الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: عناية المسلمين بالنحو خدمةً للقرآن الكريم
اكتسب المسلمون معارف غزيرة من الوحي الكريم، وكان من ثمار ذلك توجُّههم نحو طلبِ العلم والسعي في مدارسته، ومن هنا جاء الحرص على خدمة القرآن الكريم، بحسب ما توفَّر لديهم من وسائل وقدرات علمية. وإذا كان جَمْعُ القرآن يمثل الخطوة الأولى في سبيل العناية بالقرآن الكريم، فإنَّ وَضْعَ علم النحو يمثل الخطوة الثانية في سبل المحافظة على سلامة أداء النص القرآني، بعد أن أخذ اللحن يشيع على ألسنة الناس (1) ، ولم يكن نزول الوحي الكريم قلباً للجوانب العَقَدية في حياة الناس فحسب، بل كان أيضاً قلباً للعادات اللغوية التي نشؤوا عليها، إذ واجه العرب في قراءة القرآن ظواهر لم يكونوا في سلائقهم التي فُطِروا عليها متفقين، وكان منها تعدُّد اللهجات، واختلافها في القرب مِنْ لغة القرآن أو البعد عنها، ولهذه اللغة من قواعد النطق ما لا يسهل إتقانُه على جميع المتلقِّين يومئذ، ولابد لهم من المران حتى يألفوا النص الجديد (2) .
وقد أجمع الذين تصدَّوا لنشأة علوم العربية على أن القرآن الكريم كان الدافع الرئيس لعلماء السلف لوَضْع علم النحو والإعراب؛ وذلك لأنَّ ظهور
(1) مراحل تطور الدرس النحوي 28.
(2)
المفصل في تاريخ النحو العربي 32.
اللحن وتَفَشِّيه في الكلام، وزحفه إلى لسان مَنْ يتلو القرآن، هو الباعث على تدوين اللغة، واستنباط قواعد النحو منها، وعلم العربية شأنه شأن كلِّ العلوم تتطلبه الحوادث والحاجات (1) ، وليس ثمة من علم يظهر فجأة من غير سابقةِ تفكير وتأمُّل فيما يتعلق به، وهذا قد يستدعي غموض نشأة بعض العلوم ومعرفة واضعها التي ابتدأها.
ويعود التفكير في علم النحو إلى ظاهرة شيوع اللحن والخشية على القرآن منها؛ وذلك لأن رغبة العرب المسلمين في نشر دينهم إلى الأقوام المختلفة أنشأ أحوالاً جديدة في واقع اللغة، ما كان العربُ يعهدونها من قبل، إذ كانت الفطرة اللغوية قبل الإسلام سليمةً صافية. واستمر الحال على هذا في عصر نزول القرآن، بَيْدَ أن الرواة يذكرون أن بوادر اللحن قد بدأت في الظهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك الروايات أنه سمع رجلاً يلحن في كلامه فقال: ((أَرْشِدوا أخاكم)) (2) . ويورد الدارسون بعض الروايات على تَسَرُّب اللحن إلى ألسنة الناس في عهد الخلفاء الراشدين، وذلك أثر من آثار اختلاط العرب الفصحاء بغيرهم من الشعوب غير العربية، ممَّا أضعف السليقةَ اللغوية لديهم.
ويروي القرطبي (3) عن أبي مُلَيكة أن أعرابياً قدم في زمان عمر بن
(1) أصول علم العربية في المدينة 286.
(2)
المستدرك 2 / 439، كتاب التفسير، تفسير سورة السجدة. وقال: صحيح الإسناد.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 1 / 24. وانظر نزهة الألباء 8.
الخطاب رضي الله عنه فقال: مَنْ يُقرئني ممَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجلٌ ((براءة)) ، فقرأ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3) بجرِّ ((رسوله)) . فقال الأعرابي: أوقد بَرِئ الله من رسوله؟ فإن يكن الله بَرئ من رسوله فأنا أبرأُ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فقدعاه فقال: يا أعرابيُّ، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمْتُ المدينة، ولا علم لي بالقرآن فسألت: مَنْ يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: ((أنَّ الله بريء من المشركين ورسولِه)) فقلت: أوقد بَرِئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ((ورسولُه)) . فقال الأعرابي: وأنا أبرأ ممَّن برئ الله ورسولُه منه، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألَاّ يُقرئَ الناسَ إلا عالمٌ باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
ومع مرور الأيام تفشو ظاهرة اللحن في القرآن الكريم، إلى أن أصبحت بلاءً عاماً لا يخلو منه لسان كثير من الفصحاء، حتى الذين تربَّوا في البادية، فقد روى يونس بن حبيب أن الحجَّاج قال ليحيى بن يعمر: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال يحيى: الأمير أفصح من ذلك، فألحَّ عليه فقال: حرفاً. قال الحجَّاج: أياً؟ قال: في القرآن. قال الحجَّاج: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول: ((قل إنْ كان آباؤكم وأبناؤكم
…
إلى قوله {أَحَبَّ} (التوبة: 24) ، فتقرؤها ((أحبُّ)) بالرفع، والوجه أن تُقرأ بالنصب على خبر كان (1) .
(1) طبقات النحويين 28.
ويذكر أن الحجَّاج قرأ ((إنا من المجرمون منتقمون)) (1) وكان كثير من أبناء العرب وُلِدوا لأمهات غير عربيات، فنشأ جيل من هؤلاء الأبناء لديه استعداد لكي يلحن في القرآن وغيره، ممَّا جعل الحاجَة تمسُّ للبدء في وضع ضوابط يُعْرف بها الصواب من الخطأ (2) .
ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل ما شاع في الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية، إذ كان فيه مجموعة من اللغات المتداولة إلى جانب العربية، منها الفارسية والسريانية، وهذا الوسط الاجتماعي سوف يشهد تزاوجاً طبيعياً بين عناصره من اللغات المختلفة، ممَّا أدى إلى اتساع الفوارق بين اللغة الفصيحة واللغة المحكيَّة (3) ، ومثل هذه الفوارق تُقلق أصحاب الغَيْرة على لغة القرآن، وبذلك ترتبط نشأة النحو بجذور الحياة الإسلامية في ذلك الزمن.
وتختلف الروايات وتتضارب في تحديد أول مَنْ شرع يُسَجِّل بعض الظواهر النحوية، أو يبني شيئاً من الضوابط الأولية في فهم العلاقات بين عناصر التركيب اللغوي. يقول الزبيدي (4) : ((فكان أولَ مَنْ أصَّل ذلك، وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هُرْمز، فوضعوا للنحو أبواباً وأصَّلوا له أصولاً، فذكروا عوامل
(1) الآية (22) من سورة السجدة، وانظر: البيان والتبيين 2 / 218.
(2)
المدارس النحوية 12.
(3)
المفصل في تاريخ النحو 31.
(4)
طبقات النحويين 11.
الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف، وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم، ثم وصل ما أصَّلوه من ذلك التالون لهم والآخذون عنهم، فكان لكل واحد منهم مِن الفضل بحسبِ ما بَسَط من القول ومَدَّ من القياس وفَتَقَ من المعاني وأوضح من الدلائل، وبيَّن من العلل)) .
ومر بنا قبل قليل رواية تُرجع الأمر إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ أمر أبا الأسود بوضع النحو، كما روي عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري، ليوجِّه مَنْ يختاره لتعليم العربية؛ فإنها تدلُّ على صواب الكلام (1) . وذكر صاحب ((مراتب النحويين)) (2) أن أبا الأسود أخذ النحو عن علي رضي الله عنه لأنه سمع لحناً، فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفاً، وأشار إلى الرفع والنصب والجر. وذكر صاحب ((نزهة الألباء)) أن عليّاً سمع أعرابياً يقرأ ((لا يأكله إلا الخاطئين)) (3) فوضع النحو.
ويقول الدكتور محمد خير الحلواني: ((ترجع قيمة أبي الأسود الدؤلي في تاريخ النحو إلى أنه هو أولُ مَنْ اتجه بالدراسة اللغوية إلى الاستقراء والاستنباط، وكانت قبله تقوم على محاكاة الأعراب والاختلاط بهم، وحِفْظ الشعر والأنساب، فتحوَّل بها إلى وضع الضوابط الدقيقة، ورَصْد الظواهر
(1) إيضاح الوقف والابتداء 1 / 31.
(2)
مراتب النحويين 24.
(3)
نزهة الألباء 8، والآية (37) من سورة الحاقة.
المتبدِّلة في تراكيب العربية)) (1) .
ارتبطت المعالم النحوية التي تركها أبو الأسود بواقع الحياة اللغوية البسيطة في عصره، وقد عُني في معالمه هذه بدَفع اللحن عن قراءة القرآن، حيث استخرج ضوابط الإعراب بحسب ما توفرَّ لديه من قدرات ووسائل (2) .
وينفي الدكتور شوقي ضيف (3) أن يكون لعصر أبي الأسود علاقة بالشروع في بناء الظواهر النحوية. ولسنا في مقام تحقيق هذه النسبة، بيد أنه يهمنا أن نشير إلى إجماع المؤرخين قديماً وحديثاً إلى أنَّ الدافع الرئيس لهذه النشأة إنما هو قراءة القرآن على نحوٍ صحيح، وتَفَشِّي اللحن لدى عامة المسلمين وخاصَّتهم. وقد تحدث ابن خلدون في ((مقدمته)) (4) عن فساد السليقة العربية ممَّا أدَّى إلى وقوع اللحن في القرآن، وشروع العلماء في حِفْظ اللسان، ولكنه لم يُحَدِّد مَن الذي بدأ هذه الجهود، يقول: ((لمَّا فسدت مَلكة اللسان العربي في الحركات المسمَّاة عند أهل النحو بالإعراب، واستُنْبطت القوانين لحفظها. فاسْتُعْمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، مَيْلاً مع هِجْنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حِفْظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس، وما ينشأ عن الجهل بالقرآن والحديث، فَشَمَّر كثير من أئمة اللغة
(1) المفصل في تاريخ النحو العربي 101.
(2)
انظر: الإيضاح للزجاجي 89، وفيات الأعيان 2 / 535، نزهة الألباء 6.
(3)
المدارس النحوية 18.
(4)
المقدمة 548.
واللسان لذلك وأَمْلَوا فيه الدواوين)) . فابن خلدون يُنَوِّه بهمَّة علماء اللغة في تدوين ما توصَّلوا إليه من نظرات؛ بُغْيَةَ تيسير تلاوة القرآن وفَهْمه.
وفي موضع آخر من ((مقدمته)) ينصُّ على الدافع الرئيس من وراء هذه الحركة العلمية، فيقول (1) :((وخشي أهل العلوم منهم أن تَفْسُدَ تلك المَلَكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا مِنْ مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطَّردة شبهَ الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام وبذلك تكون الخطوة الأولى في صَرْح تأسسيس علم النحو بمنزلة ردٍّ مباشر لتسرب اللحن إلى اللسان العربي بعامة، وإلى القرآن بخاصة، ولابد أن يكون قد صاحَبَ ذلك جهود تمثَّلَتْ في تأمُّل اللغة والنظر في مفرداتها وتراكيبها وشواهدها، فنجم عن تلك الجهود النواة الأولى لعلم النحو والإعراب، وكان الشروع في ضوابط العربية مِنْ قِبَل أصحاب النظر في اللغة. وازدهرت لإنجاز هذه المهمة حركة علمية واسعة، وهذا يدلُّ على شعور بالحاجة اللغوية وبروز التناقض بين المثال المتجسِّد في لغة القرآن والواقع الذي صارت إليه اللغة على ألسنة الناس (2) .
والحقيقة أنَّ كلَّ الروايات التي يسردها المؤرخون مفادُها تعثُّر قَرَأة كتاب الله مِن عامة الناس وخاصتهم، وهي تفسيرٌ لمشاعر الخوف الذي لابس المسلمين مِنْ جرَّاء شيوع اللحن.
(1) المقدمة 546.
(2)
المفصل في تاريخ النحو العربي 73.
ويضاف إلى العوامل السابقة في نشأة النحو الحاجة إلى فهم مناحي التركيب اللغوي ليصار إلى التعامل مع القرآن والاستنباط من أحكامه، وقد عدَّ العلماء الإحاطة بعلوم اللغة والنحو والتصريف من العلوم الرئيسة التي يحتاج إليها المفسِّر لكتاب الله (1) ، ومن هنا نشأ لدى السلف كراهية شديدة تجاه ظاهرة اللحن، وحَضٌّ على اكتساب العربية والتفقه في مواردها، فالخليفة الراشد عمر يقول:((تَفَقَّهوا في العربية؛ فإنها تُشَبِّب العقل وتزيد في المروءة)) (2) . وقال أُبَيُّ بن كعب: ((تعلموا العربية كما تتعلَّمون حِفْظ القرآن)) (3) . وهذا قتادة يقول: ((لا أسأل عن عقل رجل لم يدلَّه عقله على أن يتعلَّم من العربية ما يُصْلح به لسانه)) (4)، أما الأصمعيُّ فيخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعدَه من النار" لأنه لم يكن يلحن، فمهما رَوَيْتَ عنه ولَحَنْتَ فقد كَذَبْتَ عليه)) (5) .
وهكذا جَدَّ علماء العربية من السلف، واجتهدوا إلى أن أقاموا صرح علمٍ من العلوم الإسلامية التي لا يَسْتغني عنها أحد من طلبة العلم، وأصبحت العربية من الدين نفسه، وأصبح تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة إلى
(1) الإتقان 1 / 146،180، 2 / 174.
(2)
طبقات النحويين 13.
(3)
تنبيه الألباب 76.
(4)
المصدر نفسه 71.
(5)
معجم الأدباء 1 / 90، والحديث رواه البخاري في كتاب العلم (فتح الباري 1 / 242) .
الله، وعد كثير من العلماء تعلُّمها واجباً على المرء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (1) :((واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بَيِّناً، ويؤثِّر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإنَّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض، ولا يُفْهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب)) . وكان أبو عمرو بن العلاء يَعُدُّ العربية من الدين لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك فقال: صدق (2) .
وبذلك تتضح لنا الصورة بجلاء، فعلوم النحو والصرف والإعراب مرتبطة من حيث نشأتها ونشاط أعلامها، بالحرص على لغة القرآن لكيلا يعروَها لحن، والحرص على فهم معاني كتاب الله وتدبُّر آياته.
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 207.
(2)
معجم الأدباء 1 / 53.