المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‌ ‌(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١٤

[صديق حسن خان]

الفصل: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‌ ‌(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‌

(29)

إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) من الإماء، ولشبههن في جريان التصرف عليهن عبر عنهن " بما " التي لغير العاقل (فإنهم غير ملومين) على ترك الحفظ

ص: 319

(فمن ابتغى) أي طلب منكحاً (وراء ذلك) أي غير الزوجات والمملوكات.

(فأولئك هم العادون) أي المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام والمتعدون ما حد لهم، وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والزنا والاستمناء بالكف، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين مستوفى.

ص: 319

(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئاًً من العهود التي يعقدونها على أنفسهم، قرأ الجمهور لأماناتهم بالجمع وقرىء بالإفراد وهما سبعيتان، والمراد الجنس وهي تتناول أمانات الشرع، وأمانات العباد، ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان، وقيل الأمانات ما تدل عليه العقول. والعهود ما أتى بها الرسول.

ص: 319

(والذين هم بشهاداتهم قائمون) أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام وحسن الأداء، ويقيمونها عند الحكام على من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، بلا ترجيح للقوي على الضعيف، ولا يكتمونها ولا يغيرونها إظهاراً للصلابة في الدين، ورغبة في إحياء حقوق المسلمين.

وقد تقدم القول على الشهادة في سورة البقرة قرأ الجمهور بشهادتهم بالإفراد وقرىء بالجمع، قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، قال الفراء ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى:(وأقيموا الشهادة لله) وقيل أراد بالشهادة الشهادة بكلمة التوحيد، والأول أولى.

ص: 319

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

ص: 320

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) أي على أذكارها وأركانها وشرائطها لا يخلون بشيء من ذلك قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها، قال ابن جريج: المراد التطوع، وكرر ذكر الصلاة للدلالة على فضلها وأنافتها على غيرها، ولاختلاف ما وصفهم به أولاً وما وصفهم به ثانياً فإن معنى الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف، ومعنى المحافظة أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها.

وقيل المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد، وقال الكرخي: وفي هذه الصلاة مبالغات لا تخفى وهي تقديم الضمير وبناء الجملة عليه وتقديم الجار والمجرور على الفعل، وجعل بعض الجمل اسميه مفيدة للدوام والثبات، وبعضها فعلية مفيدة للاستمرار التجددي.

ص: 320

(أولئك) الموصوفون بتلك الصفات مستقرون (في جنات مكرمون) بأنواع الكرامات وهما خبران.

ص: 320

(فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) أي أيّ شيء ثبت لهم فهم

ص: 320

حواليك مسرعين، قال الأخفش مهطعين مسرعين، وقيل المعنى ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم، وقيل ما بالهم مسرعين إلى التكذيب، وقيل ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك فيكذبونك ويستهزئون بك، وقال الكلبي إن معنى مهطعين ناظرين إليك، وقال قتادة عامدين، وقيل مسرعين إليك مادي أعناقهم مديمي النظر إليك.

ص: 321

(عن اليمين وعن الشمال عزين) أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة وعزين جمع عزة وهي العصبة من الناس، وقيل أصلها عزوة من العزو، وكأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الفرقة الأخرى وقال في الصحاح العزة الفرقة من الناس، والهاء عوض عن الياء والجمع عزى وعزون، قال ابن عباس عزين العصب من الناس معرضين يستهزئون به، وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون فقال ما لي أراكم عزين " (1).

(1) روى مسلم في " صحيحه " 1/ 322 عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقَاً، فقال:" ما لي أراكم عِزينَ؟ " أي جماعات في تفرقة، جمع عزة، وأصلها " عزوة " فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس كثُبين جمع ثُبة. والحديث رواه أيضاً أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير الطبري. وفي هذا الحديث دلالة على أن التفرقة في الأجسام تولد التفرقة في القلوب.

ص: 321

(أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم) كالمؤمنين المسلمين قال المفسرون: كان المشركون يقولون لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلن قبلهم، فنزلت الآية، قرأ الجمهور ويدخل مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل.

ثم رد الله سبحانه عليهم فقال:

ص: 321

(كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) أي من القذر الذي يعلمون به يعني من النطفة المذرة، وأبهم إشعاراً بأنه منصب يستحي من ذكره فلا ينبغي فم هذا التكبر، وهذا استدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضاً محالاً عندهم بعد ردعهم

ص: 321

عنه، وقيل المعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو امتثال الأمر والنهي وتكميل النفس بالعلم والعمل، وتعريضهم للثواب والعقاب كما في قوله:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

أخرج أحمد وابن ماجة وابن سعد وابن أبي عاصم والبارودي وابن قانع والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء عن بشر بن جحاش قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا -إلى قوله- مِمَّا يَعْلَمُونَ) ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كفه ووضع عليها أصبعه وقال: " يقول الله ابن آدم أنىّ تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعمشا حتى إذا بلغت التراقي قلت أتى أوان الصدقة " (1).

قال ابن العربي في الفتوحات خلق الله تعالى الناس على أربعة أقسام قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام وقسم من ذكر فقط وهو حواء وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.

(1) رواه أحمد في " المسند " 4/ 210 من حديث حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش، وإسناده حسن، ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 502 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: صحيح ورواه ابن ماجة رقم (2707) وقال البوصيري في " الزوائد ": إسناده صحيح. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 167 من رواية البيهقي في " شعب الإيمان ".

ص: 322

(فلا أقسم) لا زائدة كما تقدم قريباً والمعنى فأقسم (برب المشارق والمغارب) قرأهما الجمهور بالجمع يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه، وقال ابن عباس للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه وكل يوم مغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس. وغير مغربها بالأمس، وقيل مشرق كل نجم ومغربه وقرىء بالإفراد، وقوله:

(إنا لقادرون

ص: 322

على أن نبدل خيراً منهم) جواب القسم، والمعنى إنا

ص: 322

لقادرون على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله حين عصوه، ونهلك هؤلاء أو نبدلهم بتحويل الوصف فيكونوا أشد بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً، وأعلى قدراً، وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً فيكونوا عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك، والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير، وكل ما يضيق به صدرك.

وقد فعل سبحانه ما ذكر من هذه الأوصاف بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بالإحسان، مع السعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر، والتمكن في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال.

ومن جملة المقسم عليه قوله: (وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر، ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء وعدم تبديلهم بخلق آخر

ص: 323

(فذرهم) أي دعهم واتركهم (يخوضوا) في باطلهم (ويلعبوا) في دنياهم واشتغل بما أمرت به، ولا يعظمن عليك ما هم فيه فليس عليك إلا البلاغ، وهذا تهديد لهم وتسلية له صلى الله عليه وسلم.

(حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) هو يوم كشف الغطاء الذي أوله عند الغرغرة وتناهيه النفخة الثانية ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وقيل هو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قال البقاعي وابن عادل، قرأ الجمهور يلاقوا وقرىء يلقوا، وفيه إشارة إلى أن التفاعل ليس على بابه.

ص: 323

(يوم يخرجون من الأجداث سراعاً)" يوم " بدل من يومهم؛ بدل بعض من كل على ما يقتضيه تفسير يومهم بما ذكر؛ قرأ الجمهور يخرجون على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول؛ والأجداث جمع جدث وهو القبر؛

ص: 323

والسراع جمع سريع وانتصابه على الحال من ضمير يخرجون.

(كأنهم إلى نصب يوفضون) قرأ الجمهور نصب بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه، وقال أبو عمرو هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. وقرىء بضمهما، وفيه ثلاثة أوجه أحدها أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة، وثانيها أنه جمع نصاب ككتب في كتاب، وثالثها أنه جمع نصب كرهن في رهن، وسقف في سقف، وجمع الجمع أنصاب، وقرىء بفتحتين ففعل بمعنى مفعول أي منصوب كالقبض، وقرىء بضم فسكون وهي تخفيف من الثانية.

وقال النحاس: نصب ونصب بمعنى واحد قيل معنى إلى نصب، إلى غاية وهي التي تنصب إليها بصرك، وقال الكلبي: إلى شيء منصوب كعلم أو راية أي كأنهم إلى علم يدعون إليه أو راية تنصب لهم يوفضون، قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم.

قيل معنى يوفضون يسرعون إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها، والإيفاض الإسراع يقال أوفض إيفاضاً أي أسرع إسراعاً، وفي القاموس: وفض يفض وفضاً بالسكون وبالتحريك عدا وأسرع كأوفض واستوفض، والأوفاض الفرق من الناس والأخلاط والجماعة من قبائل شتى كأصحاب الصفة، قال ابن عباس في الآية إلى علم يستبقون، وقيل يسعون وقيل ينطلقون والمعاني متقاربة.

وانتصاب

ص: 324

(خاشعة) على الحال من ضمير يرفضون وهو الأقرب أو من فاعل يخرجون وفيه بعد، والخشوع الذلة والخضوع و (أبصارهم) مرتفعة به والمعنى لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب.

(ترهقهم ذلة) أي تغشاهم ذلة شديدة ضد ما كانوا عليه في الدنيا

ص: 324

لأن من تعزز فيها عن الحق ذل في الآخرة ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة، قال قتادة هي سواد الوجوه ومنه غلام مراهق إذا غشيه الاحتلام، يقال رهقه بالكسر يرهقه رهقاً غشيه، ومثل هذا قوله (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) والجملة مستأنفة أو حال من قال يوفضون أو يخرجون.

(ذلك) الذي تقدم ذكره (اليوم الذي كانوا يوعدون) أي يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق وحضر ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به وإن كان مستقبلاً فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه، قال الخطيب وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أول السورة فقد رجع آخرها على أولها.

ص: 325