الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بداية الكلام في الرواة:
يحدث هذا وكثير من الصحابة على قيد الحياة يروون الأحاديث الصحيحة ويقومون حراسا للسنن النبوية، يذودون عنها كل خطر ناشئ، فيقوم واحد منهم وهو حبر الأمة عبد الله بن عباس بالتنبيه على وسيلة أخرى للاحتياط والتثبت في الرواية، فقد جاء بشير العدوي وأخذ يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه سلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس:"إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"(1) . هذا بداية التمييز بين من يقبل حديثه ومن يردّ حديثه، وسيكون ذلك بداية للمطالبة بالإسناد ليعرف مقبول الحديث من مردوده، قال ابن سيرين:"لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"(2) .
وروى الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" عن خيثمة بن عبد الرحم?ن قال: "لم يكن الناس يسألون عن الإسناد حتى كان زمن المختار فاتهموا الناس"، والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي ضال مضل كان
(1) مقدمة صحيح مسلم، ص 15.
(2)
المصدر نفسه.
يزعم أن جبريل ينزل عليه، أحدث فتنا بين المسلمين في العراق وغيره، قتله مصعب بن الزبير سنة 67?، ومن صنيع هؤلاء المطالبين بالإسناد وغيرهم في هذه المرحلة المبكرة سيستلهم نقاد التابعين وأتباعهم أهمية الإسناد في الرواية، وسيبينون للناس شأنه وضرورته، كما وجدنا ذلك عند الأئمة الزهري وابن المبارك ومالك وشعبة وغيرهم.
هكذا استمرت العناية بالحديث النبوي تقيه من التحريف، فظهر نقاد بدؤوا في نقد بعض الرواة وتنبيه الناس لعدم أهليتهم للرواية، من هؤلاء النقاد الحسن البصري الذي تكلم في عطاء الخراساني وعكرمة مولى ابن عباس، ومنهم سعيد بن جبير الذي تكلم في نافع مولى ابن عمر، ومنهم عطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، وعبد الرحم?ن الأعرج وأبو صالح ذكوان بن صالح السمان وابن سيرين. قال الإمام الذهبي:"وأول من زكّى وجرّح، عند انقراض عصر الصحابة: الشعبي وابن سيرين ونحوهما، حفظ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين"(1) .
لكن الأمر لم يكن كثيرا غالبا لقلة الكذب وقلة تعمد التغيير والتبديل، فلم تكن ساحة الكذب كبيرة فما زال الإيمان غالبا على النفوس متمكنا منها ومانعا الناس من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوير شريعته. قال الإمام الذهبي: "وأما التابعون فيكاد يُعدم فيهم من يكذب عمدا ولكن لهم غلط وأوهام، فمن ندر غلطه في جنب ما قد جَلّ احتُمل، ومن تعدّد غلطه من أوعية العلم، اغتُفِر له أيضا، ونُقل حديثه وعُمل به على تردد
(1) معرفة من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، ص 45-46.
بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته، كالحارث الأعور وعاصم ابن ضمرة وصالح مولى التوأمة، وعطاء بن السائب، ونحوهم، ومَنْ فحُش خطؤُه وكثر تفرده لم يُحتج بحديثه، ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين ويوجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم" (1) .
مع بداية المائة الثانية، ومع ازدياد عدد طلبة الحديث النبوي واتساع روايته كثر من يتتبع رواته بالنقد ورواياتهم بالتمحيص وكان ذلك غالبا في مجالس رواية الحديث عبارة عن ملاحظات وتصويبات مزجت بالرواية ضمن خليط من المعلومات والمعارف، كتوثيق الرواة أو تضعيفهم، أو بيان وفاة، أو ضبط غريب، أو بيان مشكل، أو توضيح كنية أو نسب أو غير ذلك.
لكن سرعان ما اتسع أفق علم الرجال وكثر النقاد المتتبعون لأحوال الرواة لكثرة الطلبة الذين أقبلوا على العلم، وكثرة الشيوخ الذين تصدروا مجالس التحديث، فظهر مَنْ يواجه الأحوال الجديدة، ويفضح الكذبة من الرواة، فهذا أيوب السختياني (131?) يذكر يوما أحد الرواة فيقول:"لم يكن بمستقيم اللسان". وقال يوما: "إن لي جارا، ثم ذكر من فضله، ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة". وقال في عبد الكريم -يعني أبا أمية-: "كان غير ثقة
…
"، وقال لسلام بن أبي مطيع ينصحه ليحجم عن الرواية عن أحد الضعفاء: "أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟ " (2) .
(1) المصدر نفسه، ص 46.
(2)
صحيح مسلم، ج 1، ص 23-104.
ومن أبرز النقاد في هذه الفترة الأعمش سليمان بن مهران (148?) الذي كان يجلس في طريق الطلبة. حتى إذا مروا عليه سألهم عن الشيوخ الذين سمعوا منهم، فيوثق مَنْ كان ثقة، ويحذرهم من غير الثقات (1) .
اتسع علم الرجال في هذا العصر أكثر فأكثر حتى ليعد المرحلة التأسيسية الناضجة له، حيث بدأت تعقد المجالس الخاصة به، واشتهر علماء ونقاد كبار متضلعون في الحديث متناً وسنداً يُسألون عن الحديث ورجاله كهشام الدستوائي (154?) وعبد الرحم?ن الأوزاعي (156?) وسفيان الثوري (161?) ومالك بن أنس (179?) ، الذي كان إلى جانب الإمام شعبة بن الحجاج (160?) من أكثر النقاد بحثا عن المحدثين وأغزرهم تتبعا لأحوال الرواة، حيث عُدّ الإمام شعبة:"أول من تكلم في الرجال"(2) . وأول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار عَلماً يقتدى (3) . وحتى وُصف بأنه "كان أمة وحده في هذا الشأن، يعني في نقد الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال"(4) .
(1) انظر كتاب تحذير الخواص من أحاديث القصاص، وكتاب تهذيب التهذيب 4/223، وبحوث في تاريخ السنة ص 33.
(2)
التهذيب 4/345.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه، 4/344، وتاريخ بغداد 9/233.