الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: عناية المسلمين بتوجيه القراءات في ضوء العربية خدمة لقرآن
…
المبحث الخامس: عناية المسلمين بتوجيه القراءات في ضوء العربية خدمةً للقرآن
ثمة ارتباط وثيق بين القراءات القرآنية ولهجات القبائل العربية، وقد كان مِنْ حكمة نزول هذه القراءات أن يَسَّرَتْ تلاوة الوحي الكريم والتعامل معه، على الرغم من أن اللسان العربي تتعدَّد لهجاته على نحوٍ واسع. وفي الفترة التي سبقت نزول القرآن كان للهجة قريش السيادة على اللهجات العربية الأخرى في شبه الجزيرة العربية. وقد بلغَتْ قريش هذه المنزلة بعد مراحل عديدة من احتكاك اللهجات العربية بها، وذلك بفضل موقعها الديني؛ فهي المشرفة على خدمة الكعبة المشرفة، وتَهْفو إليها أفئدة العرب جميعاً، وبفضل النشاط التجاري الذي كانت قريش تعقده في حواضرها، وكانت اللهجة القرشية تستقي من لهجات القبائل ما تحتاج إليه من صفوة اللغات، حتى تمَّ تكوينُها قُبَيْل نزول الوحي.
وقد اشتملت لهجة قريش على خصائص كثيرة من لهجات القبائل الأخرى؛ إذ استوعبت صفوة العناصر الحميدة لهذه اللهجات. فإذا قلنا: إن القرآن نزل بلغة قريش فليس معنى هذا أننا نَغُضُّ الطرف عن تأثير اللغات الأخرى في مفردات القرآن ونسيجه الصوتي، وإنما نقصد أن لغة قريش هي اللغة النموذجية العالية التي تكوَّنَتْ عبر مراحل عديدة، واشتملَتْ على
خصائص لهجات العرب الأخرى (1) . وقد تكفَّلَت كتب ((لغات القبائل)) بإسناد كل مفردة قرآنية إلى أصل قبيلتها التي انحدرت منها، على نحو ما تبيَّن لنا في موضوع اللغة.
والحق أنَّ هذا التطور التاريخي للهجة قريش التي نزل بها القرآن كان مَحْمَدة لصالح العرب جميعاً؛ وذلك لأنَّ هذه اللهجة أصبحت لغة الأدب والشعر وقاسماً مشتركاً لدى جميع القبائل، ولو كانت لهجة قريش مقصورةً عليها غير معهودة عند العرب لما استطاعت هذه القبائل أن تحقِّق الانتفاع بالقرآن الكريم والتعامل معه لأنه بلهجةٍ غيرِ لهجتها (2) ، وبذلك صار تحدِّي القرآن للعرب جميعاً يقوم بغرضه الذي سِيق من أجله، فهو معجزٌ بالإضافة إلى قبائلهم كلها،، ولو كان التحدي مُوَجَّهاً إلى قبيلة قريش وحدها لقيل: إن القرآن جاء بما لا قدرةَ للعرب على جنسه (3) .
وقد بذل النحاة جهداً فائقاً لخدمة القرآن بمختلف قراءاته المتواترة والشاذة، فوجَّهوها بالتعليل المستند إلى الأصول المعتمدة عندهم، واستشهدوا على ذلك بالشواهد الفصيحة التي جمعوها من البوادي عبر رحلاتهم العلمية المديدة، وقد استندوا إلى هذه القراءات في تأصيل قواعدهم، وإرساء معالم الصناعة النحوية والصرفية، وضبط مفردات اللغة. ومن المعلوم أن للقراءات الصحيحة شروطاً ومعايير تجعلها مقبولة، وقد اعتمدها النحاة واللغويون
(1) انظر: فصول في فقه اللغة 77، وأثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية 15.
(2)
أثر القراءات في الدراسات النحوية 16.
(3)
المصدر نفسه 16.
والبلاغيون، واستنبطوا منها الأصول التي بَنَوْا عليها علومهم، وما خالف شروط القراءة الصحيحة عَدُّوه شاذاً.
وقد تحدث ابن جني عن الاحتجاج بالنوعين في مقدمة كتابه ((المحتسب)) (1) فذكر ((ضرباً اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار، وهو ما أودعه ابن مجاهد كتابه الموسوم بقراءات السبعة، وهو بشهرته غان عن تحديده، وضرباً تعدَّى ذلك، فسمَّاه أهل زماننا شاذاً، أي: خارجاً عن قراءة القراء السبعة المقدَّم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات مِنْ أمامه وورائه، ولعله أو كثيراً منه مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه، نعم وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنُف بغيره فصاحته (2) ، وترسو به قدم إعرابه. لكن غرضنا منه أن نُري وجه قوة ما يُسَمَّى شاذاً، وأنه ضارب في صحة الرواية بجِرانه، آخِذٌ من سَمْتِ العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يرى مُرىً (3) أن العدول عنه إنما هو غضٌّ منه أو تهمة له)) .
فالقراءات المتواترة والشاذة حجة عند أهل العربية، وإن كانت الأُولى أعلى قدراً. وقد صنف علماء العربية ثلاثة أنواع من المصنفات لخدمة القراءات في ضوء صناعتهم: الضرب الأول يختص بالمتواتر، ومنه ((الحجَّة))
(1) المحتسب 1 / 32.
(2)
يريد أن فصاحته متفوقة.
(3)
أي: يظن ظان.
للفارسي و ((الكشف)) لمكي، والضرب الثاني يختص بالشاذِّ، ومنه ((المحتسب)) لابن جني، و ((إعراب القراءات الشاذة)) للعكبري، والضرب الثالث يجمع بين المتواتر والشاذِّ ومنه ((البحر المحيط)) لأبي حيان، و ((الدر المصون)) للسمين الحلبي. ويبدأ كل مصنف من هذه المصنفات بذكر صاحب القراءة وضبط قراءته، ثم يشرع في توجيهها حسب قوانين الصناعة، ويعربها ويشرح معناها، ويستشهد عليها من شعر العرب ومنثورهم، وقد يجتهد في إيجاد وحدة معنوية بين قراءتين أو أكثر، وقد لا يكون ثمة وحدة فيسعى المؤلف في التوجيه الذي يراه في ضوء علوم العربية المختلفة، مِنْ لغةٍ ونحو وصرف وبلاغة. ويمكننا أن نضرب ثلاثة أمثلة يمثِّل كل مثال منهجاً من مناهج التأليف المذكورة:
ذكر الشيرازي في ((الكتاب الموضِّح في وجوه القراءات وعللها)) (1) أن حمزة وحده قرأ {أَسْرَى} (البقرة: 85) بغير ألف؛ وذلك لأنَّ ((أَسْرى)) أقيس من ((الأُسارى)) ؛ لأنَّ فَعِيلاً إنما جاء جَمْعُه على فَعْلى نحو: قتيل وقَتْلى، وجريح وجرحى، وأصل ذلك إنما يكون لِما كان بمعنى مفعول، وقد حُمِل عليه أشياء وقعَتْ مقاربةً له في المعنى نحو: مَرْضى، لمَّا كان هؤلاء مُبْتَلين بهذه الأشياء التي وقعت على غير اختيارهم، شُبِّهوا بالجرحى، إذ كانوا أيضاً كذلك. وقرأ الباقون ((أُسَارى)) . ووجه ذلك أن ((أسيراً)) جُمع ههنا على ((أُسارى)) تشبيهاً بكُسالى، لَمَّا كان الأسير ممنوعاً عن
(1) الكتاب الموضح 1 / 288.
الكثير مِنْ تَصَرُّفه شُبِّه بالكسلان الذي يمتنع عن ذلك، بما فيه من العادة المذمومة التي هي الكسل، فلمَّا أشبهه في المعنى شاركه في الجمع على فُعالى)) .
ويُخَرِّج ابن جني في ((المحتسب)) (1) قراءة الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعيسى الهمداني {وَقُودُهَا النَّاسُ} (البقرة:24) فيقول: ((هذا عندنا على حذف المضاف أي: ذو وُقودها، أو أصحاب وُقودها الناس، وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس، لكن قد جاء عنهم ((الوَقود)) بالفتح في المصدر لقولهم: وَقَدَت النار وُقوداً، ومثله أَوْلَعْتُ به وَلوعاً، وهو حسن القَبول منك، كلُّه شاذ والباب هو الضم)) . ويأتي ابن جني بتخريجات أخرى لهذه القراءة على منهجه في الاستشهاد بلغات العرب وأشعارها.
وأشار صاحب ((الدر المصون)) (2) إلى ست وعشرين قراءة في قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (الأعراف: 165) ، وبدأ بعَزْو كل قراءة إلى أصحابها، ثم عُني بضبطها ضبطاً مفصَّلاً، ثم مضى يُخَرِّج كل قراءة على حِدة، سواءٌ أكانت متواترة أم شاذة في ضوء الصناعة العربية؛ ليكون لها وجهٌ من القبول والتوجيه، ثم ذكر أن أبا البقاء العكبري أضاف أربع قراءات أُخَر، وختم كلامه بقوله: ((فهذه ست وعشرون قراءة في هذه اللفظة، وقد حرَّرْتُ
(1) المحتسب 1 / 63.
(2)
الدر المصون 5 / 496.
ألفاظها وتوجيهها بحمد الله تعالى)) .
وهكذا اشتغل النحاة بتوجيه القراءات القرآنية، وليس غريباً أن يكون النحاة الأوائل الذين بنَوا صَرْحَ هذا العلم هم من القرَّاء كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد، ولعلَّ اهتمامهم بهذه القراءات دفعهم إلى الدراسة النحوية المفصَّلة؛ لكي يلائموا بين ما سمعوا من القراءات وما روَوْه من كلام العرب (1) .
وقد اجترأ بعض النحاة والمفسرين على تضعيف طائفة من القراءات المتواترة، التي خالفَتْ أصولهم المقررة في اللغة أو النحو والصرف، كما اجترؤوا على رَمْيها بالتخطئة، أو الخروج عن سنن العربية؛ ممَّا جعل فريقاً آخر من النحاة يَرُدُّون عليهم، ويُثْبتون خطأ هذا المنهج في التسرُّع إلى تضعيف قراءات تشتمل على شروط القراءة المتواترة. وفي هذا الإثبات والردِّ على المتسرِّعين مَحْمَدة حَفِظت لهذه القراءات هيبتَها، واستنادها إلى وجه صحيح، فالحكم على رَفْض ما تواتر بحجةٍ واهية ليس بالأمر السهل، وبذلك أصبح علم توجيه القراءات علماً أصيلاً يَرُدُّ على الطاعنين، ويجيب عن تعليلها الذي يُبَيِّن وجهها في المعنى أو الصناعة. ومن ذلك (2) قوله تعالى {إِلَى بَارِئِكُمْ} (البقرة: 54) فقد رُوي عن أبي عمرو بن العلاء في الهمزة الكسر والاختلاس، وهو الإتيان بحركة خفيَّة، والسكون المحض، وهذه الأخيرة قد
(1) انظر أثر القراءات في الدراسات النحوية 55.
(2)
الدر المصون 1 / 361.
طعن عليها جماعة من النحويين، وَنَسبوا راويَها إلى الغلط على أبي عمرو. قال سيبويه (1) :((إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سكَّن ولم يضبط)) . وقال المبرد: ((ولا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر، وقراءة أبي عمرو لحن)) .
وبعد أن عرض السمين أقوالهم في تلحين القراءة وتضعيفها ينبري للردِّ عليهم، وتوجيهِ قراءة أبي عمرو، فيقول:((وهذه جرأةٌ من المبرد وجَهْلٌ بأشعار العرب؛ فإن السكون في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً، ومنه قول امرئ القيس (2) :
فاليومَ أشربْ غير مُسْتَحْقِبٍ
…
إثماً من الله ولا واغلِ
فسكَّن ((أشربْ)) . وقال جرير (3) :
سِيروا بني العمِّ فالأهوازُ منزلُكُم
…
ونهرُ تِيرى فما تعرفْكم العربُ
فهذه حركات إعراب وقد سُكِّنَتْ. وقراءة أبي عمرو صحيحة؛ وذلك أن الهمزة حرف ثقيل، ولذلك اجْتُرئ عليها بجميع أنواع التخفيف، فاستثقلت عليها الحركةُ، فقُدِّرت، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رحمه الله في قوله تعالى:{وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا} (فاطر: 43) فإنه سكَّن همزة ((السَّيِّئ)) وصلاً، والكلام عليهما واحد، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبل الهمزة راءً مكسورة، والراء حرف تكرير، فكأنه توالى ثلاث كسرات، فحَسُن
(1) الكتاب 2 / 297.
(2)
ديوانه 122.
(3)
ديوانه 48.
التسكين، وليت المبرد اقتدى بسيبويه في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عدم الجرأة عليه، وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التخفيف، ولذلك يُدغم المثلين والمتقاربين، ويُسَهِّل الهمزة ويُسَكِّن)) .
وهكذا نصل إلى أنَّ علماء العربية خدموا قراءات القرآن الكريم بالتوجيه والشرح، وبيَّنوا أصولها، وحقَّقوا في صلتها بقواعدهم الصناعية، ورَدُّوا على المجترئين عليها بالتلحين أو التضعيف، وتجاوزوا المتواتر منها إلى الشاذِّ، وتَعَدَّدت مناهجهم وطرقهم في هذه السبيل.