى الله عليه وسلم كله وكذبوا بالبعث وأنكروا الشرع الذي شرعه الله وزعموا أن شرعهم الباطل الذي أحدثه لهم آباؤهم هو حق الله.
ويتعجب الشيخ من بعض من يدعي العلم والكتب بأيديهم والتي يزعمون أنهم يعرفونها ويعملون بها وفيها مسائل الردة يفتون بمحاربة التوحيد الذي أقروا أنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبمناصرة الشرك وهم يقرون بأنه الشرك ولكن يقول إِنها من أكبر آيات الله1.
ولا يقتصر استدلال الشيخ- رحمه الله على التوحيد بما ذكرنا، بل إِنه يستدل بكلام أهل العلم من جميع المذاهب الأربعة فيقول: "وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.
فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي الدين- رحمه الله لما ذكر
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 36-50.
حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضا وذلك بأمور منها:
الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ كالشيخ عدي بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإِلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: ياسيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإِن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون:"هؤلاء شفعاؤنا عند الله" فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى، وقال في الاقناع أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إِجماعاً.
وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم: في شرح (درر البحار) النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: ياسيدي إِن رد غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا باطل إِجماعا بوجوه:
منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز.
ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك ولاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي.
وقال الإمام البزازاي في (فتاويه) : إِذا رأى رقص صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطا بهم جهال العوام، الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.
وأما كلام الشافعية: فقال الإمام محدث الشام أبو شامة (أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم) : في كتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث) : لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من مؤاخات النساء والأجانب واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال- رحمه الله الكلام- إلى أن قال:- وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادىء ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة ثم ذكر
رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض من معه اجعل لنا ذات أنواط قال: "الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" انتهى كلامه رحمه الله، ويعلق الشيخ بقوله:
وقال: أي شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" إِذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها فكيف بما هو أعظم منها الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟
وأما كلام المالكية: فقال أبو بكر (الطرطوشي) في كتاب (الحوادث والبدع) لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط فانظروا رحمكم الله أين ما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإِن كل بدعة ضلالة" قال في البخاري: عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي.. فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل،
حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان.
قال الشيخ: "وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين:
الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإِخلاص الدين لله لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم.
الثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإِن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم1.
وهكذا فالشيخ رحمه الله ينقل كلام العلماء من أهل المذاهب الأربعة مما يدل على أن الشيخ في كل أمره خصوصا مسألة التوحيد، لم يخرج عن إِجماعهم فضلا عن أن يخرج عن مذهب أي أحد منهم، وهي التي اعتبره الناس فيها مبتدعاً مذهباً خامساً فاعجب لذلك إِنْ تعجب والله
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 26 ص 177-180ورقم 11
ص 68-70 وانظر: رقم 28 ص 189-190.
المستعان.
والمقصود بيان أن الشيخ رحمه الله سلك مسالك متعددة في البرهنة على التوحيد والاستدلال عليه يمكن أن نجمل بعضها فيما يلي:
1-
أنه يستدل بالدليل ويورده ثم يعقب على ذلك بذكر المدلول
عليه كالدليل الذي أورده من سورة النمل1: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 62) .
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 ونحو ذلك من الأدلة. ومن هذا الباب استدلال الشيخ بربوبية الله وأسمائه وصفاته على التوحيد فانظر مثلا تفسير سورة الفاتحة3، وانظر مبحث توحيد المعرفة والاثبات4.
2-
أنه يذكر المدلول عليه ثم يعقب بذكر دليله كالدليل الذي أورده من سورة البقرة وهو قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد ص 42.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 7.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص11-13.
4 انظر: (1/468) من هذا المبحث.
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 (البقرة: 163-164) .
3-
الاكتفاء بذكرعجز وفقر العالمين وهم كل ما سوى الله وأنه
ليس من صفاتهم شيء من الألوهية ولا لهم شيء من الملك ولا النفع ولا الضركالدليل الذي أورده الشيخ في باب قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 191، 192)2.
والحاصل أن الشيخ طرق المسالك الثلاثة التي وردت في القرآن للدلالة على التوحيد ولم يقتصر الشيخ على واحد منها.
وهكذا يقرر الشيخ التوحيد ويبين لازمه ويستدل عليه بما استدل به الله ورسله وأتباع رسله من البراهين اليقينية الظاهرة الجلية، بمثل ربوبية الله للعالمين، واختصاصه بها سبحانه، وبصفات الكمال، والتي تجمعها صفة الألوهية، وبمثل عبودية جميع من سوى الله من العالمين، وفقرها وحاجتها عبودية عامة وخاصة طوعا وكرها.
وبمثل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي المنزل عليه الذي أعجز الله به من خاصم وفجر، إلى يوم القيامة.
بكل ذلك وبنحوه يستدل الشيخ على أن حق الله على العبيد أن
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 106.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 45.
يفردوه بجميع أنواع العبادة وأن يوحدوه بها فهي حقه الخاص لا شريك له على الإِطلاق ولو غلط في ذلك من غلط، وأعرض عن تعلمه من أعرض.
فتبين من هذه الأدلة والبراهين أن التوحيد هو إِفراد الله بالعبادة، وأن العبادة هي التوحيد فمن لم يأت بالتوحيد لم يعبد الله كما قال تعالى {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} .
العبادة وأنواعها:
والعبادة اسم جنس لها أنواع1، وهي ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي2، ومعنى التوحيد أن تصرف جميع العبادات من الأقوال والأفعال لله وحده لا يجعل فيها شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل3.
والعبادة لا تسمى عبادة لله إلا مع توحيده بجميع أنواع العبادة، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة4، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 16 ص106.
2 المرجع السابق رقم 13 ص 90.
3 المرجع السابق رقم 13 ص 88.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع ص 199.
الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:2، 3) .
فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفي ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفَّار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1.
وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
يقول الشيخ: "فلم يؤمروا إلا بما تعرفه العقول، وبما ينبغي للعاقل أن يلتزمه ولا يبتغي به بديلا لحسنه وسهولته ومن حسنه أنه تنزيه لله على المسبة، كما أن من قبح ضده أنه مسبة لله تعالى2.
وما من شك أن معنى " لا إله إلا الله " هو إِخلاص القصد والنية
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص 111، 112، والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 318.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 376، 381 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الدعاء إليه ص 21.
والإِرادة في العبادة المشروعة لوجه الله تعالى، وأن المألوه هو المقصود المعتمد عليه1، ولذا كان الإِخلاص شرطا في صلاح التعبد وقبوله، وقد عقد الشيخ- رحمه الله في كتاب التوحيد بابين هما:(باب ما جاء في الرياء) و (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) يوضح فيهما هذا الجانب الهام.
ووفي هذين البابين بما يناسبهما من أدلة الكتاب والسنة لأنه يعالج بهما القصد والنية والإِرادة لتستقيم على إِخلاصها لله تعالى وما من شك أن إِخلاص القصد والنية والإِرادة في العبادة المشروعة هو شرط صلاحها. وأورد تحت الباب الأول قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) .
وعن أبي هريرة مرفوعا: قال تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
وعن أبي سعيد مرفوعا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" رواه أحمد.
قال الشيخ فيه مسائل:
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصبة رقم 19 ص 124.
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهوكمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب: أنه تعالى خير الشركاء1.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه2.
وأورد الشيخ تحت الباب الثاني: قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16) .
وما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن اعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس. وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إِن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإِن كان في الساقة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 98-99.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 98-99.
كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" 1.
وقال الشيخ: فيه مسائل:
الأولى: إِرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إِن أعطي رضي، وإِن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".
السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش"2.
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات3.
وقال الشيخ في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16) .
وقد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم
1 رواه البخاري في الجهاد ج3/223 وفي الرقاق ج7/ 175.
2 قال الحافظ ابن حجر قوله: "تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش" في شرح الطيبي قال فيه الترقي في الدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس أنقلب على رأسه" فتح الباري ج11/ 254.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد ص100-101- وانظر: الدرر السنية ج2 ص42-43.
ولا يعرفون معناه:
الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة واحسان إلى الناس ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله وادامة النعمة عليهم ونحو ذلك، ولا همة له في طلب الجنة ولا الهرب من النار فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية.
وقد غلط بعض مشائخنا بسبب عبارة في شرح الإقناع في أول باب النية لما قسم الإِخلاص مراتب وذكر هذا منها ظن أنه يسميه إِخلاصا مدحا له وليس كذلك، وإنما أراد أنه لا يسمى رياء وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس لا طلب ثواب الآخرة، وهو يظهر أنه أراد وجه الله وإنما صلى أو صام أو تصدق أو طلب العلم لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإِن الجاه من أعظم أنواع الدنيا، ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة1 في الثلاثة الذين
1 رواه مسلم (كتاب الإِمارة) والنسائي (كتاب الجهاد) وأحمد في مسنده ج2 /322.
هم أول من تسعر بهم النار وهو: الذي تعلم العلم ليقال له عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، بكى معاوية بكاء شديدا ثم
قرأ هذه الآية.
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ومقصده بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة"1 0 الخ. وكما يتعلم العلم لأجل مدارسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة.
النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار
1 رواه البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعا.
الأخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر يخرجهم عن الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منه كما قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) - فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله أو أكثره فصارت الدنيا أكبر قصده، فلذلك قيل قصد الدنيا وصار ذلك القليل كأنه لم يكن كقوله صلى الله عليه وسلم:"صل فإِنك لم تصل"1.
والأول أطاع الله ابتغاء وجهه لكن أراد من الله الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال مثل ما يقر- الفسقة فصح أن يقال: قصد الدنيا والثاني والثالث واضح.
لكن بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل
1 الحديث رواه البخاري في كتب الايمان والأذان والاستئذان ومسلم في كتاب الصلاة وأبو داود في كتاب الصلاة والترمذي كتاب المواقيت والنسائي كتاب الافتتاح والدارمي كتاب الصلاة كما رواه أَحمد في مسنده ج2 ص 437.
ِِِ أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو الواقع كثيرا فالجواب أن هذا عمل للدنيا والآخرة ولا ندري ما يفعل الله في خلقه، والظاهرأن الحسنات والسيئات تدافعا وهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله، ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال1.
فلابد من الإِخلاص، إِخلاص القصد والإِرادة والنية لله تعالى وفق ما شرعه الله من شريعة رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بجميع القربات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ولم يترك منها قربة تقرب إلى الله وإلى ما عنده من الخير إلا ووضحها، كما لم يترك شيئا يبعد عن الله ويوقع في الشر إلا وبينها وحذر منها حتى تركنا على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. ولذا كانت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة وعدم عبادة الله بغير ما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم شرط في قبول الأعمال- قال الشيخ- رحمه الله إذا كان عملك صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، فلابد أن يكون خالصا صوابا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ولذا قال سبحانه في علماء أهل الكتاب وعبادهم وقرائهم {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ}
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، هود ص20-123، والقسم الئالث، الفتاوى رقم 1ص 5-8.
أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} وهذه الآيات ليست في أهل الكتاب خاصة بل كل من اجتهد في علم أو عمل أو قراءة وليس موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الاخسرين أعمالا الذين ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه العزيز وإِن كان له ذكاء وفطنة، وفيه زهد وأخلاق فهذا العذر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا باتباع الكتاب والسنة، وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإِرادة فالذي يؤتى فضائل علمية وإِرادة قوية وليس موافقا للشريعة بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه. وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعلمكم مع علمهم، يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث.
وساق الشيخ أحاديث في شأن الخوارج وعبادتهم وجدالهم، وأحاديث في قيام طائفة على الحق- إلى أن قال: "وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلك كما كان عليه الصحابة والتابعون ومن سلك سبيلهم، فكلما يحتاج إليه الناس فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا كافيا فكيف أصول التوحيد والإيمان؟! ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق
للرسول صلى الله عليه وسلم فانه في الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى".
ثم بين الشيخ- سبيل الضلال والبدع والجهل والأدلة على أنها تكون في هذه الأمة كما كانت في الأمم السابقة، وأحاديث في التحذير من التشدد والتعمق ومجاوزة السنة واتباع المتشابه وأحاديث في الحث على التمسك بالسنة وترك الاختلاف وأحاديث في فضل الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة إلى أن قال:"وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، والرسل عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين، وخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فهو المهيمن على جميع الكتب، وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيما، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له، وموافقة علما وعملا"1.
1 الدرر السنية، ط 2 ج2 ص 7-12، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16ص 104-107. ورقم 26 ص 180.
يقول الشيخ: فان قيل فما الجامع لعبادة الله وحده؟! قلت: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه1، مع كمال المحبة وكمال الخضوع والخوف والذل2 والجمع بين الخوف والرجاء في العبادة3.
وجميع العبادة بكل أنواعها مبناها على الأمر4 الشرعي الذي هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته- قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) . وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) .
وللبخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر أنا أصوم النهار أبداً ولا أفطر، وقال الآخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 16.
3 المرجع السابق، الزمر ص 327.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب من تبرك بشجر أو حجر أو نحوهما ص 34، وكشف الشبهات ص 164.
إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1.
وفي حديث العرباض بن سارية قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وصححه. وابن ماجه وفي رواية له "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا"، ثم ذكره بمعناه، ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد: فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة وصححه النووي2.
1 انظر: صحيح البخاري ج6/ كتاب النكاح، باب1ص 116.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، أصول الإيمان ص 262-264 وفضل الإسلام
ص 207، 226. وانظر: الدرر السنية، ط 2، ج2 ص 7-12.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعا: "أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فانمإِ هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"1.
وهذا ما توضحه سورة الفاتحة فإِنها قد اشتملت على أركان العبادة، والاخلاص فيها والمتابعة والرد على المبتدعين.
وأركان العبادة ثلاثة هي: المحبة والرجاء والخوف، فمن زعم أنه يعبد الله تعالى بالمحبة وحدها فهو لم يعبده كما هو شأن منحرفي الصوفية. ومن عبد الله بالرجاء وحده على زعمه فهو لم يعبد الله كما هو شأن المرجئة. ومن عبد الله بالخوف وحده على وهمه فهو لم يعبده كما هو شأن الخوارج.
وذلك في أولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} هذه
1 المرجع السابق، أصول الايمان ص 267،26، وانظر: الدرر السنية، ط 2 ج2 ص7-12.
الأركان الثلاثة:
فالآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيها المحبة لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر انعامه.
والآية الثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيها الرجاء لأن الله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
والآية الثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيها الخوف، لأن الله مالك يوم الدين، يوم الجزاء والحساب وحده لا شريك له، ولا شفيع، {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
وقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي أعبدك يارب بهذه الثلاثة بمحبتك ورجائك
وخوفك وهذا هو توحيد الألوهية، أو العبادة بأركانه.
ومعنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أَنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا ولا غيرهما.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فيها توحيد الربوبية وفيها توحيد طلب الإِعانة مع التوكل والتبري من الحول والقوة إلا بالله.
وقدم المفعول، وهو إياك وكرر، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين:
فالأول: التبرء من الشرك، والثاني: التبرء من الحول والقوة.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع والإِلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، فليتأمل العبد ضرورته له والهداية المطلوبة هنا التوفيق والارشاد، وتتضمن العلم النافع والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يَلْقى الله تعالى.
والصراط: الطريق الواضح المستقيم: الذي لا عوج فيه والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو صراط الذين أنعم الله عليهم وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة، فليس بمستقيم بل معوج. وفي ذلك الرد على المبتدعين. وهذه أول الواجبات من هذه الآية وهو إعتقاد ذلك بالقلب اجمالا وتفصيلا والحذر من خداع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا، فإِن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن ما خالفه باطل، لكن كذبوا وبغوا بما لا تهوى أنفسهم مما جاء به كما قال تعالى:{فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} (المائدة:70) .
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} المغضوب عليهم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول: صفة اليهود.
والثاني: صفة النصارى. ومعنى هذا الدعاء هو الإقرار بفرضيته دائما في الصلاة حذرا من طريقي أهل هذه الصفات على الداعي.
وكل هذا مع استصحاب أركان العبادة والدين وهي: الحب
والرجاء والخوف1 في كل نوع من العبادة.
ويرى الشيخ أن المحبة لله مدار الولاء والبراء لأنها أعظم أعمال القلب، بل هي أصل أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. وقد عقد الشيخ لها بابا في كتاب التوحيد هو باب قول الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ، الآيات (البقرة: 165) . وأورد الشيخ تحت هذا الباب قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) .
وما رواه البخاري ومسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وللبخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثامنة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 382-384. والقسم الرابع، التفسير، سورة الفاتحة ص 7-19. والقسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 7-9.
الله منه كما يكره أن يقذف في النار ". وفي رواية " لا يجد أحد حلاوة
الإيمان حتى" إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإِنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان وإِن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودة".
قال الشيخ: فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا يساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر1.
وهكذا يستدل الشيخ على أن المحبة من العبادة بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية (من سورة البقرة)2.
ولأن المنعم يحب على قدر إِنعامه والله سبحانه وتعالى هو المنعم على الإِطلاق فيجب أن يحب على الإِطلاق ولا يعادل حبه شيء آخر.
كما في الآية الأولى من سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ففيها أن الله رب العالمين وفيها استغراق الحمد له لأنه رب العالمين3.
ومما يزرع حب الله في القلب مع معرفة صفاته معرفة نعمه على الإنسان ومن هذه النعم وهي أعظمها على الاطلاق ما جرى ذكره من قصة آدم وإبليس، وذلك من صنعه سبحانه بالإنسان وتشريفه، وتفضيله إياه على الملائكة وفعله بإبليس ما فعل لما أبى أن يسجد له، وخلقه إياه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 88-90.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع ص 380-381.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 82. وانظر: القسم الرابع، تفسير الفاتحة ص 10، 11.
بيده ونفخه فيه من روحه، وإِسكانه جنته وقد خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل مع آبائهم وذكرهم بذلك واستدعاهم به وذكرهم أنه فعله لهم كقوله:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: 50) - وغير ذلك، وذكر النعم التي هي أصل الشكر الذي هو الدين، لأن شكرها مبني على معرفتها وذكرها فمعرفة النعم من الشكر بل هي أم الشكر كما في الحديث "من أسدي إليه معروف فذكره فقد شكره فان كتم فقد كفره "- هذا في الأشياء التي تصدر من بني آدم فكيف بنعم المنعم على الحقيقة والكمال؟
واجتمع الصحابة يوما في دار يتذاكرون ما من الله عليهم به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله في الحديث: (من أسدى إليه معروف
…
الخ) روى بمعناه عن ابن عباس ورواه أحمد في مسنده بمعناه عن عائشة1.
ويرى الشيخ أن برهان محبة الله الصحيحة هي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 (آل عمران:31) . كما قدمنا قبل قليل3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 91-92.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 347.
3 انظر: (ص 622) وما بعدها من هذا البحث.
ويقسم الشيخ المحبة فيقول:
"والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية وهم الذين قال الله فيهم:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .
المحبة الثانية: حب الباطل وأهله وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.
المحبة الثالثة: محبة طبيعية وهي محبة المال والولد وإِذا لم تشغل عن طاعة الله ولم تعن على محارم الله فهي مباحة.
المحبة الرابعة: حب أهل التوحيد وبغض أهل الشرك وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد به العبد ربه1.
وأما ذكر الله تعالى فهو من أفضل العبادات والقرب، والمحب يديم ذكر محبوبه ولله عز وجل من المحبة أعلاها وهي حب العبادة الذي يصحبه ذل العابد وانقياده له وعدم نسيانه، وأن الذكر بالقلب واللسان أفضل من الذكر بالقلب وحده2.
وللذكر ودوامه تأثير عجيب في انشراح الصدر3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 382.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 370.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 77.
ولكن الشيخ يقتفي في ذلك هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول في ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس ذكرا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه ذكرا منه لله، وإِخباره عن أسماء الرب وصفاته، وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده ذكرا منه له، وسكوته ذكرا منه له بقلبه، فكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه، وسيره ونزوله، وظعنه واقامته1. ويحث الشيخ على الإعتبار بأيام الله مثل قصة الفيل2، وما في قصة موسى وفرعون في سورة القمر والمزمل لهذه الأمة من عبرة3 والاعتبار بأبي لهب، وأن المال والولد وشرف البيت والسيادة يعطاه من هو أكفر الناس وأن العامة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعادص 128، 154، 155.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 380.
3 المرجع السابق ص 316. ويشير الشيخ إلى الآيات في سورتي القمر والمزمل قال الله تعالى في سورة القمر: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أكفاركم أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} الآيات. وقال تعالى: في سورة المزمل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} الآيات.
أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة فيه مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا1. والاعتبار بالبيت الحرام وآيات الله فيه وكيف ابتدع أهل الأهواء مقامات تضاهيه، وكيف ترك أهل الكتاب تعظيمه، مع أن الذي بناه إبراهيم2.
هذا وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء والتوكل، والرغبة والرهبه، والخشوع والخشية، والإنابة والاستعانة، والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر3. ومن أنواع العبادة أيضا الاستعاذة والاستغاثة والخوف، والتأله والركوع والسجود، والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام4 والجهاد في سبيل الله تعالى والتذلل والتعظيم الذي هو من خصائص الإلهية5. وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها كلها لله تعالى وحده لا شريك له، أما
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 379، وص 376.
2 المصدر السابق ص 31، 32، وانظر استدلال الشيخ على التوحيد 1/487 وما بعدها من هذا البحث.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، ص 187-188.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187-189. والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379-381.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 194-196. والقسم الرابع، التفسير ص 95، ومختصر زاد المعاد ص 196-225.
الإسلام فهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإِقام الصلاة وايتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.
وهذه هي أركانه الخمسة.
ودليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18)1.
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)2.
ودليل الصلاة والزكاة قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5) . ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)3.
ودليل الحج قوله تعالى: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97)4.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189- 190.
2 المرجع السابق، ص 190.
3 المرجع السابق ص190.
4 المرجع السابق ص191.
وأما الإيمان فهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وهو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدرخيره وشره. وهذه هى أركانه الستة والدليل عليها قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1.
ودليل القدر- قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) .
وأما الاحسان فهو أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128) . وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الشعراء: 217-. 22) . وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِل اَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61) .
والدليل من السنة حديث جبرائيل المشهورعن عمر رضى الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 191.
وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فقال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك " قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: "فمضى فلبثنا مليا، فقال: ياعمر أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"1.
أما الدعاء فيعرفه الشيخ فيقول: "وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادى به القريب والبعيد وقد يستعمل في الاستغاثة، أو يأخذ أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر الله تعالى عباده أن يدعوه، ولا يدعوا معه غيره فقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) .
ومن أدوية الهم والغم والحزن، التوسل في الدعاء بأحب الأشياء إلى
1 مؤلفات الشيخ، القسم االأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 191-192.
الله، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات (الحي القيوم)1.
وقال تعالى في النهي عن دعاء غيره: {وأن المساجدَ لله فلا تَدعوا مَع الله أحْداً} (الجن: 18) .
ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117) .
وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (الرعد: 14) .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5، 6) .
وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 213) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 310، والتفسير، البقرة
ص 32، 33، 34، والأعراف ص 100، 98، 78.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد وأبوداود والترمذي.
قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث عن الإمام أحمد: "وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جريركلهم من حديث الأعمش به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضا من حديث شعبة عن منصور والأعمش كلاهما عن زر به وكذا رواه ابن يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصورعن زر: [به] ، ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما وقال الحاكم صحيح الإسناد1.
وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة".
قال الشيخ- قال العلقمي في شرح الجامع الصغير2 حديث "الدعاء مخ العبادة" قال شيخنا: قال في النهاية مخ الشيء خالصه، وإنما
1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج 4 ص 85.
2 العلقمي (897-969 هـ) هو محمد بن عبد الرحمن بن علي بن أبي بكر العلقمي القاهري الشافعي فقيه محدث تتلمذ لجلال الدين السيوطي ودرس بالأزهر ومن آثاره الكوكب المنير لشرح الجامع الصغير، المشار إليه في ثلاثة مجلدات طبع منها المجلد الأول- انظر: معجم المؤلفين ج1/ 144- كشف الظنون: 445، 560، الأعلام للزركلي 6/ 195، 196، شذرات الذهب 8/338 والكواكب السائرة 2/ 41وفهرس الفهارس 206.
كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهو محض العبادة وهو خالصها.
الثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده.
وهذا هو أصل العبادة ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء1.
وقوله: الدعاء هو العبادة- قال شيخنا- قال: الطيبي- أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر وأن العبادة ليست غير الدعاء- انتهى كلام العلقمي2.
قال الشيخ: "إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأورد الشيخ بعض الأدلة المتقدمة من القرآن ثم قال: وهذا من معنى: "لا إله إلا الله"3. ومن ذلك طلب الشفاعة، فلا
1 انظر: نص كلام ابن الأثير في النهاية في الجزء الرابع، باب الميم مع الخاء.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 104- 105.
3 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 188. والرسالة السابقة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379. والقسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 104- 105.
تطلب الشفاعة من غير الله تعالى، لأن الشفاعة كلها له سبحانه- قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: 44) - ولا يشفع أحد في أحد إلا من بعد أن يأذن الله تعالى كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)، وكما قال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، والله لا يرتضى غير التوحيد لله بالعبادة.
وحقيقة الشفاعة: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود1.
ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وفى الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله"2.
ومعنى الاستعانة في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو سؤال الإعانة من الله وهو التوكل والتبري من الحول والقوة فهي من نصف العبد، لأن الفاتحة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الشفاعة ص 52،53.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول- ص 188-189. والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380.
سبع آيات ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي- فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى علي عبدي- فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدني، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل- انتهى الحديث1.
وفعل السبب مع الاستعانة بالله من أكبر الأسباب في حصول المقصود ففى البسملة إذا قلت بسم الله فمعناها أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك باسم الله لا بحويى ولا بقوتي بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به متبرءا من الحول والقوة كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير ولذا كان أول اقرأ فيه الاستعانة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 16 ص 8، والقسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 384.
وأول المدثر فيه العبادة1. والاستعانة بالله من أدوية الكرب والهم والحزن2.
ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 64) .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) - رواه البخاري والنسائي.
وهذه الأدلة قد عقد لها الشيخ باباً في كتاب التوحيد- وقال فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 9 وص 366.
2 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 308- 311.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد1.
والله حقيق أن يتوكل عليه كل عاقل والتوكل لا يستقيم إلا خالصا2، والتوكل واليقين لا ينافي السبب وفعله، وقد غلط طائفتان في التوكل:
إِحداهما: زعمت أن التوكل سبب مستقل، فعطلت الأسباب التى اقتضتها حكمة الله تعالى.
والثانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل3.
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 93، 94 وانظر: ص 380. وانظر: القسم الرابع، التفسير ص 309، ص 331 وص 367 وص 369، ومختصر زاد المعاد ص 308- 311.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 331، وانظر: القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 352.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، يوسف ص 163 والقصص 283، مختصر زاد المعاد ص 127.
و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخر السورة.
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرما خلق. لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) رواه مسلم.
قال الشيخ: "إِن العلماء يستدلون بالحديث على أن كلمات الله غير مخلوقة لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك"1.
ودليل الاستغاثة- قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9)2.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 107) . وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل: 62) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189 وص 380 وكتاب التوحيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ص 41. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 9 وص 378، 379، 385.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189، والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380.
يقول الشيخ: إن الدعاء عام والاستغاثة خاصة1- أي أن الاستغاثة دعاء لكن عند الاضطرار والشدة.
ويفعل السبب مع الاستغاثة بالله كما فعل موسى فيما ذكرالله عنه- فقال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2 (القصص:21) .
ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 163) .
وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
ومن السنة: "لعن الله من ذبح لغير الله"3.
ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإنسان: 7)4.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (البقرة:270) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ص 42-44.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص ص 287.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، باب ما جاء في من ذبح لغير الله
ص 35،38،189 وص380. رواه مسلم 3/1567 والإمام أَحمد والنسائي.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189، والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380.
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه".
قال الشيخ: "فيه وجوب الوفاء بالنذر، وإذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك وقد ثبت أنه عبادة بمقتضى مشروعية الوفاء به- وقد بوب الشيخ لهذا بقوله:(باب من الشرك النذر لغير الله)1.
ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 (آل عمران: 175) . فإِخلاص الخوف لله من الفرائض، ومن فعله له ثواب عظيم، ومن تركه له عقاب كبير- كما في حديث عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من التمس رضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأَسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في صحيحه.
ذكر الشيخ هذا الحديث تحت باب قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 لكن هناك خوف غير مذموم
مثل ما حكاه الله عن موسى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول كتاب التوحيد، باب من الشرك النذر لغير الله
ص 40.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول 189، والأصل الجامع ص 380-381.
3 المصدر السابق، كتاب التوحيد ص91، 92.
وإن مما يخاف منه على المؤمن الاتكال على سعة رحمة الله من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "لا تبشرهم فيتكلوا" متفق عليه1.
ولابد من لزوم الخوف من الله وعدم الأمن حتى البشرى عند الموت من الملائكة2. فإن إبراهيم وإسماعيل طلبا من الله أن يرزقهما الإسلام في قوله تعالى عنهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة: 128) ، والغفلة عن هذا من العجائب، وطلبا من الله أن يتوب عليهما وهما هما ففى ذلك خوفهما من الذنوب3.
ودليل الرجاء- قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110)4.
ومن أنواع العبادة الهجرة والتوبة5.
والدليل على أن الهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى
بلد الإسلام وأنها باقية إلى أن تقوم الساعة- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
1 المصدر السابق، القسم الأول ص 9، 10.
2 المصدر السابق، القسم الرابع، التفسير، ص 84، 85 وص 11 وص 286-287.
3 المصدر السابق، ص 32، 33.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 189 والأصل الجامع ص 380-381 والقسم الرابع، التفسير ص 370.
5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 308-310.
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء: 97-99) .
وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت:56) .
يقول الشيخ: قال البغوى- رحمه الله تعالى- سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان.
والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"1.
والجهاد في سبيل الله من أفضل العبادة، وذروة سنام الإسلام وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (البقرة: 218)2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 193 وص 358، 359 والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 211، والقسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 35.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 196، التوحيد ص 101، 142
- 143، مفيد المستفيد ص 284، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 158-284.
ومن أنواع العبادة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: "وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حسب المشروع من أفضل الأعمال"1.
وعلى العموم فالشيخ يرى أن زيارة القبور مستحبة ويعني بها الزيارة المشروعة ومن غير شد رحل لذلك وهي: التى شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قبور أصحابه للدعاء لهم والاستغفار لهم وهذه هى الزيارة التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم إذا زاروها أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"، وكان يقول صلى الله عليه وسلم ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت وأمر بزيارة القبور من أجل تذكر الآخرة ودعاء للميت وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي توحيد وإيمان وإحسان إلى الميت، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه تحريا للإجابة عنده مما هو عكس هديه صلى الله عليه وسلم 2.
ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 3 (الزمر: 54) .
ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 67.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 68.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380.
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90) . وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} (آل عمران: 199) .
ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: 150) .
وقوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) 1- وخشية الله جامعة للدين كله2.
ودليل التأله قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) .
ودليل الركوع والسجود- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3 (الحج: 77) .
وغير ذلك من أنواع العبادة التي شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهي كثيرة لكن يجمعها شرع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فشرع الله جامع مانع.
جامع: لكل أنواع العبادة الموصلة إلى رضوان الله تعالى.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، الأصل الجامع ص 380- 381.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 377.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع، ص 380- 381 وثلاثة الأصول ص 189.
مانع: من دخول شيء خارج عن الشريعة مما يحبه الله ويرضاه فالعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في تعريف العبادة في الشرع اختلفت عباراتهم والمعنى واحد، فعرفها طائفة- بقولهم: هي ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وعرفها طائافة بأنها كمال الحب مع كمال الخضوع.
وقال أبو العباس- رحمه الله تعالى: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين والإِحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإِخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمته والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك فالدين كله داخل في العبادة. انتهى1.
1 الدرر السنية، ط 2، ج2 ص138-139.
الخلاصة
أن جميع أنواع العبادة وأَفرادها موضحة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} .
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، أو مدحه الشارع أو أثنى علىمن قام به فهو عبادة وقربة، وكل أمر ثبت النهي عنه من الشارع، أو ذمه الشارع أو ذم من قام به فإِن الانتهاء عنه وتركه، والبعد عنه عبادة أيضا وقربة، وطاعة الله في جميع ذلك هي توحيد وإيمان وعبادة واخلاص، وصرفه أو صرف نوع منه أو فرد من أفراده لغير الله شرك وكفر1، فإِن الجامع لعبادة الله وحده طاعته بامتثال أوامره واجتناب مناهيه وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة وهي حق الله تعالى على عباده يختص بها دون غيره ولا يجوز أن يشاركه فيها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما.
فمن صرف شيثا من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه ربا وإلها وأشرك مع الله غيره، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف
1 انظر: قول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في حد الشرك في تعليقته على كتاب التوحيد المسمى القول السديد ص 52، 53.
جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العبادة ما لم يكن خالصا له- كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وبذلك ينتهى هذا الفصل، الذي هو تفصيل للركن الأول، وهو الإيمان بالله تعالى، من أركان الإيمان الستة. وقد ذكرنا مجمل اعتقاد الشيخ في تلك الأركان في الفصل الذي قبله.
ويلاحظ أن كثرة ما كتبناه من عقيدة الشيخ هو في التوحيد لاسيما توحيد الألوهية حتى إِننا نرى في كل آثار الشيخ وإِن تطرقت إلى سائر فنون العلم ترابطا ينظمه توحيد الألوهية وتنبثق هذه الآثار من توحيد الألوهية، المبني على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.
وذلك أن الشيخ قد تفاعل مع حاجة أهل عصره، ولبى ما يقتضيه الواجب الإِلهي نحو مجتمعه، فهو عالم رباني، وطبيب داء الجهل الذي أصيب به الناس في زمانه فسارع بمهارة في تشخيص دائه وتركيب دوائه، وأجاد- رحمه الله في ذلك وحاز مقام الرباني- كما قال الإمام ابن قيم الجوزية:
فالوحي كاف للذي يعنى به
…
شاف لداء جهالة الإنسان
وتفاوت العلماء في أفهامهم
…
للوحي فوق تفاوت الأبدان
والجهل داء قاتل وشفاؤه
…
أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة
…
وطبيب ذاك العالم الرباني1
ولذا فقد وجدنا تفصيلا من عقيدته في التوحيد خصوصا توحيد الألوهية، وهو داخل في الإِيمان بالله، الركن الأول من أركان الإيمان، أما بقية أركان الإيمان ومباحثه، فلم نجد للشيخ تفصيلا فيه كما وجدناه له في التوحيد، ولذلك نكتفي بما تقدم ذكره في مجمل عقيدته في ذلك.
وننتقل من عرض العقيدة إلى جانب الدفاع عنها والتحذير من نواقضها وهو ما يتضمنه الفصل التالي: في التحذير من نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها فإلى ذلك وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.
1 القصيدة النونية للإمام ابن قيم الجوزية، فصل في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من السماء عن تقليد الرجال والآراء ص 189.