الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ
(20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) كلا للردع عن العجلة، والترغيب في الأناة، وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيّنا من الكفار، قال عطاء: أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، قرأ أهل المدينة والكوفيون تحبون وتذرون بالفوقية في الفعلين جميعاً، وقرأ الباقون بالتحتية فيهما وهما سبعيتان، فعلى الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً، والمعنى تحبون الدنيا وتختارونها وتتركون الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها، وعلى الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإِنسان لأنه بمعنى الناس، قال ابن مسعود عجلت لهم الدنيا خيرها وشرها، وغيبت الآخرة، أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
(وجوه يومئذ ناضرة) أي ناعمة غضة حسنة يقال شجر ناضر، وروض ناضر أي حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته، قال الواحدي: قال المفسرون: مضيئة مسفرة مشرقة، وقال ابن عباس: ناعمة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل بيض يعلوها نور، والأول أولى، ووجوه مبتدأ وناضرة صفة لوجوه، ويومئذ ظرف لناضرة، وناظرة خبر مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة هنا العطف عليها وكون الموضع موضع تفصيل، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله ناضرة مسوغاً للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة.
(إلى ربها ناظرة) أي تنظر إليه عياناً بلا حجاب، هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون
إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الأسلام وهداة الأنام، وقال مجاهد إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، وروي نحوه عن عكرمة، وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده، قال الأزهري وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار لأن قول القائل نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، فإذا أرادوا نظر العين قالوا نظرت إليه، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جداً.
ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى قوله (انظرونا نقتبس من نوركم) وقوله (هل ينظرون إلا تأويله) وقوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) والوجه إذا وصف بالنظر وعدِّي بإلى لم يحتمل غير الرؤية.
والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسيأتي بعضها قال ابن عباس في الآية تنظر إلى الخالق، وعنه قال تنظر إلى وجه ربها.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الآية ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة قال: " قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (1).
(1) وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحد الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، كحديث أبيّ وأبي هريرة، وهما في " الصحيحين " أن ناساً
⦗ص: 444⦘
قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال: " هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال:" إنكم ترون ربكم كذلك " وفي (الصحيحين) عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تقلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا ".
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) " وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين ".
وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال: " قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها قلنا نعم، قال فإنكم سترون ربكم عز وجل حتى أن أحدكم ليحاور ربه محاورة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا ".
وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، ولاعتراضات المبتدعة من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة عليها أجوبة معروفة في كتب الكلام من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مستفاضة في كتب أهل الحق، وليس هذا موضع ذكرها، وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها وهي تأتي في مصنف مستقل، ولم يتمسك
من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله.
وقد أطال الحافظ المتكلم محمد بن أبي بكر القيم الجوزي رحمه الله تعالى في إثبات رؤيته تعالى يوم القيامة في كتابه " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " ومن أحب النظر في أدلة الفريقين فعليه برسالة الشوكاني المسماة بالبغية في مسألة الرؤية جمع فيها جميع ما استدل به النافون والمثبتون من الأدلة العقلية والنقلية.
(ووجوه يومئذ باسرة) أي كالحة عابسة كئيبة قال في الصحاح: بسر الرجل وجهه بسوراً أي كلح قال السدي: باسرة أي متغيرة، وقيل مصفرة والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار.
(تظن) أي توقن (أن يفعل بها فاقرة) الفاقرة الداهية العظيمة، يقال فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره، قال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك وقال ابن زيد: دخول النار، وقيل الحجاب عن رؤية الله تعالى، والأول أولى.
وأصل الفاقرة الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي ومن هذا قولهم قد عمل به الفاقرة.
(كلا) ردع وزجر أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ثم استأنف فقال (إذا بلغت) النفس أو الروح أي نفس المحتضر مؤمناً كان أو كافراً، وإنما أضمرت وإن لم يجر لها ذكر لأن السياق يدل عليها (التراقي) جمع ترقوة وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق يميناً وشمالاً، ولكل إنسان ترقوتان ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله تعالى (فلولا إذا بلغت الحلقوم) وقيل معنى كلا حقاً أي حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود تذكيرهم بشدة الحال عند نزول الموت قال دريد بن الصمة:
ورب كريهة دافعت عنها
…
وقد بلغت نفوسهم التراقي
(وقيل) هذا الفعل وما بعده من الفعلين معطوف على بلغت (من
راق) أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته، قال قتادة إلتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئاًً وبه قال أبو قلابة ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقٍ؟
…
أم هل له من حمام الموت من راقِ؟
وقال أبو الجوزاء هو من رقى يرقى إذا صعد والمعنى من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب، وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، وقال ابن عباس: في قوله (وقيل من راق) قال تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه وأن يكون استبعاداً وإنكاراً، وراق اسم فاعل إما من رقى يرقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، وفي الحديث " وما أدراك أنها رقية "(1)، يعني الفاتحة وهي من أسمائها، وإما من رقي يرقى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود، يقال رقى بالفتح من الرقية وبالكسر من الرقي.
(1) سبق شرحها في تفسير سورة الفاتحة.
(وظن) أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي وسمي اليقين ظناً لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لها ولا ينقطع رجاؤه منها (أنه) أي ما نزل به (الفراق) من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
(والتفت الساق بالساق) أي الشفت ساقه بساقه عند نزول الموت به، وقال جمهور المفسرين المعنى تتابعت عليه الشدائد وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وقال زيد بن أسلم التفت ساق الكفن بساق الميت، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوالاً عليهما، وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، وبه قال ابن زيد:
والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج
نفسه، والساق الآخر شدة البعث وما بعده، وقال ابن عباس التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه قول يقول آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فيلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله، وقال الشعبي وغيره المعنى التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب، وقال قتادة أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى، قال النحاس القول الأول أحسنها.
(إلى ربك يومئذ المساق) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه وقيل التنوين عوض عن جمل أربع أي يوم إذ بلغت الروح التراقي الخ.
(فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق الإنسان المذكور في أول هذه السورة بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه أي الصلاة الشرعية، فهو ذم له يترك العقائد والفروع، قال قتادة فلا صدق بالكتاب ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، وقيل صدق من التصدق أي فلا صدق بشيء يدخره عند الله تعالى، قاله القرطبي قال الكسائي: لا بمعنى لم وكذا قال الأخفش والعرب تقول لا ذهب أي لم يذهب، وهذا مستفيض في كلاء العرب ومنه.
إن تغفر اللهم فاغفر جما
…
وأي عبد لك لا ألما
ولما كان عدم التصديق يصدق بالشك والسكوت والتكذيب استدرك على عمومه وبمن أن المراد منه خصوص التكذيب فقال:
(ولكن كذب وتولى) أي كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، ولم يستدرك على نفي الصلاة لأنه لا يصدق إلا بصورة واحدة فلم يحتج للإستدراك عليه.
(ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتبختر ويختال في مشيه افتخاراً بذلك، وقيل هو مأخوذ من المطا، وهو الظهر والمعنى يلوي مطاه وقيل أصله يتمطط وهو التمدد والتثاقل أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق.
قال الإمام هذا ذكر لما يتعلق بدنياه بعد ذكر ما يتعلق بدينه، وثم للاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله به فيمشي خائفاً منه متطامناً لا فرحاً متبختراً، ذكره الشهاب.
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
(أولى لك) فيه التفات عن الغيبة، والكلمة اسم فعل مبنية على السكون لا محل لها من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه، واللام مزيدة والمعنى وليك ما تكرهه (فأولى) أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه منه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، هذا ما سلكه الجلال المحلي في تقرير هذا المقام وانفرد به عن غيره من المفسرين وهو حسن جداً.
(ثم أولى لك فأولى) الأولى تأكيد للأولى والثانية تأكيد للثانية، وقيل أي وليك الويل وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في ردف لكم، وهذا تهديد شديد ووعيد بعد وعيد، والتكرير للتأكيد أي يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة.
قال الواحدي قال المفسرون: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أبي جهل فقال أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاًً وإني لأعز أهل هذا الوادي " فنزلت هذه الآية، وقيل معناه الويل لك وعلى هذا القول قيل هو من القلوب، كأنه قيل أويل لك ثم أخر الحرف المعتل، قيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل
النار، وقيل المعنى أن الذم لك أولى لك من تركه، وقيل المعنى أنت أولى وأحق وأجدر بهذا العذاب قاله محي السنة، وقال الأصمعي أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، قال المبرد كأنه يقول قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي وهو القرب.
قال ثعلب: لم يقل أحد في (أولى) أحسن وأصح مما قاله الأصمعي، وعن سعيد بن جبير قال:" سألت ابن عباس عن قوله أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي جهل من قبل نفسه أم أمره الله به قال بل قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله " أخرجه النسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم.
(أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب ولا يكلف في الدنيا ولا يبعث ولا يجازى، وقال السدي معناه المهمل ومنه إبل سدى أي ترعى بلا راع، وقيل المعنى أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر، والدلالة عليه من حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة.
(ألم يك نطفة من مني يمنى) مستأنفة أي ألم يك ذلك الإنسان قطرة من مني تراق وتصب في الرحم، وسمي المني منياً لإراقته، والنطفة الماء القليل، يقال نطف الماء إذا قطر، قرأ الجمهور ألم يك بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإِنسان، وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له، وقرأ الجمهور تمنى أيضاًً بالفوقية على أن الضمير للنطفة، وقرىء بالتحتية على أن
الضمير للمني، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو واختارها أبو حاتم وفائدته بعد قوله (من مني) الإشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من مني الذي يجري على مخرج النجاسة.
(ثم كان علقة) أي كان بعد النطفة دماً أحمر شديد الحمرة (فخلق) أي فقدر الله منها الإنسان بأن جعلها مضغة مخلقه (فسوى) أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح وجعله بشراً سوياً
(فجعل منه) أي حصل من الإنسان وقيل من المني (الزوجين) أي الصنفين من نوع الإنسان، قال الكرخي أي لا خصوص الفردين وإلا فقد تحمل المرأة بذكرين وأنثى وبالعكس، ثم بين ذلك فقال (الذكر والأنثى) أي الرجل والمرأة يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر أخرى.
(أليس ذلك) الفعال الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه (بقادر على أن يحيي الموتى) أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الإِبداء وأيسر مؤنة منه، قرأ الجمهور بقادر، وقرأ زيد بن علي (يقدر) فعلاً مضارعاً، وقرأ الجمهور أيضاًً يحيى بنصبه بأن، وقرىء بسكونها تخفيفاً أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع.
عن صالح أبي الخليل قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ هذه الآية قال سبحانك اللهم وبلى "(1)، أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري.
(1) ذكره ابن كثير في التفسير من رواية ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبو إسحاق السبيعي ثقة عابد لكنه اختلط بأخرة. ورواه أبو داود والترمذي مطولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وفي سنده أعرابي لم يسم، وعنه أخرجه أحمد 2/ 249 والترمذي 2/ 238 مختصراً وأعله بالأعرابي. ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 510 وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده يزيد بن عياض، وهو متروك كما قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف ". ورواه أبو داود رقم (484) من رواية موسى بن أبي عائشة عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.
وعن البراء بن عازب قال " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سبحانك ربي وبلى " أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي أمامة أنه " سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " أخرجه ابن النجار في تاريخه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات عرفاً فبلغ فبأي حديث بعد يؤمنون، فليقل آمنا بالله "، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وفي إسناده رجل مجهول.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت أليس ذلك بقادر إلى آخرها فقل بلى " أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
قال ابن عباس من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غيره، ذكره الخطيب.
قال الحفناوي: قوله إماماً كان أو غيره يقتضي أن هذه الكلمة وهي (بلى) لا تبطل الصلاة وهو كذلك لأنها ذكر وتقديس وتنزيه لله تعالى.