الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: خلاصة كتاب عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية
الفصل الأول: في بيان منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته
…
الفصل الأول: في بيان منهج الشيخ رحمه الله تعالىفي عقيدته ودعوته
توطئة: بذكر خلاصة مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم:
منهج السلف الصالح:
لعل من المناسب هنا أن أمهد بذكر نبذة من منهج السلف الصالح في اعتقادهم السليم وعلمهم النافع وعملهم الصالح، والأصول التي يعتمدون عليها في ذلك ويرجعون إليها عند الاختلاف حتى نرى على ضوئها منهج الشيخ رحمه الله تعالى، ونعلم أنه منهج السلف الصالح وأن الشيخ متبع غير مبتدع ناهج منهج العلماء المجددين المنصورين، ولم يأت بشيء من الدين ليس على منهج الأوائل المصلحين.
يذهب السلف الصالح رضي الله عنهم إلى أن أصل أصول العلم والهدى هو الوحي إلى النبي محمد بن عبد الله الذي هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي بعده ولا رسول.
قال الله تعالى: {إنَّا أوْحَيْنَا إليْكَ كمَا أوْحَينَا إلى نُوح ٍوالنبيينَ مِنْ بَعَدِه} (النساء: 163) .
وقال رسول الله وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطيَ من الآيات ما مثله أومن (أو آمن) عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم
تابعا يوم القيامة" 1.
والوحي يشمل القرآن الكريم والسنة الشريفة. قال الله تعالى: {وَمَا يَنطقُ عِنْ الهوَى إنْ هَو إلا وَحْي يُوحَى}
ولذا والله أعلم بدأ الإمام البخاري صحيحه بذكر الوحي وكيف كان بدؤه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونورد من هذا الوحي آيات وأحاديث تستمد منها أصول العقيدة الصحيحة:
قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 6) .
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19) .
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
1 رواه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلي الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم"(ج8/ ص 138) . وفي كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي، (ج/ ص 97) . ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، (2/ 341، 451) ، واللفظ هنا للبخاري رحمهم الله تعالى.
إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) .
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2) .
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .
وفي صحيح البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى1، ورواه في مواضع أخرى في صحيحه، وفي صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام2 "عن ابن عباس قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس " واللفظ للبخاري.
وفي صحيح البخاري في كتاب العلم في باب فضل من علم وعَلَّمَ
1 ج 8/164.
2 1/50.
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعَلَّمَ ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1.
ورواه مسلم في صحيحه2، في كتاب الفضائل في باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم. ورواه الإمام أحمد في المسند3.
ما ينبني على ذلك من أصول العلم:
وينبنى على ذلك من أصول العلم ما يلى:
1- أن الذين أوتوا العلم يرون أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا يدعو إليه بإذنه جميع الثقلين بأن يقولوا لا إله إلا الله، بعثه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بعثه الله بالهدى ودين الحق الكامل الذي تمت به نعمة الله ورضيه دينا إلى قيام الساعة ليظهره
1 ج 1/28.
2 ج 4/1787.
3 ج 4/499.
على الدين كله ولوكره المشركون، وسراجا منيرا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويجب على الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم وعقيدتهم إلى ما بعث الله به رسوله وأنزله عليه من الكتاب والحكمة والسنة بلا حرج ولا تردد ولا توقف، فمن تعارض عنده ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآراء الرجال فقدمها عليه أو توقف فيه أو قدحت في كمال معرفته فهو أعمى عن الحق1، وليس ممن أوتوا العلم.
2-
وينشأ من هذا أصل آخر هو أن البصير العاقل يعلم قطعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ رسالته هذه وبينها أصولها وفروعها، البلاغ المبين، والبيان البليغ، وأدى أمانته خير أداء، ونصح لأمته أخلص النصح، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد وما قبضه الله إليه إلا وقد علم أمته جميع أبواب الاعتقاد والتعبد، وعلم أمته كتاب الله، ومثلَ كتاب الله معه من سنته المطهرة الشريفة، وعلَّم أمته كل شيء من دينهم حتى آداب قضاء الحاجة2.
1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ط السلفية بمكة سنة 1348 ص6.
2 إشارة إلى ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في كتاب الطهارة وأحمد في المسند 5/437 أن سلمان قيل له قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة. فقال أجل
…
الحديث.
وبالجملة فقد دلهم على الخير كله، وحذرهم عن الشر كله، حتى تركهم على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك1، من بدء الخلق حتى يدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه2.
وأمره الله أن يقول فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حق القول.
ووصى أمته بكتاب الله وسنته، وأخبرهم خبر الصَّدق ما إن تمسكوا بهما فلن يضلوا، فصلوات الله وسلامه عليه.
وكان قد حث أمته على أن يبلغ الشاهد منهم الغائب3 فرب مبلغ أوعى من سامع4، ودعا لمن سمع مقالته فوعاها وأداها كما سمعها أن
يلبسه الله النضرة ويوصله إلى نضرة الجنة5.
1 انظر: كتاب السنة لابن أبي عاصم وتخريجات الألباني ج1ص 26- 27.
2 صحيح البخاري، ج4/ كتاب بدء الخلق / باب واحد / ص73، انظر: فتح الباري ج6ص290-291، وانظر: أول الحموية لابن تيمية.
3 انظر: السنة للمروزي، 9، 10.
4 انظر: البخاري: 1/ كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع.
5 انظر: دراسة حديث "نضر الله امرءا سمع مقالتي
…
" رواية ودراية بقلم عبد المحسن بن حمد العباد ص184.
3-
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل إلى كافة وتوفي بعد أن بلغ رسالته ورسالته باقية إلى قيام الساعة لجميع الثقلين، فإن العاقل البصير يعلم قطعا أن الذي ورث العلم عنه وخلفه في أمته هم صحابته الذين معه واختارهم الله لصحبته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم الذين اتبعوهم بإحسان، ثم أئمة الهدى وأعلام الهداية الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، ثم من يرثهم ويخلف من بعدهم ويتبع سبيلهم بإحسان وإن تكن أزمانهم أزمان فترات وغربة فإن حجة الله لا تزال قائمة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم مستمرة يحملها من كل خلف عدوله1 إلى قيام الساعة كما ذكر الإمام البخاري في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم " ثم أورد حديث معاوية قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطي الله،
1انظر: كتاب: "البدع والنهي عنها" تأليف محمد بن وضاح القرطبي ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين" اهـ. وانظر تخريجه في الهامش ص 1، 2 تحقيق محمد أحمد دهمان، ط 2 دار البصائر دمشق سنة 1400 هـ.
ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله" 1.
وإذا كان هذا معلوما فمن المعلوم امتناع أن يكون خير أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل قرونها ومن تبعهم بإحسان قد قصروا في هذا الواجب، أوكانوا غير عالمين وغير قائلين بالحق المبين، ومن المعلوم كذلك عدم جواز أن يكون المخالفون لهم أعلم بالحق منهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من العلماء ورثة الأنبياء، الذين وهبهم الله من العلم بالكتاب والسنة وجودة الإسناد وصحته ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم2.
معنى السلفية:
إن المراد من التعبير بالسلفية هو اتباع طريقة السلف الصالح من هذه الأمة المسلمة، الذين هم أهل السنة والجماعة ومعنى ذلك هو الإجماع المعتبر من الاجتماع على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه
1 صحيح البخاري ج 8 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 96 باب 10 ص 149.
2 انظر: الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 2-7.
وسلم في ذلك حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" الذين يعتقدون بأن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد في أي زمان وأي مكان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين"1.
وقال أيضا في ختام العقيدة الواسطية: "لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولوا المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم
1 العقيدة الواسطية، ط السلفية بالقاهرة سنة 1347 هـ، ص 34 وحديث عليكم بسنتي رواه الترمذي: وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (تحفة الأحوذي ج7 ص 442) .
الأبدال وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" اهـ.
وقال ابن كثير: "هم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من قديم الدهر وحديثه كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية من هم؟ قال: "من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" اهـ1.
وفي جامع الترمذي في كتاب الإيمان في باب افتراق هذه الأمة أورد الترمذي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناجية عن عبد الله بن عمرو بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي" وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب مفسر، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه".
وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتابه (السنة) والأجري في كتابه الشريعة من طريقين لكن عن عبد الرحمن بن زياد.
وقال المباركفوري في سنده "عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب، وحديث عبد الله بن عمرو هذا أخرجه أيضا الحاكم وفيه " ما أنا عليه
1 تفسير ابن كثير ج 4 ص 433.
وأصحابي" 1.
وقال الألباني: "هذه الرواية فيها ضعف، وحسنها الترمذي في الإيمان"2، وهوحسن كما قال الترمذي لتوجيه المباركفوري.
وقد أورد الشاطبي في كتابه الاعتصام أقوال الناس في معنى الجماعة المرادة بالنصوص وحصرها في خمسة أقوال، قال:"فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلا ويبنى عليه معنى آخر"3.
وتلك الأقوال الخمسة نقلها عن السلف الصالح أمثال ابن مسعود وابن المبارك، وعمر بن عبد العزيز والشافعي والطبري وهي عند تأملها متفقة كما قال الشاطبي دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع أنهم هم الجماعة، الفرقة الناجية المرادون بالأحاديث الثابتة في كل زمان ومكان إلى أن يأتي أمر الله تعالى.
طريقة السلف الصالح في العلم والدين:
نجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه وتابعيهم نصوصا صحيحة صريحة تبين طريق الفرقة الناجية في
العلم والدين، وتحث على لزومه.
1 تحفة الأحوذي ج 7 ص 400.
2 تصحيح الألباني على هامش شرح الطحاوية ص 432.
3 الاعتصام، ج 2 ص 260- 265.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) .
قال محمد بن نصر المروزي في مؤلفه "السنة" يفسر هذه الآية: "أخبرنا الله أن طريقه واحد مستقيم وأن السبل كثيرة تصد من اتبعها عن طريقه المستقيم، ثم بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسنته فحدثنا إسحاق- ثم ساق سنده إلى عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
…
} الآية.
ثم ذكر المروزي روايات أخرى بهذا المعنى، وفيها زدياة تفسير الصراط المستقيم بالإسلام وبكتاب الله، وعن أبي العالية، قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر وقال الحسن:"صدق أبو العالية ونصح"1.
وقال ابن كثير في تفسيره: "قال علي بن طلحه عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ونحو هذا في القرآن، قال: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم
1 السنة، تأليف محمد بن نصر المروزي المتوفي 294 هـ، ص 5-8.
عن الاختلاف والتفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله" ونحو هذا "قاله مجاهد وغير واحد".
ثم أورد ابن كثير عن الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه قال:"خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
…
} "1.
وأورد ابن كثير رواية الحاكم من طريقين عن ابن مسعود وتصحيح الحاكم إياه من الطريقين على شرط البخاري ومسلم، كما أورد ابن كثير رواية أبي جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس ويزيد بن هارون ومسدد والنسائي وابن حبان وابن جرير لهذا الحديث عن ابن مسعود كذلك، وقول الحاكم: "وشاهد هذا الحديث حديث الشعبى عن
جابر من غير وجه معتمد" وأورده ابن كثير بتفصيل سنده إلى أن قال: "والعمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرا " ثم أورده موقوفا على ابن مسعود من روايتين لابن جرير وابن مردويه، ثم أورد نحوه من حديث النواس بن سمعان مرفوعا من رواية الإمام أحمد والترمذي والنسائي وقول الترمذي: "حسن
1 انظره في المسند 1/465، وهو في سنن الدارمي ج 1/ ص 67، 68.
غريب " 1.وفي سنن ابن ماجة عن جابر2.
وفي سنن أبي داود في كتاب السنة، في باب لزوم السنة3، وفي جامع الترمذي في أبواب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 4، وفي سنن ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين5.
وفي سنن الدارمي في باب اتباع السنة6. وفي المسند للإمام أحمد7، وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم، باب ما أمر به من اتباع السنة وسنة الخلفاء الراشدين8، عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله وعليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
1 تفسير ابن كثير، ج 2/ ص 190- 191.
2 ج 1/6.
3 ج 2/506.
4 تحفة الأحوذي ج 7/438- 442.
5 ج1/، ص 15، 16، 17.
6 ج 1 ص44، 45.
7 ج 4 ص 126.
8 ج 1ص29-30.
ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح1، وقال المباركفورى:"وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره"2.
ونقل النووي تصحيح الترمذي مقرا له في "الأربعين النووية"، وكذلك شارح "الطحاوية" وقال الألباني في الهامش:"صحيح كما قال الترمذي"3.
وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".
وعن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله مع الجماعة" أخرجهما ابن أبي عاصم في كتاب السنة في باب ما ذكرعن النبي صلى الله عليه وسلم من أمره بلزوم الجماعة وإخباره أن يد الله على الجماعة وصححهما الألباني4.
وفي صحيح البخاري، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة في باب
1 تحفة الأحوذي ج 7ص442.
2 المصدر السابق.
3 شرح الطحاوية ط 4، 1392 هـ هامش ص 431، وقال الألباني عنه أيضا صحيح في كتاب السنة لابن أبي عاصم (رقم 31-34) ج 1 ص 19- 20 وفي إرواء الغليل ج 8 ص 107 ورقم الحديث (2455) وانظر من خرجه هناك.
4 ج 1/ 39-44.
الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث موقوف ونصه بعد سياق سنده إلى مرة الهمداني يقول:"قال عبد الله- وهو ابن مسعود1-: "إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين"2.
وقد ورد أوله في (كتاب الأدب في باب الهدي الصالح) من "صحيح البخاري"
…
أيضا3، وفيه:"قال ابن عون ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه، وَيَدَعُوا الناس إلا من خير" 4
وقد فسر الإمام البخاري قول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} فقال: " أئمة، نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا"5.
وبالجملة نعلم أن طريقهم في العلم والدين هو الاتباع ومجانبة
1 انظر: فتح الباري ج 13/ ص 253، وانظرص 1 من هذا البحث، فقد تقدم تخريجه في صحيح مسلم هناك.
2 ج8/ 139.
3 ج 7/ 95، 96.
4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ج 8/ 139.
5 ج 8/ 139 من صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الابتداع يخلصون قصدهم لله تعالى ويتعلمون العلم النافع وهوالعلم بالله وبرسوله وبدينه الذي ارتضاه ويقولون بما علموا ويكلون علم ما لم يعلموا إلى عالمه، ولا يقولون بغير علم يقفون من الأمور أحد ثلاثة مواقف حسب انقسام هذه الأمور بالنسبة إليهم إلى ثلاثة أقسام:
أمر تبين أنه حق ورشد وحلال فيأخذون به ويدعون إليه.
وأمر تبين أنه باطل وغي وحرام فيجتنبونه وينهون عنه، وهذا هو المحكم.
والأخير هو الأمر المشتبه فيتقونه ويقفون فيه كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى"1.
وكما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
1 رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان في باب فضل من استبرأ لدينه وتمامه "
…
يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب".
ُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) .
وفي صحيح البخاري في التفسير باب (منه آيات محكمات) وقال مجاهد الحلال والحرام. (وأخرمتشابهات) : يصدق بعضه بعضا كقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وكقوله جل ذكره: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وكقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} زيغ: شك، ابتغاء الفتنة: المشتبهات، والراسخون يعلمون: يقولون آمنا به.
ثم ساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
…
} الآية.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "1.
وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما
1 ج 5/ ص 165، 166. رواه مسلم في كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعه، والنهي عن الاختلاف في القرآن ج 4 ص 2053. وأبو داود في سننه في كتاب السنة، باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن ج 2 ص 504.
أاشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخرُ مُتشَابهات} أي يحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد " إلى أن قال: " نص عليه محمد بن إسحق رحمه الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه" 1.
وهذا هو الإحكام الخاص ببعض القرآن والتشابه الخاص ببعضه الآخر ويرد المتشابه إلى المحكم كما تقدم بيانه.
أما الإحكام العام والتشابه العام الذي وصف الله به كل القرآن كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1) .
وكما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} (الزمر:23) .
فمعنى الإحكام الإتقان، فالقرآن كله متقن يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض.
ومعنى التشابه تماثله وتناسبه وتوافقه فإذا أمر بأمر في موضع ففي الموضع الآخر إنما يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وكذلك النهي إذالم يكن هناك نسخ، وإذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيضه، وإذا أخبر بنفي شيء
1تفسير ابن كثير ج 1 ص344، 345.
لم يثبته.
وهذا كما يصدق على القرآن الكريم يصدق على السنة الشريفة وعلى إجماع المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " فإن شيئا من ذلك لا يناقض الآخركما لا يناقض بعضه بعضا، ولكن قد يشتبه منه شيء على كثير من الناس- فالموفق للصراط المستقيم يرده إلى المحكم البين، وهذا هو حكمه.
أما ما عدا الوحي ففيه القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضا، يثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر1.
وجماع الأمركما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن الكتاب والسنة يحصل منهما الكمال والهدى والنور لمن تدبركتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته، ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا البتة"2.
وقال الشاطبى: "فإن الذي عليه كل موفق بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف فمن توهم ذلك فيها فلم يمعن النظر ولا أعطى وحي الله حقه " ولذلك قال الله تعالى: {أفَلا يَتدبَرُونَ القُرآن} فحضهم على التدبر
1 انظر: التدمرية، القاعدة الخامسة ص 38- 40 لابن تيمية.
2 الحموية ص 79 تصحيح محمد عبد الرزاق حمزة، ط المدني.
أولا ثم أعقبه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} فبين أنه لا اختلاف فيه والتدبر يعين على تصديق ما أخبر به"1.
خلاصة أصول السلف الصالح:
إن أصول السلف الصالح التي يصدرون عنها ويرجعون إليها عند الاختلاف ويردون إليها عند التنازع، وينزلون على حكمها ويعتمدون عليها في العلم والدين تتلخص فيما يلى:
المصدر الأول: كتاب الله تعالى وهو كلامه أصدق الكلام، ولا أصدق منه.
المصدر الثانى: السنة الشريفة وهي هدي محمد صلى الله عليه وسلم خير الهدي، ولا هدي خير منه. وهى التي تفسر القرآن وتبينه، وهي مثل القرآن في الحجة ولا تناقضه.
المصدر الثالث: الإجماع (إجماع المسلمين) وهم الجماعة أهل السنة الذين لا يجتمعون على ضلالة. والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى، وأما بعدهم فكثر الاختلاف وانتشرت الأمة.
المصدر الرابع: القياس: ينبني القياس على الثلاثة المصادر المتقدمة.
فهذه الثلاثة هي موازين أهل السنة والجماعة يزنون بها كل شيء
1 الاعتصام ج 2 ص 317.
ولا يزنونها بشيء، وهذا هو معنى القياس، فإنهم يزنون بهذه الثلاثة المتقدم ذكرها طردا وهو التسوية بين المتماثلات، وعكسا وهو التفرقة بين المختلفات، يزنون بذلك جميع ما عليه الناس من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال باطنة وظاهرة مما له تعلق بالعلم والدين.
نصوص تبين أن الاختلاف واقع في الأمة:
ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته تتفرق إلى فرق كثيرة:
قال الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام1: "صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" وخرجه الترمذي هكذا.
وفي رواية أبي داود قال: "افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"2.
نصوص تبين ماذا يختلفون فيه، وسبب الاختلاف، وذمه، وذم أهله، ومصيرهم:
1 ج 2/ 189.
2 انظره في: سنن أبي داود، ط الحلبي، ج 2/ 503، وانظر تصحيح الألباني له في هامش شرح الطحاوية ص 578.
في صحيح البخاري في كتاب التوحيد حديث فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن
…
قوما يقرؤون القرآن لا يجاوزحناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 1. وهذا الحديث في مواضع كثيرة من صحيح البخاري وغيره.
وفي صحيح البخاري أيضاً في كتاب الفتن: "باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان" وفيه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية"2.
وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم وصححه الألباني عن معاوية رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر: "أن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، ألا وإِنه يخرج في أمتي قوم يهوونً هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يدع منه عرقا ولا مفصلا إلا دخله".
1 ج 8/178.
2 ج 8/ 100 وانظره في كتاب السنة لابن أبي عاصم ج 1/38.
وأخرجه ابن أبي عاصم من طرق متعددة1، ومثل ذلك في سنن أبي داود كتاب السنة2.
وقال الإمام الشاطبى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} .
"وهي آية نزلت عند المفسرين في أهل البدع، ويوضحه من قرأ:(إن الذين فارقوا دينهم) والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
…
} الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص إلى غير ذلك من الآيات" 3.
وأورد ابن أبي عاصم أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى منها عن سنان بن أبي سنان أنه سمع أبا واقد الليثى يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر وكانوا أسلموا يوم الفتح- قال فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فلما قلنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا
1 انظر: ج 1ص 7-9، ص 32-36.
2 انظر: ج 2 ص 503-546.
3 ج 2/ 195.
إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من قبلكم" ورواه ابن عينية ومالك أيضا.
قال الألباني إسناده حسن وصحح الحديث بشواهد أخرى (ج 1/ 36، 37) .
ومنها ما رواه مسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى1 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه" قالوا يا رسول الله من اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذا"2.
وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) وهذه الأمة اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة"3.
مما تقدم نعلم أن الاختلاف والتفرق في الدين فتنة، وهو أمر واقع في أصل الدين وفي توحيد الله بالعبادة، وفي معنى العبادة كما اختلف الذين من قبل في ذلك، وهو أصل محكم فيما أنزل الله على النبي وأرسله
1 انظره: في ج 4/ 2056 ترتيب فؤاد عبد الباقي.
2 انظركتاب السنة لابن أبي عاصم ج 1/ 36 -37.
3 تفسير ابن كثير، ج 4/ 433.
به صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ولا يختلف ولا يتضاد، ولكن الناس هم يختلفون.. وأقبح اختلاف ما كان بسبب الأهواء المخالفة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أصل المحدثات في الدين والبدع المذمومة التي يتعبد بها أصحابها وكل واحدة من هذه المحدثات لها أتباع هم فرقة من الفرق الكثيرة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تبلغ في أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا الجماعة التي تمسكت بالكتاب والسنة في تعبدها لله تعالى، ولم تتعبد لربها بما ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في باطنها وظاهرها، فهي الجماعة الناجية والفرقة الفائزة.
منهج الشيخ
ومنهج الشيخ رحمه الله هو منهج السلف الصالح، ويوافق تماما ما ذكرناه في هذا التمهيد من منهجهم رضي الله عنهم.
الشيخ يرى أن الله سبحانه وتعالى نصب الأدلة وبين الآيات الدالة عليه، وأعطى الفطر، ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب، كلها دالة عليه ومعرفة به سبحانه وتعالى، ومن آياته القرآن الكريم الذي تحدى الله بسورة من مثله فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّار
…
} الآية (البقرة: 23، 24) .
وقد ضرب الله في هذا القرآن الأمثال الجلية وبين البيان الواضح، وحمد نفسه على هذا البيان، ومع وضوح الأدلة فالأكثر جهال قال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 (الزمر: 27-29) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 145 والزمر ص 328، والأعراف ص 76 والعلق ص 371. وملحق المصنفات، ومسائل ملخصة عن ابن تيمية مسألة رقم 2 5- 54 ص 39، 40. ورقم 60 ص 43، والخطب المنبرية ص 13، 14 وص 22، 23، وص 51، 53، 58 60 ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17، 18.
والله سبحانه قطع العذر وأقام الحجة بإنزال هذا الكتاب وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبقاء دينه، لا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر منه إلى قيام الساعة، والخير الذي دل عليه هو التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه هو الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين. الجن والإنس1.
ويقول رحمه الله تعالى في جواب أفتى به حين سئل رحمه الله تعالى عن قوله تعالى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} 2 الآية. فأجاب رحمه الله: (إعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء، يعلم ما يقع على خلقه وما يقعون فيه، وما يرد عليه من الواردات إلى يوم القيامة. وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله لأهل القرن الأول ومن بعدهم. ومن أعظم البيان الذي فيه بيان الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان بطلان الحجج الفاسدة ونفيها. فلا إله إلا الله ماذا حرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم، ولكن لا معطي لما منع الله، وهذه التي سألت عنها، فيها بيان بطلان شبهة يحتج بها بعض أهل النفاق
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 38 ص 271. والقسم الأول، العقيدة ثلائة الأصول، ص 194.
2 سورة طه: آية 125.
والريب في رماننا هذا في قضيتنا هذه.
وبيان ذلك: أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف، فمن ذلك: أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له، ولكن سولت له نفسه أن ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر، واحتج على فضله بحجة وهي: أن الله خلقه من أصل خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله، واحتج بما لا يجدي. فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل، بل طرده ورفع آدم، وأسكنه الجنة. فكان مع عدو الله من الذكاء والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف، فتحيل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج. فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض، وأجلاه من وطنه، ثم قال:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} 1 يقول تعالى: لأجلينكم عن وطنكم، فإن بعد هذا كلام وهو أني أرسل إليكم هدى من عندي لا أكلكم إلى رأيكم ولا رأي علمائكم، بل أنزل عليكم العلم الواضح الذي يبين الحق
1 سورة طه: آية 123.
من الباطل والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
ومعلوم أن الهدى هو هذا القرآن. فمن زعم أن القرآن لا يقدرعلى الهدى منه إلا من بلغ رتبة الاجتهاد فقد كذب الله بخبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون في حق الواحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم، بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء. فما أبطل هذا من قول. وكيف يصح لمن يدعي الإسلام أن يظن بالله وكتابه هذا الظن؟
ولما عرف سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها من اختلافهم على الأكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله إلا فرقة واحدة، وأن كل الفرق يقرون أن كتاب الله هو الحق لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه قال:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} وهذا تكذيب هؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء. قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وبيان هذا أن هؤلاء الذين يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء، واقتصروا على الوحي
1 سورة النساء: آية 165.
لم يهتدوا بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، فرد الله عليهم بقوله {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} 1 فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما ضل من اتبع الرأي، فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول صحيح، والذي ذكره الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه.
والحاصل أنهم يقولون: لا نترك القرآن إلا خوفا من الخطأ، ولم نقبل على ما نحن فيه إلا للعصمة فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة.
وأما قوله: {وَلا يَشْقَى} فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة، ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا وعوقبوا. فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور الذي هو الخطأ عن الطريق، وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن فقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 وذكر الله هو القرآن الذي يبين الله لخلقه فيه ما يحب ويكره، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآيتين. فذكر الله لمن أعرض
1 سورة البقرة: آية 88.
2 سورة طه: آية 124.
3 سورة الزخرف: آية 36
عن القرآن وأراد الفقه من غيره عقوبتين، إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين، أحدهما: ضنك الدنيا- وهو أنه- إن كان غنيا- سلط عليه خوف الفقر وتعب القلب والبدن في جميع الدنيا حتى يأتيه الموت، ولمَ يَتَهنَّ بعيش.
الثاني: الضنك في البرزخ وهو عذاب القبر. وفسر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل، فإن الشك والحيرة لهما من القلق وضيق الصدر ما لهما، فصار في هذا مصداق لقوله في الحديث عن القرآن:"من ابتغى الهدى من غيره أضله الله" فبان لك أن الله عاقبهم بضد قصدهم، فإنهم قصدوا معرفة الفقه فجازاهم بأن أضلهم وكدر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم لخوف الفقر وقلة غنى أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلم والفقر وأغرى بينهم العداوة والبغضاء. فإن أعظم الناس تعاديا هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة، ثم قال تعالى:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} والعمى نوعان: عمى القلب وعمى البصر. فهذا المعرض عن القرآن لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن، جازاه الله أن حشره يوم القيامة أعمى. قال بعض السلف: أعمى عنِ الحجة لا يقدر على المجادلة بالباطل كما كان يصنع في الدنيا {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} فذكر الله أنه يقال له: هذا بسبب إِعراضك عن القرآن في الدنيا وطلبك العلم من غيره. قال ابن كثير في الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي خالف أمري وما أنزلته على
رسولي. أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي: في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعم. وظاهره أن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخالفا لهَم معاشهم من سوء ظنهم بالله. ثم ذكر كلاما طويلا، وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك. والله سبحانه وتعالى أعلم" 1.
فبناء على هذا فالشيخ رحمه الله تعالى يرى كما يرى السلف رضي الله عنهم أن أصل أصول العلم والهدى هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم بالله، والعلم برسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بدين الإسلام بأدلته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 2 (النساء: 163) .
وقال الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 16 ص 75-79، والقسم الرابع، التفسير ص 263 - 268.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ثلاثة الأصول ص 185-195، ومسائل الجاهلية ص 333.
قال الشيخ: " فيه الرد على مخالفي الرسل في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} (البقرة: 118) ، أو نحو ذلك، لأن الرسل ما أتو الأمم إلا بالوحي1، وخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أوحى الله إليه هذا القرآن وآتاه مثله معه من السنة، والله تعالى بين دلالة نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، بالتحدي بأقصر سورة من القرآن الكريم فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ
…
} والآية2. (البقرة: 24) .
وبشهادة علماء أهل الكتاب كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} (الشعراء: 198)، وبكون أهل الكتاب يعرفونه كما في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} الآية. وغير ذلك من الآيات التي تقطع الخصم وتدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله يوحى إليه بالعلم والهدى كما أوحي إلى من قبله وخص بالقرآن الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} .
قال الشيخ في تفسير ذلك ما حاصله: ذلك الكتاب الكامل الذي لا
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 177.
2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17.
شك فيه، وأن الهداية به للمتقين خاصة فمن لا يتبعه ليس هو من المتقين، وفيه الرد على قول الشياطين من شياطين الإنس ممن يدعي العلم أن القرآن لا يفسر1.
وأجاب الشيخ عن اختلافهم في الكتاب العزيز وهل يجب تعلمه واتباعه على المتأخرين لإمكانه؟ أو لا يجوز للمتأخرين لعديم إمكانه؟ بأن الكتاب العزيزحكم بينهم بالحكم الذي هو قول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} (طه: 100) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} لآيات. (طه: 124-127) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: 36)2.
وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل القرآن؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) .
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} (آل عمران:31) .
1 انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج 10 ص 39- 40.
2 الدرر السنية ج 4/ ص 6.
فمن أراد أن يهتدي ويكون محبوبا عند الله فليقبل ما آتاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهاه عنه ويطيعه فيما أمر.
قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"1.
يقول الشيخ: "وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال، فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قُبل، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنا من كان، فإن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمربه.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"2.
ويقول: "فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين وما عليه الأئمة
1 انظر: صحيح البخاري، ج 3 ك الصلح ب 5 ص 167، وصحيح مسلم ج 3 ك الأقضية ص 1343، 1344.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 12 ص 84 ورقم 7 ص 48، ورقم 16 ص 106. وانظر: صحيح البخاري، ج 8 الاعتصام ب 2 ص 139.
المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين لكي نتبع آثارهم" 1.
ومن منهج الشيخ: أن طلب العلم فريضة على كل ذكر وأنثى، وأنه
شفاء للقلوب المريضة، كما قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 2 (طه: 123) ، وأن العلم قبل العمل ومقدم عليه، وهو إمامه وسائقه والحاكم عليه3.
ويريد بالعلم، العلم بما أمر الله به ونهى عنه أي العلم بالتوحيد والإيمان، أي: معرفة الله، ومعرفة نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، والعمل بتلك المعرفة4.
ومفتاح العلم في ذلك هو الدليل كما في قوله تعالى: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} (الكهف: 15) وأول الآية: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
1 المصدر السابق رقم 16 ص 106-107 من الرسائل الشخصية.
2 الدرر السنية، ج 1ص 98، ج 4 ص 68 1. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 369.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 36.
4 الدرر السنية، ج 2 ص 3-12. ومؤلفات الشيخ الإمام، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 85 1-186. والرسالة الخامسة ص 374-375. والقسم الرابع، التفسير، آل عمران ص 0 5، ويوسف ص 153، 163، 164. ومختصر زاد المعاد ص 77.
آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} قال الشيخ: فهذه المسألة مفتاح العلم وما أكبر فائدتها لمن فهمها1.
ويرى الشيخ أن اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فإنه لا سبيل إلى الفلاح إلا على يديه، ولا إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهته، فأي حاجة فرضت وضرورة عرضت، فضرورة العبد إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فوقها بكثير
…
وإذا كانت السعادة معلقة بهديه صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من أحب نجاة نفسه أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن خطة الجاهلين.
والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم2. فهو يريد علما غير نافع ولا علما مجردا عن العمل، ولا يقصد غير ما أمر الله به ونهى عنه.
يقول رحمه الله: "إذا أمر الله العبد بأمر، وجب فيه سبع مراتب: الأولى العلم، والثانية محبته، الثالثة العزم على الفعل، الرابعة العمل، الخامسة كونه يقع على المشروع خالصا صوابا، السادسة التحذير من فعل
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 244. وانظر: ص 28-29، ص 40، 41، ص 53-4 5، وص 59-63، ص 323، ص 31 1، وص 371.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 13.
ما يحبطه، السابعة الثبات عليه " 1.
وفي كتاب أصول الإيمان للشيخ عقد أبوابا في شأن العلم، هي: باب التحريض على طلب العلم وكيفية الطلب، وباب قبض العلم، وباب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال وباب التجوز في القول وترك التكلف والتنطع. أورد تحتها أحاديث مناسبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين منها الحث على طلب علم ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، لوجه الله تعالى خالصا، وبيان كيفية طلب العلم، وما هو العلم وما ينبغي أن يقصد به2.
ويعتقد الشيخ أن هذا أهم ما على الإنسان معرفته والعمل به قبل كل معرفة وعمل، فإنه أصل العلم وقاعدته وأن هذا العلم والإيمان في مكانهما من ابتغاهما وجدهما إلى يوم القيامة3.
فلا يزال العلماء بذلك يوجدون، فإن الحق لا ينقطع كلية، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته، إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، كما هي البشارة المحمدية بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة وأنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من
1 الدرر السنية ج 2 ص 38.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان، ص 266-276.
3 الدرر السنية ط 2، ج 1 ص 93، وص 97. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 370، والقصص ص 281.
خالفهم إلى قيام الساعة1.
ومن منهجه في إزالة الشبهة أن يتبع عادة السلف الصالح، فمن عادتهم أنهم يزيلون الشبهة بسؤال العلماء، وأن العلماء يجيبون السائل بما يزيل شبهته، وذلك أنهم ينسبون الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط2، لعمق علمهم3 ولا يخفي أن المقصود بالسلف الصالح وبالعلماء هنا أنهم الصحابة والتابعون، فإن هذه القاعدة التي اعتادها السلف الصالح، ويبينها الشيخ في مؤلفاته لينبه على أنها قاعدة منهجية يتبعها المسلمون في سير حياتهم، وهي مستنبطة من الآثار الواردة عن الصحابة وعن التابعين، ولما حدث في نفوس بعض الناس إشكال في القدر لبعدهم عن العلم النبوي، اتجهوا إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كابن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت ونحوهم فهم العلماء4.
ومن عادة هؤلاء السلف الصالح، أنهم يبدأون بالأهم فالأهم والتنبيه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان ص 68-70.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في منكرى القدر ص 137، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20-22.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد، باب من حقق التوحيد ص 17.
4 انظر: المرجع السابق، ص 135-137.
على التعليم بالتدريج كما رسم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: حين بعث معاذا إلى اليمن فقال له "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله، فإنْ هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإنْ هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.. " الحديث متفق عليه- ونحوه من حديث بعث علي إلى خيبر ليفتحها متفق عليه1.
ويقول رحمه الله: "إذا أردت البحث عن هدي الله الذي جاء من عنده، فإنك تبتدئ بالأسهل فالأسهل، وأسهل ما يكون وأهمه القصص التي قص الله علينا عن الأنبياء وأممهم، وأول ما تبتدئ به من القصص التي قص الله، قصة أبيك آدم وإبليس، وما ذكر الله عنهم وكون آدم لما اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه، وأكثر الناس يظنون أن الاعتراف بالذنب مذلة، ويستهزؤون بمن أقر بذنبه واعترف وتاب منه، وكون إبليس لعنه الله لما احتج بالقدر ولم يعترف بذنبه أن الله طرده وآيسه من رحمته، وكون أكثر الناس يظن أن فعل إبليس هو الذي يرضاه الله، ويزدري على من فعل فعل آدم، نعوذ بالله من سوء الفهم".
ويقول أيضا: "ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، فإن كان ممن يقرأ القرآن أو عرف أنه ذكي، فيعلم أصل الدين وأدلته،
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 20-22.
والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد أنه يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلا متوسطا ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس، ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ويصف له حقوق الخلق، مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله، وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع واحدا من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافراً، فإذا فهم ذلك فقل حق الله عليك أعظم وأعظم، فإذا سأل عن حق الله فاذكر له أنك تعبده، ولا تصير مثل البدوي، وأيضا تخلص له العبادة، لا تكون مثل من يدعوه ويدعو غيره، أو يذبح له ولغيره، أويتوكل عليه وعلى غيره، وكل العبادات كذلك، وتعرفه أن من أخل بهذا حرمت عليه الجنة، ومأواه النار، ولو ظن أنه ما يشرك، فإذا عرف التوحيد، ولا عمل به، ولا أحب وأبغض فيه؛ ما دخل الجنة، ولو ظن أنه ما أشرك لأن فائدة ترك الشرك تصحيح التوحيد، ومن أعظم ما تنبهه عليه التضرع عند الله، والنصيحة وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى" 1.
وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما لا يحتاج إليه، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له بابا إلى المهم. ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد
1 الدرر السنية ج 1 ص 98-99.
الناس عنه، ولا يستبعد فضل الله عليه، فإن الرجلين اللذين مع يوسف في السجن من خدام الملوك الكفرة، بخلاف من يقول: ليس هذا بأهل للعلم، وتعليمه إضاعة للعلم1.
فإن من يهتم بالعلم ويسأل عنه، هوالذي ينتفع به، فلا يعرض عنه، أما من لا يهتم به فهو الذي لا ينتفع2.
ويبين الشيخ أن من أساليب العلماء، أنهم يخرجون المسألة للمتعلم بالاستفهام عنها لقوله صلى الله عليه وسلم:" أتدرون ماذا قال ربكم؟ " في حديث زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ " 3 ومن أسلوبهم، أنهم يصنفون الكتب في بيان الحق، والدعوة إليه، وبيان ما هو من عند الله على الحقيقة، ولا يصنفون الكتب الباطلة، ولا ينسبون إلى الله الباطل، كما هو أسلوب الجاهلين4.
ومن منهج الشيخ رحمه الله، أنه يحدث الناس بما يعرفون، أخذا بقول علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص147- 148.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 131.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 85-87.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، مسائل الجاهلية، ص 341.
الله ورسوله؟ " رواه البخاري، وقد أورده الشيخ في كتاب التوحيد1.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه: "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم، في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم، الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزى: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة، لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغى اعتقاده، والمعصوم من عصمه الله"2.
ومما استنبطه الشيخ من قصة آدم وإبليس أن في القصة شاهدا لما ذكر في الحديث: "إِن من العلم جهلا" 3 أي من بعض العلم ما العلم به جهل، والجهل به هو العلم فإن اللعين من أعلم الخلق بأنواع الحيل التي لا يعرفها آدم، مع أن الله علمه الأسماء كلها، فكان ذلك العلم من إبليس هو الجهل، وفي الحديث:"إِن الفاجر خب لئيم وأن المؤمن غر كريم " 4 وأبلغ من ذلك وأعم منه قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} فقيل
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 106.
2 فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد ص 414.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 94 والحديث رواه أبو داود عن بريدة ويروى (إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا) .
4 رواه أبو داود (كتاب الأدب) والترمذي (كتاب البر) كما رواه أحمد في مسنده 3/294.
لهم ما قيل وعوتبوا، فكانت توبتهم أن قالوا:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) فكان كما لهم ورجوعهم عن العتب، وكمال علمهم أن أقروا على أنفسهم بالجهل إلا ما علمهم سبحانه، ففي هذه القصة شاهد للقاعدة الكبرى في الشريعة المنبه عليها في مواضع منها قوله صلى الله عليه وسلم:"وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها"1.
والشيخ يبين أن أهم وأنفع شيء هو معرفة قواعد الدين على التفصيل، فان أكثر الناس يفهم القواعد ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل2.
مثل من يقول: التوحيد زين والدين حق، فإذا تبين له أن من التوحيد والدين تكفير المشرك وقتاله على ذلك، ترك هذا الأمر لأنه لا
1 راجع في هذا المعنى: الترمذي (كتاب اللباس) وابن ماجه (كتاب الأطعمة)، وصحيح البخاري (كتاب الاعتصام) وصحيح مسلم (كتاب الفضائل) . وراجع تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} سورة المائدة: 101 في كتب التفسير الكبيرة، (مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 94) .
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص10-15، ومجموعة رسائل مخطوطة بالمكتبة العامة بتطوان المغرب صورتها عند الشيخ حماد الأنصاري بعنوان مسألة في رجل تفقه لوحة 4. ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 31.
يوافق هواه1.
ويبين الشيخ أن الكلام ينحصر في مسألتين من العلم:
الأولى: أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين، لا يجعل معه أحد في العبادة، والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك.
الثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والأقوال والأفعال كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 131) .
وترك ابتداع ما ليس من سنته صلى الله عليه وسلم في عبادة الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهورد".
فتوزن أقوال الناس وأفعالهم الباطنة والظاهرة، في عبادة الله تعالى بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فما وافق منها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله قبل وما خالف رد على فاعله كائنا من كان2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 27 ص 183.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 96، ص 106.
ويقول الشيخ بعد كلام له في تقرير طلب العلم بالسنة والعمل بها: "وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلك كما كان عليه الصحابة والتابعون ومن سلك سبيلهم، وكلما يحتاج إليه الناس فقد بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا كافيا، فكيف أصول التوحيد والإيمان، ثم إذا عرف ما بينه صلى الله عليه وسلم نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى، وأما سبيل الضلال والبدع والجهل فعكسه أن تبتدع بدعة بآراء رجال وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لها وتحرف ألفاظه وتؤوّل على وفق ما أصلوه، وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتلقون منه الهدي، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه تأولوه كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو فوضوه كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني"1.
وليعلم طالب العلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل ونقل كلام العلماء.
وقد نوه صلى الله عليه وسلم، بأن دينه يصير بعده غريبا، فقال
1 الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 8.
صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم ذكر الشيخ أمثلة من ظهور البدع، التي إنما تحدث في حال غربة الإسلام1. ليحدد منهجه في مقاومة البدع وإبطالها.
كما يحدد الشيخ نوع من يكون معه الكلام في ذلك فيقول: "إنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق، ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله، ونحن نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم: أن يتبع أمر الله ورسوله ويسأل عنه، والله سبحانه أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا وأكمل، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه وهم يحبونه أحب من أنفسهم وأولادهم ويعرفون قدره ويعرفون أيضا الشرك والإيمان، فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 7 ص 46- 48.
صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه، أو أحد من أصحابه، جاء عند قبره بعد موته، يسأله أو يندبه، أو يدخل عليه، للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري، وإن كان إذا سألت، إذا أنه تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين، وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم، فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به.
أما من يصر على دعوة الصالحين، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرا لهم، ويقول إن هذا أمرحسن، ولو ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه كفر، فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره، فليس لنا معه كلام1.
ومنهج الشيخ في الاستدلال على التوحيد وتفسيره: بالبراهين القاطعة، التي احتج الله بها على خلقه، واستدل بها رسل الله، ومن تبعهم على التوحيد. فيستدل الشيخ بربوبية الله العامة لجميع العالمين، وبآثار صفات الله في مخلوقاته، وبصفة الإله واختصاص الله بها، فلا إله غيره، وبسائر صفات الكمال لله تعالى، التي انفرد بها، والدالة على وحدانيته.
ويستدل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثته لبيان التوحيد،
1 الدرر السنية ج 1/52، مؤلفات الشيخ، الشخصية، رسالة رقم 8 ص52، 53 ورقم 7 ص 48، 49.
وبيانه البيان البليغ، وتمام رسالته، ونصرته وظهور دينه.
ويستدل بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعجز منه وهو القرآن والصحيح من السنة قولا وفعلا وتقريرا.
ويستدل بمخلوقات الله تعالى، وعبوديتها له طوعا وكرها.
وفي ذلك يسلك الشيخ طريقة القرآن في البرهنة على التوحيد التي هي عقلية وشرعية، عقلية حيث أن العقل يشهد بصحتها، وشرعية حيث أن الشرع جاء بها، وما ترك الشيخ فيما علمت مسلكا من مسالك الاستدلال إلا وقد سلكه، فالشيخ أحيانا يذكر الوحدانية، ثم يذكر دليلها، وأحيانا: يذكر الدليل، ثم يذكر الوحدانية عقب ذكر الدليل، وأحيانا: لا يذكر الوحدانية، ولا دليلها، ولكن يذكر فقر المخلوقات، وحاجتها وعدمها، وما إلى ذلك من صفاتها، التي تشهد بعبوديتها، وعدم استحقاقها لشيء من العبادة، وأحيانا: يذكر غنى الله سبحانه، وقدرته، وحكمته، وعلمه، وسائر صفات الكمال، التي انفرد بها، وكلها تشهد باستحقاقه لكل العبادة بجميع أنواعها واختصاصه سبحانه بهذا الحق، وكل هذه المسالك يأخذها الشيخ من القرآن الكريم والسنة المطهرة، والشواهد التاريخية، وكلام العلماء وإجماع أهل العلم.
ومما يسترعي الانتباه: أن الشيخ في احتجاجه واستدلاله، يسلك الطريقة المثلى في ذلك، فيستدل بالمعلوم إلى المجهول، وبالمسلم به إلى المنازع فيه، وبما أقر به الخصم على ما جحده، وبالمجمع عليه على المختلف
فيه، فلننظر إليه في قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر: 38) .
يقول الشيخ: فيها بيان أن عندهم من العلم ما تقوم به الحجة، وأن المجمع عليه يدل على المختلف فيه، ومجادلة المبطل بالحق الذي يسلمه، وأنه تسليم لا يجحدونه بل يقرون به للخصم، والتعجب من الإنكار مع هذا الإقرار، والإلزام الذي لا محيد عنه وأن هذا كاشف لشبهتهم1.
إلى غير ذلك ممَّا سيأتى تفصيله، في مبحث استدلال الشيخ على توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى.
أما ما يسمى: قضية إثبات وجود الله تعالى- فإن الشيخ لم يشغل نفسه بذلك كما فعل من يتكلم في التوحيد، من أهل الكلام وغيرهم، لأن وجود الله ثابت مشهود لا شك فيه ولا ريب، والخلق مفطورون على الإقرار بذلك، بل يقرون بتوحيد الله في الربوبية، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (الزمر: 39) .
وقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} (الروم:30) . وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 330، 331.
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173) .
قال الشيخ: "ليس المراد معرفة الإله الإجمالية، يعني معرفة الإنسان أن له خالقا، فإنها ضرورية فطرية، بل المراد معرفة الإله، هل هذا الوصف مختص بالله؟ لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أم جعل لغيره قسطا منه؟
فأما المسلمون أتباع الأنبياء، فإجماعهم: على أنه مختص، كما قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) .
والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام، أضلهم الله عن معرفة الإله".
ثم ذكر الشيخ أنه يفسرون الإله: بأنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة1، وعلى كل فالشيخ يعتبر الإقرار بقدرة الله، وبربوبيته أمرا فطريا ضروريا بدهيا، وهو الدليل القاطع كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2 (النحل:17) .
1 الدرر السنية، ج 1ص 75.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 204.
فهو الذي يستدل به على اختصاص الله تعالى بصفة الإله، فكيف يحتاج إلى دليل وهو الدليل؟! لا شك أن الدليل لا يحتاج إلى دليل.
ولئن كانت ربوبية الله الظاهرة المشهودة بالمحسوس والمنظور والفطرة، تحتاج إلى دليل فإنه لا يصح ثبوت شيء على الإطلاق.
كما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما ما يقوله الشيخ في افتتاحية رسالة له، تشتمل على قواعد أربع
يتميز بهن المسلم من المشرك، ونصه:"الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع ما له من الأفعال المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال"1.
فالشيخ ينبه على دلائل وحدانية الله بالألوهية من صفاته وأفعاله وربوبيته المشهودة، لأن الشيخ لا يقصد مجرد إثبات وجوده وربوبيته، بمعنى أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمور إلا الله، بل مقصوده كما ذكرنا الاستدلال بربوبيته على وحدانيته في الألوهية بدليل أن هذه الرسالة تشتمل على قواعد أربع يتميز بهن المسلم من المشرك وخلاصتهن:
ا- بيان أن الله أبدع خلقنا.
2-
لنعبده.
3-
أن الشرك يفسد العبادة.
1 الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 3.
4-
أن العبادة إنما تكون على السنة1.
إذا تقرر هذا فمن العبث الاشتغال بإثبات الثابت، وتحصيل الحاصل، ومن الخطأ أن نتفقد هذا العبث في منهج الشيخ، الجاد في دعوته وعقيدته، أو إذا لم نجده نحاول لَيَّ بعض الجوانب الأخرى لتكون مقصود الشيخ بهذا الذي افتقدناه.
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يجيئوا أقوامهم ليثبتوا ثابتا، ويعلموا معلوما ولم يأمروا أهل ملتهم أن يقولوا:"الله موجود" ولا أن يقولوا: "لا موجود إلا الله" فهذا يفضي إلى وحدة الوجود الباطلة، وصفة الوجود ليست أخص وصفه، كما هي ربوبيته للعالمين، فكونه رب العالمين هو من أخص وصفه سبحانه، لذا فإن الرسل أمروا قومهم بأن يقولوا:"لا إله إلا الله" وبينوا لهم أن هذا القول بصدق هو المطلوب، واستدلوا بربوبية الله للعالمين، التي هي معلومة من أخص وصفه سبحانه لديهم، واحتجوا على قومهم بذلك، كما قال الله تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) .
فكانت حجتهم عليهم لله بالغة، فالصلاة والسلام عليهم ولا سبيل لأهل السنة والجماعة والشيخ منهم أن يعدلوا عن منهاجهم.
ولذا فالشيخ يذكر توحيد الربوبية ليستدل به لأنه معلوم - على
1 انظر المرجع السابق.
توحيد الله بالألوهية وكم كرر في هذا الأمر وقرر.
وأما ما ينقل عن الملاحدة والشيوعين، من أنهم لا يقرون بالربوبية، بل ينكرون وجود الله، فإن هذا الصنف من المخلوقات لا تنفع معهم أدلة، ولا تنجح فيهم حجة، ولا يصح ويثبت في أذهانهم أي علم، فمن العبث الاشتغال بأفكارهم والرد عليها، لأنهم مردوا على الجحود والكفر، فطبع الله على قلوبهم، وازدادوا كفرا بعد كفر، وظلمة فوق ظلمة وفسادا فوق فساد، فالمنهج تجاههم هو: الإعراض عنهم والإقبال على تقرير التوحيد على منهاج الرسل، وكما قرروه والمضي في هذا السبيل بكل قوة، ومن غير التفات إلى المعاندين المكابرين {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} (الأ نعام: 25) .
وتقرير توحيد الله تعالى وإثباته على منهاج الرسل، يفيد إثبات وجود الله مع مزيد التأييد والقوة، والوفاء بالمقصود، ولا أنفع علاجا ودواء لداء انحراف الفطرة وفسادها من تقرير التوحيد، كما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان فقد تعاملوا مع خلق الله بما أمر الله وأرضوا الله فيمن أسخطه فيهم وفي غيرهم فأقاموا حدود الله وطبقوا شريعته على جميع الأحوال. فكانوا هم الغالبون بإذن الله. ويقول الشيخ: إن التأويل الفاسد في رد النصوص ليس عذرا لصاحبه، كما أنه سبحانه لم يعذر إبليس في شبهته التي أبداها كما يُعْذَرُ من خالف النصوص متأولا مخطئا، بل كان ذلك التأويل زيادة في كفره. ومثل هذا
التأويل ليس على أهل الحق أن يناظروا صاحبه ويبينوا له الحق كما يفعلون مع المخطىء المتأول، بل يبادر إلى عقوبته بالعقوبة التي يستحقهما بقدرذنبه، وإلا أعرض عنه إن لم يقدر عليه، كما كان السلف الصالح يفعلون هذا وهذا، فإنه سبحانه لما أبدى له إبليس شبهته فعل به ما فعل، ولما عتب على الملائكة في قيلهم أبدى لهم شيئا من حكمته وتابوا، وقد وقعت هذه الثلاث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي فتح الله له فيها مكة، فإنه لما أعطي المؤلفة قلوبهم ووجدت عليه الأنصار عاتبهم واعتذروا وقبل عذرهم، وبين لهم شيئا من الحكمة، ولما قال له ذلك الرجل العابد (اعدل) قال له كلاما غليظا، واستأذن بعض الصحابة في قتله ولم ينكرعليه، لكن ترك قتله لعذر ذكره1.
ويزيد الشيخ ذلك إيضاحاً فيقول: " إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها، فإن الخوض معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان، مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته، وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم كما عليه المتأخرون، بل يعاقبونهم إن قدروا وإلا أعرضوا عنهم.
وقال أحمد لمن أراد أن يرد على أحدهم: اتق الله ولا تنصب نفسك لهذا، فإن جاءك مسترشدا فأرشده2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 92.
2 المصدر السابق ص 93.
ويقول الشيخ: إن في قول الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 36 ا-137) . إن في هذا الكلام غاية إنصاف الخصم، وإن الذي لا ينقاد له ليس داؤه جهالة بل مشاقة، وإنك إذا أنصفته وأصر، فهو سبب لانتقام الله منه1.
ويستنبط الشيخ من قصة آدم وإبليس أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالفجرة، بل يكون على حذر منهم، ولو قالوا ما قالوا، خصوصا أولياء الشيطان الذين تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، فإن اللعين حلف {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .
ومنها أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صورة الحق كما في الحديث: "إن من البيان لسحرا" 2 فإن اللعين زخرف قوله بأنواع منها تسمية الشجرة شجرة الخلد، ومنها تأكيد قوله:{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وغير ذلك مما ذكر في القصة، فينبغي للمؤمن أن يكون من زخرف القول على حذر، ولا يقنع بظاهره حتى يعجم العود3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 39-. 4.
2 رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 93، 94.
إعراض الشيخ عن مبحث الوجود:
وكما قدمنا أن منهج الشيخ هو منهج السلف الصالح، فإنه في إعراضه عن مبحث الوجود والاستدلال عليه، لأنه أمر مسلم به، ولأنه هو الدليل على توحيد العبادة المطلوب، والذي من أجله فقط أرسلت الرسل، فقد اتبع منهج كبار الأئمة في بيان التوحيد، وإقامة الأدلة عليه، مثل الإمام أبي حنيفة وغيره من أئمة المذاهب الأربعة الكبار.
قال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: " وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود، ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ويومىء إليه حديث: "كل مولود يولد على الفطرة".
وإنما جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لبيان التوحيد، وتبيان التفريد، ولذا أطنفت كلمتهم وأجمعت حجتهم على كلمة: لا إله إلا الله، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: الله موجود، بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ردا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد. ثم العقائد يجب أن
تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل1.
وقال ملا علي قاري: حكي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فتترسى بنفسها، وتتفرغ بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم
كله علوه وسفله؟ انتهى2.
ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله:
فوا عجبا كيف يعصى الإله
…
أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة
…
وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد3
وأما من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، فإن الشيخ يرشد إلى ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أرشد من بُليَ بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يستعيذ بالله وينتهيَ ويقرأ {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ
1 شرح ملا علي قاري للفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 10.
2 شرح ملا علي قاري على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9.
3 نقلا من شرح ملا علي قاري على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9.
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وكذلك قال ابن عباس لأبي زميل وقد سأله: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، فقال: أشيء من شك؟ قلت: بلى، قال: ما نجا من ذلك أحد، فإذا وجدت في نفسك شيئا، فقل:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
فأرشدهم بالآية إلى بطلان التسلسل ببديهة العقل وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره: هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو أنه ليس دونه واسطة، فليس دونه شيء سبحانه.
ولو كان قبله شيء يكون مؤثرا فيه لكان هو الرب الخلاق، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده به بعد عدمه، باق بذاته، وبقاء كل شيء به1.
ثم يرشد الشيخ إلى أن ما يقع في القلب من خواطر الشيطان لا يضر، بل هو صريح الإيمان إذا كان مع الكراهة أخذا من قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} الآية2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 152-153، وانظر: ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 40 ص 29، 30.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 180.
فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، هو خالق كل شيء وما سواه مخلوق.
والشيخ حين يجعل أصله في علم التوحيد، هوالتمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق أهل السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه السلف الصالحون يكون متبعا للعلماء السابقين غير مبتدع.
وإذا قسم التوحيد إلى نوعين، هما توحيد الربوبية- ويدخل فيه إثبات الأسماء الحسنى وصفات الكمال على ما جاء في الشرع، وهو القسم العلمي الخبري من قسمي التوحيد، وتوحيد الألوهية أوتوحيد العبودية- الذي هو القسم الطلبي الإرادي، وإذا بين أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية دون العكس في القضية ليس هذا القول من الشيخ لمتابعته ابن تيمية، أو علماء الحنابلة، أو علماء أهل السنة من المالكية والشافعية فحسب، بل لمتابعته أيضا علماء الحنفية فيما حققوه من السنة النبوية الشريفة.
هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله بدأ مؤلفه المسمى بـ" الفقه الأكبر" بقوله: " أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه يجب أن يقول: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره
من الله تعالى" 1.
ويقول الشيخ علي البزدوي من الحنفية في "أصول الفقه": " العلم نوعان: علم التوحيد والصفات، وعلم الفقه والشرائع والأحكام. والأصل في النوع الأول: هو التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، ولزم طريق أهل السنة والجماعة، الَّذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه السلف الصالحون، وهو الَّذي عليه أدركنا مشايخنا، وكان على ذلك سلفنا؛ أعني: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمداً، وعامة أصحابهم رحمهم الله تعالى"2.
وهذا أبو جعفر أحمد الطحاوي المتوفى سنة (321هـ) قبل ابن تيمية يذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني فيقول: " نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره3.
1 "الفقه الأكبر بأعلى صحائف شرح ملا علي قاري"(ص9-13) ، و"بأعلى صحائف شرح أحمد المغنيساوي"(ص 31، الطبعة الثانية، الهند 1367هـ) .
2 نقلا عن "شرح الفقه الأكبر" لأحمد المغنساوي ضمن مجموعة الرسائل السبع في العقائد (ص30، الطبعة الثانية بمطبعة جمعية دائرة المعارف حيدر آباد الدكن سنة 1367هـ) .
3 العقيدة الطحاوية، ط المكتب الاسلامي ص 17-18.
فقوله: "لا شيء مثله" في توحيد الصفات والأسماء "ولا شيء يعجزه" في توحيد الربوبية والقدرة، وكل ذلك في توحيد المعرفة والإثبات.
"ولا إله غيره" في توحيد الألوهية وذلك في توحيد الطلب والإرادة قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي المتوفى سنة (746هـ) : "ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة وتوحيد في الطلب والقصد"1.
بل إن من المتأخرين من الأحناف من يقررما قرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل أن يولد.
وهذا ملا علي بن سلطان القاري الحنفي المتوفى سنة (1014هـ) قبل ميلاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمائة سنة يقرر ما قرره الشيخ من نوعي التوحيد، فقال في شرحه الفقه الأكبر لأبي حنيفة " أقول: فابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين، يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية" إلى أن قال: "والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وقوله سبحانه حكاية عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
1 شرح الطحاوية ص 88.
بل غالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله وثوابهم، وفي شأن ذم الشرك وعقوق أهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (وهم أهل التوحيد){غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} الذين فارقوا التوحيد عنادا وجهلا وإفسادا.
وكذا السنة تأتي مبينة ومقررة لما دل عليه القرآن، فلم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول ديننا- ولذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين- بل قال الله تعالى:
فلا نحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى:{هذا بلاغ للناس} 1.
وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 2.
وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 4.
وأظنه نقل عن شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي5.
وليس سبب الخلاف بين الشيخ وخصومه هو تقسيم التوحيد إلى نوعين وبيان الفرق بينهما كما يذهب إليه الدكتور العثيمين6، وإنما الخلاف بينه وبين خصومه، هو أنه يقول: "ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا
1 سورة إبراهيم الآية (52) .
2 سورة العنكبوت الآية (51) .
3 سورة الحشر الآية (7) .
4 شرح ملا علي بن سلطان محمد القاري الحنفي المتوفى 1014 على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9-10.
5 انظر: شرح الطحاوية ص 88-89.
6 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور عبد الله العثيمين ص 108- 110.
رَشَداً} (الجن: 21) .
ولما ذكر الشيخ لهم أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهما أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين والتعلق بهم هوالشرك بالله الذي قال فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: 72) .
لما أظهرلهم هذا أنكروه وكبر عليهم، وقالوا: جعلنا مشركين. وقالوا: هذا ليس إِشراكا. هذا هو مرتكز الخلاف بين الشيخ وخصومه1، ولو أن خصوم الشيخ أقروا بتوحيد الله في هذا وتابوا مما كانوا عليه من دعاء غير الله ما كان الشيخ ليطالبهم بالتفريق بين نوعي التوحيد، كيف! والشيخ يرى أن لفظ الربوبية يأتي بمعنى الألوهية كما في قوله تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف: 14) . قال الشيخ: "قولهم ربنا رب السموات والأرض " هذه الربوبية هي الألوهية 2.
والشيخ حين يفرق بين توحيد الربوبية والألوهية، إنما ليبين أن الربوبية عندما تفسر بأشهر معانيها الذي هو فعل الرب، وحين تؤتى بتوحيد الربوبية على هذا التفسير أي اعتقاد أن الله واحد في فعله فإنه لا
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 33.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 243.
يكفي عن الإتيان بتوحيد الألوهية، والذي منه إفراد الله بالدعاء لأن المشركين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية هذا ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام، لأنهم لم يأتوا بتوحيد الألوهية- على ما سيأتي بيانه بالتفصيل في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
وقد بين الشيخ منهجه في الإحكام في نبذة كتبها بعنوان: "أربع قواعد تدور عليها الأحكام " وتتلخص في الآتي:
ا- تحريم القول على الله بلا علم.
2-
أن كل شيء سكت عنه الشارع فهو عفو.
3-
أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بالمتشابه طريق أهل الزيغ كالرافضة والخوارج.
4-
أن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن لم يفطن لهذه القاعدة ويريد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل فقد ضل وأضل1.
والشيخ يرى أن الصواب في المسائل المشكلة عدم الجزم بشيء بل يقول: (الله أعلم) مثل ما قال أهل الكهف: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) . وكما أمر الله بإسناد الأمرإلى علمه: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فالسكوت عنها هو العلم والمتكلم بلا علم ينكر عليه2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني، ص 3- 10، والقسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 77، 80.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 245،247.
والله تبارك وتعالى نهى عن افتراء الكذب عليه والقول عليه بلا علم والمحاجة والمجادلة بغير علم وقول ما ليس للقائل به علم مطلقا- قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) .
والذي يجب العلم به أن كل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حق يجب الإيمان به ولولم يعرف الإنسان معناه، وأنه لا تضاد ولا تناقض في كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنه ليس بين كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الله أَيَّ مناقضة1.
والأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل لأنه إما استدل بحديث لم يصح، وإما لأنه فهم من كلمة صحيحة مفهوما مخطئا.
وحاشا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من التضاد، بل كله حق يصدق بعضه بعضا والواجب على المؤمن في مثل هذا أن يحسن الظن بكلام الله وكلام رسوله ويقول كما أمر الله:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) . فإذا تبين له الحق فليقل به وليعمل به، وإلا فليمسك وليقل الله ورسوله أعلم2.
1 الدرر السنية، ط 2، ج 6 ص 495، 496، مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34،35، وص 44،45.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 10، ومؤلفات الشيخ،
القسم الثالث، الفتاوى ص 34.
نعم قد يرد حديثان متضادان ولكن أحدهما ليس بصحيح، وقد يكون أحدهما ناسخا لكنه قليل جدا ومع ذلك لا يرد المنسوخ إلا قد يرد ما يبينه1.
وينبغي لطالب العلم أن يتفطن لصورة المسألة في الدليل الذي يدل عليها ويجيل نظره في ذلك فإن كثيرا من الأغاليط وقعت في مسألة واضحة جدا ويستدل الغالط على غلطه بشيء من القرآن والسنة، وهو لا يدل على ذلك كما فعل الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 الآية (آل عمران: 7) .
فينبغي رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، وللمفتي أن يستفصل اذا احتاج لذلك3.
فإن الله تعالى ابتلى الناس بالمتشابه كما ابتلاهم بالمحكم ليعلم من يقف حيث وقفه الله ومن يقول على الله بلا علم. ولو بلغ الإنسان من العلم ما بلغ لكان ما علمه قليلا بالنسبة إلى ما لم يعلمه. فقد قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 4 (الإسراء: 85) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 40، 41.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيدص 39.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34، 35.
وقد توقف الشيخ في الإفتاء عن معنى قوله: "الشؤم في ثلاث" الخ وقال: "لم يتبين لي معناه، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي جواب، هل المراد حفظ القرآن مع حفظ المعاني؟ في ما ورد من الفضل في حفظه؟ قال الشيخ:"لا يحضرني جواب يفصل المسألة".
وفي إغلاق الباب عند الجذاذ ووقت الحصاد قال: "فلا أجسر على الجزم بتحريمه" وفي موضع قال: "فلا أتجرأ على الجزم بتحريمه" وفي معنى عقد اللحية- قال: "لا أعلمه " وفي مقصود الحسن بتفسير الجبت برنة الشيطان- قال " لا أعرف مقصود الحسن " وفي الفرق بين الروح
والرحمة- قال: "لا أعرفه ".
وفي مسألة إذا لم يعرف هل هذا وقف على من يرث أم لا ولكن الإفاضة على أنه ممن يرث قال: "فأنا لا أدري عن هذه المسألة لكن أرى لك التوقف عنها ولا ينزع من يد من يأكله إلا ببينة، وغير ذلك1.
ويرى أنه لا غنى للمسلم عن معرفة أمور أهل الجاهلية الكتابيين والأميين التي خالفهم "فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالضد يظهرحسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، والحق لا يتبين إلا بالباطل2.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 38، 39، 53، 54، 73، 90، 97، 105.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 333، والقسم الرابع، التفسير، الفاتحة، ص 15، 16.
وأنه قد يكون لأهل الباطل والشرك علوم كثيرة وكتب وحجج، ويفرحون بما عندهم من العلم، ومن حكمة الله أن جعل منهم أعداء للرسل وأتباعهم وهم شياطين الجن والإنس1، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
ومن أمورهم أن التقليد بالباطل هو القاعدة الكبرى لجميع أهل الجاهلية أولهم وآخرهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) .
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21) .
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (سبأ: 46) .
وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3)2. لذا فالشيخ لا يرتضي مناهج الجاهلية ولا قياساتهم واستدلالاتهم الفاسدة ولا حججهم الباطلة مثل استدلالهم على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء: 111) .
1 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 159- 160. والقسم الخامس، الشخصية، رقم 22 ص 155-157.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 336.
وقوله عنهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} (الأنعام:53) - فرد الله استدلالهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) .
ومثل اقتدائهم بفسقة العلماء والعباد أمثال من قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34) . وقال تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:77) .
ومثل استدلالهم على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم.
ومثل استدلالهم بالقياس الفاسد، وإنكارهم القياس الصحيح واستدلالهم على الحق بقوم ضالين غير أنهم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والجاه والمال، فرد الله ذلك بقوله:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) .
واعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين واعتياضهم كتب السحر عن ما أتاهم من الله، كما ذكر الله ذلك في قوله:{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (البقرة: 101-102) .
ونسبتهم الباطل إلى الأنبياء فرد الله عليهم بمثل قوله: {وما كفر
سليمان} وبمثل قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} (آل عمران: 67) . وقدحهم في الصالحين بفعل سيء من بعض المنتسبين إليهم كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود والنصارى في محمد صلى الله عليه وسلم1.
وتحريفهم كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وتصنيفهم الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كما قال الله عنهم {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (البقرة: 79) .
ولا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم، ومع ذلك لا يعملون بما تقوله طائفتهم2. ولكن يثبتون أهواءهم وظنونهم ويعرضون عما جاءت به الرسل فيصبحون على خلاف ما جاءت به الرسل من النفي والاثبات يثبتون ما نفته الرسل وينفون ما أثبتته الرسل، ويعتذرون عن إعراضهم عن ما جاءت به الرسل بعدم الفهم كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} 3.
ويلحدون في أسماء الله الحسنى وصفاته، ويعطلون الله من صفات الكمال والعظمة والجلال، وينسبون إليه النقائص سبحانه، وقد ينزهون
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية رقم 8-13، 16- 25.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، رقم 26-29.
3 المرجع السابق رقم 1-15.
أنفسهم عنها، ويجحدون القدر أو يحتجون به على معارضة الشرع، ويسبون الدهر1، ويعملون الحيل الظاهرة والباطنة في دفع ما جاءت به الرسل، وقد يقرون بالحق ليتوصلوا بذلك إلى دفعه، ويلقبون أهل الهدى بالصباة والحشوية، وإذا غلبوا بالحجة فزعوا إلى الشكوى إلى الملوك وأهل النفوذ يرمون أصحاب الحجة الغالبة بالفساد في الأرض وانتقاص الملك وتبديل الدين2.
كما قال تعالى عن فرعون أنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر: 26) - وقال عن قومه أنهم قالوا: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127) .
ودعواهم اتباع السلف مع التصريح بمخالفتهم كمن ينتسب إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، رقم 37-46.
2 انظر مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية رقم 53، 59، 62، 67.
3 انظر: المصدر ال\سابق رقم 120، 18.
الشيخ لم يشتغل بالكلام - يرفض منهج أهل الكلام
لقد كان الشيخ ينطلق من إسلامه وإيمانه ومن منهجه السلفي في كلامه على التوحيد فلم يشغل نفسه بما شغل به أهل البدع أنفسهم. كالمتكلمين المعرضين عن طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها فاشتغلوا ببدع من الكلام والاستدلال كالجوهر والعرض والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالوحي.
وينقل الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن ابن سريج لما سئل عن التوحيد ذكر توحيد المسلمين، ثم قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك. وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في مواضعه.
ومن ذلك ما ينقل من كلام أبي الوفاء بن عقيل قال: " أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائى وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت" ا- هـ1.
ولذا فالشيخ يرى أن المتكلمين أهل شك وريب ولم ينتهوا من مباحثهم إلى طمأنينة وقضوا حياتهم وفارقوا الحياة وهم في حيرة واضطراب واختلاف وأمر مريج وقول مختلف، وقال: يقول شيخ الإسلام
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 131، 132.
ابن تيمية "وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت. والحكايات في هذا كثيرة معروفة.
هذا أبو الحسن الأشعري: نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم.
وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهى في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف إلجام العوام عن علم الكلام.
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة أهل القرآن أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} .
ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وكان يتمثل كثيرا:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وحاصل دنيانا أذى ووبال
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف، وكان يقول "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به " وقال عند موته لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي- أو قال- عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستانى: "إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم" وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن أو قارعا سن نادم
وابن الفارض- من متأخري الاتحاديه- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك، الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد- لما حضرته الوفاة أنشد:
إِن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
والخلاصة: "أن أهل الكلام يردون باطلا بباطل "1.
ويقول الشيخ عن مناهج المخالفين من أهل الكلام للرسل، في معرض رسالته إلى ابن عبد اللطيف: "ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعظم الناس وأذكاهم وأعظمهم جاها وأتبعه أكثر الناس تذكر ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين وصفات الله تعالى، وما وقع فيه من الجهل والمحذور غالب من يدعي المعرفة وما عليه المتكلمون من التناقض والحيرة وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حشوا وتشبيها وتجسيما، مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب أهل الكلام مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين؛ تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه، وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك؛ مثل ما ذكرفي فتح الباري في مسألة الإيمان على قول البخاري، وهو قول وعمل
1 مؤلفات الشيخ ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 119 ص 127 -140، ونقض المنطق، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ص 60-62، وانظر: شرح ملا علي بن سلطان محمد القاري الحنفي على الفقة الأكبر للإمام أبي حنيفة ص5- 8 (ط2، 1375 هـ) ، الحلبي.
ويزيد وينقص، فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين ولم يرده.
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، واقرأ في كتب أهل العلم من السلف ومن أتباعهم من الخلف ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها أو تأول شيئا من النصوص فقد افترى على الله وخالف إجماع أهل العلم ونقلهم الإَجماع على أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر بن عبد البر. "أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء".
قال الشيخ: "إنهم ابتدعوا كلاما من عند أنفسهم وكابروا به العقول أيضا".
ويقول الشيخ: "إن أهل الكلام وأتباعهم من أحذق الناس وأفطنهم ولهم من الذكاء والحفظ والفهم ما يحير اللبيب وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف مع هذا، وأيضا فهم عاجزون عن الرد على الفلاسفة إفكهم وباطلهم لكون مذهبهم فاسدا في نفسه ومخالفا للعقول مع مخالفته لدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم، حتى إن بعض أئمتهم المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم آيات الأمر والنهى مثل قولهم المراد بالصيام كتمان أسرارنا، والمراد بالحج زيارة مشايخنا، والمراد بجبريل
العقل الفعال وغير ذلك من إفكهم، رد عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام فقال لهم الفلاسفة أنتم جحدتم علو الله على خلقه واستواءه على عرشه مع أنه مذكورفي الكتب على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحا؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد".
ثم يخاطب الشيخ ابن عبد اللطيف فيقول: "وأنا أدعوك إلى التفكير في هذه المسألة وذلك أن السلف قد كثركلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتفكيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التميمي، ومن بعدهم كالحافظ الذهبى، وأما متقدموهم كابن سريج والدارقطني وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر، ففتش في كتب هؤلاء فإن أتيتنى بكلمة واحدة أن منهم رجلا واحدا لم ينكر على المتكلمين، فلا تقبل مني شيئا أبدا، ومع هذا كله وظهوره غاية الظهور راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون والله المستعان"1.
وفي معرض رد الشيخ على بعض أهل الكلام تفسيرهم الإله أنه القادر على الاختراع، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقروا بذلك فهو
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الرسائل الشخصية رقم 37 ص 262-265 بتلخيص وتوضيح قليل. وانظر: الدرر السنية ج 1 ص 69-71.
معنى لا إله إلا الله، ونفيهم الصفات بوهم أن التوحيد لا يتم إلا بنفيها، ومن أثبتها سموه مجسما- يقول الشيخ في سبب هذا الضلال:"وأصل هذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ". وذكر الرحمن هو القرآن فلما طلبوا الهداية من غيره أضلهم الله، وقيض لهم الشيطان فصدهم عن أصل الأصول، ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون.
وبيان ذلك أنه ليس المراد معرفة الإله الإجمالية يعني معرفة الإنسان أن له خالقا فإنها ضرورية فطرية بل معرفة الإله هل هذا الوصف مختص بالله لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أو لغيره قسط منه، فأما المسلمون أتباع الأنبياء فإجماعهم على أنه مختص كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (سورة الأنبياء:25)
والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام أضلهم الله عن معرفة الإله
…
وذكر الشيخ: " أن العجب العجاب ظنهم أن الألوهية هي القدرة، وأن معنى قولك لا إله إلا الله أي لا يقدر على الخلق إلا الله، إذا فهمت هذا تبين لك عظم قدرة الله على إضلال من شاء مع الذكاء والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس ولا قصة قوم نوح وعاد وثمود وهلم جرا- كما قال شيخ الإسلام في آخر الحموية أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء
وأوتوا علوما وما أوتوا فهوما، وأوتوا سمعاً وأبصارا وأفئدة، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ} 1.
ولذا لم يشغل الشيخ نفسه بمناهج أهل الكلام وابتعد عن بدعهم المذمومة واعتصم بمنهج السلف الصالح في اعتقاده وعلمه.
وهكذا يرفض الشيخ منهج أهل الكلام المبتدع في التوحيد والاعتقاد - ولا يعني ذلك أن الشيخ لا يعتبر العقل الصريح بل العكس فإن الشيخ رحمه الله كما قدمنا يعتبر القياس الصحيح ويثبته، ويرد على منكريه ويرفض منهجهم، فما دام القياس صحيحا فالشيخ يثبته سواء كان قياس طرد، وهو التسوية بين المتماثلات) وقياس عكسي، وهو التفرقة بين المختلفات فالشيخ يثبته مادام صحيحا. والشيخ يستدل بالقاعدة الكلية على المسائل الجزئية2.
ويعتبر القاعدة التي هي خاصية العقل هي ارتكاب أدنى الشرين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى الخيرين لتحصيل أعلاهما من الأمور الشرعية3.
وقد تقدم إيرادنا قول الشيخ رحمه الله تعالى: " ثم إذا عرف ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول صلى الله
1 الدرر السنية، ط 2، ج 1 ص 69- ا 7.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 372.
3 مؤلفات الشيخ، التفسير، البقرة، ص 23.
عليه وسلم فإنه الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى" 1.
ويقول الشيخ: " وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل "2.
ما أشاعه الأعداء عن منهج الشيخ
هذا وقد أشاع أعداء التوحيد عن الشيخ منهجا ليس من منهجه، وافتروا عليه مسلكا لم يسلكه وحيث إِن الشيخ بنفسه قد أجاب عن افتراءات أعدائه عليه وبين أنه لا أساس لها من الصحة كما شخص أسباب هذه الافتراءات فأذكرها هنا مكتفيا بأجوبة الشيخ حيث إِنها تعتبر جانبا من منهجه، ويجدر بنا أن ننبه إلى أن جميع المفتريات والإشاعات التي أثيرت تنبثق من تلك المفتريات التي أجاب عنها الشيخ، مما يجعلنا نعتبر جواب الشيخ صالحا لكل ما قيل عنه من بعده أيضا.
وفيما يلى تلخيص لأجوبة الشيخ عما نسب إليه أنه انتهجه:
فالشيخ يقول: "أشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها"3. ويقول الشيخ: "إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو من البهتان الظاهر وهي (قوله) إني مبطل كتب المذاهب،
1 انظر: (ج 1/290) من هذا البحث، والدرر السنية ج 2 ص 8.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 14 ص 98.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 40.
وقوله إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، (وقوله) إني أدعي الاجتهاد، (وقوله) إني خارج عن التقليد، (وقوله) إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، (وقوله) إنى أكفر من توسل بالصالحين، (وقوله) إني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، (وقوله) إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، (وقوله) إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفِّر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول:
(سبحانك هذا بهتان عظيم) ولكن قبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين (تشابهت قلوبهم) ، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله تعالى في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية ا- هـ1.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 40 ورقم 17 ص 144 ورقم 11 ص 64 ورقم 8 ص 52 ورقم 1 ص 2 1 ورقم 5 ص 37 ورقم 42 ص 288 ورقم 7 ص، ص 47، 49، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 412- 115.
مسألة التكفير عند الشيخ:
وأما مسألة التكفير- فالشيخ يجيب بأنه لا يكفر بالعموم، ولا يكفر جميع الناس ممن لم يتبعه، ولا يزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ولا يقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء1. ولا يكفر بالظن، فمن أظهر الإسلام وما تيقنا أنه أتى بناقض لا يكفر لأن اليقين لا يرفع
بالظن2.
ولا يكفر الشيخ بالموالاة يعني أنه لا يقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندنا ويوالينا بل مراده اتباع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أيِّ أرض كانت، ولا يقول إن الذي ما يدخل تحت طاعتي فهوكافر، بل يقول: نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك، وأهله فهو المسلم في أيِّ زمان وأيِّ مكان3.
ولا يكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة4، ولا يكفر من يحلف بغير الله، ولا يكفر من توسل بالصالحين5، ولا يكفر ابن الفارض بعينه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 5 ص 37 ورقم 7 ص 48 ورقم15ص 101، ورقم 1ص 12 ورقم 11 ص 64..
2 المرجع السابق رقم 3 ص 24، 25.
3 المرجع السابق رقم 10 ص 60 ورقم 9 ص 58 ورقم 3 ص 25، 27.
4 المرجع السابق رقم 3 ص 25.
5 المرجع السابق رقم 11 ص 64 ورقم 1ص 12.
ولا ابن عربي بعينه1، ولا يكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق2.
ولقد بين الشيخ هذا أتم بيان حيث قال: "وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم إِنَّا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه- يعني زعمهم أَنه يكفرمن لم يقم عليه الحجة ونحوذلك- يقول الشيخ: فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل3 {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 4 (النور: 16) .
وأما القتال فيقول الشيخ فيه: "وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن
1 المرجع السابق رقم 1ص 12.
2 المرجع السابق رقم 11 ص 64 ورقم 1ص 12.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص11، وروضة ابن غنام 1/179 -181، والدرر السنية 1/66.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص11، وروضة ابن غنام 1/179 -181، والدرر السنية 1/66. وقوله: لا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، أي لا نكفر من لم يكفر من كفرناه لعدم توفر دليل كفره لديه مثل ترفره لدينا والله أعلم.
قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفه1.
وقد أجاب الشيخ لما سأله الشريف عما يقاتلون عليه وعما يكفرون به الرجل؟ بجواب خلاصته: "أن أول الأركان الخمسة للإسلام الشهادتان، وقد أجمع العلماء على كفر تاركها ووجوب قتاله، أما الأربعة الباقية، فإذا أقر الإنسان بها وتركها تهاونا فالشيخ يقول: فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها، لأن العلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود"2.
والشيخ يكفرمن كفر بإجماع المسلمين وهو الذي قامت عليه الحجة، ولا يكفر من لم تقم عليه الحجة.
وفي بيان هذه النقطة من عقيدة الشيخ ننقل ما لخصه الشيخ وارتضاه عن ابن تيمية رحمه الله فيقول: "لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمركقدامة وأصحابه ظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا وإن أقروا بالتحريم جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق فإن
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، رقم 5 ص 38.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 2 ص 9، وروضة ابن غنام 1/179- 181 والدرر السنية 1/65-67.
أصروا كفروا، ولهذا كنت أقول للجهمية الذين نفوا أن يكون الله فوق العرش أنا لو وافقتكم كنت كافرا، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء ولا الأموات ولا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعاذة ولا غيرهما كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى غير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن له، وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينته لنا1.
وفي موضع آخريقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله: "كل من استفرغ وسعه استحق الثواب، وكذلك الكفار ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وبما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة ولا التزام جميع الشرائع لكونه ممنوعا من الهجرة، ومن إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 105 ص 99، 100.
الشرائع فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قومه، وكامرأة فرعون، بل وكما كان يوسف مع أهل مصر، فإنهم كفار ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان، فلم يجيبوه- قال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} (غافر: 34) .
إلى أن قال الشيخ: وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عوديَ، وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون عليه بل يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها.
إلى أن قال الشيخ بعد أن ذكر أحكام الفوائت من الصلاة وغيرها: إِن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف وهو أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور وفعل محظور، وبعد قيام الحجة" 1.
وبذلك يتبين أن الشيخ لا يكفر أحداً بعينه إلا إذا قامت عليه الحجة
1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 121 ص 142- 146.
غير أنه يبين من هم الذين لم تقم عليهم الحجة فيقول: "إن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أويكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فان حجة الله هي القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة".
ويفرق الشيخ بين قيام الحجة وفهمها في جوابه لبعض من أشكل عليهم هل قامت الحجة على من بلغه القرآن أولا؟ فيقول: "ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فان أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44) ، وقيام الحجة، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم (هو) ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها.
ويقول الشيخ: إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" وقوله: "شر قتلى تحت أديم السماء"1.
1 الدرر السنية، ج ص 90-91.
وانظر صحيح البخاري، ج8 ص 52 ك 88/ ب 6 وفيه:"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإِن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة". وفي سنن ابن ماجة ج1 ص 62، المقدمة باب 12 ولفظه حدثنا سهل بن أبي سهل ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي غالب، عن أبى أمامة يقول: "شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النار
…
قلت: يا أبا أمامة! هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الهيثمي: رواه الطبرانى ورجاله ثقات بعد أن أورده مطولا عما في ابن ماجة، مجمع الزوائد ج 6 ص 233-234.
وفي مجمع الزوائد للهيثمي أيضا "
…
فاقتلوهم هم شر البرية" قال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
وفي صحيح البخاري ج8 ص 51 ك 88/ ب 6 قال البخاري: "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين".
قال الحافظ ابن حجر في الفتح، وصله الطبري في مسند عليّ من تهذيب الآثار، وقال سنده صحيح.
وقال أيضا وقد ثبت في الحديث الصحيح المرفوع عن مسلم من حديث أبي ذر في وصف الخوارج "هم شرار الخلق والخليقة".
وعند أحمد بسند جيد عن أنس مرفوعا مثله، وعند البزارمن طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي. وسنده حسن. وعند الطبرانى من هذا الوجه مرفوعا هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وفي حديث أَبي سعيد عند أحمد "هم شر البرية".
وفي رواية عبد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم "من أبغض خلق الله إليه".
وفي حديث عبد الله بن خباب يعنى عن أبيه عند الطبراني "شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض". وفي حديث أبي أمامة نحوه وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي برزه مرفوعا في ذكر الخوارج "شر الخلق والخليقة يقر لها ثلاثاً".
وعند ابن أبي شيبة من طريق عمير بن إسحق عن أبي هريرة "هم شر الخلق".
قال الحافظ ابن حجر: "هم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين" انظر: فتح الباري ج12 باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم ص 283-286.
قال الشيخ: مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين يعتقدون فيه وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ أصحابه مع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم وهم يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية1، وغيرهم مع شدة عبادتهم وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا فإن هؤلاء كلهم لم
1 غلاة القدرية: هم الذين ينكرون علم الله المتقدم وكتابته السابقة لمقادير الخلائق قبل أن يخلقهم. قال القرطبي: "ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة، لذلك تبرأ منهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهنى، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرأوا منهم وأنكروا مقالتهم"، انظر: تيسير العزيز في شرح كتاب التوحيد ص 621، 623.
يفهموا1.
ويقصد الشيخ بفهم الحجة أي: عقلها وعلى هذا فالأنواع والأعيان ممن بلغه القرآن والسنة وقامت عليه بهما الحجة فلم يسلم يكفر ببلوغ كلام الله إليه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوه من الموانع التي يعذربها أما كونه لم يعقل الحجة كعقل أبى بكر وعمر فلا يعذر بذلك.
يقول الشيخ رحمه الله تعالي: فإذا كان المعين، يكفر إذا قامت عليه الحجة فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهوكافر كما كان الكفاركلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (الأنعام: 25) وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22)2.
وقول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44)، وقال تعالى حكاية عن أهل جهنم: {لَوْ كُنَّا
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 36 ص 244-245 ورقم 34 ص 232-234، الدرر السنية ج8 ص 0 9- 91.
2مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 220- 221 ورقم 36 ص 244-245، والدرر السنية ج8 ص 90، 91.
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (تبارك: 10) .
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103-104) .
وهكذا كل من بلغه الحكم الشرعي من المسلمين فقد قامت عليه الحجة ببلوغ الحكم الشرعي إليه وإِن لم يعقل حكمته وأسراره ومعناه فهو مسلم عليه أن يلتزم الحكم الشرعي، والمرجع في الأحكام الشرعية هو علم علماء الإسلام المشهود لهم بذلك من قرآن وسنة وإِجماع وقياس.
ومرجع الحكم على أعيان الناس بتركهم الحكم الشرعي كترك أحد المعينين الالتزام بالتوحيد ومع ذلك يكفر من التزم التوحيد ويصد الناس عن التوحيد بعد معرفته أنه دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يفرح به ولا يحبه ولا يحب أهله ولا يتبرأ من الشرك وأهله فهذا مرجعه إلى علم الخاص والعام ممن يقبل خبرهم وعلمهم1.
ولما احتج بعض الناس على الشيخ في تكفيره من قامت عليه الحجة الرسالية بفهم فهمه على غير وجهه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية نقل الشيخ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بعينه وبين أنه لا متعلق لأحد بشيء من كلام هذا الإمام فقال الشيخ رحمه الله: "وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيفهم". قال رحمه الله تعالى: "أَنا من أعظم الناس نهيا
1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 31 ص 204- 210.
عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى- انتهى كلامه- وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإِشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أوتفسيق أومعصية وصرح رضي الله عنه أيضا أن كلامه أيضا في غير المسائل الظاهرة فقال في الرد على المتكلمين لما ذكرأن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال: وهذا إِن كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفرتاركها لكن هذا يصدرعنهم في أموريعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم فإنَّ هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والربى والخمر والميسر ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي (يعني الفخر الرازي) 1 قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين- انتهى كلامه. يعني ابن تيمية، ثم علق الشيخ على كلامه بقوله:
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ص 289- 290. وانظر: نقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 45-47.
وقال الذهبى عن الفخر الرازى: "رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة
…
وله "كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى"(ميزان الاعتدال ج3 ص 340 ولسانه ج 4 ص 426) .
فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.
ومن أراد مزيد بيان وإيضاح في منهج الشيخ في التكفير فنحيله على كتاب " مصباح الظلام " في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أمر بطبعه الأمير سعود بن عبد العزيز آنذاك، الملك فيما بعد، وصححه وعلق عليه محمد حامد الفقي- رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية.
قال الشيخ عبد اللطيف في أوله: وقد رأيت لبعض المعاصرين كتابا يعارض به ما قرر شيخنا من أصول الملة والدين، ويجادل بمنع تضليل عباد الأولياء والصالحين، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين، الذين أنزلوا العباد بمنزلة الله رب العالمين وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأنهم يصلون ويصومون، ونسي في ذلك عهود الحمى، وما قرره كافة الراسخين من العلماء، وأجمع عليه الموافق والمخالف من
الجمهور والدهماء، ونص عليه الأكابر والخواص من اشتراط العلم والعمل في الإتيان بكلمة الإخلاص، والحكم بموجب الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص، وسمى كتابه "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة"1 ومراده بالأمة هنا من عبد آل البيت وغلا فيهم وعبد الصالحين ودعاهم واستغاث بهم، وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم- هذا مراده- ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجا على الأغمار والجهال. ولبسا للحق بالباطل، وهويعلم ذلك وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فلكل مفتر نصيب منها بحسب جرمه وعلى قدر ذنبه. وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه.
وقد بين الشيخ عبد اللطيف هذه المسألة في منهج الشيخ بيانا
1 لم يصرح الشيخ عبد اللطبف باسم مؤلفه، لأن الكتاب وجد في تركة عثمان بن منصور وشهد عدلان أنه بخطه، ثم ظهر الكتاب، في بريدة، وزعم من وجد عنده أنه تصنيف عثمان بن منصور فأخذه الشيخ محمد بن عمر آل سليم معه إلى الرياض عام 1291هـ فرد عليه الشيخ عبد اللطيف بهذا الرد.
انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، ج3 ص 698، 699.
وقوله: عهود الحمى.. يعنى حمى التوحيد كما حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واسعا، ورد على من افترى عليه في هذه النقطة ردا كافيا واستغرق رده ثلثمائة وتسعاً وخمسين صفحة من القطع الوسط.
وقد تناول هذه النقطة الشيخ حسين بن غنام في تاريخه، وقال: إن الشيخ كان ملتزما بالمنهج السوي ولم يتسرع لسانه بتكفير أناس أشربت قلوبهم بالمعاصي وبما كانوا عليه من القبائح الشركية حتى نهضوا عليه وعلى جماعته وصاحوا بتكفير من يدعو إلى دين الله ورسوله، وقالوا إِن كان الذي نفعل من الدعوات والاعتقادات بأهل القبور من تلك الأزمان شرك وكفر فنحن كفار، وخافوا أن يظهر أمره فإذا ظهرخافوا أن يحكم عليهم بما تسرعوا هم به عليه فأشاعوا أن ابن عبد الوهاب يجعلكم كفارا ويكفركل الناس بقصد التنفير والتحذير1.
والحقيقة:- أن منهج الشيخ يتركزعلى أربع نقاط اشتهر بها:
1-
بيان التوحيد، والدعوة إليه على حين غربته، في أناس وزمان لم يكن قد طرق آذان أكثرهم هذا البيان، وأظهر لهم الشيطان أن الإخلاص وإفراد الله بالعبادة تنقص للصالحين وتقصير في حقوقهم فصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين2.
2-
بيان الشرك والبراءة منه والتحذير عنه ولو كان في كلام وعمل
1 انظر: روضة ابن غنام ج1ص 33-36.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24، 25 ورقم 5 ص 36، وانظر: القسم الأول، العقيدة، ص 393.
من ينتسب إلى العلم أو العبادة من دعوة غير الله أو قصده بشيء من العبادة ولو زعم الزاعمون أنهم يريدون بذلك القصد شفاعة هؤلاء المدعوين أو المقصودين بشيء من العبادة عند الله في زمان وأناس يظن أكثرهم أن هذا أفضل القربات وأجل الطاعات لأن الشيطان أظهرلهم هذا الشرك في صورة محبة الصالحين واتباعهم فأشربت قلوبهم هذا الشرك والعياذ بالله1.
3-
تكفير من بان له التوحيد وأنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أبغضه ونفرالناس عنه وجاهد في صد الناس عن الدخول فيه. وكذا من عرف الشرك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بانكاره وأقر بذلك ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم.
4-
الأمر بقتال هؤلاء المشركين خاصة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) .
وفي الأنفال قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2 (الأنفال: 39) .
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24-25، ورقم 5 ص 36. وانظر: القسم الأول، العقيدة، ص 393.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 15 ص 104 ورقم 16 ص104،
107 ورقم 5 ص 36 ورقم 14ص 95 ورقم 22 ص 150 ورقم 3 ص 24، 25.
وهذا بعد إقامة الحجة عليهم من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح من الأئمة كما قدمنا.
قال الشيخ: "فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان في التوحيد وفي نفي الشرك، وردوا علي التكفير والقتال"1. ويقولون: التوحيد زين والدين حق، إلا التكفير والقتال. والشيخ يقول: "اعملوا بالتوحيد ودين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرتفع حكم التكفير والقتال"2.
ومع أن الشيخ يجل الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب والذهبي وابن كثير وغيرهم من أئمة السلف رضي الله عنهم، فليس الشيخ رحمه الله إمعة يقلد شيخ الإسلام أوغيره تقليدا أعمى ويتعصب له ولكن يلتزم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وكل قوله يعمل به ولا يطرح منه شيء وأما ما عداه فيؤخذ من قوله ويترك حتى شيخ الإسلام ابن تيمية يترك قوله إذا غلط فيه. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ذلك: على أن الذي نعتقده وندين الله به ونرجوا أن يثبتنا عليه أَنه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة أو
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24، 25.
2 المرجع السابق رقم 27 ص183.
المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنه على حق أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة. وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} أوحجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} 1.
وننقل عن الشيخ حسين بن مهدي النعمي الصنعاني شهادة بذلك فقال رحمه الله: "قالوا: إنَّ قائل تلك المقالة- وهي اتجاه وجوب تخريب المشاهد- قلد ابن تيمية في ذلك. ومن تدبر أصول القوم: وجدهم دلوا على أنهم من جملة العامة. ولا أدري من أين جاء لهم ذلك؟. نعم هو نتيجة من نتائج الحكم بتعذر الاجتهاد.
ومن حق الباحث: أن يدلي بما يوافق خصمه على صحته، أو بحجة قاهرة، تؤذن أن دفعها مكابرة، وأن التمسك بمعارضها قصور، أو ضلال.
وكون من ذكروه قلد ابن تيمية: بطلانه معلوم غير موهوم، لما أنه ينهى عن التقليد وينادي بمنعه2. ولأن عامة مباحثه مبنية على تحرير المقام بمبلغ نظره، وإن كان لا سبيل إلى رفع الخطأ جملة في كل بحث.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد، ص 290- 291.
2 يقصد التقليد الذى يحمل على ترك ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة بعد معرفته لأن فلانا قال بخلافه أي تقليد شخص بلا حجة.
وذلك منه من دون تقليد لابن تيمية ولا غيره، ولا احتجاج بقول أحد قط، أو التدين به من دون استبانته منه حسبما علم. وليس معصوما كغيره أيضا. ولأنه في خصوص هذه المسألة أبرزحجته، وحرر من البرهان ما استطاع.
فأيُّ معنى لقولكم أنه قلد ابن تيمية؟ والحال أنكم لم تأتوا عن أنفسكم ولا فيما نقلتم شيء يقابل بعض ما أقامه في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، التى لا يردها إلا مشاق لله ولرسوله؟ ولأنه قد ناقض ابن تيمية في كثير من المسائل ذهب إليها، لظهور ضعف كلامه عنده. فلو كان واقفا على تقليده- كما وقفتم على رسوم شرح المنهاج1 وغيره- لما فعل. فما باله يسوغ لنفسه تقليد ابن تيمية في هذه المسألة دون غيرها؟ فلقد حكيتم عجبا. وقد قرأنا عليه وعرفنا مذهبه وأنتم لا تعرفونه، إنما يبلغكم عنه ما يبلغ، فتأخذون في مضادته بلا بصيرة، ولا وازع لكم عن الرجم بالظنون والأوهام، ولا علم يهدي إلى تمييز الصحيح من ذي السقام.
فالعتب عليكم: أترضون أن يكون من خطاب ما لا يفهم؟
وكفى دليلا على تنكبكم الصواب: ذكركم الأقوال من فروع المذهب في مقابلة مناهي صريحة صحيحة مشهورة في الصحاح وغيرها، ثم تعرضكم لشيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من جلة الأئمة الأعلام-
1 المنهاج: كتاب فقه معتمد عند الشافعية.
وهو ابن تيمية- بأنه ضال مضل، وما كان- رحمه الله تعالى- أهلا لهذا. والرجل أمره شهير، وأقواله ومذاهبه يتناقلها الجم الغفير. وما مثله يحتاج إلى كشف عن رفيع محله، وقد تعرض له ولتلميذه الإمام محمد بن أبي بكر ابن أيوب الزرعي- وهو ابن قيم الجوزيه- رحمه الله تعالى بعض القائلين. وهما إمامان جليلان لاحقان بأماثل السلف. كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومؤلفاتهما وتراجمهما ونقل أهل العلم لأقوالهما ومذاهبهما ونفائس تحقيقهما: كافية شافية مقنعة لمن عدل وأنصف1.
والشيخ يرفض الاختلاف والتنازع في أمور ترجع كلها إلى الصواب، وما يحصل النزاع فيها والاختلاف إلا لقلة العلم والجهل بتفاصيل المسائل وقواعد الأحكام الشرعية وهو الذي يسمى اختلاف التنوع.
وأورد الشيخ بعض القواعد لذلك مثل: إذا سن النبي صلى الله عليه وسلم أمرين وأراد أحد أن يأخذ بأحدهما ويترك الآخر أنه لا ينكر عليه كالقراءات الثابتة، ومثل الذين اختلفوا في آية فقال أحدهما أَلم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال كل منكما محسن، فأنكر الاختلاف وصوب الجميع في الآية2.
1 معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، تأليف الشيخ حسين بن مهدي النعمي ص 103 -104.
2 الدرر السنية، ط 2 ج 4/ 6.
ويبين الشيخ أن هذا المنهج الذي سارعليه ليس من عنده، أومن كتاب وجده ليس عليه عمل، أوعن أهل مذهبه، ولكنه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإِجماع العلماء في كل مذهب من المذاهب الأربعة.
ومن يؤمن بالله واليوم الآخر لا ينبغي له أن يعرض عن هذا لأجل أهل زمانه، أوأهل بلده، أو لأجل أن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه1.
ويقول الشيخ في رسالته إلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف: "وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أَردُّ في الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إِن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق وصفة الأمر غير خاف عليكم ما درج عليه رسول
1 مؤلقات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 8 ص 53.
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسني من أتباعهم، وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم".
ثم يستطرد الشيخ رحمه الله قائلا: "فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم وإطباق الناس على طريقتهم قالوا هذا من أكبر الأدلة على أَنه باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وقد ذكر الله في كتابه أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) ، والزبر الكتب، فإذا فهم المؤمن قول الصادق المصدوق: "لتتبعن سنن من كان قبلكم " وجعله قبلة قلبه تبين له أن هذه الآيات وأشباهها ليست على ما ظن الجاهلون أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما
ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات مضى القوم وما يعني به غيركم، وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم الذين هم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين. فمن عرف دين الإسلام وما وقع الناس فيه من التغيير له عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه1. وفي مخاطبته لابن عبد اللطيف يقول: "وإِن أردت النظر في أعلام الموقعين، فعليك بمناظرة في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك أنَّ ابن القيم مبتدع وأن الآيات التي إستدل بها ليس هذا معناها فاضرع إلى الله واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق وتجرد إلى الله ناظرا أو مناظرا، واطلب كلام أهل العلم في زمانه مثل الحافظ الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم ومما ينسب للذهبي رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله
…
قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
…
بين الرسول وبين رأي فقيه
فإن لم تتبع هؤلاء فانظركلام الأئمة قبلهم كالحافظ البيهقى في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر والخطابي وأمثالهم. ومن قبلهم كالشافعي وابن جرير وابن قتيبة وأبي عبيد فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف
…
وتأمل ما في كتاب (الاعتصام)
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 252-253.
2 يعنى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ج8 ص 137.
للبخاري وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء أصرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على أكثرمن سبعين فرقة أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه1.
ويقول الشيخ لمن خالفه: الكتب عندكم انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئا لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في كتبكم فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس.
ويذكر أيضا أنَّ هذا الذي أنكروا عليه وأبغضوه وعادوه من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أوغيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء2. وحاصل ما يقرره الشيخ أمران:
فالأمر الأول: هو قوله: لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم.
والأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به لكن ما يقدر أن يظهره.
ويقول الشيخ: "فنحن ولله الحمد متبعون غير مبتدعين " 3 مقلدون
1 المصدر السابق ص 358-359.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 32 ورقم 28 ص 189ورقم 8 ص 55.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 5 ص 36 ورقم 6 ص 40، 41.
للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة. على مذهب أهل السنة والجماعة، الذي هو على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون وأتباعهم، وإجماع علماء المسلمين وأئمة الدين ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم ودرايتهم مثل الأئمة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقه كالأئمة الأربعة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين، وكذلك ما درج عليه الأعلام من أتباع هؤلاء الأئمة فنحن على ذلك وإن خالفنا غالب الناس في ما أحدثوا في دينهم من الحوادث لأننا على ما كان عليه أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية وهم سلف الأمه وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وإن صرنا غرباء، فطوبى للغرباء1.
ويخص الإمام أحمد بن حنبل بالذكر لأنه إمام أهل السنة فهو يعتقد
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 252-259 ورقم 1ص 12ورقم 16 ص 106، 107ورقم 28 ص 189 ورقم 8 ص 53، 54، 55 ورقم 11ص 73،74 ورقم 14 ص 96،98 ورقم 17 ص 111ورقم 5 ص 36 ورقم 34 ص 235-237 ورقم 22 ص150 ورقم 38 ص 272-273 ورقم 4 ص 32 ورقم 39 ص 277 ورقم 7 ص 48 ورقم 47 ص308، 309، ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 1 3، 35 ص 88، 89 والقسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 285، وص 311- 314-324، مجموعة الرسائل النجدية ج1/ ص 32.
اعتقاده جملة وتفصيلا ويحمد الله على ذلك.
وكان كثيرا ما يتمثل بثلاثة أبيات هي:
بأي لسان أشكر الله إنه
…
لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر
حباني بالإسلام فضلا ونعمة
…
عليَّ وبالقرآن نور البصائر
وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل
…
عليها اعتقادي يوم كشف السرائر1
ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ في رسالته التي كتبها لما دخلوا مكة سنة 1218هـ "مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم بل والأعلم والأحكم خلافا لمن قال طريق الخلف أعلم"2.
وأما في الفروع فهو أيضا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل يقول الشيخ: "أما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها" 3
ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ في رسالته التي كتبها لما دخلوا مكة سنة 1218هـ منتصرين: ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد
1 ابن بشر، عنوان المجد، ج1/ 91.
2 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الحامس، الشخصية رقم 16 ص 107 ورقم 6 ص 40، 41.
لدينا يدعيها إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فإِنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة1.
والشيخ يرى أن إطلاق القول: بأنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد غير مسلم به ولكن يلزم قيده ببعض مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، أما بعضها الآخر الذي تبين فيه الصواب فلا يسوغ مخالفتها بل ينكر على المخالف كائنا من كان2.
ويستنبط الشيخ من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمير الجيش أو السرية الذي أمره إذا حاصر أهل حصن فأرادوه أن يترك لهم على حكم الله فلا يترك لهم، ولكن يترك لهم على حكمه فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟. رواه مسلم.
قال الشيخ فيه كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟ 3.
ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ: "ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد وقد سبق جمع من
1 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126.
2 الدرر السنية، ط 2، ج 4/ ص 4، 5،.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 143.
أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذاهب الملتزمين تقليد صاحبه1. وأما كتب المتأخرين رحمهم الله فإِن الشيخ يذكر أنها عنده وعند أصحابه ويعملون بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا يعملون به2.
وأما المذاهب الأخرى فإن الشيخ عبد الله بن الشيخ يقول أيضا: "إن مذاهب غير الأربعة ليست منضبطة كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة"3.
وهكذا فإِن الشيخ لا يتعصب للمذاهب من غير حجة ولا يقلد أحدا من غير دليل ولكنه ينشد الحق ويدور معه حيث دار ويتبع من اتبع الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وقول جمهورها ولا يعارض أمر الله ورسوله بالرأي4، وينصف خصمه فيقول "وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم (يعني علماء البلد الحرام) على دين الله ورسوله أني متبع لأهل العلم وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوا لي، وأنا أشهد الله أني أقبل على الرأس والعين والرجوع إلى الحق
1 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 127. وانظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 41.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 15 ص 100.
3 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126.
4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الإعراف، قصة آدم وإِبليس ص 85، القسم الثالث، الفتاوى ص 36.
خير من التمادي في الباطل" 1.
ويقول في رسالته إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى: "فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته أنه أتاني منه (يعني والده عبد الله بن عيسى) أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين وأترك كل قول إمام اقتديت به حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يفارق الحق 2، ولا ينجي إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم "3.
ويرد الشيخ على من يرى أن من سلك هذا المسلك فقد نسب نفسه إلى الاجتهاد وترك الاقتداء بأهل العلم بأن هذا المسلك هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإِنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاماً في ذلك الإمام الشافعي وإذا خالف الشيخ من أجل الدليل عالما من
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 42، رقم 7 ص 48 ورقم 15 ص100ورقم 19ص 126،127 ورقم 0 2 ص 130، 140- 141ورقم 11 ص 72-76 ورقم 24 ص 167 ورقم 22 ص 157، 158 ورقم 21 ص 144-145ورقم 28 ص 189 ورقم 32 ص 212ورقم، 45 ص 301.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 39 ص 276-277. وانظر رقم 37 ص252.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 33 ورقم 1ص12 ورقم 6 ص 0 4.
علماء الشافعية أوغيرهم فإنه لم يخالفه وحده من غير إمام سابق قد خالفه من أجل الدليل بل قد اتبع من هو مثل ذلك العالم الذي قد خالف واتبع الدليل والنص من الوحي ويقول الشيخ: "لم أستدل بالقرآن والحديث وحدي حتى يتوجه على ما قيل (من أني نسبت نفسي إلى الاجتهاد) ولا خلاف في أن أهل العلم إذا أجمعوا: وجب اتباعهم، ولكن الشأن إذا اختلفوا هل يجب قبول الحق ممن جاء به ورد المسألة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم مقتدين بأهل العلم؟ أو ننتحل قول بعضهم من غير حجة ونزعم أن الصواب في قوله؟
فالشيخ رحمه الله على المذهب الأول يدعو إليه ويناظر عليه، وهو الحق كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 (النساء: 59) .
ويقول في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي مذهبا من علماء الأحساء: إنيّ إذا خالفت قول عالم فقد خالفت قوله لقول من هو أعلم منه أو مثله إذا كان معه الدليل ولم آت بشيء من عند نفسي فإِن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم توجه
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11ص 62، 63 ورقم 37 ص 252-262 والقسم الثالث، الفتاوى ص 27 وص 31-33.
عليّ القول1.
وفي جواب من الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابني الشيخ لما سئلا عن عقيدة الشيخ في العمل في العبادة قالا: (عقيدة الشيخ رحمه الله تعالى التي يدين الله بها. هي عقيدتنا وديننا الذي ندين الله به وهو عقيدة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإِحسان وهو اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض أقوال العلماء على ذلك، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله وهذا هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه حيث قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية- أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هوالرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة ليس هذا موضع بسطها، وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة ثم رأى حديثا يخالف مذهبه فاتبع الدليل وترك مذهبه كان هذا مستحبا بل واجب عليه إذا تبين له الدليل ولا يكون مخالفا لإمامه الذي اتبعه فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 265 بتصرف قليل مع الحفاظ على المعنى.
الأصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام مالك رحمه الله كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله لأصحابه إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط وفي لفظ إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عجبت لقوم عرفوا الإِسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة- الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وقال لبعض أصحابه لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي وتعلموا كما تعلمنا، وكلام الأئمة في هذا كثير جدا مبسوط في غير هذا الموضع. وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب فنرجو أنه يجوز العمل به لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وإنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم ولكن لا ينبغي الجزم أن هذا شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة، وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً والذي ننكر هو التعصب للمذهب وترك اتباع الدليل، إذا تبين فهذا الذي أنكرناه وأنكره العلماء في القديم والحديث1.
1 الدرر السنية ط 2، ج 1ص 122، 123 ومؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 11ص 62، 63 ورقم 37 ص 259-260.
ويرى الشيخ أنه ينبغي، للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمرالله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم ويوقرهم ولو أخطأوا، لكن لا يتخذهم أربابا من دون الله- هذا طريق المنعم عليهم. أما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم. وأما اتخاذهم أربابا من دون الله، إذا قيل قال الله قال رسوله قيل هم أعلم منا- فهذا هو طريق الضالين1.
ويقول: "بالجملة فمتى رأيت الاختلاف فرده إلى الله والرسول، فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين واحتجت إلى العمل، فقلد من تثق بعلمه ودينه"2.
وقد بين الشيخ رحمه الله تعالى في بعض رسائله التقليد الممنوع والمأذون فيه والمباح فقال: وأما القول في التقليد واتباع الدليل فإن الله سبحانه فرض علينا فرضين:
الأول: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ما خالفه في كل شيء وأن الإنسان لا يؤمن حتى يحكمه فيما شجر بينه وبين غيره.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الئالث، الفتاوى ص 97 والقسم الثانى، الفقه، المجلد الثانى،
ص 10-13.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 33 والقسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 62-63.
والفرض الثاني: أن الله فرض علينا في كل مسألة تنازعنا فيها أن نردها إلى الله والرسول كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وخاطب بها جميع المؤمنين المجتهد وغيره، ولكن نقول الواجب عليك تقوى الله ما استطعت وذلك أن تطلب علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة على قدر فهمك فما عرفت من ذلك فاعمل به وما لم تعرفه واحتجت فيه إلى تقليد أهل العلم قلدتهم، وما أجمعوا عليه فهو الحق، وما تنازعوا فيه ردّ إلى الله والرسول؟ وأما أخذ الإنسان ما اشتهت نفسه ووجد عليه آباءه وترك ما خالفه من كلام أهل العلم وغفلته عن كلام الله ورسوله، واستهزاؤه. بمن طلب ذلك، فهذا هوالضلال الذي أنكرنا والأدلة على هذا من كلام أهل العلم أكثرمن أن تحصرثم أخذ يسوق كلام ابن رجب في الطبقات في ترجمته ابن هبيرة وقوله: إذا ذكرت لأجدهم الدليل قال ليس هذا مذهبنا. وما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية في جواب سؤال وجه إِليه عن المقلد لبعض الأئمة إذا رأى حديثا يخالف إمامه1.
وأجاب الشيخ عن اتباع بعض الناصر للمذهب أنه اتباع لبعض المتأخرين لا للأئمة ومثل بالحنابلة مع أنهم من أقل الناس بدعة قال: فأكثر الإِقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه فضلا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 انظر: روضة ابن غنام ج1ص 42-46. وانظر: نص جواب شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى جمع بن قاسم ج.2 ص 210-216.
ونصها1.
ومع ذلك فالشيخ وأبناؤه وحملة الدعوة لا يفتشون على أحد في مذهبه، ولا يعترضون عليه إلا إذا خالف نصا جليا، وفي مسألة يحصل بها شعار ظاهر من شعائر الإسلام فإِنهم يأمرونه بالتزام النص.
يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ: "ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كامام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالاسرار، وشتان بين المسألتين، فإذا قوى الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا2.
والشيخ يرى أن الموافقة أفضل ولوكان على المفضول من المذاهب، مثل: إذا أمّ رجل قوما، وهم يرون القنوت أويرون الجهر بالبسملة، وهو يرى غير ذلك والأفضل ما رأى، فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول هو الفاضل3.
والشيخ وأتباعه إذا فسروا شيئا من القرآن، إنما يفسرونه بكلام
1 الدرر السنية، ط 2، ج4/ ص 6.
2 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 26 1، 27 1.
3 الدرر السنية، ج 4/ ص 6.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أصحابه ليس لهم إلا النقل1.
والشيخ وأصحابه وأتباعه يعتنون بكتب أهل العلم، ويحرصون على كتب أهل الحديث ويحترمون علوم الأمة الإسلامية، ولا يأمرون بإتلاف شيء منها أصلا إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، أويحصل بسببه خلل في العقيدة الإسلامية، على أنهم لا يفحصون عن مثل ذلك، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا. أتلف عليه وما حصل مما اتفق لبعض البدو في إتلاف بعض كتب أهل الطائف إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وأمثاله عن مثل ذلك2.
والشيخ وأتباعه يستعينون على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لديهم، تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين، كالعسقلاني والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ويحرصون على كتب الحديث خصوصا الأمهات الست، وشروحها ويعتنون بسائر الكتب في سائر الفنون أصولا وفروعا، وقواعد وسيرا ونحوا وصرفا وجميع علوم الأمة3.
1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 21.
2 الدرر السنية، ج1/ ص 127. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 12، ورقم 5 ص 37.
3 الدرر السنية، ج1ص 127.
والشيخ نفسه يحذرمن تفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه فانها القاطعة عن الله وعن دينه1.
وبالجملة فلا ينكر الشيخ وأتباعه إلا ما خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وطريقة الصحابة وأتباعهم2. ويرون أن الإجماع حجة لأدلة القرآن الكريم والسنة المطهرة3، لكن ينكر الشيخ على من يفسر الجماعة والسواد الأعظم، الذين لا يجوز مخالفتهم والشذوذ عنهم، بأنهم الكثرة على الباطل، كما يحدث في أزمان غربة الإسلام وفتراته، وكالذي حصل في زمان الشيخ، ويبين أن معنى الأحاديث التى فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم، والتحذير من الشذوذ عنهم إنما هو بإِجماع أهل العلم كلهم: "الجماعة الذين كانوا على الحق في القرون الفاضلة، قبل أن يحدث الفساد فأولئك هم الجماعة فمن كان على مثل ما كانوا عليه فهو مع الجماعة وإن كان وحده، لأن الله أوضح بطلان الاحتجاج بالكثرة على القلة من أهل الحق في غير موضع من القرآن من ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الآية: 116) . وقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، المصدر السابق ص 259.
2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 36.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 18.
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 1 (ص:24) .
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريبا فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس؟ وكذلك الأحاديث الكثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النارإلا واحدة" فهل بعد هذا البيان بيان؟ وينقل الشيخ من كلام أهل العلم ما يوضح به هذا المنهج السلفي السليم فيقول: قال ابن القيم رحمه الله في (إِعلام الموقعين) : واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض.
وقال عمرو بن ميمون سمعت ابن مسعود قال: "عليكم بالجماعة فإِن يد الله مع الجماعة" وسمعته يقول: "سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن وقتها فصل الصلاة وحدك" وهي الفريضة ثم صل معهم فإِنها لك نافلة". قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة ثم تقول صل الصلاة وحدك. قال!: ياعمرو ابن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة! والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كان عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة
1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، ص 337.
حينئذ، وقال بعض الأئمة وقد ذكر له السواد الأعظم أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة: هم الجمهور، فجعلوهم عيارا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكرا، لقلة أهله، وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا:"من شذ شذ في النار" وما عرف المختلفون أَن الشاذ: ما خالف الحق وإِن كان عليه الناس كلهم إلا واحداً، فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم يتحمل ذلك عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون على الباطل، وأحمد وحده على الحق، فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل، فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة- انتهى كلام ابن القيم1.
قال الشيخ: "هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف، وكلام المتأخرين حتى ابن مسعود ذكر في زمانه أن أكثر الناس فارقوا الجماعة، وأبلغ من هذا الأحاديث المذكورة عن
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية ص 235-237 بتصرف قليل. وانظر موضع ما لخص ونقل منه الشيخ في أعلام الموقعين، ج3/409-410 وقد أَكملت ما يخل بالمعنى من سقط، وانظر: القسم الرابع التفسير ص 147.
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الإسلام وتفرق هذه الأمة أكثرمن سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فأي شيء يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلماء بسنته" 1.
وهكذا يرسم الشيخ رحمه الله منهجه في أصول الدين، والذي هو منهج السلف الصالح الموافق للمعقولِ والمنقول، وللإسلام والسنة والكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم. ويبين منهج المخالفين ويرفضه ويحذر عنه لأنه بدعة وضلالة وفاسد في نفسه ومخالف للمعقول ولدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم.
وبعد هذا الاستعراض لمنهج الشيخ يمكن إيجاز منهجه بالنقاط التالية:
1-
العلم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام بأدلته كما هو الواجب على كل مسلم ومسلمة- والعمل بهذا العلم- والدعوة إلى ذلك- والصبر على الأذى في ذلك.
2-
اعتبار أن مصدر العلم بالدين أصوله وفروعه، مسائله ودلائله، علومه وأعماله، هو الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة، وكذلك إجماع سلف الأمة من أهل السنة والجماعة يعتبر حجة يجب الأخذ بها.
3-
الإِقبال على ألقرآن والسنة وطلب الهدي منهما، واتباعهما وتقديمهما على جميع ما خالفهما مهما كان أمره، وعدم الإِعراض عنهما
1 المصدر السابق.
بحجة أنه لا يفهمهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا، أوصافا لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر، وليست الآراء المتفرقة والأهواء المختلفة، والعقول البشرية ومناهج أهل الكلام والفلسفة، والمعرضين عن الكتاب والسنة، مصدر علم وهداية، بل هي مصدر ضلال وغواية.
4-
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. واحترام علماء الأمة وأئمتها المشهود لهم بالسنة والاستقامة كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والاستفادة من فقههم وعلمهم.
5-
ترك الابتداع ومجانبة البدع وإزالتها وهجر أهلها ورفض بدعهم وبيان مساوئها والتحذير منها.
6-
بيان ما هو العلم؟ ومن هم العلماء؟ ومن هم الأولياء؟ وبيان من تشبه بهم وليس منهم كما بين الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بعد أن صار العلم عند أكثر الناس هو البدع والضلالات ومن بين العلم الصحيح يتهم بالزندقة والجنون.
7-
وزن جميع أقوال الناس وأعمالهم وإراداتهم وما يحدث من الحوادث بالقرآن والسنة وإجماع سلف الأمة من أهل السنة والجماعة فما لم يخالف ذلك قبل، وما خالف فهو البدعة المردودة، وهذا حسب منهج أهل السنة والجماعة، فإِن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، وهو
الميزان الذي أنزله الله مع الكتاب، وذلك صالح لكل زمان ومكان وحال.
والخلاصة: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يذهب مذهب أهل السنة وينهج منهجهم ويسلك طريقتهم في علمه وعمله، وقد وافق في منهجه وطريقته المنهج السلفي علما وعملا والله أعلم، ومن بيان منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عقيدته وميادين تطبيقها ننتقل إلى الفصل الذي بعده في بيان مجمل عقيدة الشيخ محمد السلفية.