المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المصادر التي اعتمدها: - علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية

[زهير الخالد]

الفصل: ‌المصادر التي اعتمدها:

وَمَا هِيَ الْأَسْبَاب الجوهرية لتِلْك الحروب الدامية الَّتِي كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ؟

وَهل هَذِه الْأَسْبَاب أصيلة أم عرضية يُرْجَى زَوَالهَا؟

أم قَامَت على هَذَا تَارَة وعَلى ذَاك تَارَة أُخْرَى؟ أم على غير ذَلِك كُله؟

ثمَّ مَا هِيَ الْحَال الَّتِي آلت إِلَيْهَا هَذِه العلاقة الْيَوْم؟ وَهل هِيَ متأثرة فِيمَا كَانَ بَيْننَا وَبينهمْ فِي الْمَاضِي؟ وَمَا هُوَ مدى تأثرها؟ أم أَنَّهَا بنت الْيَوْم لَا أثر للماضي فِيهَا وَلَا سُلْطَان لَهُ عَلَيْهَا؟

ثمَّ مَا هِيَ نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي الْيَوْم لنا، وَمَا هِيَ منطلقاتها الأساسية؟ وَهل تستوي دوله وشعوبه وهيئاته ومؤسساته وكنائسه ورؤوسه فِي نظرتهم إِلَيْنَا أم يَخْتَلِفُونَ؟ وَإِذا اخْتلفُوا فَمَا هُوَ السِّرّ فِي ذَلِك؟

هَذَا مَا سأحاول الْإِجَابَة عَلَيْهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي محاضرتي هَذِه موجزاً مَا أمكنني الإيجاز، وَإِن كَانَ من عادتي - وَللَّه الْحَمد - أَن لَا أتولى الْإِجَابَة بنفسي، وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي استخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة فِي مثل هَذِه الموضوعات الشائكة الَّتِي تشكل مجالاً كَبِيرا لاخْتِلَاف الاجتهادات والمذاهب، وَكَذَلِكَ الآراء الشخصية والرغبات الذاتية لَهَا أَثَرهَا الْوَاضِح وَحَتَّى الْأَهْوَاء والأغراض تتْرك عَلَيْهَا بصماتها.. مِمَّا يكون لهَذَا كُله أَثَره العميق فِي حجب الرُّؤْيَة الصَّحِيحَة وتشويش الصُّورَة الْحَقِيقِيَّة أَو طمس معالمها فِي الأذهان.. وَلَكِن أذهان من؟ إِنَّهَا أذهان الْمُسلمين وحدهم - وللأسف الشَّديد - إِلَّا من رحم رَبك وَقَلِيل مَا هم بِالنِّسْبَةِ لعامة الْمُسلمين وذراريهم..

ص: 80

‌المصادر الَّتِي اعتمدها:

لقد قلت إِنَّنِي لَا أُجِيب بنفسي وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي أستخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة، فَمَا هِيَ هَذِه المصادر؟

ص: 80

إِنَّهَا مصدران اثْنَان، هما: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة ثمَّ الْوَاقِع التاريخي.

الْمصدر الأول: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة:

إِن وَحي الله عز وجل سَوَاء كَانَ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، أَو على لِسَان الرَّسُول الْكَرِيم، مُحَمَّد بن

عبد الله - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - هُوَ أوثق المصادر على الْإِطْلَاق، فَهُوَ الَّذِي لَا يرقى إِلَيْهِ شكّ وَلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه لِأَنَّهُ تَنْزِيل من حَكِيم حميد. قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت: 42. وَمن ثمَّ فَإِن تقريراته منزّهة عَمَّا تتعرض لَهُ تقريرات الْبشر واستنباطاتهم من نتائج مَا فطروا عَلَيْهِ من جهل وقصور بشري، ورغبات فِي النَّفْع الذاتي ومحاباة لِذَوي السُّلْطَان والنفوذ وَالْمَال والجاه، أَو مجاراة للتيارات السائدة، وَالسَّعْي وَرَاء الْأَغْرَاض والأهواء، وَكَذَلِكَ مُرَاعَاة لجماهير الْأمة ومحاولات استرضائها والتقرب إِلَيْهَا.. وَمن ثمَّ فَالْقيمَة الْعُظْمَى والكبرى للتقريرات الربانية فِي الْكتاب وَالسّنة.

الْمصدر الثَّانِي: الْوَاقِع التاريخي:

وأعني بالواقع التاريخي: الْأَحْدَاث التاريخية كَمَا حدثت وَوَقعت بِالْفِعْلِ بأشخاصها ودوافعهم الْحَقِيقِيَّة، وأغراضهم وأهدافهم الْخَاصَّة والعامة. وَقد جَاءَ الْوَاقِع التاريخي مُصدقا ومترجماً للتقريرات الربانية، وَهَذَا أَمر بديهي بل أَكثر من البديهي إِن صَحَّ هَذَا التَّعْبِير لِأَن الْمُقَرّر هُوَ الله سبحانه وتعالى الَّذِي يَسْتَوِي لعلمه الْحَاضِر الْمشَاهد والماضي السحيق، والمستقبل الْغَائِب.

هَذَا الَّذِي أعنيه بالواقع التاريخي وَلَيْسَت كتب التَّارِيخ وَمَا كتب فِيهَا جملَة وحوته بَين صفحاتها..لِأَن هُنَاكَ فرقا كَبِيرا جدا وبونًا شاسعاً بَين الْوَاقِع التاريخي كَمَا وَقع وَحدث بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وسجل فِي كتب التَّارِيخ،

ص: 81

لَا سِيمَا الَّتِي بَين أَيدي أَبْنَائِنَا وَالَّتِي كتبت خصيصاً لأبناء الْمُسلمين فِيمَا أُعِيد كِتَابَته من تراثنا الإسلامي وبأيدي المستشرقين النَّصَارَى وَالْيَهُود أَو تَحت إشرافهم وبتوجيه دوائرهم حِين بدأوا غزونا الفكري وسأتعرض لهَذَا الْمَوْضُوع إِن شَاءَ الله عز وجل فِي نِهَايَة هَذِه المحاضرة.

إننا كثيرا مَا نجد فِي هَذَا النَّوْع المبثوث بَين أَيدي أَبْنَائِنَا من كتب التَّارِيخ لَا أصل لَهَا أَو حوادث أخذت يَد التَّغْيِير والتبديل تلعب فِيهَا وتدس عَلَيْهَا حَتَّى طمستها ومسخت حَقِيقَتهَا، وشوهت صورتهَا وأعطت عَنْهَا صُورَة أُخْرَى تغير حَقِيقَتهَا كل الْمُغَايرَة، كالافتراءات على الصَّحَابَة - رضوَان الله تعلى عَلَيْهِم - خير أجيال البشرية بعد أَنْبيَاء الله وَرُسُله عَلَيْهِم - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الَّذين اخْتَارَهُمْ الله تَعَالَى لحمل أكمل دين أنزلهُ، ولصحبه خير نَبِي أرْسلهُ - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -. كَمَا نجد فِيهَا بطولات مختلقة لَا أصل لَهَا تنتحل للطوائف غير الْمسلمَة فِي عَالم الْمُسلمين، فِي الْوَقْت الَّذِي نجد فِيهِ طمساً لبطولات الْمُسلمين تشويهاً لَهَا بِأَن يَجْعَل الْبَاعِث عَلَيْهَا هُوَ طلب الدُّنْيَا ومتاعها، أَو تستند لغير الْمُسلمين وبشكل خَبِيث وَمَا كرّ بِأَن يَجْعَل امْرَأَة أَو أحد أَفْرَاد الطوائف غير الْمسلمَة وَرَاء أبطال الْمُسلمين الَّذين يقومُونَ بهَا، كَمَا يفعل الْكَاتِب النَّصْرَانِي الحاقد جُرجي زَيْدَانَ، فِي رِوَايَات الْهلَال، وَغَيره كثير.

كَمَا نشاهد أَن كتب التَّارِيخ الَّتِي قررت فِي مدارس الْمُسلمين وَفِي بِلَادهمْ قد أغفلت ذكر حوادث ووقائع تاريخية على الرغم من شهرتها ووضوحها وَذَلِكَ مُرَاعَاة لفئةٍ أَو طائفةٍ أَو خدمَة لغرضٍ فِي نفس الْمُؤلف أَو سواهُ. وَمن هَذَا الْقَبِيل إغفال ذكر كل صدام وَقع بَين الْمُسلمين وَبَين الطوائف غير الْمسلمَة وإغفال وقُوف الطوائف غير الْمسلمَة إِلَى جَانب الصليبيين والتتار الوثنيين ضد الْمُسلمين وَذَلِكَ إِلَى جَانب الإستعمار الأوربي فِي الْعَصْر الحَدِيث ثمَّ الزَّعْم بعد هَذَا أَنهم أَصْحَاب بطولات وطنية وَحرب على الاستعمار وهم الضالعون مَعَه.

فَهَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ مثلا يُسَمِّي المستعمرين الفرنسيين بالفاتحين ويتحمس

ص: 82

لَهُم حِين يدْخلُونَ بعض الْبِلَاد الْعَرَبيَّة وَيطْلب أهل مِلَّته بالتعصب لَهُم فَيَقُول:

وتعصبوا للفاتحين نكايةً

بِالْمُسْلِمين الْعَرَب وَالْإِسْلَام!

كَذَلِك نجد فِيهَا تفسيرات وتوجيهات للحوادث التاريخية، الَّتِي يَسْتَحِيل طمسها، بعد مسخها، كالحروب الصليبية فقد مسخت حَتَّى حصرت بحدود قرنين من الزَّمَان هما السَّادِس وَالسَّابِع الهجريان، وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل حصرت بعدة حملات صليبية جَاءَت على شريط ضيق على السَّاحِل السوري والمصري فَقَط، ثمَّ لما اطمأنوا إِلَى أَن عملية المسخ هَذِه انطلت على الْكثير من الْمُسلمين مسخوها كُلية فَقَالُوا: إِنَّهَا لَيست صليبية فِي حَقِيقَتهَا وَإِنَّمَا هِيَ حروب استعمارية اقتصادية وسياسية وَلكنهَا جَاءَت تَحت شعار الصَّلِيب وباسم الدّين، لِأَن العصور الْوُسْطَى هِيَ عصور دينية، وَبعد هَذَا المسخ المتواصل لَا تكَاد تَجِد لَهَا بحثا فِي هَذَا النَّوْع من كتب التَّارِيخ، وَإِنَّمَا مُجَرّد ذكر هُوَ للْإِشَارَة أقرب مِنْهُ للبحث.

كَمَا نجد تفسيرات متعسفة وتوجيهات لأحداث تاريخية هَامة انتصاراً لفكرة فَاسِدَة وتأييداً لمَذْهَب بَاطِل..إِلَى آخر مَا هُنَالك من صور التشويه والدس على تَارِيخ الْمُسلمين مِمَّا لَا يُمكن حصره فِي هَذِه الْمُقدمَة لهَذِهِ المحاضرة..إِلَّا أَن الَّذِي أُرِيد أَن أقوله: إِن هَذَا النَّوْع المشوه من كتب التَّارِيخ قد كثر كَثْرَة فَاحِشَة فِي هَذِه الْأَيَّام، مِمَّا بَات مَعَه من الضَّرُورِيّ جدا أَن ينْهض الْمُسلمُونَ لكتابة تاريخهم من جَدِيد، فَإِن التَّارِيخ الإسلامي، لم يكْتب بعد كَمَا يجب أَن يكْتب، وَلم ينل الْعِنَايَة الكافية من أبنائه، بل لعلّي لَا أبالغ إِذا قلت أَن تاريخنا الإسلامي الْيَوْم لم ينل الْحَد الْأَدْنَى من الْعِنَايَة بِهِ من الْمُسلمين، وَمن ثمَّ لَا يُوجد أمامنا مِنْهُ سوى المؤلفات الضخمة الَّتِي وَضعهَا عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ على طريقتهم الَّتِي لَا تصل إِلَّا للمختصين والباحثين، كَمَا سنشير بعد قَلِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَنَوع آخر من كتب التَّارِيخ وَهُوَ مَا عنيته بِالذكر مِمَّا كتبه المستشرقون أَو تَحت إشرافهم الْمُبَاشر أَو غير الْمُبَاشر وبتوجيه من دوائرهم بشتى طرق التَّوْجِيه الَّتِي أقلهَا أَلا يصبر المؤرخ الْمُحدث على المؤلفات الْقَدِيمَة أَو لَا يحسن الْبَحْث فِيهَا، فَلَا يجد مرجعاً لَهُ سوى مَا وَضعه المبشرون ومؤسساتهم فيعتمدها وَمن ثمَّ تتسرب

ص: 83

توجيهاتهم وأغراضهم إِلَى مَا يكْتب ويؤرخ، ويستنتج ويقرر، والأمثلة كَثِيرَة على هَذِه الْأَنْوَاع كلهَا..

أَمَام هَذِه الافتراءات على التَّارِيخ تَارَة، والتنكر لحوادثه والتغيير وَالْمَسْخ فِي حقائقه تَارَة أُخْرَى والتفسيرات المتعسفة لوقائعه وَالْعرض الماكر لأحداثه تَارَة ثَالِثَة نجد أَنْفُسنَا مضطرين للتمييز بَين الْوَاقِع التَّارِيخ كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وَسمي تَارِيخا!.

إِلَّا أننا نجد أَنْفُسنَا أَمَام سُؤال يطْرَح نَفسه وَهُوَ: كَيفَ السَّبِيل للوصول إِلَى الْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ؟

إِن الْوُصُول للْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع - بِالْفِعْلِ - أَيهَا الْأُخوة لَيْسَ مستحيلاً.. بل هُوَ مُمكن إِذا صحت الْعَزِيمَة وصدقت النِّيَّة وتوفرت الإمكانات، إِذْ أَن سَبيله قَائِمَة، وأولها: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة، كَمَا ذكرنَا حَيْثُ يشكل نورا يستضيء بِهِ المؤرخ الْمُسلم فِي بَحثه عَن الْوَاقِع التاريخي. وَثَانِيها: أُمَّهَات كتب التَّارِيخ الَّتِي ألفها عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ كالطبري وَابْن كثير وَابْن الْأَثِير وَغَيرهم كثير، وَقد امتازت كتبهمْ بِذكر السَّنَد فِي الرِّوَايَة التاريخية مِمَّا يُمكن المؤرخ المتتبع الْيَوْم من تحري الْحَادِثَة التاريخية كَمَا وَقعت بدراسة سندها على طَريقَة عُلَمَاء الحَدِيث فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَكَذَلِكَ تمحيص متن الرِّوَايَة التاريخية على ضوء الْكتاب وَالسّنة لاسيما إِذا كَانَت تتَعَلَّق بالصحابة - رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم - وتتعرض لعدالة أحد مِنْهُم.. الخ. وَبِذَلِك يتَمَكَّن المؤرخ من تحري الْوَاقِعَة التاريخية، وإبعاد مَا تعرض لنسيان الرَّاوِي - زِيَادَة كَانَ أَو نقصا - أَو مَا تعرض مِنْهَا لتشيع الرَّاوِي أَو غير ذَلِك من الشوائب الَّتِي تنقص من قيمَة الْوَاقِعَة التاريخية. بل إِن بعض مؤرخينا الأفذاذ سَارُوا على هَذِه الطَّرِيقَة فِي تَجْرِيد بعض الرِّوَايَات وَترك الْأُخْرَى جَريا على عَادَتهم فِي جمع كل مَا يصلونَ إِلَيْهِ من رِوَايَات التَّارِيخ دون تمحيص تاركين لمن يَأْتِي بعدهمْ أَن يقوم بِهَذِهِ المهمة، بعد أَن مهدوا لَهُ الطَّرِيق بِذكر سَنَد الرِّوَايَة التاريخية. جزاهم الله تَعَالَى عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خيرا.

ص: 84