المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة المجادلة (اثنتان وعشرون آية وهي مدنية) قال القرطبي: - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١٤

[صديق حسن خان]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة المجادلة (اثنتان وعشرون آية وهي مدنية) قال القرطبي:

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة المجادلة

(اثنتان وعشرون آية وهي مدنية)

قال القرطبي: في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة غير قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) نزلت بمكة، وقال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله والمجادلة بكسر الدال كما ذكره السعد في حواشي الكشاف وفي الشهاب بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف كما في الكشاف وهذه السورة أول النصف الثاني من القرآن، باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وهي أول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها آية إلَاّ وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثاً وجملة ما فيها من الجلالات خمس وثلاثون.

ص: 7

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

ص: 9

(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) أي تراجعك الكلام في شأنه أي أجاب قولها ومطلوبها بأن أنزل حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها، وعلى هذا فقد للتحقيق، ومن قال إنها للتقريب والتوقع فلم يلاق المعنى، وقد سمع بإظهار الدال وإدغامها في السين قراءتان سبعيتان.

(وتشتكي إلى الله)، أي تظهر ما بها من المكروه والفاقة والوحدة، والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان كلما قال لها قد حرمت عليه، قالت والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله:(وتشتكي إلى الله) قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية، وقيل: هي خولة بنت حكيم، وقيل: اسمها جميلة، والأول أصح. وقيل: هي بنت خويلد قال الماوردي: إنها نسبت تارة إلى

ص: 9

أبيها وتارة إلى جدها وأحدهما أبوها والآخر جدها فهي خولة بنت ثعلبة بن خويلد.

روي أن عمر بن الخطاب مر بها في زمن خلافته وهو على حمار والناس حوله فاستوقفته ووعظته، فقيل له: أتقف لهذه العجوز هذا الموقف؟ فقال أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟

(والله يسمع تحاوركما) مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي والله يعلم تراجعكما في الكلام من حاور إذا راجع، أو حور إذا رجع، أو جملة حالية وهو بعيد. وقد أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.

" عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) وهو أوس بن الصامت ".

(إن الله سميع بصير) يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة، أخرج أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والبيهقي.

" من طريق يوسف بن عبد الله قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل

ص: 10

إلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فما برحت حتى نزل القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان يتغشاه ثم سري عنه، فقال لي: يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليّ (قد سمع) إلى قوله:(عذاب أليم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريه فليعتق رقبة، قلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا سأعينه بعذق من تمر فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بوسق آخر فقال قد أصبت وأحسنت فاذهبي وتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً قالت: ففعلت "، وفي الباب أحاديث.

ثم بين سبحانه شأن الظهار في نفسه وذكر حكمه بطريق الاستئناف فقال:

ص: 11

(الذين يظاهرون) بضم الياء وتخفيف الظاء وكسر الهاء، وقرأ الجمهور يظهرون بالتشديد مع فتح حرف المضارعة، وقرىء يظاهرون بفتح الياء وتشديد الظاء وزيادة ألف، وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب وقرىء يتظاهرون وكلها سبعيات ومعنى الظهار شرعاً أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي ولا خلاف في كون هذا ظهاراً، واختلفوا إذا قال أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار وبه قال الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، وقال جماعة منهم قتادة والشعبي: إنه لا يكون ظهاراً بل يختص الظهار بالأم وحدها واختلفت الرواية عن الشافعي فروي عنه كالقول الأول وكالقول الثاني.

وأصل الظهار مشتق من الظهر وهو لغة العلو وليس هو من ظهر الإنسان واختلفوا إذا قال لامرأته: أنت عليّ كرأس أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك، هل يكون ظهاراً أم لا؟ وهكذا إذا قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر

ص: 11

الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً، وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلا في الظهر وحده، واختلفوا إذا شبه امرأته بأجنبية فقيل: يكون ظهاراً، وقيل: لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع.

(منكم) أي حال كونهم منكم أيها العرب، وهذا توبيخ لهم، وتهجين لعادتهم، لأن الظهار كان خاصاً بالعرب ومن أيمان جاهليتهم دون سائر الأمم (من نسائهم) يعني يحرمون زوجاتهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم، يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا (ما هن أمهاتهم) أي ما نساؤهم بأمهاتهم فذلك كذب بحت منهم، وإنه منكر وزور، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم قرأ الجمهور أمهاتهم بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل ليس، وقرىء بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. ثم بيّن لهم سبحانه أمهاتهم على الحقيقة فقال:

(إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) أي ما أمهاتهم إلا النساء اللاتي ولدنهم، يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات، والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزيادة حرمتهن وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم فقال:

(وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً) أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا فظيعاً من القول، ينكره الشرع، والزور: الكذب الباطل، المنحرف عن الحق (وإن الله لعفو غفور) أي بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم، مخلصة لهم عن هذا القول المنكر ولما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً، ووبخ فاعليه، شرع في تفصيل أحكامه فقال:

ص: 12

(والذين يظاهرون من نسائهم) أي والذين يقولون ذلك القول المنكر

ص: 12

الزور، ويمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن (ثم يعودون لما قالوا) أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي، كما في قوله (أن تعودوا لمثله)، أي إلى مثله، قال الأخفش:(لما قالوا) وإلى ما قالوا يتعاقبان، قال:(والحمد لله الذي هدانا لهذا) وقال: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقال: (بأن ربك أوحى لها) وقال (وأوحى إلى نوح) وقال الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء، وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.

واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال، الأول أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: وقيل هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضاًً عن مالك، وقيل: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي، وقيل: هو الكفارة، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة، وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه وبه قال أهل الظاهر وروي عن بكير بن الأشج وأبي العالية والفراء والمعنى ثم يعودون إلى قول ما قالوا وقيل: المعنى يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين وقيل: معنى العود السكوت عن الطلاق بعد الظهار وقيل: العود الندم أي يندمون فيرجعون إلى الألفة.

قال ابن عباس في الآية: هو الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي فإذا قال ذلك فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره، حتى يكفر بعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والمس النكاح فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وإن هو قال لها أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث فإن حنث فلا يقربها حتى يكفر: ولا يقع في الظهار طلاق.

(فتحرير رقبة) أي فالواجب عليهم إعتاق رقبة يقال: حررته أي

ص: 13

جعلته حراً والظاهر أنها تجزىء أي رقبة كانت وقيل: يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني قال مالك والشافعي واشترطا أيضاًً سلامتها من كل عيب ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاًً، قال الأخفش: الآية فيها تقديم وتأخير والمعنى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة لما قالوا أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله:(لما قالوا) متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم.

(من قبل أن يتماسا) المراد بالتماس هنا الجماع وبه قال الجمهور فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر، وقيل: إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي (ذلكم) أي الحكم المذكور (توعظون به) أي تؤمرون أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات وفيه بيان ما هو المقصود من شرع الكفارة، قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم، حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه.

(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.

" قال ابن عباس: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني ظاهرت من امرأتي فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فوقعت عليها قبل أن أكفِّر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله (من قبل أن يتماسا) قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: أمسك عنها حتى تكفر "(1)، وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي.

" عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إِني ظاهرت من امرأتي

(1) رواه الحاكم.

ص: 14

فوقعت عليها من قبل أن أكفِّر، فقال: وما حملك على ذلك؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله " ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة فقال:

ص: 15

(فمن لم يجد) لرقبة في ملكة، ولا تمكن من قيمتها (فصيام) أي فعليه صيام (شهرين متتابعين) متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من مرض أو سفر فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي والشافعي ومالك: إنه يبني ولا يستأنف، وقال أبو حنيفة: إنه يستأنف، وهو مروي عن الشافعي ومعنى (من قبل أن يتماسا) ما تقدم قريباً فلو وطىء ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأً استأنف، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطىء ليلاً، لأنه ليس محلاً للصوم والأول أولى.

(فمن لم يستطع) صيام شهرين متتابعين (فإطعام ستين مسكيناً) أي فعليه أن يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مدان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي وغيره لكل مسكين مد واحد من غالب قوت البلد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة أو يدفع إليهم ما يشبعهم ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر عن أبي هريرة ثلاث فيه مد، كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام.

(ذلك) أي ما تقدم من البيان وتعليم الأحكام والتنبيه عليها واقع أو فعلنا ذلك (لتؤمنوا بالله ورسوله) وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وتصدقوا أن الله أمر بها، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه غيرهم " عن سلمة بن صخر الأنصاري فقال:

ص: 15

كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقاً من أن أصيب منها في ليلي، فأتتابع في ذلك، ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأمري فقالوا: لا والله، لا تفعل نتخوف أن ينزل فينا القرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري، فقال أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. قال: أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. قال أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. وها أنا ذا فامض في حكم الله، فإني صابر لذلك، قال: أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: هل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال: فأطعم ستين مسكيناً، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، السعة والبركة أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليه ".

(وتلك) أي الأحكام المذكورة في الظهار والكفارة (حدود الله) فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة (وللكافرين) الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعلمون بما حده الله لعباده، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً (عذاب أليم) وهو عذاب جهنم يوم القيامة، ولما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين فقال:

ص: 16

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

ص: 17

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) المحادة المشاقة والمعاداة والمخالفة ومثل قوله (إن الذين يشاقون الله ورسوله) قال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف صاحبك، فهي كناية عن المعاداة لكونها لازمة لها، وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب، والمحادون هم أهل مكة، فإن هذه الآية وردت في غزوة الأحزاب وهي في السنة الرابعة وقيل: في الخامسة والمقصود منها البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن أعداءهم المتحزبين القادمين عليهم.

(كبتوا) أي يكبتوا ويذلوا ويتفرق جمعهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وقيل: المعنى على الماضي وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر (كما كبت الذين من قبلهم) أي أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلاناً إذا أذله، والمردود بالذل يقال له: مكبوت، قال المقاتلان: أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال ابن زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق، والمراد بمن قبلهم كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله.

(وقد أنزلنا آيات بينات) أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم المتقدمة وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه

ص: 17

وقيل هي المعجزات الدالة على صدق الرسول (وللكافرين) بكل ما يجب الإيمان فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولاً أولياً (عذاب مهين) يهين صاحبه ويذله ويذهب بعزه.

ص: 18

(يوم يبعثهم الله جميعاً) أي يذكر يوم يبعثهم مجتمعين في حالة واحدة أو يبعثهم كلهم لا يبقى منهم أحد غير مبعوث (فينبئهم) أي فيخبرهم (بما عملوا) في الدنيا من الأعمال القبيحة إما ببيان صدورها عنهم توبيخاً لهم وتكميلاً للحجة عليهم أو بتصويرها في صورة قبيحة هائلة على رؤوس الأشهاد. تخجيلاً لهم وتشهيراً بحالهم وتشديداً لعذابهم.

(أحصاه الله) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ينبئهم بذلك مع كثرته واختلاف أنواعه؟ فقيل: أحصاه الله جميعاً، ولم يفته منه شيء (و) الحال أنهم قد (نسوه) ولم يحفظوه (والله على كل شيء شهيد) تذييل مقرر لإحصائه تعالى، أي لا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل هو مطلع وناظر، ثم أكد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء فقال:

ص: 18

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)؟ أي ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما (ما يكون من نجوى ثلاثة) مستأنفة لتقرير شمول علمه، وسعته وإحاطته بكل المعلومات، قرأ الجمهور يكون بالتحية، وقرىء بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، ومن مزيدة للتأكيد، والنجوى السرار، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، وهي مصدر، والمعنى ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، قال الفراء: ثلاثة نعت للنجوى، فانخفضت، وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز.

(إلا هو رابعهم) أي بالعلم يعني يعلم نجواهم: كأنه حاضر معهم ومشاهدهم، كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم كذا في

ص: 18

الخازن وأبي السعود. والجمل التي بعد إلا في موضع نصب على الحال يعني ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.

(ولا) نجوى (خمسة إلا هو سادسهم) أي جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى وتخصيص العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. أو لأن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الموتر فخصهما بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور. قال الفراء: والعدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية.

(ولا أدنى من ذلك) أي ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين (ولا أكثر) منه كالستة والسبعة (إلا هو معهم) أي مصاحب لهم بعلمه، يعلم ما يتناجون به، لا يخفى عليه شيء منه، قرأ الجمهور أكثر بالثاء وبالجر بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى، وقرىء بالياء الموحدة وبالرفع عطفاً على محل نجوى، قال الواحدي: قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات:

(أين كانوا) معناه إحاطة علمه بكل تناج يكون معهم في أي مكان من الأمكنة، ولو كانوا تحت الأرض، فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت بقرب الأمكنة وبعدها، (ثم ينبئهم) أي يخبرهم (بما عملوا يوم القيامة) توبيخاً لهم وتبكيتاً وإلزاماً للحجة (إن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.

ص: 19

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

ص: 20

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) هؤلاء هم من تقدم ذكرهم من المنافقين واليهود، وصيغة المضارع للدلالة على تمكن عودهم وتجدده، واستحضار صورته العجيبة، قال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود مواعدة، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شراً فنهاهم الله فلم ينتهوا، فنزلت وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله الحاجة ويناجيه، والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم، فيفزعون لذلك.

(ويتناجون بالإِثم والعدوان) قرأ الجمهور يتناجون بوزن يتفاعلون لقوله فيما بعد (إذا تناجيتم فلا تتناجوا)، وقرىء ينتجيون بوزن يفتعلون، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه، كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين.

(وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي مخالفته، وقرىء معصيات بالجمع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها،

ص: 20

وقيل: المعنى يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول، رسمت معصية هذه والتي بعدها بالتاء المجرورة وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي يقفون بالهاء، غير أن الكسائي يقف بالإِمالة على أصله، والباقون يقفون بالتاء على الرسم، واتفقوا في الوصل على التاء.

(وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) قال القرطبي: إن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً. وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم، وفي رواية وعليكم قال ابن عمر في الآية: يريدون بذلك شتمه فنزلت هذه الآية أخرج أحمد والبخاري والترمذي وصححه.

" عن أنس أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: السام عليكم فرد عليه القوم، فقال: هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبي الله، قال: لا ولكنه قال: كذا وكذا، ردوه علي فردوه، قال: قلت السام عليكم؟ قال: نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك، قال عليك ما قلت "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:

" عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما سمعتني أقول: وعليكم، فأنزل الله هذه الآية "(1) وعن ابن عباس قال: كان المنافقون

(1) رواه مسلم.

ص: 21

يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حيوه سام عليك فنزلت.

(ويقولون في أنفسهم) أي فيما بينهم إذا خرجوا من عنده (لولا يعذبنا الله بما نقول) أي هلا يعذبنا بذلك؟ ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به. وقيل: المعنى لو كان نبياً لاستجيب له فينا، حيث يقول: وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك (حسبهم جهنم) عذاباً (يصلونها) يدخلونها (فبئس المصير) أي المرجع وهو جهنم.

ص: 22

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى، أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله، كما يفعله اليهود والمنافقون، وقيل: الخطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا ظاهراً أو بزعمهم واختار هذا الزجاج وقيل: الخطاب لليهود والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأول أولى، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، فأنزل الله هذه الآية: وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما:

" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه "(1)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه:

(1) رواه البخاري ومسلم.

ص: 22

" عن أبي سعيد قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطرقه أمر أو يأمر بشيء، فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة، حتى إذا كنا أنداء نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الليل فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟ قلنا: إنا كنا يا رسول الله في ذكر المسيح، فرقاً منه، فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ". قال ابن كثير: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء، ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال:

(وتناجوا بالبر والتقوى) أي بالطاعة وترك المعصية، ثم خوفهم سبحانه فقال (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) فيجزيكم بأعمالكم ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي، هو من جهة الشيطان فقال:

ص: 23

(إنما النجوى) يعني الإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، (من الشيطان) لا من غيره أي من تزيينه وتسويله.

(ليحزن الذين آمنوا) أي لأجل أن يوقعهم في الحزن، بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزانه والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن يقال حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: وأحزنه جعله حزيناً، والقراءة الأولى أشد في المعنى (وليس بضارهم شيئاًً) أي وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان أو الحزن بضار المؤمنين شيئاًً من الضرر (إلا بإذن الله) أي بمشيئته وقيل: بعلمه.

(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شئونهم ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.

ص: 23

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)

ص: 24

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) وقرىء تفاسحوا (في المجالس) قرىء على الجمع لأن لكل واحد منهم مجلساً، وقرىء على الإِفراد، قال الواحدي: والوجه التوحيد في المجلس، لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والتفسح التوسع، يقال: فسح له يفسح فسحاً أي وسع له ومنه قولهم: بلد فسيح أمر الله سبحانه المؤمنين بحسن الأدب بعضهم مع بعض بالتوسعة في المجلس، وعدم التضايق فيه قال قتادة ومجاهد والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض، وقال ابن عباس والحسن ويزيد بن أبي حبيب: هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب، كانوا يتشاحنون على الصف الأول، ولا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال، لتحصيل الشهادة.

وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم جمعة وأن

ص: 24

كل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه.

ويؤيد هذا حديث " ابن عمر عند مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ".

(فافسحوا يفسح الله لكم) أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة أو في كل ما تريدون التفسيح فيه من المكان والرزق وغيرهما.

" عن مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم. فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر قم أنت يا فلان وأنت فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية.

(وإذا قيل انشزوا فانشزوا) قرأ الجمهور بكسر الشين فيهما، وقرىء بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، وقراءتان سبعيتان، يقال: نشز أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، وبه قال ابن عباس، وقال عكرمة ومجاهد والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب، وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى

ص: 25

الله عليه وسلم، فأمر الله تعالى أنه إذا قيل: انشزوا عن النبي فانشزوا، فإن له حوائج فلا تمكثوا، قال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم، والمعنى إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها إندراجاً أولياً وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أولياً.

وقد قدمنا أن معنى نشز ينشز ارتفع، وهكذا نشز ينشز إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشزة أي متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس.

(يرفع الله الذين آمنوا منكم) بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما (والذين أوتوا العلم) أي ويرفع العالمين منهم خاصة (درجات) عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل: المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك بالذين أوتوا العلم، وقيل: المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض.

وقال ابن عباس في الآية: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا، درجات وقال ابن مسعود: على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات وعنه قال: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن كما خصهم

ص: 26

في هذه الآية، وعنه أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية لترغبكم في العلم، والأحاديث والأخبار والآيات في فضيلة العلم والعلماء كثيرة جداً قد ذكرنا طرفاً منها في كتابنا الحطة في ذكر الصحاح الستة.

(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.

ص: 27

(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) المناجاة المساررة، والمعنى إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم (فقدموا بين يدي نجواكم) أي مساررتكم له (صدقة) في هذا الأمر تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء والنهي عن الإِفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الدنيا والآخرة، واختلف في أنه للندب أو للوجوب، قال الحسن: نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم، يناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.

وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته، وكان ذلك يشق على المؤمنين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله الآية الأولى فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه.

وقال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه

ص: 27

وسلم، فلما قال ذلك: ضن كثير من الناس وكفوا عن المسألة. فأنزل الله بعد هذا (أأشفقتم) الآية فوسع الله عليهم ولم يضيق.

" وعن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى ديناراً؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة قال إنك لزهيد، قال: فنزلت (أأشفقتم) الآية في خفف الله عن هذه الأمة " والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد الواحدة من حب الشعير، أخرجه الترمذي وحسنه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.

وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعنى آية النجوى، وعنه رضي الله عنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدى، آية النجوى كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت (أأشفقتم) الآية، وعن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت آية النجوى فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى (أأشفقتم) الآية.

(ذلك) أي ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى (خير لكم) لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال (وأطهر) لنفوسهم، يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب قوله:(فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) يعني من كان منكم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة.

ص: 28

(أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) أي أخفتم الفقر

ص: 28

والعيلة لأن تقدموا ذلك؟ والإشفاق الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير.

وقيل: المعنى أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين، قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة وقيل إنه لم يبق إلا يوماً واحداً وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار.

(فإذا لم تفعلوا) ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله:(فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) وإذ على بابها في الدلالة على المضي وقيل: هي بمعنى إذا وقيل: بمعنى إن (وتاب الله عليكم) رجع بكم عنها بأن رخص لكم في الترك (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله) المعنى إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة الواجبة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه.

(والله خبير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في الامتثال أما الفقراء منهم فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلموا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة، بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة على أن الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا، وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، وأيضاًً قد فعل ذلك البعض فتصدق بين يدي نجواه كما تقدم.

ص: 29

(ألم تر إلى الذين تولوا قوماً) أي والوهم، قال قتادة: هم المنافقون

ص: 29

تولوا اليهود، وقال السدي ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدل على الأول قوله (غضب الله عليهم) فإن المغضوب عليهم هم اليهود ويدل على الثاني قوله (ما هو منكم ولا منهم) فإن هذا صفة المنافقين كما قال الله فيهم:(مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة (ويحلفون على الكذب) أي أنهم مسلمون أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا، داخلة في حكم التعجيب من فعلهم (و) الحال أن (هم يعلمون) بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له فيمينهم يمين غموس، لا عذر لهم فيها.

ص: 30

(أعد الله لهم عذاباً شديداً) بسبب هذا التولي، والحلف على الباطل (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة

ص: 30

(اتخذوا أيمانهم جنة) قرأ الجمهور أيمانهم جمع يمين وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين، توقياً من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسهم أو رمح، وقرىء إيمانهم بكسر الهمزة أي جعلوا تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تؤمن قلوبهم.

(فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم الإسلام (فلهم عذاب مهين) أي يهينهم ويخزيهم، قيل هو تكرير لقوله (أعد الله لهم عذاباً شديداً) للتأكيد، وقيل الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرير فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة.

ص: 30

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

ص: 31

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي من عذابه (شيئاًً) من الإغناء، قال مقاتل: قال المنافقون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم، يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فنزلت الآية (أولئك) الموصوفون بما ذكر (أصحاب النار) لا يفارقونها (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها.

ص: 31

(يوم) أي اذكر يوم (يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له) أي لله يوم القيامة على أنهم مؤمنون (كما يحلفون لكم) في الدنيا، وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت فيه الحقائق، وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة فكيف يجترئون، على أن يكذبوا في ذلك الموقف، ويحلفون على الكذب.

" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالساً في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر

ص: 31

إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فقال حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا واعتذروا "، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها.

(ويحسبون) في الآخرة (أنهم) بتلك الأيمان الكاذبة (على شيء) مما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا (ألا إنهم هم الكاذبون) أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه، البالغون إلى حد لم يبلغ إليه غيرهم بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة، في موقف القيامة بين يدى الرحمن.

ص: 32

(استحوذ عليهم الشيطان) أي غلب عليهم واستعلى واستولى، قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه وأحاط به، وقيل: قوي عليهم، وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم، واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم (فأنساهم ذكر الله) أي أوامره والعمل بطاعاته، فلم يذكروا شيئاً من ذلك وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل: لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم والإشارة بقوله (أولئك) إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات (حزب الشيطان) أي جنوده وأتباعه ورهطه.

(ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران، حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلال وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة، وفوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد، وعرضوها للعذاب المخلد.

ص: 32

(إن الذين يحادون الله ورسوله) قد تقدم معنى المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، في أول هذه السورة والجملة تعليل لما قبلها (أولئك في الأذلين) أي أولئك المحادون لله ولرسوله المتصفون بتلك الصفات

ص: 32

المتقدمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة، لا ترى أحداً أذل منهم لأنهم لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان، قال عطاء: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة.

ص: 33

(كتب الله) مستأنفة لتقرير ما قبلها من كونهم في الأذلين، أي كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه، وقال الفراء: كتب بمعنى قال (لأغلبن أنا ورسلي) بالحجة والسيف أو بأحدهما، قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين، من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة (إن الله قوي) على نصر أوليائه (عزيز) غالب لأعدائه لا يغلبه أحد.

ص: 33

(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر) إيماناً صحيحاً، بحيث يتوافق فيه الظاهر مع الباطن (يوادون من حاد الله ورسوله) الخطاب لرسول الله صلي الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، أي يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما، أي من الممتنع أن تجد قوماً من المؤمنين يوالون المشركين، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في التوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم " عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله، فنزلت هذه الآية "، أخرجه البيهقي في سننه والحاكم والطبراني وغيرهم ثم زاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله:

(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والنبوة والأخوة والعشيرة، وقدم أولاً الآباء لأنهم يجب طاعتهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلب، ثم ثلث بالإخوان لأنهم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع، ثم ربع بالعشيرة لأن بها يستغاث وعليها يعتمد أفاده السمين، روي عن ابن مسعود في هذه الآية قال: ولو كانوا

ص: 33

آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح، أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق دعا ابنه يوم بدر للبراز، وقال: يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: متعنا بنفسك يا أبا بكر أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبو عبيدة قتلوا بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.

(أُولَئِكَ) يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله (كَتَبَ) أي خلق، وقيل: أثبت وقيل: جعل، وقيل: حكم والمعاني متقاربة (في قلوبهم الإيمان) وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه (وأيدهم بروح منه) أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيي أمرهم، وقيل: هو نور القلب، وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإيمان، وقيل: برحمة، وقيل: بكتاب أنزله فيه حياة لهم، وقيل: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب، وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان، وعن عبد العزيز بن رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها، وقيل: هي في أهل البدع والأهواء.

(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) على الأبد رضي الله عنهم أي قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة (ورضوا عنه) أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً (أولئك حزب الله) أي جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم وتعظيم، وتكريم فخيم (ألا إن حزب الله هم المفلحون) أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كأن فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.

ص: 34