المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة - عمارة القبور في الإسلام - المبيضة - ضمن «آثار المعلمي» - ٥ أ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة

[ص 23]

‌ الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة

أما الآية؛ فيُستدل بها على أن المقصود من شَرْع دفن الميت هو مواراة جثته، فالقَدْر الذي يحصل به تمام المواراة هو الأصل الثابت المقرر، وما زاد عن ذلك فإنه مفتقرٌ إلى دليل؛ لما مرَّ في المقدمة

(1)

: أن أحكام القبور شرعية، والشرع توقيف.

وأما حديث فضالة؛ فمداره على كلمة "التسوية"، فنقول: المتبادر من التسوية في الحديث أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به.

ولكن نوزع بأن هذا إنما هو معنى تسوية القبر بالأرض، والذي في الحديث تسوية القبر فحسب. وتسوية القبر عبارة عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عز وجل:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]. وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يسوَّى القبر في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجْعَل مسطَّحًا.

وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلِقت على شيء ناشز على وجه الأرض كالبناء والربوة، فمعناها: تسويته بالأرض.

ومنه قول الله تبارك وتعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] قال الراغب

(2)

: أي سوَّى بلادَهم بالأرض.

(1)

(ص 15).

(2)

في "المفردات"(ص 440).

ص: 26

ويدل عليه في هذا الحديث نفسه أن الصحابيَّ جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال:"أخِفُّوا عنه"، "خَفّفوا"، "خَفّفوا عليه التراب فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور".

[ص 26] وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف إذا أُرِيْد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في ذاته، فإنها تُمْكِن مع كثرة التراب، كما تُمكن مع قلته.

والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصِّه حتى يسوغ لنا أن نستقلّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مؤدَّى كلامه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور، التسوية المقتضية لتخفيف التراب. أي أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة.

وقد مر عن "كنز العمال"

(1)

حديث: "سووا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم". فإن صحَّ فهو صريح في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال:"سووا القبور" أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و "على وجه الأرض" حالٌ؛ إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كل حال، فما بقي إلا أن يكون سووها بوجه الأرض.

وقال الباجي في "شرح الموطأ"

(2)

: قال ابن حبيب: وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور أو يُبْنى عليها، وأمر

(1)

رقم (42387). وانظر (ص 20).

(2)

(2/ 494).

ص: 27

بهدمها، وأمر بتسويتها بالأرض

إلخ.

وسيأتي

(1)

في حديث علي رضي الله عنه: "ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"، فجعل التسوية: إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعم من أن يكون القبر متساويًا في نفسه، وأن يكون غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح.

[ص 27] أقول: الحقُّ أن التسوية إذا أطلقت

(2)

كان المراد تسوية الشيء في ذاته. وتسويةُ الشيء في ذاته، لها معنيان:

[المعنى] الأول: جَعْل الشيء متساوي الأجزاء، وهذا على ثلاثة أوجه:

1 -

(3)

: أن يكون الشيء المراد تسويته واحدًا اختلفت أجزاؤه، كقطعة من الأرض فيها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسويتها، أي: إزالة تلك الجُثَى، وطمّ تلك الحفر، حتى تكون القطعة سواء.

2 -

أن يكون جماعة، ويُراد تسوية كل واحدة منها في نفسه، كقطع من الأرض في كل واحدة منها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسوية القِطَع، أي: تسوية كل واحدة منها في ذاتها، بمثل ما تقدم، مع قطع النظر عن مساواة كل قطعة لبقية القطع أو عدمه.

3 -

أن يكون جماعة، ويراد تسويتها، أي: جعلها متساوية. كأنْ يؤمر

(1)

(ص 50، وشرحه 109).

(2)

الأصل: "طلقت" سهو.

(3)

كتب المؤلف: " (1) الأول" وفي التي تليها جعلها بالأرقام فقط فجعلنا الجميع كذلك.

ص: 28

الخبَّاز بتسوية الأرغفة، أي: جعلها كلها على قَدْر واحد، بحيث لا يبقى تفاوت بين رغيف ورغيف.

[ص 28] المعنى الثاني: جَعْل الشيء سويًّا، أي: قويمًا على ما اقتضته الحكمة، بلا إفراط ولا تفريط، ومنه قول الله عز وجل:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].

وقوله جل ذكره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37].

قال الراغب

(1)

: أي: جعل خِلْقتك على ما اقتضت الحكمة.

ومنه قوله عز وجل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17].

أي ــ والله أعلم ــ: كامل الخلقة بالنظر إلى الهيئة المشتركة بين البشر التي اقتضت الحكمة جَعْلَهم عليها.

وقال الراغب

(2)

: السويّ: ما يُصان عن الإفراط والتفريط.

[ص 29] إذا تقرر هذا، فالوجه الأول من المعنى الأول هو المراد في الآية:{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، أي ــ والله أعلم ــ: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون متفاوتة بارتفاع الأبنية على العَرَصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخرابَ البالغ. ولا يأتي هذا الوجه في

(1)

في "المفردات"(ص 440).

(2)

نفسه.

ص: 29

حديث فَضَالة، ويمكن أن يأتي في حديث عليّ الذي سيأتي:"ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته".

والتسوية على هذا الوجه لا تنافي التسنيم، فإن القبر إذا كان مُسنَّمًا تسنيمًا محكمًا بأن يكون سطحه أملس، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوب للصق بجميع أجزائه، يقال له: مسوّى.

ولو رأينا كرتين إحداهما ملساء السطح، والأخرى يوجد في سطحها هنات ناشزة، وحُفيرات منخفضة، فإننا نسمي الأولى مستوية، وإذا أمرنا بإصلاح الثانية، قيل: أمر بتسويتها.

ولكنه على كل حال لا يصلح هذا الوجه للتسوية في حديث علي؛ [ص 30] لأن فيه أن التسوية هي إزالة الإشراف، أي: الارتفاع، وتسوية القبر في ذاته على ما قررنا في هذا الوجه لا تنافي الإشراف.

الوجه الثاني هو ممكن في حديث فَضالة، والتسوية عليه لا تنافي التسنيم؛ لما مرَّ في الوجه الأول.

ولكن يردّ هذا الوجه قولُ فَضالة: "خَفّفوا" الدال على أن التسوية في حديثه هي المقتضية للتخفيف، والتسوية في الوجه الثاني لا تقتضي التخفيف، فإنه يمكن تسوية القبر مع كثرة التراب، كما يمكن مع قلته.

ويردّه أيضًا عدم صلاحية هذا المعنى لأن تُفَسَّر به التسوية في حديث علي. والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد.

الوجه الثالث هو ممكن في حديث فضالة، فيكون المعنى: اجعلوا القبور متساوية لا يزيد قبر على قبر ولا ينقص عنه.

ص: 30

ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حضر دفن جماعة من أصحابه، وقرر كيفية قبورهم، لزم أن تكون تلك القبور هي الإمام، فيُجْعَل كل ما يطرأ من القبور على هيئتها.

ويردُّ بأمرين:

الأول: بما قدمناه أن هذا المعنى لا يأتي في حديث [ص 31] علي، والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد، وقد يُعْتَذر عن هذا بحمل التسوية في حديث عليّ على تسوية القبر المشرف بسائر القبور المعروفة المقررة هيئتها شرعًا.

ويردّه ما

(1)

سبق: أن التسوية إذا أُطلقت كان الأصل أن المراد بها تسوية الشيء في ذاته، لا تسويته بغيره.

الثاني: أن حديث وضع الحجر وغيره يدل على جواز تمييز القبر بعلامة يتعرَّف بها لقصدٍ شرعي. وهذا ينافي التسوية على الوجه الثالث، والتزام التخصيص لا حاجة إليه ما دام اللفظ محتملًا لمعنىً آخر لا يحتاج إلى تخصيص.

على أن هذا الوجه يؤول إلى موافقة المعنى الثاني الذي هو المختار.

المعنى الثاني هو المختار عندي، فالمراد بتسوية القبر جعله سويًّا قويمًا على ما اقتضته الحكمة من غير إفراط ولا تفريط، وذلك على الهيئة التي قررها الشارع للقبور.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بيَّن لأصحابه الهيئة التي ينبغي

(1)

الأصل: "بما".

ص: 31

أن تكون القبور عليها، وبعد أن عَقَلوها وعلموا أنها هي الهيئة السوية القويمة، أمرهم بلزومها في ما يطرأ من القبور، وردّ ما خالفها إليها.

وهذا هو معنى ما في "كنز العمال" ــ إن صح ــ: "سووا القبور على وجه الأرض

" إلخ

(1)

.

[ص 32] وإنما زاد قوله: "على وجه الأرض" تنبيهًا على ما هو الأهم؛ لأن الغالب أن المخالفة إنما تقع في ظاهر القبور بالتجصيص والإشراف والبناء وغيره، وهذه الأشياء منافية لكون القبر سويًّا بالنسبة لما على وجه الأرض منه، فأمر بتسويتها على وجه الأرض.

وأما ما رواه ابن حبيب

(2)

، وفيه:"وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض"؛ فلم يصحّ عندنا، فيلزمنا النظر فيه، على أن الباجيّ قال عقب ذكره: قال ابن حبيب: وينبغي أن يسوّى تسوية تسنيم.

قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: ومعنى ذلك عندي ــ والله أعلم ــ أن يسوَّى نفس القبر بالأرض، ويُرْفع رفع تسنيم دون أن يُرْفَع أصله". اهـ.

أقول: يعني أن تبقى أطرافه مساويةً للأرض، ويرتفع وسطه مسنمًا، كما هي هيئة المسنم الذي يقتصر على إعادة تراب حفرته إليها، وجمعه عليها.

وهذه الهيئة تلاقي الهيئة التي قررها الشارع للقبور، ولكن ليس معنى التسوية هنا، هو المعنى المختار في الحديثين، ولا ضير، فإن هذه الزيادة لم يُعْلَم صحتها كما تقدم، ويمكن أن يكون قوله:"بالأرض" من زيادة بعض

(1)

تقدم (ص 20).

(2)

فيما نقله عنه الباجي، في "شرح الموطأ":(2/ 494)، وسبق نقله (ص 31 - 32).

ص: 32

الرواة، رواه بالمعنى الذي فهمه

(1)

.

[ص 33] حديث ابن حبان: فيه أن من الهيئة المشروعة رَفْع القبر نحو شبر، وهذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وخيارهم فيهم، وهم مجتمعون، فلا يصنعون بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يعلمون أنه المشروع، ولم ينقل عن أحدٍ منهم خلاف، ولا بأيدينا دليل يخالف فعلهم، وعليه فهو حجة.

والأصل عدم الخصوصية، فالذي صُنِعَ بقبره صلى الله عليه وآله وسلم هو المشروع في القبور مطلقًا، أعني مما ذكره ابن حبان. فأما الدفن في المُلك، وفي البناء، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى

(2)

.

ولا يظهر فرق فيما تضمَّنه الحديث بين أن يكون القبر في الملك، وأن يكون في غير الملك، فالظاهر أن ذلك الفعل هو المشروع مطلقًا، ويؤيده ما يأتي إن شاء الله تعالى.

[ص 34] الخلاصة: رفع القبر نحو شبرٍ مشروع

(3)

.

حديث القاسم فيه قوله: "لا مشرفة، ولا لاطئة".

المشرف: المرتفع. واللاطئ: اللاصق بالأرض. فمعناه: أنها ناشزة عن الأرض قليلًا. وقد عُلِم من حديث ابن حبان قدر الرفع ابتداءً، ويحتمل أن يكون تناقص، وعلى كل حال فهو مؤيِّد لحديث ابن حبان في هذا.

وفيه قوله: "مبطوحة

" الخ. ومدار الحديث فيه على هذه الكلمة.

(1)

تقدم (ص 27).

(2)

في (المسوّدة)(ص 27 - 28).

(3)

كتب المؤلف الخلاصة عدة مرات، ثم استقر على هذه العبارة.

ص: 33

فأقول: البطح يأتي على معانٍ:

1 -

بسط الشيء وجعله مسطَّحًا مستويًا.

قال الزمخشري في "الفائق"

(1)

مادة (رفف): " [ابن الزبير رضي الله عنه]

(2)

لما أراد هدم الكعبة

وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس أبْطِحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم وتَعادٍ، فأهاب بالناس إلى بطحه ....

البطح: أن يُجْعَل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي ويذهب التفاوت

". اهـ.

2 -

جعله مرتفعًا ارتفاعًا يسيرًا، وهذا المعنى يؤخذ من الحديث "كانت كِمامُ أصحاب رسول الله [ص 35] صلى الله عليه وآله وسلم بُطْحًا".

قال في "النهاية"

(3)

: أي لازقة بالرأس غير ذاهبة في الهواء. الكِمَام: جمع كُمّة، وهي القُلُنسوة. اهـ.

3 -

إلقاء الإنسان على وجهه، ومنه قوله في حديث الزكاة:"بُطِحَ لها بِقاعٍ قَرْقَر"

(4)

. وقد يستعمل في غير الإنسان تشبيهًا به في ذلك.

4 -

جعل البَطْحاء ــ وهي الحَصْباء ــ على الشيء.

(1)

(2/ 74).

(2)

الأقواس من المؤلف.

(3)

(1/ 83).

(4)

أخرجه مسلم رقم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 34

قال في "النهاية"

(1)

: "وفي حديث عمر أنه أول من بَطَح المسجد، وقال: ابْطَحْه من الوادي المبارك، أي: ألقى فيه البطحاء". اهـ.

فكون القبور مبطوحة بالمعنى الأول يقتضي التسطيح، وقد حاول ابنُ التُّرْكماني

(2)

أن يدفع ذلك فلم يصنع شيئًا، وذلك أنه نقل عبارة "الفائق": "البطح: أن يجعل

" إلخ، كما مر، ثم قال: "فعلى هذا قوله: "مبطوحة" معناه ليست بمشرفة، وقوله:"لا مشرفة ولا لاطئة" يدل على ذلك" اهـ.

وقد كان له أن يقول: إن استواء الشيء وذهاب تفاوته لا يقتضي التسطيح، بل يصح أن يكون المسنَّم مستويًا لا تفاوت فيه، وذلك باعتبار ظاهر سطحه، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوبٌ للصق بجميع [ص 36] أجزاء سطحه، نظير ما قلناه في التسوية، فإن هذا التوجيه لا يخلو من قوة، وإن كان الحق أن "البطح" بالمعنى الأول ينافي "التسنيم"، وبينه وبين لفظ "التسوية" فرقٌ لا يخفى على المتأمل.

وبالمعنى الثاني؛ يقتضي التسنيم فيما يظهر.

وبالمعنى الثالث؛ يقتضي التسنيم قطعًا؛ لأن القبر المسنَّم يشبه هيئة الإنسان المبطوح، ولا سيما مع اعتبار ظاهر القبر ظهرًا له.

وبالمعنى الرابع؛ يقتضي التسطيح على ما ذكره الشافعي في حديث جعفر بن محمد عن أبيه، كما مر

(3)

، قال:"والحصباء لا تثبت إلا على قبرٍ مسطَّح".

(1)

(1/ 134). وصُحّح فيها إلى "ابطحوه" من المصادر الأخرى.

(2)

في "الجوهر النقي": (4/ 3 ــ بهامش سنن البيهقي).

(3)

(ص 23).

ص: 35

ولا أدري ما وجهه، وإنما يمتنع ثباتُ الحصباء على الشيء المسنَّم إذا كان صلبًا، فأما إذا كان ترابًا غير منعقد، فإن الحصباء تثبت عليه كما لا يخفى. فالذي نفهمه أن البطح بالمعنى الرابع لا يقتضي تسطيحًا ولا تسنيمًا.

وأما الترجيح بين هذه المعاني، فالراجح الأخير، [ص 37] لقوله:"ببطحاء العَرْصة الحمراء"، وذلك أن البطحاء على المسيل المتسع الذي فيه صغار الحصى، وتُطلق على نفس الحصى، كما مر.

قال الطِّيبي في "شرح المشكاة"

(1)

: "والمراد به ههنا الحصى؛ لإضافته إلى العرصة" اهـ.

أي: لأن العرصة هي كل موضع واسع لا بناء فيه. وإضافة المسيل الواسع إلى الموضع الواسع غير ظاهرة.

أقول: والباء في قوله: "ببطحاء" تدل على أن المراد بالبطحاء الحصى، وبـ "مبطوحة" موضوع عليها الحصى، وذلك أن الباء على هذا المعنى للتعدية، وعلى غيره للظرفية، ومجيء الباء للظرفية قليلٌ، بخلاف مجيئها للتعدية، كما هو واضح.

[ص 38] ولرجحان هذا المعنى على بقية المعاني استغنينا عن الترجيح بين المعاني الباقية.

ثم الظاهر أن الحال التي كانت عليها القبور حين رآها القاسم هي الحال التي وُضِعت عليها من أول مرة، إذ يبعُد أن يجترئ أحدٌ من الصحابة على تغييرها عما اتفقوا عليه فيها، ويؤيده أنها في بيت أم المؤمنين عائشة،

(1)

(4/ 1412).

ص: 36

وهي من الراسخين في العلم والدين.

ويؤيد مشروعية وضع الحصى مرسلُ محمد بن علي، وإن كان ضعيفًا كما مرّ

(1)

، لكن بشرط أن لا يزيد في رفع القبر؛ لأن قدر الرفع في حديث ابن حبان هو الحاصل من التراب والحصباء، فلا يُزاد عليه.

الخلاصة: رفع القبر قليلًا، وإلقاء الحصى عليه مشروع.

[ص 39] جابر ــ برواية أبي حفص بن شاهين ــ: نصٌّ في أن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه كانت مسنَّمة، ولكننا لم نعلم صحته.

غُنيم بن بسطام المديني: "رأيتُ قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحو أربع أصابع" اهـ.

فيه دليل على أن المشروع ترك تعاهد القبور بالزيادة عليها، وإن نقصت عن القدر المشروع أول مرة، وذلك أن القدر المشروع في الرفع والمصنوع بالفعل في قبره صلى الله عليه وآله وسلم هو نحو شبر، كما في حديث ابن حبان، فدل كونه بعد زمان بقدر أربع أصابع أنه لم يُتَعاهَد بزيادة مع تناقصه، إلا أننا لا نعلم ما صحة هذا الأثر.

[ص 40] إبراهيم النخعي: فيه أن من الهيئة المشروعة الارتفاع ووضع الحصباء ونحوها، إلا أنه لم يصح كما علمت.

سفيان التمَّار: فيه أن من الهيئة المشروعة التسنيم، والظاهر أن تلك الحال هي التي وُضِعَت عليها القبور؛ لأنه لم يثبت أنها كانت مسطَّحة كما علمت، ولأن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه لا يجْسُر أحدٌ أن

(1)

في (ص 23).

ص: 37

يُقدِم على تغييرها عما اتفق عليه الصحابة، خصوصًا في تلك المدة، والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وفي التابعين أئمة فضلاء.

والتغيير الذي وقع في إمارة عمر بن عبد العزيز إنما هو بناء الجدار للاضطرار، ولم يثبت تغيير في هيئة القبر، ولا ضرورة تدعو إليه، ولو احتيج إلى إصلاح زالت به الهيئة الأولى، لما أُرْجِعَ إلا بنحوها. وحسبك بعمر بن عبد العزيز علمًا وورعًا ودينًا، وهو يومئذٍ حاضرٌ وهو الأمير، ولا بد أن يكون استشار من هنالك [ص 41] من العلماء، وعمل بمشورتهم

(1)

.

وقد مرّ أن عمل الصحابة الذي اتفقوا عليه ولا معارض له حجة.

الخلاصة: التسنيم مشروع.

حديث الشعبي: "رأيت قبور شهداء أُحد جُثًى مسنَّمة".

قال في "اللسان": "في حديث عامر: رأيت قبور الشهداء جُثى: يعني: أتربة مجموعة، وفي الحديث الآخر: فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوةً من تراب" اهـ.

ظاهره أنه رأى قبور شهداء أحد كلها كذلك، وهي كثيرة يبعد كلَّ البعد أن تُغيَّر كلُّها عما جُعِلَت عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يتفق [ص 42] الصحابة على تغييرها، أو التقرير عليه، فلو كان قبرًا واحدًا أو

(1)

قال ابن عبد البر في "الاستذكار": (9/ 101): "ومعلوم عند جماعة العلماء أن عمر ابن عبد العزيز كان لا يُنفذ كتابًا، ولا يأمر بأمر، ولا يقضي بقضية إلا عن رأي العلماء الجِلة ومشاورتهم، والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ويرونه من السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسنته، وما كان ليُحْدِث في دين الله ما لم يأذن الله له به مع دينه وفضله" اهـ.

ص: 38

اثنين أو ثلاثة، لجاز تغييرها، فأما نحو أربعين قبرًا فبعيدٌ جدًّا، فدلالة هذا الأثر قوية جدًّا.

الخلاصة: جمع التراب على القبور بهيئة التسنيم مشروع.

مرسل محمد بن علي: فيه أن وضع الحصى على القبر مشروع، وقد مر ثبوته بأثر القاسم، ومر الجواب عن قول الإمام

(1)

: "والحصباء لا تثبت إلا مع قبر مُسَطَّح".

وفيه: أن رشَّ القبر مشروع، وقد رويت فيه أدلة أخرى، وليس هو من محلِّ النزاع، فلم نستوفِ البحثَ فيه.

حديث المطلب: فيه أن من المشروع إعلام القبر إذا احتيج إلى معرفته بعد ذلك؛ لقصدٍ شرعي، وقوله:"عند رأسه" محتمل أن تكون فوق القبر، وأن تكون بجانبه، والثاني هو المتعيِّن، للنهي عن الرفع والزيادة.

ثم لا يخفى أن العلامة إنما يُحْتاج إليها إذا خُشي الاشتباه أو الانطماس، وفي الاحتمال الأول في قبر عثمان نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر الدفن هو وأصحابه، فكيف يُخْشى أن يشتبه عليه قبرٌ مسنَّم نحو شبر حَضَره مع أصحابه، مع أنه ورد أن عثمان بن مظعون أول مدفون بتلك البقعة، وخُصَّت لدفن المسلمين، وكانت سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضر دفن موتاهم جميعًا.

وأما الثاني؛ فلا يخلو من بُعْد؛ لأن القبر إذا كان مسنَّمًا نحو شبر، لم ينطمس إلا بعد سنين.

(1)

أي: الشافعي.

ص: 39

لكن ههنا احتمال آخر، وهو أن يكون تراب الحفرة نقص عن تكوين ارتفاع يسير، وكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيد على القبر من غير حفرته، فاكتفى بوضع حجرٍ عن رأسه، وقد يكون ذلك الحجر من أحجارٍ أُخْرِجت من الحفرة، وكانت هي السبب في نقص تراب الحفرة.

وعلى هذا فلا يكون في الواقع زيادة، بل هي من نفس الحفرة، ومع هذا فالظاهر أنه إذا احتيج للعلامة لم يضر أن تكون من غير الحفرة، ولكن شرطها الاحتياج [ص 46] إليها لقصد شرعي، وأن لا توضع فوق القبر، بل بجانبه عند الرأس، وأن لا تزيد عن قدر الحاجة، لا في القدر، ولا في الهيئة، فإن اختلّ شرطٌ من هذه لم يكن في الحديث دلالة على الجواز، وفي غيره من الأدلة التي ذكرنا بعضها في هذه الرسالة ما يدل على المنع. والله أعلم.

الآثار معناها واضحٌ، وهي مقررة لما ثبت بالأدلة المذكورة.

* * * *

فَذْلكة

(1)

ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة:

1 -

رد تراب الحفرة إليها وجمعه عليها بهيئة التسنيم حتى ترتفع نحو شبر باعتبار الوسط، ولا يُزَاد على ذلك إلا ما ثبت، كوضع شيء من الحصى لا يزيد في الارتفاع، ووضع حجر عند رأس القبر علامة بشرطه.

2 -

إبراز القبر.

(1)

الفذلكة هنا بمعنى الخلاصة.

ص: 40

الحمد لله

الفصل الثاني

[ص 47] تتمّة

هذه هي الهيئة المشروعة في نفس القبر باعتبار ظاهره، فكل ما زاد عنها فهو بدعة ضلالة، يتناوله عموم النهي عن البدعة، كالتسطيح، فإنه ينافي التسنيم، وكالرفع فوق شبر، فإنه ينافي الاقتصار على الرفع نحو شبر، وكالتجصيص، فإنه ينافي كون القبور جُثًى مُسنَّمة وغيره، مع منافاته لعدم الزيادة والبناء على جوانب القبر القريبة، بحيث يسمى البناء قبرًا، فإنه بمعنى الرفع فوق شبر، مع منافاته لعدم الزيادة، سواءً أكان بحجر أم آجُرّ، أم خشب كالتوابيت، أو بغير ذلك، فهذه الأشياء منهيٌّ عنها ما لم يُخَصَّص بعضُها بدليل.

وقد بقي علينا بيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر.

فأقول: الهيئة المشروعة هي ما كان في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عُلِم أنه لم يكن يبني على القبور بناءً واسعًا

(1)

، ولا يُبْنى بناء لتُجْعَل القبور فيه، ولا تُجْعَل القبور في بناء معدٍّ للسُّكْنى.

فأما قبره صلى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص، يأتي بيانه إن شاء الله تعالى

(2)

.

(1)

كذا ضبطه المؤلف على أن الفعل مبني للمعلوم، والذي بعده مبنيّ للمجهول.

(2)

انظر ما سبق (ص 37 ــ 38). ولم يأت شيء آخر بخصوص هذه المسألة.

ص: 41

ولا كانت توضع أستار على القبور، ولا تُنْصَب عليها الرايات، وغير ذلك.

فالهيئة المشروعة عدم هذه الأشياء، فهذه الأشياء ونحوها بدعة ضلالة، يتناولها عموم النهي عن البدعة، وإلا فإنه يُؤخَذ منه النهي عنها بالقياس الجلي، سواءً أقلنا: إن العلة في النهي عن الرفع والتجصيص ونحوه هي كراهية معاملة القبر الذي هو بيت البِلَى بما ينافيه من الإحكام والتزيين. أم قلنا: إنها كراهية تمييز القبر بما قد يؤدي إلى تعظيمه.

وقد ورد التعليل بالأولى عن المذاهب الأربعة.

ففي "المنتهى"

(1)

من كتب الحنابلة متنًا وشرحًا: "وتسنيمٌ أفضل لحديث التمَّار، ولأن التسطيح أشبه ببناء أهل الدنيا". اهـ.

وفي "الأم"

(2)

للإمام الشافعي: "وأحبّ أن لا يُبْنَى ولا يُجَصَّص، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما". اهـ.

[ص 48] وفي "الجوهرة المضية"

(3)

من كتب الحنفية: "قوله: (ويكره الآجُرّ والخشب) لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع البلى". اهـ. ثم حكى تقرير هذا التعليل عن السرخسي.

وفي "شرح الموطأ"

(4)

للباجي من المالكية: "فأما بنيانه ورفعه على

(1)

(2/ 144 ــ مع شرح البهوتي ت: التركي).

(2)

(2/ 631).

(3)

(1/ 427). وهكذا وقع اسم الكتاب عند المؤلف، وصوابه "الجوهرة النيِّرة" وهو شرح لمختصر القدوري لأبي بكر الحدادي.

(4)

(2/ 494).

ص: 42

وجه المباهاة، فممنوع". اهـ.

وورد التعليل بالعلة الثانية عن بعض أهل العلم مستدلًّا بتواتر الأحاديث بلعن من اتخذ القبور مساجد، واشتداد غضب الله عليه، وفي بعضها تفسير ذلك ببناء المسجد على القبر، وصحة الأحاديث بالنهي عن الصلاة في المقبرة، وعن الصلاة إلى القبر، مع ما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا

} الآية [نوح: 23]: أن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم

إلخ. في "صحيح البخاري"

(1)

.

وفي بعض الأحاديث لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا

(2)

.

وصرَّح العلماء في أهل المذاهب أن النهي عن الصلاة إلى القبر خشية أن يؤدّي ذلك إلى تعظيمه، وسيأتي نقل شيءٍ من هذا عند الكلام في المساجد على القبور.

فكل هذا يدلُّ أن خشيةَ أن يؤدي تمييز القبور إلى تعظيمها، أمرٌ يعتبره

(1)

رقم (4920) كتاب التفسير، باب: ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا ....

(2)

ولفظه: "لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". أخرجه أحمد رقم (2030)، وأبو داود رقم (3236)، والترمذي رقم (320)، والنسائي رقم (2043)، وابن ماجه رقم (1575)، وابن حبان رقم (3179). وغيرهم من طرقٍ عن محمد بن جُحادة عن أبي صالح عن ابن عباس به.

وفيه أبو صالح مولى أم هانئ ضعيف مدلس، وقد تفرّد بزيادة "والمتخذين عليها المساجد والسُّرج". فهي من مناكيره، وباقي الحديث له شواهد يتقوى بها.

ص: 43