الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمامة في الجرح والتعديل وتقويم الرجال ومروياتهم؛ ولهذا فإن ما استفاده من شيوخه وما قام به من دراسات وأبحاث حول الروايات ونَقَلَتها كانت حصيلة أساسية استطاع بها خوض لجج هذا الميدان ومتابعة دراسات وجهود من قبله من النقاد.
منهجه في هذا الميدان:
- الرحلة: لقد ولع ابن معين بالرحلة في طلب الحديث والسماع من الشيوخ، فرحل إلى الكوفة ثم البصرة، وزار اليمن والشام ومصر، وتردد كثيرا على بلاد الحجاز حيث وافته المنية بالمدينة المنورة. ونظرا لأهمية الرحلة عند ابن معين فإنه كان يقول: أربعة لا يؤنس منهم رشد، فذكرهم، ومنهم: رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث.
- الإكثار من كتب الحديث: أدرك ابن معين الأهمية القصوى للإكثار من تدوين الحديث وجمعه والوقوف على أكبر عدد من طرقه، إذ من شأن ذلك التأكدُ مِنْ ثبوتِ الرواية وصحتها وصدق الراوي وضبطه عن طريق كشف ما بالحديث من علة أو خلل أو زيادة أو غير ذلك مما قد يطرأ على المتن أو الإسناد. وفي المثال التالي ما يؤكد هذه الحقيقة، قيل لابن معين: الاختلاف الذي جاء عن يحيى بن أبي كثير، هو منه أو من أصحابه؟ فقال: من أصحابه. قيل له: مَنْ أَحَبُّ إليك في يحيى بن أبي كثير؟ قال: الأوزاعي وهشام الدستوائي، قيل له: فأبان بن يزيد؟ قال: وأبان بن يزيد ليس به بأس (1) .
أدرك أهمية هذا فكان يقول: سيندم المنتخب في الحديث حين لا ينفعه الندم، وكان يقول أيضا: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه (2) .
(1) التاريخ ليحيى بن معين برواية الدوري رقم 5279.
(2)
تذكرة الحفاظ 1/430.
وقد بلغ مِنْ كثرة ما كتب من الأحاديث وطرقها المتعددة: أنه كان يرى كل حديث ليس عنده فهو كذب، أكد هذا حينما دخل عليه محمد بن نصر الطبري ووجد عنده أسفاطا (1) كثيرة فقال له:((كل حديث لا يوجد هاهنا - وأشار بيده إلى الأسفاط- فهو كذب)) (2) وأيد كثير من العلماء قوله ذلك فقال أحمد: ((كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث)) . وفي رواية: ((فليس هو ثابتا)) (3) .
وقال ابن المديني مؤكداً كثرةَ كَتْبِه للحديث: "لا نعلم أحدا من لدن آدم عليه السلام كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين"(4) . وصرح ابن معين نفسه بذلك فقال: "كتبت ألف ألف حديث"(5) .
- الإكثار من كتب الحديث عن الكذّابين: إذ كان يكتب أيضا عن الكذّابين والوضّاعين، ورآه أمرا ضروريا للمحدث الناقد حيث قال:"وأي صاحب حديث لا يكتب عن كذَّاب ألف حديث! "(6) .
وقد بيّن ابن معين فضل ذلك فقال: "أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء إنسان بعده فيجعل أبان ثابتا ويرويها عن معمر عن ثابت لا عن أبان» (7) .
(1) الأسفاط مفردها سفط وهي الدفاتر، فارسي معرب، قال الأصمعي: هو بالرومية (انظر مختار الصحاح ص 301 مادة س - ف - ط) .
(2)
تهذيب التهذيب 11/282.
(3)
تاريخ بغداد 14/180.
(4)
تذكرة الحفاظ 1/430.
(5)
المصدر نفسه 1/430.
(6)
تاريخ بغداد 1/43.
(7)
تهذيب التهذيب 1/101.
وإن كتب أحاديث الكذابين تعين النقاد على كشف من يحاول الوضع والكذب عن طريق التستر والانتحال والتلبيس، وتكسبه خبرة ودراية دقيقتين حتى إذا حاول الكذَّابون أو غيرهم رواية تلك الأحاديث سارع إلى كشف حقيقتها وبيان مصدرها.
-اختبار الراوي: كان المحدثون النقاد يختبرون عدالة الراوي وصدقه وضبطه بوسائل مختلفة كمعاودة السماع منه مرات متعددة وطرح أسئلة لاختبار ثباته على المَرْويِّ نفسه، وفي هذا الصدد حُكِيَ قصة امتحان ابن معين بالكوفة (1) .
-طلبه العلم وتفانيه فيه: بهذه الروح المحبة للحديث النبوي ومقاومة الوضع والوضاعين، كان ابن معين يبذل الجهود الكبيرة ويحرص الحرص الشديد على الرحلة وملاقاة الرواة والشيوخ والمذاكرة والحفظ، فيقول:"إني لأحدث بالحديث، فأسهر له مخافة أن أكون قد اخطأت فيه"(2) .
-إمامته في علم الرجال:
لقد أثمرت جهوده المتواصلة وتضحياته الكبيرة، فبوأته مكانة عالية في علم الجرح والتعديل بعدما أكسبته قدرات عالية من اليقظة والذكاء والمقارنة والمعرفة الكبيرة والخبرة الدقيقة بالروايات وحملتها حتى قال فيه الإمام أحمد:((كان ابن معين أعلمنا بالرجال)) (3) وقال فيه أيضا: "هاهنا رجل خلقه الله لهذا الشأن، يُظْهر كذب الكذابين (4) .
(1) تاريخ بغداد 12/353 والمجروحين 1/23.
(2)
تاريخ بغداد 14/184، وانظر أيضا تقدمة المعرفة، ص 316.
(3)
تذكرة الحفاظ 1/430 وتهذيب التهذيب 11/284.
(4)
تاريخ بغداد 14/180. وسير أعلام النبلاء 11/80.
وسماه صاحب الرسالة المستطرفة: "الحافظ المشهور سيد الحفاظ وملكهم وإمام الجرح والتعديل"(1) .
وهذه أمثلة على إمامته في علم الرجال ومعرفته الدقيقة بأحوالهم وبأسمائهم وأنسابهم فعن عباس بن محمد أن يحيى بن معين كان يقول: "إسماعيل بن أبان الغنوي كذاب لا يكتب حديثه، وإسماعيل بن أبان الورّاق ثقة". (2) فتراه يفرق بين راويين يشتركان في الاسم واسم الأب ولا يصدر هذا التفريق إلا بفضل معرفة دقيقة لأحوال الرواة وأسمائهم وأنسابهم. ومما يضاهي المثال السابق أنَّ مِنْ رواة الحديث راويين يقال لكل واحد منهما: إسماعيل بن مسلم وهما معا بصريان، وكان أحدهما ثقة، والآخر متروك الحديث، فقد قال عثمان بن سعيد الدارمي:"سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن مسلم المكي - وكان قد نزل مكة ونسب إليها- فقال: ليس بشيء، قلت: فإسماعيل بن مسلم العبدي؟ فقال: ثقة"(3) .
- صرامته وعدم محاباته في الجرح والتعديل:
لقد برهن النقاد المتتبعون لأحوال الرواة عن نزاهة وتجرد كبيرين، وتخلوا عن الأهواء والشهوات والمحاباة، فهذا يحيى بن معين ينعت عبيد بن إسحاق العطار بأنه كَذَّاب. وكان صديقا له، وحين سأله عبد الخالق بن منصور عن علي بن قرين قال له: كذاب، فقال له: يا أبا زكريا إنه ليذكر أنه
(1) الرسالة المستطرفة 129.
(2)
الكفاية 371.
(3)
الكفاية، 372.
كثير التعاهد لكم، فرد قائلا: صدق إنه ليكثر التعاهد لنا، ولكني أستحي من الله أن أقول إلا الحق (1) .
إن كمال معرفة ابن معين بنقد الرواة، وسعة حفظه وتبحره في هذا الشأن مع ما صاحب ذلك من صرامة في إصدار الحكم على الرواة تعديلا وتجريحا قد أثار الفزع والخوف لدى رواة الأحاديث النبوية، وأرعب قلوبهم.
قال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول مَنْ بَكَّر إليه، فسألته أن يملي علي شيئا، فأخذ الكتاب يملي، فإذا بإنسان يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ قال: أحمد بن حنبل، فأُذِنَ له والشيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرك، فإذا بآخر، فذُكر أحمد بن الدورقي، وعبد الله بن الرومي، وزهير بن حرب، وكلهم يدخل والشيخ على حالته، فإذا بآخر يدقُّ الباب، قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده، ثم يسقط الكتاب من يده (2) .
وعن يحيى بن معين قال: لما قدم عبد الوهاب بن عطاء أتيته فكتبت عنه، فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من أهله من البصرة فقرأه وأجابهم، فرأيته كتب على ظهره: وقد قدمت بغداد وقبلني يحيى بن معين والحمد لله رب العالمين (3) .
- مؤلفاته في علم الرجال:
إن معظم آثار ابن معين هي في ميدان الجرح والتعديل وعلل الأحاديث
(1) تاريخ بغداد 12/51.
(2)
تاريخ بغداد 14/181 والتهذيب 11/284.
(3)
تاريخ بغداد 14/181 والتهذيب 11/184.
وما يتعلق بهما، رواها تلامذته، وأتت بأسماء مختلفة منها:
*كتاب التاريخ (1) : رواية عباس الدوري عن ابن معين.
* معرفة الرجال: رواية أحمد بن القاسم بن محرز عنه.
* سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين في الرجال.
* تاريخ الدارمي عن ابن معين في الرجال.
* الضعفاء: ذكره له الذهبي في مقدمة كتابه المغني في الضعفاء (2) ، والسخاوي في الإعلان بالتوبيخ (3) .
وقد ذكر الدكتور فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي (4) أن من آثار ابن معين كتاب "المجروحين" وذكر عدة مراكز لنسخ مخطوطة منه.
(1) الرسالة المستطرفة 129. وانظر مقدمة المحقق الأستاذ أحمد محمد نور سيف لكتاب التاريخ، 1/61.
(2)
ج 1 ص 4.
(3)
ص 109.
(4)
ج 1 ص 292.