المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السابع: عنايةالمسلمين بعلم الأصوات خدمة للقرآن الكريم - عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم - أحمد محمد الخراط

[أحمد الخراط]

الفصل: ‌المبحث السابع: عنايةالمسلمين بعلم الأصوات خدمة للقرآن الكريم

‌المبحث السابع: عنايةالمسلمين بعلم الأصوات خدمةً للقرآن الكريم

امتدَّت جهود علماء العربية لتشملَ طرق أداء القرآن الكريم أداء صوتياً صحيحاً، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما عُرِف في دراسات السلف بالتجويد، وعُرِف في دراسات علم اللغة الحديث بعلم الأصوات. والمقصود به إعطاء الحروف حقها، وإخراجها مِنْ مخارجها، ووصف الأصوات التي تخرج من جهاز النطق في الإنسان. والتجويد: مصدر جَوَّد الشيء تجويداً إذا أتى بالقراءة مجوَّدة الألفاظ، بريئةً من الجَوْر عند النطق بها (1) . وقد ترك علماء العربية في هذا الجانب مؤلفات غزيرة تشير إلى نضج وخبرة ومعرفة دقيقة بأصوات العربية، كما توصَّلوا إلى تحليلات دقيقة، وافقت في كثير من جوانبها جهود علم اللغة الحديث الذي توفَّرَتْ له معامل الاختبار، والأجهزة الدقيقة التي لم تتوفَّر للسلف.

إنَّ الوصف المتقن لحروف العربية ومخارجها في جهاز النطق لدى الإنسان (2)، أعانَتْ قارئ القرآن كثيراً للوصول إلى الأداء الصحيح أثناء تلاوة القرآن. يقول القارئ عبد الله بن ذكوان: ((يجب على قارئ القرآن أن يقرأ بترتيل وتَرَسُّل، وأن يعرف مخارج الحروف في مواضعها، ويستعمل إظهار

(1) جمال القراء 2 / 525.

(2)

انظر: شرح الهداية 1 / 75.

ص: 60

التنوين عند حروف الحلق إظهاراً وسطاً بلا تشديد، وإخراج الهمزة إخراجاً وسطاً حسناً، وتشديد المضاعف تشديداً وسطاً، وتفخيم الكاف والراء والزاي والخاء والحاء والطاء، وترقيق الراء، وتصفية السين، وإظهار النون عند الخاء، وإظهار الهاء وإخراجها من الصدر، وإدغام ما يحسن فيه الإدغام، وإظهار ما يحسن فيه الإظهار)) (1) .

لقد عَدَّ السلفُ القارئ لاحناً لحناً خفيَّاً إذا لم يُوَفِّ الحرف حقَّه، أو كان مقصِّراً في معرفة صفته التي هي له، أو زاد على هذا الحق، فأعطى الحرف شيئاً من الصفات لا يستحقها (2) . وذكروا (3) أنه لايُتمكن التجويد، ولا يتحصل التحقيق إلى بمعرفة حقيقة النطق بالمحرك والمسكَّن والمختلس والمرام والمشم والمهموز والمسهَّل والمحقَّق، والمشدَّد والمخفَّف والممدود والمقصور والمبين، والمدغم والمخفى والمفتوح والممال، كما فصَّلوا في صفات الحروف وأحكام المدود، وتفخيم الحروف وترقيقها، والإدغام الصغير والكبير، وتحدَّثوا عن الصفات الأصلية الملازمة للحرف، ولا تنفك عنه بحال كالجهر والاستعلاء والإطباق، والصفات العَرَضية، وهي تعرض للحرف أحياناً، وتنفكُّ عنه أحياناً كالتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام والمد والقصر، وفصَّلوا في أنواع المخارج وعددها. وجاء هذا التفصيل كله في كثير من

(1) جمال القراء 2 / 526.

(2)

جمال القراء 2 / 529.

(3)

شرح الهداية 1 / 78.

ص: 61

المصنفات بغية الوصول إلى الأداء الصوتي الصحيح لكتاب الله عز وجل.

ولم تقتصر جهود علماء التجويد على وضع معايير النطق بأصوات القرآن وهي مفردةٌ، بل شملت هذه الأصواتَ وهي مركبة، أي: نطق الصوت وهو مركبٌ مع غيره من الأصوات في الكلمة، ومن هنا كان لهذا العلم فرعان (1)، أحدهما: علم الصوت المفرد، والآخر علم الصوت التركيبي. وقد أقبل العلماء على دراستهم لكلا النوعين بالنحو الذي يتَّسم بالاستقصاء والتحري وتتبُّع الصوت في السياقات الصوتية المختلفة التي ورد فيها.

وطريق هذا العلم الأَخْذُ من أفواه المشايخ العارفين بطريق أداء القرآن بعد معرفة ما يحتاج إليه القارئ مِنْ مخارج الحروف وصفاتها والوقف والابتداء والرسم (2) .

وقد شَدَّد علماء السلف في بابِ صفةِ مَنْ يجب أن يُقرأ عليه ويُنقل عنه، على مسألة الفقه بالعربية والتحقق من العناية بأسرارها، يقول أبو محمد مكي (3) : ((يجب على طالب القرآن أن يتخيَّر لقراءته ونَقْلِه وضَبْطهِ أهلَ الديانة والصيانة والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم، فإذا اجتمع

(1) انظر: مقدمة ((التحديد في الإتقان)) للداني.

(2)

انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1 / 278.

(3)

الرعاية لتجويد القراءة 89.

ص: 62

للمقرئ صحة الدين والسلامة في النقل والفهم في علوم القرآن والنفاذ في علوم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، كملت حاله ووجبت إمامته)) . ويقرر (1) أبو محمد مكي بأن القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد: فمنهم مَنْ يَعْلمهُ رواية وقياساً وتمييزاً، فذلك الحاذق الفَطِن، ومنهم مَنْ يعرفه سماعاً وتقليداً، فذلك الوَهِن الضعيف، لايلبث أن يَشُكَّ، ويدخله التحريف والتصحيف، إذ لم يَبْنِ على أصلٍ، ولا نقل عن فَهْم.

وسيبويه مع تقدُّم زمنِه سَجَّل في أواخر كتابه وصفاً دقيقاً للأصوات العربية بقي أساساً لكثير من الدراسات التي تَلَتْه، وقد أفاد منه المصنفون الذين ألَّفوا في تجويد القرآن، ولاسيما في حديثه عن حروف العربية وهي مفردة ومخارجها في جهاز النطق. ومن أمثلة تدقيقه في وصف مخارج الأصوات حديثه عن الضاد الضعيفة التي تَرِد في لهجة بعض القبائل (2) : ((الضاد الضعيفة تُتكلف من الجانب الأيمن، وإن شئتَ تَكَلَّفْتها من الجانب الأيسر، وهو أخفُّ؛ لأنها من حافة اللسان مُطْبقة؛ لأنك جمَعْتَ في الضاد تكلُّف الإطباق مع إزالته عن موضعه، وإنما جاز هذا فيها؛ لأنك تُحَوِّلها من اليسار إلى الموضع الذي في اليمين، وهي أخفُّ لأنها من حافة اللسان، وأنها تخالط مَخْرَج غيرها بعد خروجها، فتستطيل حين تخالط حروف اللسان، فسَهُل تحويلها إلى الأيسر؛ لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ما كانت في الأيمن، ثم تَنْسَلُّ من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان كما كانت

(1) الرعاية لتجويد القراءة 89.

(2)

الكتاب 4 / 432.

ص: 63

كذلك في الأيمن)) .

وفي المكتبة العربية سِفْرٌ في أصوات العربية له أهمية كبيرة في هذا الجانب هو ((سرُّ صناعة الإعراب)) لابن جني، يقول عنه الدكتور كمال بشر في كتابه ((علم الأصوات)) (1) :((أمَّا وصف ابن جني للمخارج بالصورة التي سجَّلها في كتابه وترتيبه لهذه المخارج، فهو يدلُّ على قوة ملاحظته وذكائه النادر. والحق أن النتائج التي وصل إليها هذا العالِم في هذا الوقت الذي كان يعيش فيه، لَتُعَدُّ معجزة له ولمفكري العرب في هذا الموضوع. وممَّا يؤكد براعتهم ونبوغهم في هذا العلم أنهم قد توصَّلوا إلى ما توصَّلوا إليه من حقائق مدهشة دون الاستعانة بأية أجهزة أو آلات تُعينهم على البحث والدراسة كما نفعل نحن اليوم)) .

ويُعَدُّ هذا الكتاب امتداداً لجهود علماء العربية التي نشأت ابتداءً في كنف القرآن الكريم بُغْية خدمة لغته وبلاغته وأصواته، ثم توسَّعت هذه الجهود لتبني علماً شامخاً، يُفَصِّل في أحكام العربية تفصيلاً منتشراً شاملاً، وابن جني نفسه وهو يدرس علم الأصوات كان يقف عند الآيات القرآنية كثيراً، وكتابه هذا حافل بدَرْسها والتدقيق في تجويدها، والنظر في مخارج حروفها وصفات هذه الحروف، ومن ذلك قوله (2) : ((فأمَّا الحركة الضعيفة المختلسة كحركة همزة بين بين وغيرها من الحروف التي يُراد اختلاس حركاتها تخفيفاً، فليست حركة مُشَمَّةً شيئاً من غيرها من الحركتين، وإنما أُضْعف

(1) علم الأصوات 95.

(2)

سر صناعة الإعراب 1 / 56.

ص: 64

اعتمادُها وأُخْفِيَتْ لضرب من التخفيف، وهي بزنتها إذا وُفِّيَتْ ولم تختلس، وكذلك غير هذه الهمزة من الحروف المخفاة الحركات نحو قوله تعالى:{مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} (يوسف: 11) وغير ذلك كله محرك وإن كان مختلساً، يدل على حركته قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ} (البقرة: 185) فيمن أخفى. فلو كانت الراء الأولى ساكنة والهاء قبلها ساكنة، لاجتمع ساكنان في الوصل ليس الأول منهما حرف لين والثاني مدغماً نحو: دابَّة وشابَّة، وكذلك قوله عز وجل:{أَمَّنْ لا يَهِدِّي} (يونس: 35) لا يخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكون الهاء مُسَكَّنَةً البتة، فتكون التاء من ((يَهْتدي)) مختلسة الحركة، وإمَّا أن تكون الدال مشددة، فتكون الهاء مفتوحة بحركة التاء المنقولة إليها، أو مكسورة لسكونها وسكون الدال الأولى، وكذلك {يَخِصِّمُونَ} (يس: 49) الحكم فيهما واحد)) . والمقام لا يتسع للمزيد من النصوص التي خدمت قراءات القرآن وأصواته وتصريفه وتجويده خدمة دقيقة، أفادت منها الأجيال التالية فوائد جَمَّة، وما يزال الغرض عند السلف خدمة كتاب الله، وفَهْمَ أسراره، وتيسير تناوُله.

ص: 65