المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: عناية امسلمين برسم المصحف خدمة للقرآن الكريم - عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم - أحمد محمد الخراط

[أحمد الخراط]

الفصل: ‌المبحث السادس: عناية امسلمين برسم المصحف خدمة للقرآن الكريم

‌المبحث السادس: عناية امسلمين برسم المصحف خدمة للقرآن الكريم

المبحث السادس: عناية المسلمين برسم المصحف خدمةً للقرآن الكريم

لو تأمَّلْنا في تاريخ الكتابة العربية ورسمها الإملائي لوجدناها سابقة للوقت الذي نزل فيه القرآن، ولكن الرغبة الشديدة التي كانت عند السلف للعناية بالقرآن الكريم من حيث تلاوتُه وصيانتُه من اللحن هي التي دفعَتْهم في القرن الهجري الأول إلى التفكير في وسيلة عملية تعصم تالي القرآن من الوقوع في اللحن؛ وذلك لأنَّ أصل كتابته في المصاحف العثمانية كانت خاليةً من رموز الحركات ونَقْط الإعجام، وكان الناس قريبين من موارده الصحيحة، فلم تكن قضية تلاوته تلاوة صحيحة مُعْضِلةً تُشْغل علماء السلف، ولكن بعد اختلاط العرب الفصحاء بغيرهم وفُشُوِّ اللحن، أصبحوا يفكرون فيما يهدي القارئ إلى القراءة الصحيحة (1) . وسوف نشير الآن بإيجاز إلى هذه الجهود التي بذلها علماء العربية في جانبين رئيسين ممَّا يتصل برسم المصحف:

1 -

رموز الحركات:

ثمة روايات تَنْسُب إلى أبي الأسود الدؤلي بداية التفكير في وضع رموز للحركات الإعرابية في سبيل ضبط الرسم العثماني الخالي من هذه الرموز.

(1) فصول في فقه اللغة 113.

ص: 53

وينقل أبو عمرو الداني في كتابه ((المحكم في نقط المصاحف)) رواية عن المبرد يقول فيها (1) : ((لمَّا وَضَع أبو الأسود الدؤلي النحو قال: ابْغُوا لي رجلاً، وليكُنْ لَقِناً. فطُلب الرجل فلم يوجد إلا في عبد القيس. فقال أبو الأسود: إذا رأيتني لفظت بالحرف فضممت شفتيَّ فاجعل أمام الحرف نقطة. فإذا ضممت شفتيَّ بغنة فاجعل نقطتين. فإذا رأيتني قد كسَرْت شفتيَّ فاجعل أسفل الحرف نقطة، فإذا كَسَرْت شفتيَّ بغنة فاجعل نقطتين، فإذا رأيتني قد فتحت شفتيَّ فاجعل على الحرف نقطة، فإذا فتحت شفتيَّ بغنة فاجعل نقطتين)) . قال المبرد: ((فذلك النَّقْطُ بالبصرة في عبد قيس إلى اليوم)) .

وكانت نُقَط الحركات هذه تُكتب بصبغ يخالف لون المداد الذي كُتبت به الحروف ونقطها، فكان ذلك يَشُقُّ على الكاتب؛ إذ يتحتم أن يكتب بقلمَيْن ومدادَيْن مختلفين (2) .

ويبدو أنه قد أتى على صنيع أبي الأسود في شكل الحركات الإعرابية حينٌ من الدهر، ثم طرأ عليها تعديل جديد قام به الخليل الفراهيدي، فقد أورد الداني في ((محكمه)) رواية ثانية عن المبرد يقول فيها (3) :((الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل، وهو مأخوذ من صور الحروف، فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف؛ لئلا تلتبسَ بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف)) . وصنيع الخليل هذا لم

(1) المحكم 6.

(2)

فصول في فقه اللغة 114.

(3)

المحكم 7.

ص: 54

يستقرَّ لدى الكُتَّاب إلا بعد فترة من الزمن، فقد كانوا لا يجرؤون على استخدامه، ويُفَضِّلون عليه نَقْط أبي الأسود بحجة إتباع سُنَّة السلف، وكانوا يُسَمُّون طريقة الخليل بشكل الشعر (1) ، والغاية من هذا الاحتراز صيانة القرآن الكريم من التبديل والتغيير.

وتُعَلِّل مصنفات رسم المصحف شكل هذه الحركات (2)، فالحركات كما هو معلوم: فتحة وكسرة وضمة، فموضع الفتحة من الحرف أعلاه؛ لأنَّ الفتح مُسْتعل، وموضع الكسرة منه أسفله؛ لأنَّ الكسر مُسْتفل، وموضع الضمة منه وسطه أو أمامه؛ لأن الفتحة لمَّا حصلت في أعلاه، والكسرة في أسفله، لأجل استعلاء الفتح وتَسَفُّل الكسر بقي وسطه، فصار موضعاً للضمة.

ويشرح الإمام أبو عمرو الداني (3) طريقة تنقيط التشديد. وثمة مذهبان، أحدهما: أن تجعل علامته أبداً فوق الحرف، وصورة التشديد على هذا المذهب شين. والثاني: أن تجعل علامة التشديد دالاً فوق الحرف المفتوح، وتحته إذا كان مكسوراً، وأمامه إذا كان مضموماً. فأما السكون، فأهل المدينة يجعلون علامته دارة صغيرة فوق الحرف، وآخرون يجعلون علامته خاء، يريدون بذلك أول كلمة خفيف، وبعض أهل العربية يجعل علامته

(1) فصول في فقه اللغة 401.

(2)

المحكم 42.

(3)

المحكم 49.

ص: 55

هاء. قال الداني (1) : ((كان سبب نَقْط المصاحف تصحيح القراءة وتحقيق الألفاظ بالحروف؛ حتى يُتَلَقَّى القرآن على ما نزل من عند الله تعالى، وتُلُقِّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُقِل عن صحابته رضوان الله عليهم، وأدَّاه الأئمة رحمهم الله تعالى، فسبيل كل حرف أن يُوَفَّى حقَّه بالنَّقْط ممَّا يستحقُّه من الحركة والسكون والشدِّ والمدِّ والهمز وغير ذلك، ولا يُخَصُّ ببعض ذلك دون كله)) .

ومن هنا نخلص إلى أن جهود علماء السلف في شكل الفتحة والضمة والكسرة والسكون والتشديد بدأت منذ وقتٍ مبكر، واختلفت اتجاهاتهم في ذلك، إلى أن استقرَّ الأمر على صنيع الخليل الفراهيدي الرجل الفذِّ الذي كان له جهود كبيرة في تاريخ علوم العربية.

2 -

نقط الإعجام:

أعجمتُ الكتابَ إعجاماً إذا نَقَطْتَه، وكتاب معجم: منقوط. والحروف المعجمة مثل الباء والتاء والثاء والنون. ومَنْ يتتبَّع الروايات التاريخية المختلفة في تاريخ الكتابة العربية يجد أن أبا الأسود الدؤلي وتلاميذه، وهم نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز ويحيى بن يعمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن، هم الذين قاموا بنقط الإعجام، وهو اتخاذ نقط جديد للحروف المعجمة في المصاحف الخالية منها، تمييزاً لها من الحروف المهملة. ويذكر الإمام الداني في

(1) المحكم 6.

ص: 56

((محكمه)) رواية يحيى بن أبي كثير حيث يقول (1) : ((كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النَّقْط على الياء والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا فيها نُقَطاً عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم)) .

ويرى الداني (2) أن الصدر من السلف أخْلَوا المصاحف من التنقيط والشكل؛ لأنهم أرادوا الدلالة على بقاء السَّعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حَدَثَ في الناس ما أوجب نَقْطَها وشكلَها.

وقد سُئِل الإمام أحمد عن نَقْط القرآن (3) فأجاب: ((أمَّا الإمام من المصاحف فلا أرى أن يُنَقَّط، ولا يُزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأمَّا المصاحف الصغار التي يتعلَّم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأساً)) .

ومثل هذه الروايات تُنْبئ عن خشية السلف الاجتراءَ على القرآن بالتبديل والتغيير؛ لأن مثل هذا التنقيط في العصور المتقدمة كان فيه مجال للاجتهاد، ولم يستقرَّ أمره بعد، ومن هنا اختلف اجتهاد السلف في نقاط الإعجام ما بين مترخِّص ومانع.

ويذكر الإمام الداني (4) أن الذي دعا السلف إلى نَقْط المصاحف بعد أن

(1) المحكم 2.

(2)

المحكم 3.

(3)

المحكم 11.

(4)

المحكم 18.

ص: 57

كانت خاليةً من ذلك وعاريةً منه وقت رسمها وحين توجيهها إلى الأمصار ((ما شاهدوه من أهل عصرهم، مع قُرْبهم من زمن الفصاحة، ومشاهدة أهلها مِنْ فساد ألسنتهم، واختلاف ألفاظهم، وتغيُّر طباعهم، ودخول اللحن على كثير من خواصِّ الناس وعوامِّهم، وما خافوه مع مرور الأيام وتطاول الأزمان مِنْ تزيُّدِ ذلك وتضاعُفه فيمن يأتي بعد

لكي يُرْجَعَ إلى نَقْطها، ويُصار إلى شكلها عند دخول الشكوك وعدم المعرفة، ويتحقق بذلك إعراب الكَلِم وتُدرك به كيفية الألفاظ)) .

وثمة روايات تاريخية تُرجع عصرَ نَقْطِ الإعجام إلى زمن الصحابة وقبل أن يُكتب المصحف الإمام في عهد عثمان رضي الله عنه. وقد أشار بعض المؤرخين (1) إلى وثيقةٍ من وثائق البُرْدي، يرجع عهدها إلى عام 22هـ، وفيها حروف منقوطة.

كما أن الفراء (2) نقل عن سفيان بن عيينة أن زيد بن ثابت وجد حجراً مكتوباً عليه آية من غير تنقيط فنقَّطها، كما أن بعض الصحابة كره النقط، ودعا إلى تجريد المصحف منه كعبد الله بن مسعود (3) . وليس المقام هنا تحقيق مَنْ بدأ بهذا العمل الجليل، وإنما المقام أن نشير إلى أن غَيْرة علماء العربية من السلف على القرآن هي التي دفعَتْهم إلى هذين العملين: نقط الإعجام والحركات.

(1) المفصَّل في تاريخ النحو 68.

(2)

معاني القرآن 1 / 172.

(3)

المحكم 10.

ص: 58

وسارت الكتابة العربية على الصورة التي نجدها في الرسم العثماني، ولكن اتساع استخدام الكتابة العربية في القرون الهجرية الأولى أظهر الحاجة إلى قواعد للكتابة تكون أكثر تحديداً وضبطاً، فاتجه علماء السلف منذ القرن الهجري الثاني إلى تكميل ما قد يبدو في الكتابة العربية مِنْ ثَغَرات، وسَعَوْا إلى توحيد ما في الكتابة الأولى من قواعد متعددة (1) . قال ابن درستويه (2) :((ووجدنا كتاب الله عز وجل لا يُقاس هجاؤه، ولا يُخالَفُ خطُّه، ولكنه يُتَلَقَّى بالقبول على ما أودع المصحف)) . والمذهب الذي نذهب إليه في هذه المسألة هو مذهب الجمهور في وجوب التزام الرسم العثماني في المصاحف، وذلك في كل زمان ومكان؛ خشيةَ تَسَرُّب الفوضى والاضطراب إلى رسمه، لو فتحنا باب كتابته بالرسم الإملائي المعاصر. وقد سُئِل الإمام مالك: أرأيت من استكتب مصحفاً اليوم، أترى أن يُكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ قال:((لا أرى ذلك، ولكن يُكتب على الكتبة الأولى)) (3) .

(1) رسم المصحف 735.

(2)

الكُتَّاب 16.

(3)

المقنع في رسم مصاحف الأمصار 119.

ص: 59