المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ملحقالنهي عن البناء على القبر - عمارة القبور في الإسلام - المبيضة - ضمن «آثار المعلمي» - ٥ أ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ملحقالنهي عن البناء على القبر

‌ملحق

النهي عن البناء على القبر

(1)

المتبادر أن المراد بالبناء على القبر ما يُبنى لأجل القبر، وهذا هو الذي فَهِمه العلماء، ونحن نعلم أن هذا هو الواقع، ولكن هذا لا يمنعنا أن نثير عليه شبهة لم نَر مَن تعرَّض لها؛ خشيةَ أن يُلَقّنها بعض المحرّفين فيلعب بها دورًا من أدوار التضليل قبل أن يُقيّض الله مَن يكشف عوارها، فرأينا أن نُثيرها لِنُنيرها؛ عملًا بقول أبي عُبادة

(2)

:

إذا ما الجرحُ رُمَّ على فسادٍ

تبيَّن فيه تفريط الطبيب

وللسهم السديد أشدّ حبًّا

إلى الرامي من السهم المصيب

على أني أرجو الله عز وجل أن يجمع لي بين السداد والإصابة، فأقول:

قد يقال: لعل المراد بالبناء المنهي عنه هو ما يكون فيه انتهاك لحرمة القبر، كأن يُبنى بيت للسكنى أو حائط ويجعل الجدار على متن القبر كما هو الحقيقة في البناء على القبر. ويؤيده قَرْنه بالنهي عن الجلوس عليها.

والجواب: أن الحديث مطلق، وجَعْل جدار الدار على متن القبر غير ممكن عادة؛ إذ لابد للبناء من أساس، ومتن القبر لا يصلح أساسًا. وفي كون ذلك هو الحقيقة نظر؛ إذ قد يقال: إنما يكون حقيقة لو استغرق البناء جميع

(1)

من المسودة الثانية (ص 30 ــ 40).

(2)

هو البحتري "ديوان"(1/ 441 ــ 442). والبيت الثاني فيه:

فللسهم السديد أحبّ غبًّا

...........................

ص: 141

أجزاء القبر. وعلى تسليمه فيشاركه في الحقيقة أن يكون البناء مشتملاً على القبر مسقوفًا، فإنه باعتبار السقف يكون على جميع أجزاء القبر.

أما قَرْنه بالنهي عن الجلوس فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو قرنه بالنهي عن التجصيص، وهو أقرب إلى معنى البناء الذي يُقصد به تشييد القبر وتعظيمه من الجلوس إلى معنى البناء الذي يقصد به إهانته؛ لأن التجصيص من جنس البناء كما لا يخفى.

فإن قيل: فإن لم يمكن وضع الجدار على متن القبر فيمكن حفره.

قلت: فكان الظاهر إذن أن ينهى عن حفر القبر؛ لأنه هو المحظور لا أصل البناء إذ لو جَرف سيلٌ قبرًا في بقعة مملوكة أو مَوَات لم يمنع البناء في موضعه، على أن البناء بعد الحفر ليس على القبر، بل هو على موضعه، إذ لابد في الحفر أن يصل إلى قعر القبر ليوضع الأساس على قرار متين كما لا يخفى.

فإن قيل: فهو على القبر مجازًا.

قلت: هو مجاز بعيد لا داعي إلى ارتكابه.

أما إذا قلنا: إن البناء المشتمل على القبر المسقوف يكون على القبر حقيقة، فالأمر واضح لأن الحقيقة مقدمة على المجاز. أما إن قلنا إنه مجاز، فالمجاز القريب المتبادر أولى من البعيد المتكلّف، وقد سبق أن قَرْنَه بالتجصيص يدل على أن المراد بالبناء ما كان للتشييد والاحترام وأنه أدلُّ على ذلك من الجلوس على المعنى الآخر، وهذا واضح.

ويؤيد ما قلناه حديثُ فَضالة كما تقدم، وحديث أمير المؤمنين عليّ كما

ص: 142

سيأتي. بل لو لم يرد إلا أحدهما لكان كافيًا في المطلوب، بل لو لم يرد إلا النهي عن التجصيص لكان كافيًا بدلالة القياس الجليّ كما هو بيِّن، بل لو لم يرد شيء من ذلك لكفى في حظر البناء ونحوه خلافه للسنة مع صيرورته سببًا لضلال طوائف من الأمة كما هو مشاهد، مع أدلة أخرى قد أشرنا إليها في مواضع أخر من هذه الرسالة.

فيتعين أن يكون المراد بالبناء في هذا الحديث هو المتبادر منه والمنافي للتسوية والمناسب للتجصيص والإشراف، أعني البناء المشتمل على القبر، سواء كان ضيّقًا على جوانبه القريبة أم واسعًا. وسواء كان مسقوفًا أم لا.

أما على القول بأن البناء المشتمل على القبر لا يقال له بناء ولو كان مسقوفًا فظاهر؛ لأن المسقوف يكون مجازًا وغير المسقوف مجازًا

(1)

.

وأما على القول بأن المسقوف حقيقة فلأنه لا فرق، فالكُلُّ إحكامٌ للقبر وتمييز له، بل ويقاس عليه البناء بالقرب من القبر غير مشتمل عليه إذا كان لأجله كالمَشاهد، بناءً على أن العلة هي خشية أن يؤدّي تمييزه إلى تعظيمه الذي هو باب الشرك كما تدلّ الأحاديث الصحيحة في النهي عن الصلاة إلى القبور، وأن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، مع ما قاله ابن عباس وغيره من السلف كما في "صحيح البخاري" وغيره في تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24]: إن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم إلخ. ومع السنة المتواترة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد،

(1)

كذا في الأصل.

ص: 143

وفُسِّرت في بعضها ببناء المسجد على القبر، ولَعْن من فَعَل ذلك وقتال الله له، واشتداد غضب الله عليه، مع ما في بعضها مِن لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا= كلّ هذا يدل أن العلة في النهي عن البناء على القبر هي خشية أن يؤدي تمييزه إلى تعظيمه.

وهذه العلة موجودة في كلّ تمييز للقبر مما ذكرنا أو غيره، فكل ذلك مما يتناوله النهي. ومنه القبر في البناء لوجود العلة. وأما قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص سيأتي بيانه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

ص: 144