الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الناس
هي ست آيات والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، قال ابن عباس أنزل بمكة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وعن بن الزبير قال أنزل بالمدينة.
وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه، وأتى الحافظ ابن القيم في البدائع بفوائد بديعة كثيرة تتعلق بالمعوذتين، وكتب عشرين ورقة في بيان ذلك لا يتسع هذا المقام لبسطها إن شئت فراجعه.
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
(قُلْ أَعُوذُ) قرأ الجمهور بالهمزة وقرىء بحذفها ونقل حركتها إلى اللام (برب الناس) قرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس وقرىء بالإمالة، والمعنى مالك أمرهم ومربيهم ومصلح أحوالهم وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم.
وقوله
(ملك الناس) عطف بيان جيء به لبيان أن رتبته سبحانه ليست كرتبة سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والسلطان القاهر وقد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف بخلاف الفاتحة فاختلفوا فيها كما مضى.
(إله الناس) هو أيضاًً عطف بيان لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالإيجاد والإعدام.
وأيضاًً الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون ملكاً كما يقال رب الدار، ورب المتاع، ومنه قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فبين أنه ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فبين إنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد.
وأيضاًً بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس.
ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه وأنه عبد مخلوق وإن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار والبيان، ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، وقيل أراد بالأول الأطفال، ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني الشباب ولفظ الملك المنبيء عن السياسة يدل عليه، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبيء عن العبادة يدل عليه، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه، ذكره النسفي، ولا وجه لهذا التخصيص وإنما هذا الكلام من لطائف البيان.
(من شر الوسواس) قال الفراء هو بفتح الواو بمعنى الاسم أي الموسوس وبكسرها المصدر أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وقيل هو بالفتح اسم لمعنى الوسوسة، والوسوسة هي حديث النفس يقال وسوست إليه نفسه وسوسة أي حدثته حديثاً، وأصلها الصوت الخفي، ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس.
قال الزجاج الوسواس هو الشيطان أي ذي الوسواس ويقال إن الوسواس ابن لإبليس وسمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله (فوسوس لهما الشيطان) ومعنى (الخناس) كثير الخنس وهو التأخر يقال خنس إذا تأخر، قال مجاهد إذا ذكر الله خنس وانقبض وإذا لم يذكر انبسط على القلب.
ووصف بالخناس لأنه كثير الإختفاء ومنه قوله تعالى (فلا أقسم بالخنس) يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس.
وعن ابن عباس في قوله الوسواس الخناس قال مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
وعن ابن عباس في الآية قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وعنه قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس، فذلك قوله الوسواس الخناس.
وقد ورد في معنى هذا غيره وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان وإن لم يكن على طريق الإستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
(الذي يوسوس في صدور الناس) قال قتادة أن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له وإذا ذكر العبد ربه خنس.
قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
والجملة في محل الجر على الصفة أو الرفع على تقدير مبتدأ والنصب على الذم، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس.
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي فقال (من الجنة
والناس) أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته، في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه (شياطين الإنس والجن) ويجوز أن يكون متعلقاً بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ويجوز أن يكون بياناً للناس.
قال الرازي وقال قوم من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس) لأن القدر المشترك بين الجن والإنس سمي إنساناً، والإنسان أيضاًً سمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالإشتراك.
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم قالوا ناس من الجن وأيضاًً قد سماهم الله تعالى رجالاً في قوله (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس.
وقيل المراد بالناس " الناسي " وسقطت الياء كسقوطها في قوله يوم يدع الداع، ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان.
وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس) معطوفاً على الوسواس أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، قال الحسن أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس مباشرة أما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الإنس.
وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله " أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الحال المرتحل، قيل وما الحال المرتحل، قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل "، أخرجه الترمذي.