الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: عناية المسلمين باللغة خدمةً للقرآن الكريم
حازت العربية شرفاً عظيماً؛ إذ نزل القرآن الكريم بلسانها المبين، وقد اصطفاها الله سبحانه لوحيه مِنْ بين لغات البشر، وفي إنزال القرآن الكريم باللغة العربية مَرْتَبَةٌ رفيعة لعِلْم العربية، ووجه الدلالة (1) أنه تعالى أخبر أنه أنزله عربياً في سياق التمدُّح، والثناء على الكتاب بأنه مبين لم يتضمن لَبْساً، عزيزٌ لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه، وذلك يدلُّ دلالة ظاهرة على شرف اللغة التي أُنْزل بها.
وقد عُنِي السلف بالعربية، وأقبلوا على خدمتها على نحوٍ شامل، وأيقنوا أن دراستها والتأليف فيها ضربٌ من ضروب العبادة، يتقرَّبون به إلى الله (2) .
وقد استحقَّتْ خدمة العلماء للغة القرآن الوقوف على أوجه هذه الخدمة وفروعها المختلفة، ولا يَسَعُنا في هذا البحث الموجز إلا أن نشير إلى بعضها باختصار، فمن ذلك:
1 -
التأليف في ((لغات القبائل الواردة في القرآن)) . اجتهد علماء العربية في بيان أصول الألفاظ القرآنية، وعَزَوها إلى قبائلها الأصلية، وبَيَّنوا المعنى المراد باللفظ القرآني لدى هذه القبيلة؛ وذلك لأن القرآن الكريم نزل بلغة قريش التي استقَتْ مِنْ صفوة لغات العرب ما راقَها.
(1) الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي 236.
(2)
لغة القرآن للدكتور إبراهيم أبو عباة 16.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام ((لغات القبائل)) (1) : ((رَغَداً من قوله تعالى: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} (البقرة: 35) يعني الخِصْب بلغة طيئ، و ((الصاعقة)) مِنْ قوله تعالى:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} (البقرة: 55) يعني المَوْتة بلغة عُمان، و ((خاسئين)) من قوله تعالى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة: 65) يعني صاغرين بلغة كنانة، و ((وسَطاً)) من قوله تعالى:{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) يعني عَدْلاً بلغة قريش)) .
وقد أفاد المفسرون كثيراً من معرفة لغات العرب الوادرة في القرآن الكريم، واستندوا إليها في تفسير كثير من الآيات الكريمة، وحدث بينهم مناقشات واختلافات في اعتماد معنى الآية المشهور، أو الاتجاه إلى تفسيرها في ضوء لغات العرب. ومن ذلك قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (الرعد: 31) فهل اليأس في الآية على بابه وهو قطع الطمع عن الشيء والقنوط فيه؟ قال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنَّهم لمَّا سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم، وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم. ولكن فريقاً آخر من أهل التفسير ذهبوا إلى غير ذلك من معنى اليأس فقالوا: هو هنا بمعنى عَلِمَ وتبيَّن. قال القاسم بن معن - وهو من ثقات الكوفيين -: ((هي لغة هوازن)) . وقال ابن الكلبي: ((هي لغة حَيّ من النخع)) ومنه قول سُحَيْم:
(1) لغات القبائل 46.
أقول لهم بالشِّعْبِ إذ يَأْسِرونني
…
ألم تَيْئَسوا أني ابن فارسِ زَهْدَم
ويدلُّ عليه قراءةُ عليّ وابن عباس وآخرين ((أولم يتبيَّن)) (1) .
وهذا العَزْوُ إلى لهجات القبائل في التفسير باب واسع في مصنفات التفسير وإعراب القرآن، أفاد منه العلماء كثيراً في إجلاء معنى طائفة من الآيات، وبيَّنوا المزيد من أوجه دلالاتها.ومن الكتب التي وصلتنا في هذا الجانب:((لغات القرآن)) لكلٍ من أبي عبيد، والوزَّان، وأبي حيان، وابن حسنون.
2 -
وأثرُ دراسة ألفاظ القرآن في كتب ((الأضداد)) واضح، ومن هذه المصنفات كتاب أبي الطيب اللغوي، وكتاب قطرب، وكتاب ابن الأنباري. وهي تورد المفردة اللغوية، وتنصُّ على استعمالها في القرآن والحديث والشواهد الفصيحة من الشعر وأقوال العرب؛ وذلك لأنَّ بعض ألفاظ العربية تُنْبئ عن المعنى وضده في الكلمة نفسها. وقد تَصَدَّتْ هذه الدراسات لبحث مدلول اللفظ المفرد وصلته بالسياق، ومدى اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة. يقول الدكتور محمد زغلول سلام (2) : ((وكان حافز العلماء في الاجتهاد والبحث القرآنَ؛ ذلك لأنَّ المفسِّرين والعلماء الذين شُغِلوا بدراسة أسلوبه قد اعترضَتْهم بعض العقبات، حين اصطدموا بألفاظٍ قد يُفْهم تكرارها في مناسبات مختلفة في القرآن أنها متضادَّة أو مختلفة في معانيها، وذلك بالقياس إلى الشاهد الشعري، ممَّا دعا بعض الطاعنين ومَنْ يثير الشكوك إلى القول
(1) الدر المصون 7 / 51-53.
(2)
أثر القرآن في تطور النقد العربي 165.
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (القصص:23) وبمعنى الحين من الزمان، نحو قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يوسف: 45) ، وبمعنى الملَّة والدين، نحو قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (الزخرف: 23)، وبمعنى الجنس نحو قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) .
وقد أثبت هذا المشتركَ ابنُ فارس في كتابه ((الصاحبي)) (1) ومثَّل له بالعَين، وسيبويه في كتابه (2) ، وأشار إلى أن مِنْ كلام العرب اتفاق اللفظيين واختلاف المعنيين، نحو قولك:((وَجَدْتُ عليه)) من المَوْجِدة و ((وجَدْت)) إذا أرَدْتَ وجدان الضَّالَّة.
وقد خدم العلماء الألفاظ القرآنية التي تسير على هذا القبيل.
ويلخص الدكتور رمضان عبد التواب عوامل نشأة المشترك اللفظي بالاستعمال المجازي، ولم يهتمَّ أصحاب المعاجم بالتفرقة بين المعاني الحقيقية والمجازية للكلمات، والعامل الآخر في نشأته اللهجاتُ؛ وذلك لأنَّ بعض هذه المعاني المجازية نشأ في بيئات مختلفة، ويُضاف إلى هذه العوامل اقتراض الألفاظ من اللغات المختلفة، وينتهي إلى القول بأن المشترك اللفظي لا وجود له في واقع الأمر إلا في معجم لغةٍ من اللغات، أمَّا نصوص هذه اللغة واستعمالاتها فلا وجود إلا لمعنى واحد من معاني هذا المشترك اللفظي (3) .
(1) الصاحبي 114.
(2)
الكتاب 1 / 24.
(3)
فصول في فقة العربية 334.
4 -
وثمة خدمة جليلة خاصة بمعاني المفردات القرآنية قام بها بعض علماء السلف من المَعْنِيِّين بعلوم العربية، ومن ذلك كتاب ((المفردات)) للراغب الأصبهاني، وكتاب ((عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ)) للسمين الحلبي. ومنهج هذا الضرب من التصنيف هو ترتيب موادِّ الكتاب على منهج أوائل الحروف بعد تجريدها من الحروف الزائدة، كما هو الحال في معجم ((أساس البلاغة)) للزمخشري، ثم تُذْكَرُ المعاني اللغوية الواردة داخل المادة، ويستشهد عليها بآيات من القرآن الكريم.
وتُعْنَى هذه المصنفات بالتعريفات اللغوية، وتُعَدُّ مرجعاً أصيلاً في ذلك، وتَدْعم المعاني التي توردها بالشعر والحديث وأقوال العرب.
ومن ذلك قول الراغب (1) : ((الحدوث كون الشيء بعد أن لم يكن، عَرَضاً كان ذلك أو جوهراً، وإحداثهُ إيجاده. قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الأنبياء: 2)، ويقال لكل ما قَرُبَ عهدُه: مُحْدَث)) ، فعلاً كان أو مقالاً، قال تعالى:{حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (الكهف: 70) وكل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث)) . وفائدة هذا الضرب من المؤلفات جمع المعاني الواردة للمادة اللغوية الواحدة في كتاب الله، سواء أكانت اللفظة القرآنية اسماً جامداً أم مشتقاً أم فعلاً، فيمر المصنف بجميع
(1)
المفردات 110.
، فيمر المصنف بجميع هذه المعاني، ويُمَهِّد لها بمعانيها وتعريفاتها.
5 -
استخدم القرآن الكريم طائفة من الألفاظ ((المُعَرَّبة)) ، وقد تصدَّى علماء العربية لها، وردُّوها إلى أصولها. وقد قرر اللغويون أنه من المتعذِّر أَنْ تظلَّ لغةٌ بِمَأْمَنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، ويعني هذا اقتراض هذه اللغات بعضها من بعض، وتأثير إحداها في الأخرى، وهذا ما حدث للُّغة العربية مع جاراتها من اللغات (1) ، ويُطلق على مثل هذه الكلمات التي أخذتها العربية من اللغات المجاورة مصطلح ((المُعَرَّب)) ، ويعني هذا أن تلك الكلمات المستعارة في العربية لم تَبْقَ على حالها تماماً، كَما كانت في لغاتها، وإنما طوَّعها العرب لمنهج لغتهم في أصواتها وبنيتها، وقد طال الأمد على كثير من هذه الألفاظ في الجاهلية، وأَلِفَ الناس استعمالها، وصارت جزءاً من لغتهم، وجاء القرآن فأنزله الله بهذه اللغة العربية التي أصبح بعض هذا المُعَرَّب من مقوِّماتها، فجاء فيه شيء من تلك الألفاظ التي عَرَّبَها القوم من لغات الأمم المجاورة (2) .
ومن المصنفات المشهورة في هذا الميدان ((المُعَرَّب)) للجواليقي.
يقول في مقدمته (3) : ((هذا كتاب نذكر فيه ما تكلَّمَتْ به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول
(1)
فصول في فقه اللغة 359.
(2)
فصول في فقه اللغة 359.
(3)
المعرب 91.
صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وذكرَتْه العرب في أشعارها وأخبارها؛ ليُعْرَفَ الدخيل من الصريح، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة: وهي أن يَحْتَرِس المشتقُّ، فلا يَجْعل شيئاً من لغة العرب لشيء من لغة العجم)) .
ويتحدث الجواليقي عن المذهب الصحيح الذي يراه في مثل هذه الألفاظ فيقول: ((وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقالوا أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرَّبَته فصار عربياً بتعريبها إياه، فهي عربية في الحال أعجمية الأصل)) (1) . ونحن هنا لسنا بصدد تحقيق القول في قبول نظرية المعرَّب أو نفيها عن القرآن الكريم، وغرضنا أن نشير إلى ضرب من الخدمة اللغوية التي نهض لها علماء العربية في سبيل لغة القرآن، وتحليل أصولها.
ومن أمثلة ذلك قول صاحب ((المُعَرَّب)) (2) : ((وإبليس ليس بعربي، وإن وافق ((أَبْلَس الرجلُ)) إذا انقطعَتْ حُجَّتُهُ، إذ لو كان منه لصُرِفَ.
ومنهم مَنْ يقول: هو عربي، ويجعل اشتقاقه مِنْ أبلس يُبْلس، أي: يئس، فكأنه أَبْلَس مِنْ رحمة الله أي: يئس منها، والقول هو الأول)) .
6 -
وبعض دراسات اللغويين اختَصَّ ((بغريب القرآن)) ؛ وذلك لأن القرآن قدَّم للعرب ثروة لغوية واسعة، فاختلف الناس في مستوى أفهامهم لهذه
(1) المعرب 92.
(2)
المعرب 122.
الثروة، ممَّا جعل اللغويين والمفسرين يعكفون على دراسة الغريب لبيان معانيه، والاستشهاد عليه بشعر العرب وأقوالهم.ومن ذلك كتاب ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتيبة، حيث يقول في مقدمته:((وكتابنا هذا مُسْتَنْبَط من كتب المفسرين وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلَّفْنا في شيء منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أَولَى الأقاويل في اللغة وأشبهها بقصة الآية)) (1) .
ويرى الدارسون أن القرآن سبب ظهور علم الغريب بمفهومه العام، وما جرَّ إليه من حركة جمع الشعر والنوادر، وما تبع ذلك من رحلات علمية نشطة إلى البوادي (2) . ومن الكتب التي وصلَتْنَا في هذا الحقل: كتاب ((الغريبَيْن)) : غريب القرآن وغريب الحديث لأبي عبيد الهروي، و ((بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب)) للتركماني، و ((تذكرة الأريب في تفسير الغريب)) لابن الجوزي. وقد خَدَمَتْ هذه المصنفات كتاب الله بأنها اختَصَّتْ بما يراه أصحابها داخلاً تحت مصطلح الغريب، فيمضون في شرحه وبيان آراء العلماء في دلالته، وقد كان في مصنفات الغريب مادة ذات شأن أفادت منها كتب التفسير عبر القرون؛ وذلك لأنَّ المفسِّر لا بد أن يبدأ بالمعنى اللغوي للمفردة القرآنية قبل الشروع في استنباط الأحكام منها.
(1) تفسير غريب القرآن 4.
(2)
المفصل في تاريخ النحو العربي 17.
ومن ذلك ما قاله ابن قتيبة (1) : ((قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (البقرة: 173) أي: ما ذُبح لغير الله، وإنما قيل ذلك لأنه يُذْكر عند ذبحه غيرُ اسم الله فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به، وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابه بالتلبية. واستهلال الصبي منه إذا وُلِدَ، أي صوته بالبكاء)) .
7 -
وثمة دراسات في ((الفروق اللغوية)) أفاد منها المفسرون كثيراً، واختلفَتْ وجهات نظرهم في توجيه كثير من الآيات القرآنية. ومن هذه الدراسات ((كتاب الفروق في اللغة)) لأبي هلال العسكري، يقول في مقدمته:((وجعلت كلامي فيه على ما يُعْرض منه في كتاب الله وما يجري في ألفاظ الفصحاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس)) (2)، ومن أمثلته في كتابه (3) :((الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريقُ إليه والتبيين له، والهداية هي التمكُّن من الوصول إليه، وقد جاءت الهداية للمهتدي في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) ، فذكر أنهم دَعَوا بالهداية وهم مُهْتدون لا مَحالةَ، ولم يَجئ مثل ذلك في الإرشاد، ويقال أيضاً: هداه إلى المكروه، كما قال تعالى:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 33) .
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى وجود الترادف في العربية وقالوا:
(1) تفسير غريب القرآن 69.
(2)
الفروق 2.
(3)
الفروق 203.
لا معنى لإقامة البرهان على جوازه بعد تحقُّق وقوعه، وإنكارُ الترادف جاء من تَعَسُّفات الاشتقاقيين، وهذا مذهب كثير من العلماء كأبي زيد والأصمعي وابن خالويه. وذهب آخرون إلى إنكار الترادف التام بين الألفاظ وأنَّ كلَّ ما يلوح باديَ الرأي أنه من المترادفات إنما هو في حقيقته من المتباينات، على اختلافٍ في قَدْر هذا التباين ووضوحه (1) . ومثال تأثير الفروق اللغوية في تفسير القرآن ما قاله الطبري في تفسير قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (التوبة: 78)، فقد فسَّر الطبري السِّرَّ: بأنه هو ما يُسِرُّونه في أنفسهم من الكفر بالله ورسوله، والنجوى: ما يتناجَوْن به بينهم من الطعن في الإسلام وعَيْبهم لأهله)) (2) وهذا خلاف ما يقول به بعضهم: مِنْ أن السر والنجوى مترادفان بمعنى واحد. فهذا ضرب جديد من الخدمة اللغوية عني به السلف، وكان له أثر في فهم كثير من الآيات، ودلالة ألفاظها.
8 -
وكتب ((المذكر والمؤنث)) رافد من الروافد اللغوية التي خدمت مفردات القرآن الكريم بتصنيفها حسب استعمال العرب لها مذكرةً أو مؤنثة، وقد حفلت هذه المؤلفات بآيات القرآن الكريم؛ لتكون شاهداً على الحكم الذي ذكرَتْه. وقد عَدَّ الأنباري في كتابه ((المذكر
(1) الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن 82.
(2)
تفسير الطبري 10 / 134.
والمؤنث)) هذا الضرب من التأليف ((مِنْ تمام معرفة النحو والإعراب؛ لأن مَنْ ذَكَّر مؤنثاً، أو أنَّث مذكراً، كان العيب لازماً له، كلزومه مَنْ نصب مرفوعاً، أو خفض منصوباً، أو نصب مخفوضاً)) (1) .
4ومن أمثلة ذلك قول الأنباري (2) : ((والنفس إذا أردت بها الإنسان بعينه مذكرٌ، وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وتجمع ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، أنشد الفراء:
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ
…
لقد جار الزمانُ على عيالي
4فحمله على معنى ثلاثة أشخاص، والنفس إذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نُفَيْسة، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: 189) .
4ومن أشهر كتب هذا الضرب من المؤلفات كتاب ابن الأنباري، وكتاب المبرد، وكتاب الفراء. وقد تكون ثمة مفردة قرآنية تحتمل التأنيث والتذكير، ومن ذلك قول الفراء (3) :((السَّبيل يُؤَنَّث ويُذَكَّر، قد جاء بذلك التنزيل، قال تعالى: {هَذِهِ سَبِيلِي} (يوسف: 108)، وقال عز وجل:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} (الأعراف: 146) .
9 -
وثمة مصنفات تتصل بعلوم العربية اتصالاً وثيقاً، وتختص بمواضع ((القطع والائتناف في القرآن الكريم)) ، وهو فنٌّ يساعد على فهم
(1) المذكر والمؤنث 87.
(2)
المذكر والمؤنث 306.
(3)
المذكر والمؤنث للفراء 87.
معاني القرآن، وتدبُّر آياته. قال الزركشي (1) :((وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه تتبين معاني الآيات)) .
والقطع: هو قطع الكلمة عمَّا بعدها وجوباً أو جوازاً، وحدَّد العلماء للمصطلحات المستعملة مواضع، وهذه المصطلحات هي (2) : التامُّ والحسن والكافي والصالح والجيد والبيان والقبيح، فمواضع القطع والائتناف مرتبطة بالمعنى والحكم الإعرابي. وأشهر كتب هذا الفن كتاب النحاس، إذ طبَّق قواعد العلم على القرآن مرتبة بحسب السور. يقول في المقدمة (3) : فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقَّد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام مُسْتغن أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسناً، ولا يقف على مثل {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} (الأنعام: 36) لأنَّ الواقف ههنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لا يسمعون ولايستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون)) .
ومن المصنفات التي وصلَتْنا في هذا الباب ((إيضاح الوقف والابتداء
(1) البرهان 1 / 342.
(2)
القطع والائتناف للنحاس 11
(3)
القطع والائتناف 97.
للأنباري)) ، و ((المكتفى في الوقف والابتدا)) لأبي عمرو الداني، و ((منار الهدى في بيان الوقف والابتدا)) للأشموني.
10 -
وبعض هذه الدراسات المتصلة بعلوم العربية انصبَّ على ((مشكل القرآن)) ، وكان الدافع إليها الحِرْصَ على لغة القرآن، وردَّ المطاعن والشكوك التي أُثيرت حولها (1) . ومن أبرز الكتب في هذا الجانب ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة، وقد حدَّثنا عن خدمته للتنزيل العزيز بقوله (2) :((وقد اعترض كتابَ الله بالطعن مُلْحدون، ولَغَوْا فيه وهجروا، واتَّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، بأفهامٍ كليلة، وأبصار عليلة ونظر مدخول، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قَضَوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن، وفساد النظم والاختلاف. فأحبَبْتُ أن أَنْضَحَ عن كتاب الله، وأرمي مِنْ ورائه بالحجج النيرة والبراهين البيِّنة، وأكشف للناس ما يَلْبِسون)) .
وقد بدأ ابن قتيبة موضوعات كتابه بالحكاية عن الطاعنين والردِّ عليهم في وجوه القراءات، وساق زعمهم في وجود اللحن في القرآن والتناقض والاختلاف والمتشابه، وتكرار الكلام والزيادة فيه، ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، وعقد باباً سَمَّاه ((تأويل الحروف التي ادُّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم)) . ومن أمثلة ما عرضه قولُه: ((فأما
(1) أثر القرآن في تطور النقد العربي 114.
(2)
تأويل مشكل القرآن 22.
ما نحلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} (الرحمن: 39)، وهو يقول في موضع آخر:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92) فالجواب في ذلك أن يوم القيامة يكون كما قال تعالى: {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) ففي مثل هذا اليوم يُسْألون، وفيه لا يُسْألون؛ لأنهم حين يُعرضون يُوقفون على الذنوب ويُحاسَبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن: 37) وانقطع الكلام وذهب الخصام)) (1) .
ويعد باب ((تفسير حروف المعاني)) (2) من مشكل ابن قتيبة مرجعاً رئيساً في أدوات العربية، حيث بيَّن فيه استعمال الحرف مكان حرف آخر في القرآن الكريم، وكان يرفد حديثه بشواهد من الشعر العربي الفصيح، وكان لدراسته أكبر الأثر في توجيه حروف المعاني في القرآن، وقد ساعده على ذلك تمكُّنه من ناحية العربية، واطلاعه الواسع على لغة العرب.
11 -
وأسهمت ((معاجم اللغة)) المنهجية في بيان المعاني المحتملة للمفردة القرآنية، وأوردت أقوال أهل اللغة في ذلك. ومن المعروف أن عملية الجمع المنظَّم لمفردات اللغة وترتيبها في مصنفات معجمية أفادت
(1) تأويل مشكل القرآن 65.
(2)
تأويل مشكل القرآن 517.
الدراسات القرآنية إفادة واسعة؛ من حيث إنها قدّمَتْ فيضاً من الشواهد والأقوال واللغات التي تدور حول المفردة القرآنية، ولا تخلو هذه المعاجم ولاسيما المطولة منها من تفسير غريب القرآن، وضبط ألفاظه، وبيان لهجات العرب المختلفة.
ومن هذه المعاجم ((تهذيب اللغة)) للأزهري، و ((لسان العرب)) لابن منظور، و ((تاج العروس)) للزبيدي. ومن أمثلة الصلة الوثيقة بين هذه المعاجم وتفسير كتاب الله أن صاحب ((اللسان)) في مادة ((يأس)) تعرضَّ لاختلاف أهل اللغة في معاني اليأس وهل يكون بمعنى العلم؟ وأشار إلى اختلاف المفسرين في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (الرعد: 31) وما ينجم عنه في توجيه الآية، وسَمَّى طائفة من القبائل العربية التي تستعمل اليأس بمعنى العلم، وعرض شواهد من الشعر العربي الفصيح التي تدعم هذا الاستعمال.
والواقع أن باب اللغة واسع، بذل السلف من خلاله جهوداً طيبة أسهمت في فهم التنزيل العزيز وتدبُّر آياته، ولم تنقطع هذه الدراسات عبر القرون والأجيال التالية، وحَسْبُنا من القلادة ما أحاط بالعنق.