الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
(سَأَلَ سَائِلٌ) قرأ الجمهور سأل بالهمزة من السؤال وهي اللغة الفاشية، وهو إما مضمن معنى الدعاء فلذلك عدي بالباء كما تقول دعوت بكذا والمعنى دعا داع على نفسه (بعذاب واقع) ويجوز أن يكون على أصله والباء بمعنى عن كقوله فاسأل به خبيراً، وقرىء بغير همزة وهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفاً فيكون معناها معنى قراءة من همز أو يكون من السيلان والمعنى سأل واد في جهنم يقال له سائل كما قال زيد بن ثابت.
ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل أي اندفع واد بعذاب واقع وصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه، وقيل إن سال بمعنى التمس والمعنى التمس ملتمس عذاباً.
ْ
(للكافرين) فتكون الباء زائدة كقوله (تنبت بالدهن)، والوجه الأول هو الظاهر. قال الأخفش يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان قال أبو علي الفارسي وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر فيكون التقدير سأل سائل الله أو النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب، وهذا السائل هو النضر بن الحرث حين قال:(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وهو ممن قتل يوم بدر صبراً، وعن ابن عباس مثله (1).
(1) رواه الحاكم في " المستدرك "
2
/ 502 عن سعيد بن جبير وقال: هذا حديت صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: على شرط البخاري فقط، وأورد السيوطي في " الدر " 6/ 263 وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الربيع هو أبو جهل. وقيل هو الحرث بن النعمان الفهري، وقيل إنها نزلت في جماعة من كفار قريش والأول أولى، وقرىء سال سال مثل مال مال على أن الأحل سائل فحذفت العين تخفيفاً كما قيل شاك في شائك السلاح.
وقيل السائل هو نوح عليه السلام سأل العذاب للكافرين وقيل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالعقاب عليهم، والمراد بالعذاب الواقع إما في الدنيا كيوم بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار.
وقوله (للكافرين) صفة أخرى لعذاب أي كائن لهم أو متعلق بواقع، واللام للعلة أو يسأل على تضمينه معنى دعا أو في محل رفع على تقدير هو للكافرين أو اللام بمعنى على، ويؤيده قراءة أبيّ على الكافرين، قال الفراء التقدير بعذاب للكافرين واقع بهم، فالواقع من نعت العذاب، وجملة (ليس له دافع) صفة أخرى لعذاب أو حال منه أو مستأنفة، والمعنى أنه لا يدفع ذلك العذاب الواقع به أحد.
وقوله:
(من الله) متعلق بواقع أي واقع من جهته سبحانه، ولم يمنع النفي من ذلك لأن " ليس " فعل لا حرف فصح أن يعمل ما قبلها فيما بعدها أو متعلق بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته.
(ذي المعارج) أي ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة، وقال ابن عباس ذي العلو والفواضل، وقال الكلبي هي السموات وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها، وقيل المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق، وقيل المعارج العظمة. وقيل هي الغرف وقيل الأعمال الصالحة فإنها تتفاوت بحسب اجتماع الآداب والسنن وخلوص النية وحضور القلب.
وقرأ ابن مسعود (ذي المعاريج) يقال معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح جمع معريج بفتح الميم وهو موضع الصعود لا بكسرها لأنه آلة الصعود، وهو غير مناسب لهذا المقام.
(تعرج الملائكة والروح إليه) أي تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم، قرأ الجمهور تعرج بالفوقية، وقرىء بالتحتية، والروح جبريل أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه، ويؤيد هذا قوله:(نزل به الروح الأمين) وقيل الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل، وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله سبحانه كهيئة الناس وليسوا من الناس، وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض والأول أولى، ومعنى " إليه " إلى المكان الذي ينتهون إليه وقيل إلى عرشه، وقيل إلى مهبط أمره من السماء، وقيل هو كقول إبراهيم:(إني ذاهب إلى ربي) أي إلى حيث أمرني ربي.
(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال ابن إسحق والكلبي ووهب بن منبه أي تعرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة، وبه قال مجاهد وقال عكرمة: وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي ولا يعلم ذلك إلا الله.
والكلام على مدة عمر الدنيا ماضيها وباقيها مبسوط في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إليه حاجة الإنسان، وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب أن المراد يوم القيامة يعني أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة، وقيل إن مدة موقف العباد للحساب هي هذا المقدار ثم يستقر بعد ذلك أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وقيل أن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون سنة وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر.
وقيل ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج
وبعد مداها أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره كما تصف العرب أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر. ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة، والطويل بظل الرمح، وحينئذ لا تنافي بين هذه الآية وبين آية السجدة (في يوم كان مقداره ألف سنة) لأنه أيضاًً مسوق على سبيل التشديد على الكافرين.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير أي ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه، وقال ابن عباس: في الآية منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سموات مقدار خمسين ألف سنة.
وقوله (في يوم كان مقداره ألف سنة) قال يعني ينزل الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وعنه قال غلظ كل أرض خمسمائة عام، وغلظ كل سماء خمسمائة عام وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام فذلك قوله:(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
وعنه في قوله: (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) قال هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، وفي قوله:(مقداره خمسين ألف سنة) فهذا يوم القيامة جعله الله سبحانه على الكافرين خمسين ألف سنة، وعنه قال لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم يعني يوم القيامة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن
المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " (1) أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم وهما ضعيفان.
وعن أبي هريرة مرفوعاً قال: " ما قدر طول يوم القيامة على المؤمنين إلا كقدر ما بين الظهر إلى العصر " أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في البعث.
ولو كان المراد حقيقة العدد لم يعقل أن الزمان الواحد يكون مقداره خمسين ألف سنة، ويكون مقداره ألف سنة، ويكون مقداره قدر صلاة ركعتين، وقيل العدد على حقيقته فإن يوم القيامة خمسون موطناً كل موطن ألف سنة والله أعلم بمراده بذلك.
وقد قيل في الجمع أن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام. وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام كما تقدم، فالمعنى أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة. وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة. وقد تقدم ما يؤيد هذا عن ابن عباس. وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وآية السجدة في سورة السجدة فتذكر.
(1) رواه الإمام أحمد عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه:" والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " ورواه ابن جرير الطبري عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، ودراج وشيخه أبو الهيثم ضعيفان.
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر
(فاصبر) يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به (صبراً جميلاً) لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله. وهذا معنى الصبر الجميل. وقيل هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب. قال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بآية السيف. قال ابن عباس: في الآية لا تشكو إلى أحد غيري.
(إنهم يرونه) أي يرون العذاب الواقع بهم ويعتقدونه، أو يرون يوم القيامة أو يرون يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة (بعيداً) أي غير كائن لأنهم لا يؤمنون به، فمعنى بعيداً أي مستبعداً محالاً، وليس المراد أنهم يرونه بعيداً غير قريب، قال الأعمش يرون البعث بعيداً لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة، كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد أي لا يكون
(ونراه قريباً) أي نعلمه كائناً قريباً لأن ما هو آت قريب، وقيل المعنى ونراه هيناً في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر، والجملة تعليل للأمر بالصبر.
ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال:
(يوم تكون السماء كالمهل) أي يقع بهم العذاب يوم كذا والمهل ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة، وقال مجاهد: هو القيح من الصديد والدم، وقال عكرمة وغيره: هو دردي الزيت، وبه قال ابن عباس: وقد تقدم تفسيره في سورة الكهف والدخان.
(وتكون الجبال كالعهن) أي كالصوف المصبوغ، ولا يقال للصوف عهن إلا إذا كان مصبوغاً، قال الحسن تكون الجبال كالصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، وقيل العهن الصوف ذو الألوان فشبه الجبال به في تكونها
ألواناً كما في قوله: (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) فإذا بست وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح، وهذه الأقوال في معنى العهن في اللغة، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً.
(ولا يسأل حميم حميماً) أي لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله كما قال سبحانه:(لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) وقيل المعنى لا يسأل حميم عن حميم لشغله عنه فحذف الحرف ووصل الفعل.
قرأ العامة يسأل مبنياً للفاعل والمفعول الثاني محذوف أي لا يسأله نصره ولا شفاعته لعلمه أن ذلك مفقود، وقيل لا يسأل شيئاًً من حمل أوزاره، وقرىء على البناء للمفعول والمعنى لا يسأل حميم إحضار حميمه، وقيل هذه القراءة على إسقاط حرف الجر، أي لا يسأل حميم عن حميم بل كل إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله، وقيل لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه.
وجملة
(يبصرونهم) مستأنفة أو صفة لقوله حميماً أي يبصر كل حميم حميمه لا يخفى منهم أحد عن أحد، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه ولا يتساءلون ولا يكلم بعضهم بعضاً لاشتغال كل أحد منهم بنفسه، وقال ابن زيد يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا وهم الرؤساء المتبوعون، وقيل إن قوله:
(يبصرونهم) يرجع إلى الملائكة أي يعرفون أحوال الناس لا يخفون عليهم، وإنما جمع الضميرين في يبصرونهم وهما للحميمين حملاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياق النفي، قاله السمين والزمخشري، قال الطيبي: وفيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعمان كما التزم في قوله والله لا أشرب ماء من إداوة أنه يعم في المياه والأداوي، خلافاً لبعضهم في الأداوة.
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
قال ابن عباس (يبصرونهم) يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض، قرأ الجمهور يبصرونهم بالتشديد وقرىء بالتخفيف.
(يود المجرم) أي الكافر أو كل مذنب يذنب ذنباً يستحق به النار (لو) بمعنى أن (يفتدي من عذاب يومئذ) أي العذاب الذي ابتلوا به يومئذ، قرأ الجمهور بإضافة العذاب وكسر الميم من يومئذ وقرىء بالتنوين وقطع الإضافة وبفتح الميم.
(ببنيه
وصاحبته) زوجته (وأخيه) فإن هؤلاء أعز الناس عليه وأكرمهم لديه، فلو قبل منه الفداء لفدى بهم نفسه، وخلص مما نزل به من العذاب، والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ بحد يود الافتداء من العذاب بمن ذكر، وقيل حال من الضمير المرفوع أو المنصوب من يبصرون.
(وفصيلته التي تؤويه) أي عشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد ويأوي إليهم، قال أبو عبيدة الفصيلة دون القبيلة، وقال ثعلب هم آباؤهم الأدنون، قال المبرد الفصيلة القطيعة من أعضاء الجسد وسميت عشيرة الرجل فصيلة تشبيهاً لها بالبعض منه، وقال مالك إن الفصيلة هي التي تربيه.
(ومن) أي ويود المجرم لو افتدى بمن (في الأرض جميعاً) من
الثقلين وغيرهما من الخلائق. وقوله (ثم ينجيه) معطوف على يفتدي أي يود لو يفتدي ثم ينجيه الافتداء، وكأن العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة وقيل ثم ينجيه جواب يود، والأول أولى.
(كلا) ردع للمجرم عن تلك الودادة، وبيان امتناع ما وده من الافتداء، وكلا يأتي بمعنى حقاً وبمعنى لا النافية مع تضمنها لمعنى الزجر والردع، وهي هنا تحتمل الأمرين (إنها لظى) الضمير عائد إلى النار المدلول عليها بذكر العذاب أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده، ويترجم عنه الخبر، قاله الزمخشري، ولظى علم لجهنم واشتقاقها من التلظي في النار، وهو التلهب، ولذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل أصله لظظ بمعنى دوام العذاب فقلبت إحدى الظائين ألفاً، وقيل لظى هي الدركة الثانية من طباق جهنم.
(نزاعة للشوى) قرأ الجمهور نزاعة بالرفع على أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ محذوف أو تكون لظى بدلاً من الضمير المنصوب ونزاعة خبر " أن " أو على أن نزاعة صفة للظى على تقدير عدم كونها علماً أن يكون الضمير في (إنها) للقصة ويكون لظى مبتدأ ونزاعة خبره والجملة خبر " إن " وقرىء بالنصب على الحال وقال أبو علي الفارسي حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال، وقيل العامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي أو النصب على الاختصاص والشوى الأطراف أو جمع شواة كنوى ونواة وهي جلدة الرأس.
وقال الحسن وثابت البناني: للشوى أي لمكارم الوجه وحسنه وكذا قال أبو العالية وقتادة، وقال قتادة: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئاً، وقال الكسائي: هي المفاصل وقال أبو صالح هي أطراف اليدين والرجلين، وقال ابن عباس: تنزع أم الرأس، وقيل الشوى الأعضاء التي ليست بمقتل، وقيل هو جلد الإنسان.
(تدعو) لظى (من أدبر) عن الحق في الدنيا (وتولى) أي أعرض عنه قيل إنها تقول إلي يا مشرك إلي يا منافق ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب، وقيل معنى تدعو تهلك تقول العرب دعاك الله أي أهلكك، وقيل ليس هو الدعاء باللسان، ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من عذابهم، وقيل المراد إن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين، فإسناد الدعاء إلى النار من باب إسناد ما هو للحال إلى المحل، وقيل هو تمثيل وتخييل ولا دعاء في الحقيقة.
والمعنى أن مصيرهم إليها والأول أولى لقوله (وتقول هل من مزيد) ولا موجب للصرف عن الظاهر، والله على كل شيء قدير.
(وجمع فأوعى) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه، وفي هذا ذم لمن جمع المال فأوعاه وكثره ولم ينفقه في سبيل الخير أو لم يؤد زكاته.
(إن الإنسان) أي الجنس عبر به لما له من الإنس لنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه (خلق هلوعاً) قال في الصحاح الهلع في اللغة أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، يقال هلوع بالكسر فهو هلع وهلوع، وقال عكرمة: هو الضجور، وقال ابن عباس: هو الشره، وقال الواحدي: والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله:
(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) وبه قال ابن عباس أي إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك فهو كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك، وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا أصابه شر أظهر شدة الجزع وإذا مسه الخير بخل به ومنعه الناس.
والعرب تقول ناقة هلوع وهلواع إذا كانت سريعة السير خفيفته، وقال أبو عبيدة الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشر لم يصبر،
وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدرة لأنه ليس متصفاً بالصفات المذكورة وقت خلقه ولا وقت ولادته، أو محققة لكونها طبائع جبل الإنسان عليها والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً.
وقوله:
(إلا المصلين) من قبيل استثناء الجمع من الواحد، لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع أي المؤمنين المقيمين للصلاة لأن الصلاة الشرعية تستلزم الإيمان يعني أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وإنهم على صفات محمودة وخلال مرضية لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.
ثم بينهم سبحانه فقال:
(الذين هم على صلاتهم دائمون) أي مواظبون أي لا يشغلهم عنها شاغل ولا يصرفهم عنها صارف، ولا يتركونها أداء ولا قضاء أي يفعلونها ولو قضاء (1) وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً.
قال الزجاج: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة وقال الحسن وابن جريج: هو التطوع منها قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة. وقال ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها.
وعن عمران بن حصين: قال الذي لا يلتفت في صلاته، وعن عقبة بن عامر قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا، والمراد بالآية جميع المؤمنين وقيل الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين.
(1) قوله " أي يفعلونها ولو قضاء " له معنيان (أحدهما) قضاء النائم والناسي فيقضي ما فاته نسياناً أو نوماً عند قيامه من النوم أو عندما يتذكر، وهذه صلاة مقبولة كما جاء في الحديث " من نام عن صلاة أو نسيها " الخ.
والمعنى الثاني لقضاء الصلاة هو أن يترك الصلاة عامداً شين طويلة ثم يتوب فيصلي مع كل صلاة صلاة وهذا غير مقبول فمن تاب سقط عنه ما مضى.
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قال قتادة ومحمد بن سيرين المراد الزكاة المفروضة، وقال مجاهد سوى الزكاة، وقيل صلة الرحم، وحمل الكل؛ والظاهر أنه الزكاة المفروضة لوصفه بكونه معلوماً ولجعله قريناً للصلاة.
(للسائل) أي الذي يسأل الناس (والمحروم) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم على حد (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) وقد تقدم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات وفي سورة المؤمنين مستوفى.
(والذين يصدقون بيوم الدين) أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه، وقيل يصدقونه بأعمالهم فيتعبون أنفسهم في الطاعات، لأن التصديق به يستلزم الاستعداد له بالأعمال الصالحة
(والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم.
وجملة
(إن عذاب ربهم غير مأمون) مقررة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد لجواز أن يحل به وإن بلغ في الطاعة ما بلغ، وأن حق كل أحد أن يخافه، ويكون مترجماً بين الخوف والرجاء.