الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روحاً صليبية حاقدة..فَمَا هِيَ الرّوح؟ وَكَيف تشكلت عبر التَّارِيخ؟ وَمَا هُوَ مدى تأثيرها على نظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا؟
هَذَا مَا أبدأ الْإِجَابَة عَلَيْهِ (بِإِذن الله تعلى) .
الرّوح الصليبية ونشأتها:
1 -
لقد كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم عليه الصلاة والسلام آخر الرُّسُل قبل سيدهم وخاتمهم مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
وَمن ثمَّ كَانَ حواريوه من بعده هم أساتذة الْعَالم ومرشدي الْأُمَم..
لَكِن المسيحية أَصَابَهَا انحراف كَبِير وخطير نقلهَا من ديانَة توحيدية سهلة إِلَى ديانَة وثنية معقدة وَذَلِكَ فِي عهدها الباكر، وَفِي منتصف الْقرن المسيحي الأول على يَد الْيَهُودِيّ الماكر (بولس) . إِلَّا أَن النَّصَارَى ممثلين بِرِجَال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذَلِك الِاعْتِبَار الَّذِي كَانَ لحواريي عِيسَى عليه الصلاة والسلام وحواريوه - رَحِمهم الله تَعَالَى - وعَلى الرغم من إمعانهم فِي تَحْرِيف مَا ورثوه من هَذِه النَّصْرَانِيَّة المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حَتَّى ظُهُور الْإِسْلَام، وَحَتَّى يَوْمنَا هَذَا..
فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام بتوحيده الصافي وَحقه الْمُبين، كشف انحراف النَّصْرَانِيَّة وَبطلَان مَا آلت إِلَيْهِ وَأظْهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عَمَّا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من أستاذية الْعَالم وهدايته، وآلت الصدارة لِلْإِسْلَامِ وَغدا الْمُسلمُونَ هم أساتذة الْعَالم وَهُدَاة البشرية وقادة الْأُمَم ومرشدي النَّاس إِلَى الْحق وَالْهدى، وانتزعوا تِلْكَ المكانة من النَّصَارَى (كَمَا انتزعوها من الْيَهُود فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة بعد الْهِجْرَة إِلَيْهَا) .
وَقضى الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ لرجال الْكَنِيسَة من سلطة ومصالح، وَمَا
زعموه لأَنْفُسِهِمْ من وصاية على الْبشر وأوضاعهم وعَلى عُقُولهمْ وأرواحهم، وَمَا فرضوه عَلَيْهِم من حق السخرة وَمَا ابتزوه من أَمْوَالهم ضريبة يؤدونها إِلَى رجال الْكَنِيسَة دون تلكؤ أَو تردد أَو مُرَاجعَة أَو استفسار.. وَهَذَا كُله عدا تعبيدهم لَهُم من دون الله تبارك وتعالى..
قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُم حرمُوا عَلَيْهِم الْحَلَال، وَأَحلُّوا لَهُم الْحَرَام، فاتبعوهم، فَذَلِك عِبَادَتهم إيَّاهُم".
فَكَانَت ذَلِك سَببا أصيلاً وعميقاً فِي كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لاسيما رجال كنيستهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، وَكَانَ وَرَاء ذَلِك محاولاتهم المستمرة للصد عَن الْإِسْلَام ورد الْمُسلمين عَن دينهم أَو الْقَضَاء عَلَيْهِم وعَلى إسْلَامهمْ..
قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (الْبَقَرَة: 120) .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (الْبَقَرَة: 109) .
2 -
ثمَّ نَشأ سَبَب آخر زَاد فِي عمق وتأصيل كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لَا سِيمَا رؤوسهم من رجال كنيستهم وملوكهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، والجهد فِي حَرْب المعسكر الإسلامي.. هَذَا السَّبَب هُوَ: انطلاق الْإِسْلَام فِي الأَرْض لتحرير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لله تعلى وَحده ولإخراجهم من ضيق الدُّنْيَا إِلَى سَعَة الْآخِرَة وَمن جور الْأَدْيَان إِلَى عدل الْإِسْلَام.. واصطدامه بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وتحطيمه جيوشه وأنظمته.. والفتوحات الَّتِي أحرزها فِي الْعَالم النَّصْرَانِي نَفسه، وانتزاعه مِنْهُ بِلَاد الشَّام ومصر وشمال إفريقيا، ووثبته على الأندلس وتوغله فِي أوربا من الغرب حَتَّى شَاءَ الله - تَعَالَى - أَن يقف الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الجولة قَرِيبا من (باريس) عَاصِمَة فرنسا، ثمَّ دُخُوله أوروبا
مرّة أُخْرَى من الشرق وانتزاعه مِنْهُ الأناضول والبلقان، وقضاؤه على الإمبراطورية البيزنطية وفتحه عاصمتها الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَتَحْوِيلهَا إِلَى عَاصِمَة الْإِسْلَام (إِسْلَام بَوْل) وتوغله بعْدهَا فِي قلب أوروبا حَتَّى شَاءَ الله عز وجل أَن يقف فِي هَذِه الجولة عِنْد أسوار فيينا عَاصِمَة النمسا. وَكَذَلِكَ صُعُوده على أوروبا من الْجنُوب من إيطاليا حَتَّى دق أَبْوَاب روما وهدد دولة الفاتيكان. ثمَّ صُعُوده على روسيا القيصرية وانتزاعه مِنْهَا أطرافها الجنوبية والشرقية..
وجد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي نَفسه أَمَام عملاق قوي خرج من هَذِه الْمَدِينَة المنورة، فحطم لَهُ قواه وجيوشه الَّتِي كَانَ بهَا يصول ويجول وَيحكم بهَا نصف الْعَالم، وطارده حَتَّى حصره فِي أوروبا وَحدهَا بل فِي جُزْء مِنْهَا وطوقه من الشرق والغرب بذراعين قويتين يهدده بهما صباح مسَاء..
فَكَانَ هَذَا، أَيْضا، سَببا فِي تأصيل كَرَاهِيَة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وعدائه لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين وتعميق هَذِه الْعَدَاوَة والكراهية وامتزاجها بلحنه وَدَمه وعظمه وعصبه، وغدوها جُزْءا من تركيبه وتحولها إِلَى روح خبيثة من الحقد الدفين الَّذِي أُترع بِهِ قلبه، وامتلأ بهَا صَدره وأكلت كبده، فظهرت على أَلْسِنَة رؤوسه وَرِجَاله {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمرَان: 119) .
هَذِه الرّوح الحاقدة على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين هِيَ الرّوح الصليبية..
فالروح الصليبية إِذن: هِيَ روح العداء والحقد والكراهية لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فِي نفوس رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي، من رجال كنيسته وملوكه، وَمن والاهم وأطاع أوامرهم وخضع لَهُم وَعمل بتوجيهاتهم واقتفى أَثَرهم فِي كره الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وحربهم والحقد عَلَيْهِم..
لقد سرت هَذِه الرّوح فِي جسم المعسكر الصليبي - بِفعل رؤوسه - حَتَّى كَادَت تَشْمَل كيانه وتتغلغل فِي أَجْزَائِهِ وتشمل شعوبه وجماعاته وطوائفه وأفراده لَوْلَا وجود مجموعات أَو طوائف بَدَت مِنْهُم الْمَوَدَّة لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، بِسَبَب بقائهم أَو قربهم من التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام -
وَلذَا بقيت بمنأى عَن التلوث بِهَذِهِ الرّوح الخبيثة، الَّتِي دأب رجال الْكَنِيسَة وسواهم من رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي على غرسها وإحيائها فِي شعوبهم وأتباعهم تضليلاً لَهُم وحقداً على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَمن ثمَّ دخلت مجموعات من هَذِه الطوائف فِي الْإِسْلَام حِين وَصلهَا وعرفته، كَمَا فعلت طَائِفَة مِنْهُم كَانَت فِي إقليم (البوسنة) تدعى (طَائِفَة البوغوميل)(رفضوا عبَادَة السيدة مَرْيَم، وأبوا نظام التعميد، وأنكروا الصَّلِيب رمزاً دينياً، واعتبروا الانحناء أَمَام الصُّور الدِّينِيَّة والتماثيل إِنَّمَا هُوَ ضرب من عبَادَة الْأَصْنَام، وكرهوا نواقيس الْكَنَائِس وأطلقوا عَلَيْهَا أبواق الشَّيَاطِين، وَكَانَت دور صلَاتهم على دَرَجَة كَبِيرَة من البساطة والبعد عَن الزِّينَة والزخارف على عكس الْكَنَائِس الكاثوليكية الَّتِي كَانَت تتَمَيَّز بالزخارف الزاهية.. وَفَوق هَذَا كُله كَانَ أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة يَعْتَقِدُونَ أَن الْمَسِيح نَفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلب وَلَكِن حل مَحَله شبح آخر، وهم يتفقون مَعَ الْآيَة الْكَرِيمَة الَّتِي جَاءَ فِيهَا {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النِّسَاء: 157) وَكَانُوا يحرمُونَ على أنفسهم شرب الْخمر ويحرصون على أَن يكون سلوكهم الْخَارِجِي وعلاقاتهم الاجتماعية مبرأة من الْعُيُوب الَّتِي حفلت بهَا المجتمعات المسيحية فِي أوروبا فِي ذَلِك الْوَقْت.
"وَكَانَ من الطبيعي أَن تنظر الْكَنِيسَة شذراً إِلَى هَذِه الطَّائِفَة ودعت البابوية إِلَى شن حملات صليبية عَلَيْهِم، وَقد تعرضوا لموجات من الاضطهاد العنيف على يَد مُلُوك البوسنة الَّذين كَانُوا يستجيبون إِلَى توجيهات البابوية فِي روما. واستغاثت أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة بالأتراك العثمانيين فِي الْقرن الْخَامِس عشر لتخليصهم مِمَّا هم فِيهِ من اضطهاد وبؤس وشقاء. وَلما غزا السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح البوسنة فِي سنة 1464م انضمت طَائِفَة البوغوميل إِلَى الفاتحين، وَاسْتولى الْجَيْش العثماني فِي خلال أُسْبُوع وَاحِد على مُعظم مدن البوسنة، وعَلى إِثْر الْفَتْح العثماني دخل البوغوميل فِي الْإِسْلَام أَفْوَاجًا بمحض إرادتهم، إِذْ وجدوا الفروق ضئيلة جدا بَين مَذْهَبهم وَبَين تعاليم الْإِسْلَام. أما الْبَقِيَّة الْبَاقِيَة من أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة فقد
أَسْلمُوا تدريجياً. وَبَقِي الكاثوليك من أهالي البوسنة على ديانتهم وآثروا الْهِجْرَة إِلَى النمسا والمجر "1.
وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى (طَائِفَة البوغوميل وأمثالهم) كأولئك الَّذين وجدوا فِي عصر الدعْوَة الإسلامية الأول وَلم يَجدوا فِي نُفُوسهم مَا وجد غَيرهم من الْكبر الَّذِي يصدهم عَن الْإِسْلَام فأسلموا.. لَعَلَّ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ هم المعنيون بقول الله تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (الْمَائِدَة: 82 - 86) .
وَهَكَذَا نجد أَن الرّوح الصليبية نشأت مُنْذُ وجد لِلْإِسْلَامِ كيان ودولة فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة وانتزع من النَّصَارَى مَا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من مكانة دينية، ثمَّ تَفَجَّرَتْ وغلى مرجلها بعد الصدام المسلح الَّذِي وَقع بَين الْمُسلمين والدولة البيزنطية لَا سِيمَا بعد معركة اليرموك الظافرة الَّتِي لقِيت فِيهَا جيوشهم هزيمَة نكراء تحطمت فِيهَا قواهم وَخرج بعْدهَا رَأْسهمْ هِرقل إمبراطور الدولة الرومانية من بِلَاد الشَّام هَارِبا والأسى والحزن يعصر قلبه عصراً، وَقد عبر عَن ذَلِك حِين ركب الْبَحْر واستقل السَّفِينَة وَألقى نظرات الْوَدَاع الْأَخِيرَة على شواطئ سورية الجميلة فَلم يملك نَفسه أَن أطلق صرخة أودعها كل مَا عِنْده من أسى وحزن وكمد فصاح قَائِلا: الْوَدَاع، الْوَدَاع، إِلَى الْأَبَد يَا سورية، وداعاً لَا لِقَاء بعده. وَقد كَانَ كَذَلِك وَللَّه الْحَمد
…
1 - من كتاب أوروبا فِي مطلع العصور الحديثة. ص657 - 659 من الْجُزْء الأول للدكتور عبد الْعَزِيز مُحَمَّد الشناوي. أستاذ كرْسِي التَّارِيخ الحَدِيث بجامعة الْأَزْهَر.