المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ماذا نعني بمصطلح معسكر - علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية

[زهير الخالد]

الفصل: ‌ماذا نعني بمصطلح معسكر

لَا شكّ أَن هَذَا عمل لَيْسَ من السهولة بِحَيْثُ يَسْتَطِيع الْقيام بِهِ رجل وَاحِد أَو رجلَانِ لَا سِيمَا إِذا كَانَ مَشْغُولًا بالسعي لطلب الرزق لَهُ وَلمن يعول. بل لَا بُد من توافر جهود المثير من الْمَعْنيين بدراسة التَّارِيخ مِمَّن عِنْدهم الاستعداد النَّفْسِيّ والوعي الفكري والثقافي، والنضج العلمي، وتفريغهم لهَذَا الْعَمَل الْهَام جدا، وَالَّذِي ستتعمق معرفتنا لأهميته كلما أدركنا مدى خطورته بِالنِّسْبَةِ لنا ولمستقبل أمتنَا..وَلَيْسَ من الضَّرُورِيّ طبعا أَن يجْتَمع الْعدَد الْمَطْلُوب فِي مَكَان وزمان وَاحِد، فَإِن حصل هَذَا فَذَلِك غَايَة النهى فِي هَذَا الْمطلب الْعَزِيز، وَإِن لم يتوفر فحسبنا أَن نشق الطَّرِيق أَو نمشي بضع خطوَات أَو نقطع مرحلة مِنْهُ تاركين لمن يَأْتِي بَعدنَا مُتَابعَة السّير فِي طَرِيق شقّ وبدئ السّير فِيهِ حَتَّى يصل الْمُسلمُونَ بِإِذن الله - تَعَالَى - إِلَى هَذِه الْغَايَة المرجوة من كِتَابَة تاريخهم الإسلامي وتاريخ الْعَالم كَمَا يجب أَن يكْتب بأيدي مسلمة أمينة وَاعِيَة. وأليس تقصيراً من الْمُسلمين يخْشَى أَن يَكُونُوا آثمين فِيهِ أَن ينْهض أعداؤهم لكتابة تاريخهم الإسلامي وصياغته وفْق أغراضهم، والمسلمون ينظرُونَ، أَو يقتفون آثَارهم وتنطبع فِي أذهان أبنائهم وأجيالهم وذراريهم الصُّور المشوهة الَّتِي أرادها أعداؤنا عَن سلفنا الصَّالح وعظمائنا، مِمَّا دفع الْكثير من أَبنَاء الْمُسلمين أَن يستحيوا من الانتساب إِلَى تاريخهم وسلفهم الصَّالح ويتجملوا بتقليد أعدائهم؟.

إِن إِعَادَة كِتَابَة تاريخنا الإسلامي أَمر يحْتَاج إِلَى جهود ضخمة، هَذَا صَحِيح وَلَكِن أَي جهد صَادِق واع خلص لله - سُبْحَانَهُ - يبْذل فِيهِ لَا بُد أَن يُؤْتِي ثماره الطّيبَة بِإِذن الله تَعَالَى وَلَو بعد حِين.

ص: 85

‌مَاذَا نعني بمصطلح معسكر

؟

إِن الدارس لأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والاجتماعية والفكرية يلحظ ظَاهِرَة هَامة جدا فِي حَيَاة النَّاس وَهِي: أَن النَّاس يَجْتَمعُونَ بِنَاء على اتِّفَاقهم فِي الدّين والعقيدة والفكرة وَالْمذهب.. ويفترقون إِذا اخْتلفُوا فِيهَا.. وَلَيْسَت هَذِه الظَّاهِرَة إِلَّا تَرْجَمَة لما فطر عَلَيْهِ جنس الْإِنْسَان وَهُوَ الارتياح إِلَى من يشاركونه

ص: 85

فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب والميل إِلَيْهِم وموالاتهم والاندفاع لمناصرة قضاياهم والتحمس لَهَا. وَبِالْعَكْسِ من ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يرتاح إِلَى من يخالفونه فِي ذَلِك ويشعر بغربة دينهم، وينفر مِنْهُم، بل ويحاربهم إِذا اقْتضى الْأَمر مهما تكن الروابط المادية بَينه وَبينهمْ، وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الآصرة الَّتِي يجْتَمع عَلَيْهَا النَّاس ويفترقون، هِيَ الدّين والعقيدة، أَو الفكرة وَالْمذهب وَلَيْسَت اتِّحَاد الْجِنْس وَالنّسب أَو الِاشْتِرَاك فِي الأَرْض وَالْحُدُود الجغرافية أَو السياسية وَلَيْسَت هِيَ الْمصَالح وَالْمَنَافِع الْقَرِيبَة.. فَهَذِهِ كلهَا أُمُور عرضية لَا علاقَة لَهَا بجوهر الْإِنْسَان الْكَرِيم..

أَلا ترى إِلَى الْيَهُودِيّ كَيفَ يتحمس لقضايا الْيَهُود فِي الْعَالم ويناصرها، ويوالي قيادتهم وَلَا يطمئن إِلَّا لِلْيَهُودِيِّ وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم لنا كَيفَ يُوصي بَعضهم بَعْضًا وَيَقُولُونَ:{وَلا تُؤْمِنُوا إِلَاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمرَان: 73)

وَكَذَلِكَ الماركسي (شيوعياً كَانَ أَو اشتراكياً) هَوَاهُ مَعَ الْعَالم الماركسي ودوله وأحزابه الشيوعية والاشتراكية، فيهتم لأخبارهم ويناصر قضاياهم ويدافع عَن موقفهم وقضاياهم ويبرر أخطاءهم حَتَّى وَلَو كَانَت ضد شعبه هُوَ أَو ضد بَلَده وقضاياه..

وَقل مثل ذَلِك عَن النَّصْرَانِي والوثني.

أما شَأْن الْمُسلم فَهُوَ أَكثر وضوحاً فَهُوَ يهتم لأمر الْمُسلمين، فيحزن لما أَصَابَهُم ويفرح لما نالوه من خير فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، فَإِن لم يجد مثل هَذَا الشُّعُور فَهُوَ دَلِيل الْمَرَض فِي قلبه، والضعف فِي إيمَانه، وَمَا أصدق وأعمق دلَالَة هَذَا الْأَثر:"من لم يهتم بِأَمْر الْمُسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم".. بل إِن الْمُسلم مَأْمُور بِنَصّ كتاب الله - تَعَالَى - وَسنة رَسُوله عليه الصلاة والسلام أَن لَا يوالي بعد الله - سُبْحَانَهُ - وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم غير الْمُسلمين الملتزمين بِإِسْلَامِهِمْ الَّذين لم يخلطوا مَعَه مبدءًا أَو مذهبا أَو شعاراً آخر لَيْسَ من الْإِسْلَام. قَالَ تعلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ

ص: 86

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .. الْآيَات.

ثمَّ يَقُول تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (الْمَائِدَة: 51 - 52 - 55 - 56) .

وَهَكَذَا وبسبب هَذِه الْفطْرَة وَكَون العقيدة هِيَ جَوْهَر الْإِنْسَان، فَإِن الْإِنْسَان يجد مَعَ الَّذين يشاركونه فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب، وحدة آمال وأهداف، وأفراح وأتراح وبواعث ومواقف، وَيشكل مَعَهم كتلة وَاحِدَة، وجبهة وَاحِدَة أَو معسكراً وَاحِدًا.. فالمعسكر إِذن هُوَ: أَتبَاع الدّين الْوَاحِد أَو العقيدة الْوَاحِدَة أَو الْمَذْهَب الْوَاحِد.. الخ. وَمَا ينشأ عَن هَذَا الْإِيمَان من مشاعر وعواطف وانفعالات ومواقف متشابهة أَو وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ من عمل وسعي لمناصرة قضاياه وموالاة قياداته ورؤوسه.

هَذَا وَإِن دراسة وَاعِيَة للتاريخ والحاضر تكشف لنا أَن أَتبَاع الدّين أَو الْمَذْهَب أَو الفكرة الْوَاحِدَة الَّذين يعْملُونَ لَهَا ويناصرون قضاياها ويتخذونها قضاياً لَهُم، ويجعلونها مُنْطَلقًا أساسياً لَهُم فِي موقفهم من غَيرهم ومعاملتهم.. يشكلون فِيمَا بَينهم معسكراً وَاحِدًا على اخْتِلَاف مستوياتهم ورقعة الأَرْض الَّتِي يسكنونها وَكَذَلِكَ - ولعلنا لَا نبالغ - إِذا قُلْنَا مَعَ اخْتِلَاف أزمانهم..فالواقع التاريخي إِذن يثبت هَذَا الَّذِي نَذْهَب إِلَيْهِ.

وَبِنَاء على هَذَا فاليهود على اخْتِلَاف أجناسهم وهيئاتهم وجماعاتهم ومؤسساتهم يشكلون معسكرًا وَاحِد هُوَ المعسكر الْيَهُودِيّ الصهيوني..

وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يشكلون معسكراً وَاحِدًا هُوَ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي.

والشيوعيون والاشتراكيون الماركسيون يشكلون المعسكر الماركسي الملحد.

ص: 87

والوثنيون يشكلون المعسكر الوثني الْمُشرك..

وَهَذِه المعسكرات كلهَا تشكل فِيمَا بَينهَا وعَلى اختلافها حزباً وَاحِدًا هُوَ حزب الشَّيْطَان..

وَلما كَانَت هَذِه المعسكرات لَا تهتدي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا تحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ -

وَلما كَانَت الْجَاهِلِيَّة هِيَ كل حَالَة أَو وضع لَا يَهْتَدِي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا يحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَت فَتْرَة زمنية محدودة1، فوصف الْجَاهِلِيَّة يشملهم جَمِيعًا، فهم إِذن معسكرات جَاهِلِيَّة وأممهم أُمَم جَاهِلِيَّة، بل كَافِرَة ومشركة. وَقد نَص الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة المطهرة على كفرهم جَمِيعًا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين والملحدين. وَالْكفْر يشكل بَينهم عَاملا مُشْتَركا "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة".

أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم يشكلون فِيمَا بَينهم وَمن دون النَّاس جَمِيعًا أمة وَاحِدَة هِيَ الْأمة الْمسلمَة أَو الإسلامية، ومعسكراً وَاحِدًا هُوَ المعسكر الإسلامي، وحزباً وَاحِدًا هُوَ حزب الله تَعَالَى مَا داموا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة - رَسُوله صلى الله عليه وسلم.

من هَذَا الْوَاقِع وَهُوَ كَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة، وَكَون الْمُسلمين يشكلون أمة من دون النَّاس، من هَذَا الْوَاقِع نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين وتحدد نوعها وَهُوَ العداء. عداؤهم لنا وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم عَنْهَا بقوله تَعَالَى:{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} (النِّسَاء:101) .

وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم آيَات أُخْرَى وَردت كهذه الْآيَة الْكَرِيمَة، بصيغ نهائية قَطْعِيَّة

(1) انْظُر الْكتاب الْقيم: جَاهِلِيَّة الْقرن الْعشْرين للداعية الإسلامي الْمُجَاهِد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد قطب حفظه الله تَعَالَى ورعاه.

ص: 88

مِمَّا يُفِيد أَن عداوتهم لَيست عرضية زائلة بل هِيَ أصيلة طَوِيلَة الأمد لَا يُرْجَى لَهَا زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار.

هَذَا وَقد نَشأ عَن هَذَا العداء الْأَصِيل للْمُسلمين من قبل غَيرهم حقيقتان تاريخيتان هما:

الأولى: اسْتِحَالَة الْمصلحَة والتعايش بِسَلام دَائِم بَين الْمُسلمين وَأي من المعسكرات الْجَاهِلِيَّة سَوَاء كَانُوا الصهاينة أَو الصليبيين أَو الْمُلْحِدِينَ أَو الوثنيين، وَقد بيّن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْتِحَالَة هَذَا اللِّقَاء والتعايش واستحالة الْمُصَالحَة بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين بقوله:"لَا ترَاءى ناراهما".

وَإِذن لَا يُمكن أَن يتعايش الْمُؤْمِنُونَ الْمُسلمُونَ مَعَ الْكَافرين أياً كَانَ دينهم ومعسكرهم إِلَّا إِذا أمكن أَن يعِيش الْإِيمَان إِلَى جَانب الْكفْر فِي قلب رجل وَاحِد، وَهَذَا مُسْتَحِيل، نعم مُسْتَحِيل لِأَن المعركة قَائِمَة مُنْذُ بَدْء الْحَيَاة البشرية إِلَى مَا يَشَاء الله تَعَالَى بَين الْإِيمَان وَالْكفْر، وَبَين الْإِسْلَام والجاهلية بَين الْهدى والضلال بَين الْحق وَالْبَاطِل، بَين التَّوْحِيد والشرك.. وَمن ثمَّ فالمعركة قَائِمَة ومستمرة بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين أَتبَاع الْحق وَالْهدى، أهل التَّوْحِيد وَبَين الْكَافرين أَتبَاع الْبَاطِل والضلال أهل الشّرك والوثنيات..

أما سَبَب هَذِه المعركة الطَّوِيلَة الأمد وسرها فَهُوَ الْخلاف الْأَصِيل والمناقضة التَّامَّة بَين الْإِسْلَام وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر، وَبَين الْكفْر وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر..

الْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حق يُرِيد تَحْرِير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لغير الله تبارك وتعالى أياً كَانَ شكل هَذِه الْعُبُودِيَّة وصورتُها، وَيُرِيد إخلاصها لله - تَعَالَى - وَحده، فَلَا يعبد غير الله - تَعَالَى - مَعَه أَو دونه.

أما الْكفْر فبمَا فِي طَبِيعَته من بغي (ممثلاً بإبليس عَلَيْهِ لعنة الله - وجنده وأوليائه) فيريد فتْنَة النَّاس عَن دين الله تبارك وتعالى وتعبيدهم لغير الله - سُبْحَانَهُ -.

ص: 89

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الْأَعْرَاف 16 - 17) .

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (الْقَصَص: 38)

وهدّد فِرْعَوْن مُوسَى عليه الصلاة والسلام قَائِلا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشُّعَرَاء: 29) . فَهُوَ لَا ترضيه السيطرة على أوضاع النَّاس بل يطغى للسيطرة على عُقُولهمْ وَقُلُوبهمْ فَلَا تَنْشَرِح لشَيْء إِلَّا بعد اسْتِئْذَانه وَلَو كَانَ الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى. قَالَ فِرْعَوْن لسحرته حِين أَسْلمُوا وَلم يستأذنوه بانشراح صُدُورهمْ للْإيمَان بِاللَّه تَعَالَى وتغيير معتقدهم الْبَاطِل، وتصديق مُوسَى عليه الصلاة والسلام {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (طه 71) . إِنَّهَا بِنَظَر الْكفْر هِيَ الجريمة الْكُبْرَى الَّتِي يسْتَحقُّونَ عَلَيْهَا الْقَتْل والصلب وتقطيع الْأَيْدِي والأرجل من خلاف فهددهم قَائِلا:{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .

وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من طهر ونظافة يُرِيد تَطْهِير النَّاس وضمائرهم وَبُيُوتهمْ وواقعهم من لوثات الْكفْر وَالْفِسْق والعصيان.

وَلَكِن الْكفْر بِمَا فِي طَبِيعَته من انحراف وفجور ورجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (بَرَاءَة 28) يكره هَذَا الَّذِي يُريدهُ الْإِسْلَام للنَّاس وينقم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُرِيد لَهُم الانحراف وَاتِّبَاع الشَّهَوَات.

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (النِّسَاء26) .

وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حيوية وحركة وجد ينْطَلق يُجَاهد الْكفْر أنّى وُجد ويطارده من الْقُلُوب والعقول، وَمن وَاقع النَّاس وأنظمتهم.. وَقد ظهر إِصْرَار الْإِسْلَام، على مطاردة الْكفْر، فِي انطلاقه خطْوَة بعد خطْوَة، وغزوة بعد غَزْوَة، ومرحلة بعد مرحلة، يطارد الْكفْر ويحطم قواه الَّتِي بهَا يصول

ص: 90

ويجول، ويزيل أنظمته وأوضاعه الْجَاهِلِيَّة الَّتِي يعبد بهَا النَّاس لغير رَبهم - سُبْحَانَهُ - ويفتنهم عَن دين الله تَعَالَى وهداه.1

وَأما الْكفْر فَهُوَ الآخر بِمَا فِي طَبِيعَته من طغيان يعْمل على محاربة الْإِسْلَام وملاحقته والصد عَنهُ مَا واتته الفرصة من ليل أَو نَهَار، وَقد ظهر إِصْرَار الْكفْر على محاربة الْإِسْلَام ومحاولات رد الْمُسلمين عَن دينهم فِي ظاهرتين اثْنَتَيْنِ:

الظَّاهِرَة الأولى: مسارعة رُؤُوس الْكفْر وأئمة الضلال فِي قوم كل نَبِي يُرْسِلهُ الله - تَعَالَى - للوقوف فِي وَجه نَبِيّهم عليه الصلاة والسلام والصد عَن دين الله - تَعَالَى - وفتنة الْمُؤمنِينَ بِهِ.

الظَّاهِرَة الثَّانِيَة: مسارعة المعسكرات الْجَاهِلِيَّة لنقض عهودها مَعَ الْمُسلمين حالما تلوح لَهُم فرْصَة ضعف الْمُسلمين وعجزهم عَن تَأْدِيب ناقضي الْعَهْد مَعَهم.

وَهَكَذَا نجد أَن كلا من الْإِسْلَام وَالْكفْر يعْمل بإصرار على إِزَالَة الآخر من الْعُقُول والضمائر والقلوب وَمن حَيَاة النَّاس وأوضاعهم وأنظمتهم، لِأَنَّهُ لَا يُوجد أَحدهمَا إِلَّا حَيْثُ يخسر الآخر وينسحب، وَلَا وجود لأَحَدهمَا إِلَّا على حِسَاب الآخر، وَأَن بداية أَحدهمَا فِي عقل أَو ضمير أَو قلب، أَو وضع أَو نظام أَو مَكَان هِيَ بداية النِّهَايَة للْآخر..

قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الْأَنْفَال:39) .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التَّوْبَة: 36) .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (الْبَقَرَة: 217) .

1 - انْظُر سُورَة بَرَاءَة فِي الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب - رَحمَه الله تَعَالَى -.

ص: 91

2 -

أما الْحَقِيقَة التاريخية الثَّانِيَة فَهِيَ تعاون القوى الْكَافِرَة ومعسكراتها ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.. وَهَذَا مَا كشف عَنهُ الْكتاب وَالسّنة أَيْضا فِي أَكثر من آيَة وَحَدِيث.. وبأكثر من أسلوب تَصْرِيحًا وتلميحاً.. من ذَلِك جمع الْكفَّار كلهم فِي سِيَاق آيَة وَاحِدَة، والْحَدِيث عَن مُرَادهم فِي الْمُسلمين وموقفهم مِنْهُ مِمَّا يدل على وحدة بواعثهم وأهدافهم تجاه الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَكَذَلِكَ وحدة مواقفهم كَقَوْلِه تَعَالَى - على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْبَقَرَة: 105)1.

أما الْوَاقِع التاريخي فقد ترْجم هَذِه الْحَقِيقَة وأظهرها خلال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان {لمن كَانَ لَهُ قلب أَو القي السّمع وَهُوَ شَهِيد} وَمَا يزَال يظهرها الْيَوْم ويبينها أجلى مَا يكون بَيَانا..

وَهَذِه الْحَقِيقَة التاريخية وسابقتها تحْتَاج إِلَى محاضرة مُسْتَقلَّة إِن لم يكن أَكثر من محاضرة، وَأَرْجُو أَن أوفق لذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل بِإِذن الله تَعَالَى. وَهَذِه إشارات خاطفة على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر:

أَيهَا الْأُخوة: كلنا يعلم الحروب الطَّوِيلَة الأمد الَّتِي كَانَت بَين الْفرس وَالروم، وَأَن هَذِه الحروب توقفت فَجْأَة بِظُهُور الْإِسْلَام وتحولت القوتان المتخاصمتان دهراً طَويلا إِلَى قوتين متعاونتين ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين..فحارب الْمُسلمُونَ على الجبهتين الفارسية والرومية فِي وَقت وَاحِد ونصرهم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا..

كَذَلِك إِن الَّذِي يدرس تَارِيخ الحروب الصليبية وغزو التتار لبلاد الْمُسلمين يعلم السفارات الَّتِي كَانَت تتبادل بَين دوَل المعسكر الصليبي وإماراته ورؤوسه وَبَين التتار فِي بِلَادهمْ قبل بدئهم بغزو الْعَالم الإسلامي، وَلما جَاءُوا إِلَى بِلَاد

1 -

وَكَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم: "يُوشك أَن تداعى عَلَيْكُم الْأُمَم كَمَا تداعى الْأكلَة إِلَى قصعتها".. الحَدِيث..

ص: 92

الْإِسْلَام انْضَمَّ إِلَيْهِم غير الْمُسلمين من الطوائف الْأُخْرَى فِي بَغْدَاد وبلاد الشَّام وَغَيرهمَا وتعاونوا مَعَهم، بل إِن النَّصَارَى هللوا وَاسْتَبْشَرُوا بقدوم التتار الوثنيين واعتبروا غزوهم لبلاد الْمُسلمين حَملَة صليبية جَدِيدَة جَاءَت من الشرق بَدَلا من أَن تَأتي من الغرب، وَقد رَأينَا كَيفَ أَنه لم ينج من مذبحتهم الرهيبة فِي بَغْدَاد إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذين تعاونوا مَعَهم من الطوائف غير الْمسلمَة، ومنحهم الْغُزَاة قُصُور الْمُسلمين وأمرائهم الَّذين ذَبَحُوا مِنْهُم من ذَبَحُوا، وفر مِنْهُم من اسْتَطَاعَ الْفِرَار، واختفى الْبَاقُونَ فِي الأقنية والسراديب، فَلَمَّا خَرجُوا لقوا حتفهم بِسَبَب الْمَرَض الَّذِي فتك بهم.

أما تعاون القوى الْكَافِرَة والمعسكرات الْجَاهِلِيَّة فِيمَا بَينهَا الْيَوْم ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وقضاياهم فَهِيَ أوضح من أَن تحْتَاج إِلَى بَيَان فِي فلسطين وباكستان الشرقية والفلبين والحبشة بل فِي إفريقيا كلهَا وَفِي كل قَضِيَّة يكون الْمُسلمُونَ طرفا فِيهَا..

أَيهَا الْأُخوة: إِن إدراكنا لهَذَا الْوَاقِع، وَهُوَ كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس، وَكَون الْكفْر عَاملا مُشْتَركا بَين سَائِر المعسكرات الْجَاهِلِيَّة "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة"..

وَإِن إدراكنا لسر الصراع الطَّوِيل الأمد بَين الْحق وجنده، وَبَين الْبَاطِل وجنده.. إِن هَذَا يمكننا من إِدْرَاك عدَّة أُمُور هَامة جدا فِي حياتنا الْيَوْم، يجب أَن تبحث وتفصل حَتَّى يعرفهَا شبابنا وأبناؤنا ليكونوا على بَصِيرَة بعصرهم هَذَا الَّذِي أَقبلت فِيهِ الْفِتَن كَقطع اللَّيْل المظلم، وَركب بَعْضهَا بَعْضًا، وَأخذ بَعْضهَا برقاب بعض، بِحَيْثُ تدع الْحَلِيم حيراناً، فَمَا بالك بِغَيْر الْحَلِيم؟! ..

وَمن هَذِه الْأُمُور: انه يمكننا من فهم طبيعة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله - تَعَالَى - وبواعث الْمُجَاهدين من سلفنا الصَّالح ولماذا كَانُوا لَا يقتلُون إِلَّا المقاتلين الَّذين لَا يرْمونَ السِّلَاح وَهُوَ يمكننا من فهم أَسبَاب الحروب الطَّوِيلَة الَّتِي شنتها المعسكرات الْجَاهِلِيَّة على الْمُسلمين فِي كل مَكَان غلب فِيهِ الْمُسلمُونَ على أَمرهم، وَكَذَلِكَ لماذا كَانَت حروبهم مَعنا وَلنَا حَرْب إبادة واستئصال؟

ص: 93

وَهُوَ يمكننا من فهم أسرار الطغيان وعمليات السحق الوحشية لشباب الْمُسلمين والفتك بعلمائهم وقادة فكرهم على أَيدي الأنظمة الْجَاهِلِيَّة وأوضاعها، ومطاردتهم وتشريدهم؟ !

وَهُوَ يمكننا كَذَلِك من فهم الصمت المطبق فِي وَسَائِل الْإِعْلَام العالمية حِين تكون الضحية مسلمة والقضية إسلامية، والضجة الْكُبْرَى حِين يُوَجه إِيذَاء لغير الْمُسلمين أَو يمْنَعُونَ من ممارسة شعائرهم أَو نشاطاتهم؟ 1

كَمَا أَنه يمكننا من إِدْرَاك حَقِيقَة العلاقة الَّتِي قَامَت عبر التَّارِيخ وَتقوم الْآن بَيْننَا وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي هُوَ أحد معسكرات الْكفْر، وَمن ثمَّ فعلاقته بِنَا إِذن تنبثق من العداء الْأَصِيل بَين الْحق وَأَهله وَبَين الْبَاطِل وَأَهله، وَأَن كل مَا بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر من عداء وإصرار كل مِنْهُمَا على ملاحقة الآخر وَتعقب آثاره لتصفيته من دنيا النَّاس وواقعهم وَقُلُوبهمْ وضمائرهم هُوَ قَائِم بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي.

قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التَّوْبَة: 29) .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (الْبَقَرَة: 120)

وَهَذَا مَا تَرْجمهُ الْوَاقِع التاريخي طوال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان..

أَيهَا الْأُخوة: لقد قُلْنَا: من وَاقع كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس جَمِيعًا، وَكَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين

1 -

انْظُر الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب رَحمَه الله تَعَالَى. ج

ص: 94

وتحدد نوعها وَهُوَ عداؤهم لنا عداء أصيلاً مستمراً لَا يُرْجَى لَهُ زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار أَو يتَحَوَّل الْمُسلمُونَ عَن دينهم إِلَى الْكفْر - وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى -، وَأَن الْقُرْآن الْكَرِيم كشف عَن هَذَا بقوله تَعَالَى:{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} هَذَا من جِهَة، وَمن جِهَة أُخْرَى: فَإِن الْإِسْلَام بِمَا فِيهِ من حق وطهر وحيوية وحركة لَا بُد وَأَن ينْطَلق يحرر النَّاس ويطارد الْكفْر بشتى صوره، ويحطم قواه الَّتِي يصول بهَا ويجول ويزيل أنظمته الْجَاهِلِيَّة وأوضاعه الَّتِي يفتن بهَا النَّاس عَن دين الله - تَعَالَى - ويصدهم عَنهُ.. وَكَانَ بديهياً ومنتظراً أَن يصطدم بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي القابع فِي شمال الجزيرة الْعَرَبيَّة - بِاعْتِبَارِهِ أحد معسكرات الْكفْر - وَالَّذِي بَدَأَ يَتَحَرَّك ويتحفز للانقضاض على الْمُسلمين مُنْذُ أَن أصبح لَهُم دولة وَقُوَّة فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة، ويترجم بذلك خوف الْكفْر وحذره من انطلاق الْإِسْلَام وإصراره على حَرْب الْإِسْلَام ومحاولات الْقَضَاء عَلَيْهِ، ومدفوعاً بطغيان الْكفْر وبغيه وَكَرِهَهُ لِلْإِسْلَامِ.. فَكَانَت غَزْوَة مُؤْتَة وَكَانَت غَزْوَة تَبُوك، وَغَيرهمَا..

هَذَا بعض مَا كَانَ مِنْهُ، أَو بَدَأَ بِهِ، أما مَا كَانَ من الْإِسْلَام.. فَإِن الْإِسْلَام مَا أَن أخضع الجزيرة الْعَرَبيَّة واستخلصها لنَفسِهِ قَاعِدَة لَهُ لَا يُشَارِكهُ فِيهَا دين آخر " لَا يجْتَمع فِي جَزِيرَة الْعَرَب دينان" حَتَّى بَدَأَ بالزحف على المعسكر النَّصْرَانِي فِي انطلاقه الْعَام لتحرير النَّاس كلهم وتعبيدهم لخالقهم وَحده، فَكَانَت اليرموك وَكَانَ غَيرهَا..وَاسْتمرّ الصراع حَتَّى الْيَوْم، لم يهدأ، وَلم يفتر، بل كثرت ألوانه وأساليبه، وَترك بصماته قَوِيَّة على مكانة الْعَالم النَّصْرَانِي العالمية، وأحدث تغييراً كَبِيرا فِي خارطته وأوضاع الشعوب الَّتِي كَانَت تخضع لَهُ، مِمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيره العميق على تفكيره ونفسيته، واتصالاته بِنَا وتجاربه الَّتِي خرج بهَا خلال هَذِه الْقُرُون الْأَرْبَعَة عشر، فَنَشَأَتْ من ذَلِك أُمُور أخذت مَعَ الزَّمن تترسم فِي أذهان قادته ورؤوسه من ملوكه وأمرائه وَرِجَال كنيسته وتترسخ فِي قُلُوبهم ومشاعرهم وتشكل منطلقات أساسية لنظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا، لَا يَسْتَطِيعُونَ فكاكاً مِنْهَا، وَلَا تخلصاً من ضغطها بل التحمت بلحمهم وعظمهم، وسرت روحاً فِي كيانهم لَا تفارقهم لَحْظَة من ليل أَو نَهَار.. وَقد كَانَت أولى هَذِه الْأُمُور:

ص: 95