المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مكانة شعبة في علم الرجال: - عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل - عبد العزيز فارح

[عبد العزيز محمد فارح]

الفصل: ‌مكانة شعبة في علم الرجال:

عكرمة عن ابن عباس؟ فيقول: نعم، فأما أنا فلم أكن ألقنه. (1)

وقد روى قتادة عن أبي الأسود الدؤلي قال: "إن سَرّك أن يكذب صاحبك فلقِّنه". (2)

وبالإضافة إلى هذه السبل لمعرفة أحوال الرواة، كان شعبة يرد حديث من يروي ما لا يقبله العقل، قيل له: من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها، علمت أنه يكذب (3) ، بل إن شعبة -مبالغةً في الاحتياط- اشترط في الراوي أن يرى وجه محدثه وقت التلقي، فها هو يوصي أحد تلامذته بذلك قائلا:"إذا سمعت من المحدث ولم تر وجهه، فلا ترو عنه"(4) .

(1) ميزان الاعتدال 2/233.

(2)

المصدر نفسه 2/233.

(3)

المحدث الفاصل 316.

(4)

المصدر نفسه 599، والإلماع ص 137.

ص: 21

‌مكانة شعبة في علم الرجال:

لقد بلغ شعبة بن الحجاج شأوا كبيرا في علم الرجال بفضل هذا التفاني الكبير في تتبع أحوال الرواة، وشدة تمحيصه وتفتيشه وسلوكه مناهج متعددة لكشف صدق الرواة أو كذبهم. لقد أعطت هذه الجهود الكبيرة ثمارها الطيبة ونتائجها المرجوة حيث بلغ من علمه بالرَّاوي أن كان يعرف ما سمع -يعني الراوي- من شيخه وما لم يسمع، فقد روى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال: قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء.

وكان من نتائج هذه المعرفة والخبرة الدقيقتين: أن قتادة نفسه كان يسأله

ص: 21

عن حديثه يعني حديث نفسه. (1)

وقال شعبة أيضا بنفس الروح التي تنم عن هذه المعرفة الكبيرة بالرواة وأحوالهم:" أحاديث محمد بن سيرين عن ابن عباس إنما سمعها محمد عن عكرمة، لقيه أيام المختار وفي رواية أخرى: أحاديث محمد بن سيرين إنما سمعها من عكرمة لقيه أيام المختار ولم يسمع ابن سيرين من ابن عباس شيئا". (2) وقال أيضا في حق شيخه عطاء بن السائب:"إذا حَدَّثَكَ عن رجل واحد فهو ثقة، وإذا جمع فقال: زادان وميسرة وأبو البحتري فاتَّقِهْ، كأن الشيخ قد تغير"(3) . وهذا كلام مَنْ خَبِرَ أحاديث عطاء بن السائب ومحصها حتى غدا عارفا بمواطن الخلل والعلة القادحة فيها.

ولا غرو بعد هذا كله أن يكثر تلاميذه وتكبر حلقات الدروس حوله لأن أصحاب الحديث كانوا يريدون -كما بين ذلك خلف المخرمي- حسن المعرفة بالرجال وبمعرفة الحديث، وهكذا كان هذا المعنى بينا في شعبة، (4) وأن تُسَجِّل له كتب الرجال والجرح والتعديل أقواله في الرواة وتصبح عمدة من يعدل ويجرّح، فهذا ابن عون يأبى الأخذ من أحد الرواة، ولما قيل له مالك لا تحدث عن فلان قال: لأن أبا بسطام تركه. (5)

ولا غرو أيضا أن يصفه سفيان بأنه أمير المؤمنين في الحديث، (6) وأن

(1) المحدث الفاصل ص: 127 وص: 175.

(2)

العلل لابن المديني ص: 60.

(3)

طبقات ابن سعد 6/336.

(4)

تقدمة المعرفة 176.

(5)

تهذيب التهذيب 4/338.

(6)

شرف أصحاب الحديث 115.

ص: 22

يصفه القطان بأنه كان أعلم الناس بالرجال (1) .

ورغم هذه المكانة العليا التي سما إليها فإنه كان متواضعا أشد ما يكون التواضع ومحباً للحديث وطلاب الحديث، فمن تواضعه ما يحكيه وكيع أنه ذكر حديثا عن أبي إسحاق فقال رجل: إن سفيان خالفك فيه، فقال: دعوه، سفيان أحفظُ مني، وفي رواية:"إذا خالفني سفيان في حديث فالحديث حديثه". (2)

ومن حبه للحديث والمحدثين قوله: "كل مَنْ كتبت عنه حديثا فأنا له عبد"(3)، وقوله:"إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه"(4) .

لقد جادت طبقة شعبة بن الحجاج والطبقة التي تلتها بعدد كبير من الجهابذة النقاد الذين كرسوا حياتهم لخدمة الحديث النبوي الشريف من التحريف والتزييف. وإن مجرد عرض أسماء بعض هؤلاء الجهابذة يثبت صحة هذا الحكم ويؤكده، إذ لا يماري أحد في مكانة مالك بن أنس (179هـ) ، وسفيان بن عيينة (198هـ) ، وحماد بن زيد (179هـ) ، ووكيع بن الجراح (199هـ) ، وعبد الله بن المبارك (181هـ) وأبي الوليد الطيالسي (227هـ) ، وأبي داود الطيالسي (203هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (198هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (198هـ)

(1) تقدمة المعرفة 127.

(2)

المصدر نفسه ص: 63 وص: 65.

(3)

جامع بيان العلم 1/ص: 127 وص: 133، الإلماع ص: 227 وص: 230.

(4)

سير أعلام النبلاء: (7/225) .

ص: 23

ثم إن أغلب هؤلاء النقاد الكبار من تلاميذ وخرّيجي مدرسة شعبة بن الحجاج، وقد ورثوا عنه أسس علم الرجال ونهلوا من معينه الفياض ليتابعوا تشييد أركان هذا العلم باجتهاداتهم ودراساتهم الخاصة التي كانت معالم وشواهد على ما بذلوه من جهود متواصلة، وقد تم بالفعل إرساء أسس هذا العلم وأركانه على يد هذه الطبقة، لينصرف اهتمام من جاء بعدهم إلى جمع آرائهم وأقوالهم وعلى التصنيف في متفرقات ما وضعوه من أسس ودعائم. وحتى تظهر لنا بعض جهود هذه الفئة في نقد الرواة وتتبع أحوالهم، يجدر بي استعراض بعض مساهماتهم في هذا المجال.

أ - مالك بن أنس (179هـ)(1)

لقد عاصر الإمام مالك شعبة بن الحجاج، بل لقد كان من شيوخه، وإنما ذكرته مع الطبقة التي تلت شعبة لتأخر وفاته بعده بتسع عشرة سنة، ولا شك أنها مليئة بالعطاء، غنية بالمساهمة في علم الرجال.

من الذي يرد حديثه عند مالك؟ يرى الإمام مالك أن الحديث النبوي «لا يؤخذ من أربعة ويؤخذ من سوى ذلك:

- لا يؤخذ من رجل صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.

- ولا من سفيه معلن بالسفه، وإن كان من أروى الناس.

- ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا أتهمه أن يكذب

(1) مصادر ترجمته: تقدمة المعرفة 19 والانتقاء لابن عبد البر ص 9-63 والمعارف لابن قتيبة 498 والتاريخ لابن معين 2/543-546 والحلية 6/316 وترتيب المدارك 1/102-254 وصفوة الصفوة 2/177 ووفيات الأعيان 4/135 وسير أعلام النبلاء 8/48-136 وتذكرة الحفاظ 1/207 والديباج المذهب 1/82-139.

ص: 24

على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة، لا يعرف ما يحدث» (1)

ومن هذا الكلام وغيره مما ورد عن مالك وأضرابه استلهم المحدثون الذين جاؤوا من بعد القواعد ووضعوا الحدود والتعاريف بما تقتضيه صناعة الحدود والتعاريف من عبارات جامعة مانعة وباستعمال مصطلحات اتفق عليها القوم، وهي من صميم لغتهم.

- معرفة مالك بأحوال الرواة: لقد تكلم الإمام مالك في العديد من الرواة مبينا أحوالهم، حاضا على الأخذ والرواية عن بعضهم لعدالتهم وضبطهم، ومحذرا من بعضهم الآخر لضعفهم أو كذبهم.

فعن عبد الرحمن بن القاسم أنه سأل مالكا عن ابن سمعان فقال: كذاب. (2) وقال بشر بن عمر: نهاني مالك بن أنس عن إبراهيم بن أبي يحيى، قلت: من أجل القدر تنهاني عنه؟ قال: ليس دينه بذاك. وعن هذا الراوي نفسه يسأله يحيى بن سعيد القطان قائلا: أكان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه (3) .

ولقد انعكست معرفة الإمام مالك بالرواة على روايته للحديث النبوي، فكان لا يشق له غبار في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة، ومعرفة الطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة رواة الأحاديث، وفي هذا قال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاءه للرجال

(1) الكفاية ص: 160.

(2)

تقدمة المعرفة 21.

(3)

تقدمة المعرفة ص: 19.

ص: 25

وأعلمه بشأنهم (1) . وقال ابن عبد البر: ومن اقتصر على حديث مالك رحمه الله فقد كُفِي تعب التفتيش والبحث ووضع يده من ذلك على عروة وثقى لا تنفصم، لأن مالكا قد انتقد وانتقى، وخلّص ولم يرو إلا عن ثقة حجة

(2) . وكان الإمام أحمد قد أكد هذه المسألة فقال: "كان مالك من أثبت الناس في الحديث، ولا تبالي ألَاّ تسأل عن رجل روى عنه مالك بن أنس ولا سيما مديني. (3) ولهذا فقد استغرب يحيى بن معين حينما سئل عن أحد رجال مالك فقال: أتريد أن تسأل عن رجال مالك، كل من حدث عنه ثقة إلا رجلا أو رجلين (4) .

بهذا الجواب نفسه وبهذه الثقة نفسها كان الإمام مالك ذاته قد أجاب بشر بن عمر حينما سأله عن رجل، قال مالك: هل رأيته في كتبي، قال: لا، قال: لو كان ثقة رأيته في كتبي (5) . ولا غرابة في أن يكون مالك بهذه الدراية الكبيرة برواة الحديث النبوي، وبهذا التمحيص والمعرفة لأحوال من يبلّغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أُثر عنه أنه كان يشدد في الحديث النبوي في الياء والتاء ونحو هذا.

(1) التمهيد 1/665، وتقدمة المعرفة ص:23.

(2)

التمهيد 1/60.

(3)

تقدمة المعرفة ص: 17.

(4)

المصدر نفسه ص: 24.

(5)

مقدمة صحيح مسلم 1/26 وتقدمة المعرفة ص: 24.

ص: 26

ب- وكيع بن الجراح (199هـ)(1)

ساهم وكيع بن الجرّاح في مسيرة علم الرجال مبيّنا أحوال من ينقلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالدقة المعهودة في غيره من النقاد، من ذلك تتبعه لأحاديث الأعمش عن مجاهد فكان يقول: لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث، وفي رواية أخرى عن عمرو بن علي قال: سمعت وكيعا يقول: كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد فإذا هي سبعة أو ثمانية، ثم حدَّث بها. (2)

وبنفس هذه الخبرة والتدقيق قال: يحيى بن الضريس من حفاظ الناس لولا أنه غلط في حديثين، فذكر حديثا لمنصور. (3)

وقد كان وكيع يُنَفِّر من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين خطورة هذا الجرم ونتائجه الوخيمة. وقد تعرض عليه أحاديث المعلّى

ابن هلال فيقول: "قال أبو بكر الصديق: الكذب مجانب للإيمان". (4) وقوله هذا بمنزلة الحكم على المعلى بن هلال، وهو أيضا جواب توخى منه تذكير الناس بخطورة الكذب في الرواية، وتنفيرهم من الرواية عن الكذَّابين، وقد كان يقول:"هذه بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق". وكان وكيع أيضا إذا أتى على حديث حنظلة بن أبي سفيان يقول: حدثنا حنظلة وكان ثقة ثقة (5) .

(1) مصادر ترجمته: الطبقات لابن سعد 6/394، التاريخ الكبير للبخاري 4/ القسم الثاني 179، تقدمة المعرفة 219.

(2)

تقدمة المعرفة 224 و227.

(3)

المصدر نفسه ص 224.

(4)

المصدر نفسه 225-226.

(5)

تقدمة المعرفة 229.

ص: 27

ج- عبد الله بن المبارك (181?)(1)

كان عبد الله بن المبارك من مشاهير الأئمة النقاد في هذه الفترة، فقد عني بنقد الرجال وتتبع أحوالهم من أجل سلامة السنة النبوية وهو الذي -حين قيل له: هذه الأحاديث المصنوعة؟ - قال كلمته المشهورة: "يعيش لها الجهابذة"(2) . وقال أيضا: ليست جودة الحديث قرب الإسناد، جودة الحديث صحة الرجال (3) .

وتبعا لذلك فقد بيَّن ابن المبارك مَنْ يؤخذ حديثه ومن يُرَدُّ، بناء على أوصاف حددها فقال:(4) "يكتب الحديث، إلا عن أربعة:

- غلاط لا يرجع، وكذاب، وصاحب بدعة وهو يدعو إلى بدعته، ورجل لا يحفظ فيحدِّث مِنْ حِفْظه.

وقال مرة مجيبا وقد سئل عمن نأخذ؟: "من طلب العلم لله، وكان في إسناده أشد، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة"(5) .

وقد تصدَّى ابن المبارك كغيره من النقاد للتفتيش عن أحوال الرواة وكشف حقيقتهم للمسلمين عموما ولطلاب الحديث على وجه الخصوص، وهذا الإمام مسلم يذكر في مقدمة صحيحه عدة أمثلة عن نقده للرجال،

(1) مصادر ترجمته: التاريخ الكبير 3 القسم الأول، تاريخ بغداد 10/152، تقدمة المعرفة 262، تذكرة الحفاظ 1/274، التهذيب 5/362، تاريخ التراث العربي 1/270.

(2)

الكفاية 37.

(3)

أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني ص: 57.

(4)

الكفاية ص: 143.

(5)

تذكرة الحفاظ 1/277.

ص: 28

وكلها تبرز مدى مساهمته في علم الرجال وباعه الكبير فيه، من ذلك أن أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني سأله قائلا: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء أن من البر بعد البر أن تُصَلِّي لأبويك وتصوم لهما مع صومك؟ فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عَمَّن هذا؟

قال: هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال ثقة عمن؟، قال أبو إسحاق: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة عمن؟، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن المبارك: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوزَ تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصَّدَقَة اختلاف (1) .

وأخرج مسلم أيضا بسنده إلى علي بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يَسُبُّ السلف (2) .

وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم بن حماد قال: قلت لابن المبارك: لأي شيء تركوا عمرو بن عبيد؟ قال: إن عمرا كان يدعو، يعني إلى القدر (3) .

ولقد أشاد العلماء بمكانة ابن المبارك وصولته على الضعفاء والوضاعين، فهذا شعبة يقول فيه -وهو شيخه-:((ما قدم علينا من ناحيته مثله)) (4)، وهذا أبو إسحاق الفزاري يقول:((ابن المبارك إمام المسلمين)) ، ويجلس بين يديه

(1) مقدمة صحيح مسلم 1/16 ـ وتقدمة المعرفة ص: 274.

(2)

مقدمة مسلم 1/16.

(3)

تقدمة المعرفة 173.

(4)

المصدر نفسه ص: 265.

ص: 29

يسأله، وهو يكبره بعشر سنين (1) . وتأتي شهادة أخرى على لسان أمير المؤمنين هارون الرشيد حينما قال له أحد الزنادقة وقد أخذه ليقتله: أين أنت من ألف حديث وضعتها. فرد عليه الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك، ينخلانها ويخرجانها حرفا بحرف؟ (2) .

وروى الخطيب في «تاريخ بغداد» قصة اجتماع الناس على ابن المبارك على نحو لا يتم لهارون الرشيد رغم الجند والأعوان (3) .

ولا يستقيم حديث عن علم الرجال في هذه الفترة، وعن مدى مساهمة نقادها الجهابذة دون التعرض بالذكر لعالمين اثنين هما يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن ابن مهدي إذ إنهما من أكثر طبقتهما بحثا عن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمجروحين، حتى كان هذا الشأن تخصصا لهم، لم يتعدوه إلى غيره، وكان للناس بهما وثوق فصار مَنْ وثقاه مقبولاً، ومن جَرَّحاه مجروحاً، لا يندمل جرحه.

د - يحيى بن سعيد القطان (198هـ)(4) :

كان يحيى القطان خير خلف لشعبة بن الحجاج بمدينة البصرة، وهي حقيقة أكدها غير واحد (5) حتى قال فيه الإمام أحمد: ما رأينا مثل يحيى بن سعيد في هذا الشأن ـ يعني في معرفة الحديث ورواته ـ هو كان صاحب

(1) المصدر نفسه ص: 165 وص: 176.

(2)

تذكرة الحفاظ 1/273.

(3)

تاريخ بغداد 10/166.

(4)

مصادر ترجمته: التاريخ لابن معين 2/645 وطبقات ابن سعد 7/293 وتاريخ خليفة 468 وطبقاته، الترجمة: 1909 والتاريخ الكبير 8/276 والمعارف 514 والجرح والتعديل 9/150 وتقدمة المعرفة 232 وحلية الأولياء 8/380 وتاريخ بغداد 14/135 وسير أعلام النبلاء 9/175 وتذكرة الحفاظ 1/298 وتهذيب التهذيب 11/216.

(5)

تقدمة المعرفة 233.

ص: 30

هذا الشأن، فقيل له: ولا هشيم؟ فقال: "هشيم شيخ، وما رأينا مثل يحيى"، وجَعَلَ يرفع أمره (1) .

بل لقد بلغ من مكانته ومعرفته بأحوال الرواة أن كان شعبة بن الحجاج يرتضيه حكما بينه وبين طلبة الحديث إذا اختلف معهم في مسألة من المسائل، فقد روى ابن أبي حاتم أن طلبة الحديث اختلفوا يوما عند شعبة فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما، فقال: قد رضيت بالأحول -يعني يحيى بن سعيد القطان- فلما حضر تحاكموا إليه، فقضى على شعبة، فقال شعبة: ومن يطيق نقدك (2) . وهذه غاية المنزلة كما قال ابن أبي حاتم إذ اختاره شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من ثقته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة.

وما كان لهذا الجهبذ أن يصل إلى هذا الشأو الكبير في معرفة أحوال الرواة ومروياتهم، وكشف علل الأحاديث وخللها، دون أن يصرف الأيام والشهور، بل السنين الطوال في ملازمة العلماء والشيوخ ينهل منهم العلم والمعارف المختلفة، فقد صرح بأنه اختلف إلى شعبة سنة (3) . وحرصاً على طلب العلم والصبر عليه، فقد كان يخرج من البيت لطلب الحديث فلا يرجع إلا بعد العتمة (4) .

ولم تكن هذه الجهود المتواصلة لتذهب سدى، بل لقد أثمرت ثمارها

(1) المصدر نفسه 233.

(2)

المصدر نفسه 232 وانظر أيضا تذكرة الحفاظ 1/299.

(3)

تقدمة المعرفة 249.

(4)

المصدر نفسه ص: 249-250.

ص: 31

الطيبة، فها هو يبيّن للمسلمين مَنْ يؤخذ حديثه ومن يرد، ويؤكد عدالة بعض الرواة وضبطهم، ويفضح آخرين ويكشف ضعفهم أو كذبهم، فيقال له: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله

عز وجل، فيرد قائلا بكل ثقة واطمئنان:"لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: لِمَ لَمْ تذب الكذب عن حديثي"(1) .

يبيّن يحيى بن سعيد القطان مَنْ يؤخذ حديثه من الرواة ومَنْ يُرَدُّ، فيقول:(2) ينبغي في هذا الحديث غير خصلة، ينبغي لصاحب الحديث: أن يكون ثَبْتَ الأخذ، ويكون يفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعاهد ذلك.

ولذلك فإنه كان ينصح طلبة الحديث بتجنب الرواية عن المعتمر بن سليمان لأنه كان سيئ الحفظ، (3)، وبتجنب الرواية عن حنظلة السدوسي لاختلاطه. (4) وحذرهم من الراوي الذي يقبل التلقين فقال:"إذا كان الشيخ إذا قبل فذاك بلاء، وإذا ثبت على شيء واحد فذاك ليس به بأس". (5)

كما كان ينصح بتجنب أخذ الحديث عمن ينسب إلى الخير والزهد (6) ،إذلا مجال هنا إلى حسن الظن، وهو الذي كان يقول: "آتَمِنُ

(1) الكفاية ص: 37.

(2)

المصدر نفسه، ص:165.

(3)

الكفاية ص: 223.

(4)

المصدر نفسه ص: 135

(5)

المصدر نفسه ص: 149.

(6)

التمهيد 1/52: وقد علق ابن عبد البر على كلام القطان فقال: هذا معناه والله أعلم أنه ينسب إلى الخير، وليس كما نسب إليه وظن به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا.

ومعنى كلام ابن عبد البر أن القول بأن من الوضاعين الزهاد لا يمكن قبوله لأنه لا يجتمع الزهد والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الجهابذة الذين حاربوا الوضع والوضاعين كانوا من كبار الزهاد كمالك وابن المبارك وغيرهما، ومع ذلك فإن عددا من الزهاد غلب عليهم الصلاح والزهد وغفلوا عن الحفظ والضبط والإتقان، قال ابن حبان في سلم بن ميمون الزاهد:"كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به".

وقال ابن يونس المصري في رشدين بن سَعْد بن مفلح المهري أبي الحجاج المصري (188 هـ) : كان رجلا صالحا لا يشك في صلاحه وفضله فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث. أساء فيه يحيى بن معين القول ولم يكن النسائي يرضاه ولا يخرج له. (تهذيب التهذيب 3/278) . ضعفه أيضا أبو زرعة وأبو داود وابن قانع والدارقطني والجوزجاني وأبو حاتم (الجرح والتعديل وميزان الاعتدال 2/49 وتهذيب التهذيب 3/278) .

عقد الخطيب في كتابه الكفاية بابا تحت عنوان: باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية وإن عرف بالصلاح والعبادة، ص 158.

وليس من المدفوع أن يكون مَنْ نُسب إلى الزهد من الضعفاء والمجروحين، وذلك من نتائج صرامة المحدثين علماء الجرح والتعديل وعدم محاباتهم في النقد، وقد جرّحوا أحمد بن محمد بن عمرو الكندي المروزي (323 هـ) وكان ممّن ينافحون عن السنة ويردون على المبتدعة؛ قال الدارقطني: كان حافظا عذب اللسان مجردا في السنة والرد على المبتدعة، لكنه كان يضع الأحاديث (تاريخ بغداد 5/74) وقال ابن حبان: كان ممن يضع المتون ويقلب الأسانيد (كتاب المجروحين 1/156) وقال أيضا: على أنه كان من أصلب أهل زمانه في السنة وأنصرهم لها، وأذبّهم لحريمها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه، فلم يمنعنا ما علمنا من صلابته في السنة ونصرته لها أن نسكت عنه، إذ الدين لا يوجب إلا إظهار مثله فيمن وجد

(كتاب المجروحين 1/161-162) .

ص: 32

الرجل على مائة ألف ولا آتَمِنُه على حديث" (1) .

هـ - عبد الرحمن بن مهدي (198هـ)(2) :

(1) الكفاية 247.

(2)

مصادر ترجمته في التاريخ لابن معين 2/359 وطبقات ابن سعد7/297 والتاريخ الكبير 2/283 والمعارف 513. تقدمة المعرفة 251 - تذكرة الحفاظ 1/329 وسير أعلام النبلاء 9/192.

ص: 33

نشأ عبد الرحمن بن مهدي في البصرة أيضا، مشتركا مع يحيى بن سعيد القطان في العديد من الشيوخ وحلقات العلم وطلب الحديث، وتبوأ هو الآخر مرتبة عالية في علم الرجال إلى جانب القطان حتى قال علي بن المديني:((كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس)) -قالها مراراً- (1) بل لقد ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لو أخذت فأحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله عز وجل أني لم أر أحداً أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي"(2) .

قسم عبد الرحمن بن مهدي الرواة من حيث ضبطهم أو عدمه إلى ثلاثة أصناف (3)، وبيَّن إمكان الرواية عن كل صنف أو ردها فقال: رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يُترك حديثه، وآخر يَهِمُ، والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه.

ولذلك فقد كان عبد الرحمن بن مهدي -كما يقول الخطيب البغدادي- لا يترك حديث رجل إلا رجلا متهما بالكذب أو رجلا الغالب عليه الغلط (4) .

وسأله نعيم بن حماد: كيف تعرف الكَذَّاب؟ قال: "كما يعرف الطبيبُ المجنونَ"(5) ولا يفهمنّ من هذا الجواب أن معرفة حال الراوي تكون دائما سهلة متيسرة، فغالبا ما يعسر الوصول إليها ولا يتسنى لغير الجهبذ الخبير

(1) تقدمة المعرفة 251.

(2)

المصدر نفسه ص: 252.

(3)

الكفاية ص: 143.

(4)

الكفاية ص: 143.

(5)

تقدمة المعرفة ص: 252 - تذكرة الحفاظ 1/331.

ص: 34

بلوغها، فدونها خرط القتاد؛ إذ يستحيل ذلك على من لم يدمن الطلب والفحص، وكتب الأحاديث وحفظها، والمذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان

كما قال الإمام الذهبي (1) .

و يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل:

تلت طبقة القطان وابن مهدي طبقة أخرى بلغ علم الرجال عندها الذروة، وبدأ التصنيف في هذا العلم في عصرها، ودونت العلل، من هذه الطبقة الإمام يحيى بن معين (233 هـ) والإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) وعلي المديني (234 هـ) ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ) ومحمد بن عبد الله بن نمير (199 هـ) وإسحاق بن راهويه (238 هـ) وأبو خيثمة زهير بن حرب (234 هـ) .

إلا أنَّ ألزمهم لهذا الشأن وأكثرهم اختصاصا به الإمام أبو زفر يحيى بن معين الذي كان يروي الحديث وينتقد الرواة، فإذا روى كان حجة، وإذا تكلم في أسانيد الرجال كان كالبحر الذي لا تُعَكِّره الدلاء، وكم من عالم شهد له بأنه خلق لهذا الفن (2) .

سمع من مجموعة كبيرة من الشيوخ، أغلبهم صرفوا همتهم إلى نقد الرواة وتمحيص الروايات، ولاشك أن لهذا الأثر الكبير في نبوغه وبلوغه مرتبة

(1) انظر تذكرة الحفاظ 1/4.

(2)

مصادر ترجمته: طبقات ابن سعد 7/354 ـ التاريخ الكبير للبخاري 4 القسم الثاني وتقدمة المعرفة 314-319 وتاريخ بغداد 14/177-178 وطبقات الحنابلة 1/402 ووفيات الأعيان 6/139 وتذكرة الحفاظ 1/459 وسير أعلام النبلاء 11/71 وميزان الاعتدال 4/410.

ص: 35