الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد نشأت هَذِه الرّوح مُنْذُ ذَلِك الْحِين ثمَّ مَا زادتها الْأَيَّام والأحداث إِلَّا اشتعالاً واتقاداً وتفجراً وغلياناً، إِذْ دأب رجال الْكَنِيسَة إِلَى إبْقَاء جذوتها متقدة متوهجة، منتهزين كل انتصار يحرزه الْمُسلمُونَ ليسهل عَلَيْهِم تسخيرها فِي أَي وَقت لدفع الكتل البشرية النَّصْرَانِيَّة فِي موجات تخريبية من الْغَزْو الصليبي المدمر، والفتك بِالْمُسْلِمين كلما قدرُوا عَلَيْهِم.. وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل أَرَادَ رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي أَن يجْعَلُوا هَذِه الرّوح الحاقدة تقليداً لأتباعهم وشعوبهم وطقساً من طقوسهم يشيب عَلَيْهَا الْكَبِير، وينشأ عَلَيْهَا الصَّغِير، ويرضعها الْوَلِيد مَعَ لبن أمه.. وَذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي التَّخَلُّص من الْإِسْلَام ورد الْمُسلمين عَنهُ أَو إبادتهم هُوَ الشّغل الشاغل لكل نَصْرَانِيّ على وَجه الأَرْض وَلَيْسَ فَقَط لرؤوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي..
وَهَكَذَا نجد أَن الرّوح الصليبية ذَات تَأْثِير عميق جدا على نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي إِلَيْنَا وَمن ثمَّ علاقتهم بِنَا، إِلَى دَرَجَة أَنَّهَا تشكل شطر منطلق على نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي إِلَيْنَا أما الشّطْر الآخر لهَذَا المنطلق فقد نَشأ من نفس الظروف والأحداث الَّتِي نشأت عَنْهَا الرّوح الصليبية.. هَذَا الشّطْر الآخر: هُوَ الثأر الْقَدِيم الَّذِي يشْعر بِهِ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي تجاه الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين..
الثأر الْقَدِيم:
أَيهَا الْأُخوة: فقد قُلْنَا إِن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وجد نَفسه أَمَام عملاق خرج من هَذِه الْمَدِينَة المنورة فَانْتزع مِنْهُ مكانة الأستاذية والإرشاد فِي الْعَالم، وَمَا زَعمه لنَفسِهِ من مكانة دينية فِي غَفلَة من النَّاس وبعدهم عَن دين الله تَعَالَى.. وانتزع مِنْهُ شعوباً وأمماً كَانَت تخضع لَهُ وَتَدين لملوكه وكنيسته بِالطَّاعَةِ فَأَصْبَحت من جند الْإِسْلَام المخلصين تحمله وتفتح بِهِ الْبِلَاد وتهدي الْعباد بِإِذن الله تَعَالَى..
وانتزع مِنْهُ أَيْضا أراضٍ واسعةٍ وبلاداً شَتَّى كَانَ ينْفَرد وَحده باستغلال خيراتها لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد من النَّاس..
وانتزع كَذَلِك أَربع مدن رئيسية من أعز خمس مدن عَلَيْهِ فِي الْعَالم وَهِي: (الْقُدس، وإنطاكية، ونيقيه، والقسطنطينية) وَبَات يهدد الْخَامِسَة بِالْفَتْح وَهِي (روما) .
وَفَوق هَذَا كُله فقد قضى على إمبراطوريته البيزنطية الَّتِي كَانَ يعْتَبر إمبراطورها رَأْسا للْعَالم النَّصْرَانِي، ونائباً عَن الله تبارك وتعالى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا.
وَهَكَذَا وجد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي نَفسه أَمَام عَدو طعنه طعنات نجلاء، وجرحه جروحاً غائرة لَا تندمل، وَلَا يُمكن أَن تندمل حَتَّى يثأر لنَفسِهِ مِنْهُ، وَيسْتَرد - بِزَعْمِهِ وتصوره - مكانته
وَسَائِر مَا انتزعه الْإِسْلَام مِنْهُ من الْبِلَاد والعباد، وهداها الله تَعَالَى بِهِ..
إِلَّا أَن أَشد مَا أثار المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وأقامه وَلنْ يقعده هُوَ فتح الْإِسْلَام لبلاد الشَّام وفيهَا (الْقُدس) وَقد رَأينَا حسرته ولوعته الَّتِي بَدَت بصرخة رَأس من رؤوسه وَهُوَ هِرقل حِين خرج مِنْهَا وَهُوَ يَقُول: "الْوَدَاع. الْوَدَاع يَا سورية. وداعاً لَا لِقَاء بعده". وَكَذَلِكَ فتح الْإِسْلَام للقسطنطينية وَتَحْوِيلهَا إِلَى دَار إِسْلَام (إِسْلَام بَوْل) .
إِن اهتمام المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بالقدس والقسطنطينية جعله يجْهد بدأب واستمرار وعَلى كَافَّة المستويات مُنْذُ فتحهما الله تَعَالَى على يَد الْمُسلمين وَحَتَّى اللحظة الْحَاضِرَة لانتزاعهما من أَيدي الْمُسلمين وإعادتهما مركزين أوليين من مراكز الصَّلِيب.. وَإِن أَيَّة دراسة وَاعِيَة للحروب الصليبية تكشف لنا أَن انتزاع (الْقُدس) من أَيدي الْمُسلمين هُوَ فِي رَأس الْقَائِمَة1 قَائِمَة
1 - وَكَذَلِكَ وضعت الْقُسْطَنْطِينِيَّة مُنْذُ فتحهَا فِي رَأس قَائِمَة أهدافهم ونشاطاتهم، وَقد تحلى ذَلِك فِي أَكثر من مُنَاسبَة لَا سِيمَا فِي الْحَرْب العالمية الأولى حِين دَخَلتهَا جيوش الحلفاء (المعسكر النَّصْرَانِي الصليبية) وخيل إِلَيْهِم أَن يَوْم الثأر وانتزاعها من الْمُسلمين قد حَان فثار المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بمؤسساته وهيئاته وصحفه.. الخ. ثورة عارمة ونشط رجال الْكَنِيسَة الشرقية والغربية نشاطاً غَرِيبا يستحثون حكوماتهم من أجل انتزاعها من أَيدي الْمُسلمين. وَقد شعر الْمُسلمُونَ بذلك ورأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم. وَقد بيّنت ذَلِك فِي محاضرة لي بعنوان (الحروب الصليبية طبيعتها ومداها فِي الزَّمَان وَالْمَكَان) . وبينت فِيهَا إِلَى جَانب ذَلِك كَمَا يُشِير العنوان طبيعة الحروب الصليبية وحقيقتها والزمن الَّذِي استغرقته وَهِي الْأَرْبَعَة عشر قرنا، وَكَذَلِكَ الْمَكَان الَّذِي دارت عَلَيْهِ خلال هَذِه الفترة الطَّوِيلَة.
أهدافهم ونشاطاتهم وحروبهم الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بقدسيتها وَالَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا لَا تَنْتَهِي وَلنْ تَنْتَهِي مَا دَامَت الْقُدس بأيدي الْمُسلمين، كَمَا صرح بذلك الجنرال الإنكليزي (أللنبي) حِين دخل الْقُدس فِي الْحَرْب العالمية الأولى وَظن أَنهم انتزعوها من أَيدي الْمُسلمين فَقَالَ:(الْآن انْتَهَت الحروب الصليبية) .. فَلَمَّا عَادَتْ للْمُسلمين رجعت المحاولات تبذل من جَدِيد وَلم يتَغَيَّر فِيهَا إِلَّا الشكل وَالِاسْم.. كَانَت من قبل صَرِيحَة وَاضِحَة هَكَذَا.. يُرِيدُونَ انتزاع الْقُدس من أَيدي الْمُسلمين الَّذين يسمونهم كفرة. قَالَ رَأس من رؤوسهم وَهُوَ البابا أوروبا الثَّانِي منفذ فكرة الحروب الصليبية المقدسة الْمَعْرُوفَة بِهَذَا الِاسْم وَالَّذِي بَدَأَ بِدفع الكتل البشرية الأوروبية إِلَى بِلَاد الشَّام ومصر ثمَّ استمرت بعده طوال قرنين من الزَّمَان.. قَالَ: "..فاتخذوا محجة الْقَبْر الْمُقَدّس، وخلصوا الْأَرَاضِي المقدسة من أَيدي المختلسين الْكفَّار (يقْصد الْمُسلمين)
…
"1 أما الْيَوْم
2 - انْظُر المحاضرة الْمَذْكُورَة فقد بيّنت فِيهَا بعض المحاولات الْكُبْرَى الَّتِي قَامَ بهَا المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي عبر هَذَا التَّارِيخ لانتزاع مَدِينَة الْقُدس وَلَا سِيمَا محاولة الإمبراطورين نقفور فوقاس وحنا شمشقيق فِي منتصف الْقرن الرَّابِع الهجري، وَكَذَلِكَ محاولات أوروبا خلال القرنين السَّادِس وَالسَّابِع الهجريين وَالَّتِي أول من وَضعهَا مَوضِع التَّنْفِيذ البابا أوربان الثَّانِي كَمَا أَشَرنَا أَعْلَاهُ. ثمَّ المحاولات الْأَخِيرَة فِي الْقرن الرَّابِع عشر الهجري وَالَّتِي بدأت قبيل سُقُوط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية حَتَّى االلحظة الْحَاضِرَة.. بالتعاون مَعَ المعسكرات الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى كَمَا لَا يخفى.