المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة فبينما هم كذلك إذ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١٥

[صديق حسن خان]

الفصل: إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة فبينما هم كذلك إذ

إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، وقال ابن عباس: تسجر حتى تصير ناراً، وقال أيضاًً سجرت أي اختلط ماؤها بماء الأرض.

ص: 99

(وإذا النفوس زوجت) أي قرنت بأجسادها أي ردت الأرواح إلى أبدانها، وهذا بناء على أن التزويج بمعنى جعل الشيء زوجاً، والنفوس على هذا بمعنى الأرواح وقيل معناه قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وقرن بين الرجل السوء مع رجل السوء في النار كذلك تزويج الأنفس، قاله عمر بن الخطاب، وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعاً.

وقال عطاء زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين، وقيل قرن كل شكل إلى شكله في العمل، وهو راجع إلى القول الثاني.

وقيل قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان كما في قوله (أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم) وقال الحسن ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئاًً من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين.

وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين.

وقيل قرنت النفوس بأعمالها وكتبها فأصحاب اليمين زوج. وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج

ص: 99

(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ) أي المدفونة حية (سُئِلَتْ ‌

(8)

ص: 99

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وقد كانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الحاجة والإملاق، وخشية الاسترقاق، يقال وأد يئد فهو وائد والمفعول به موؤود، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن فيطرح عليها التراب

ص: 99

فيثقلها فتموت، ومنه (ولا يؤوده حفظهما) أي لا يثقله وهنا قول متمم بن نويرة *ومؤودة مقبورة في مغارة* ومنه قول الراجز:

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن رميت

قرأ الجمهور " الْمَوْءُودَةُ " بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة، وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ الأعمش المودة بزنة الموزة، وقرأ الجمهور سئلت مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بكسر السين من سأل يسيل، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس سألت مبنياً للفاعل، وقتلت بضم التاء الأخيرة، وهذه قراءة شاذة.

والمعنى على الأولى أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كأنه لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك، وفيه تبكيت لقاتلها وتوبيخ له شديد بصرف الخطاب كقوله (أأنت قلت للناس) وهذه الطريقة أفظع في ظهور جناية القاتل وإلزام الحجة عليه.

قال الحسن أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب، وقيل لتدل على قاتلها وقيل لتقول بلا ذنب قتلت، وعلى هذا هو سؤال تلطف.

وقرأ الجمهور قتلت بالتخفيف مبنياً للمفعول، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير وقرىء بكسر التاء الثانية على أنها تاء المؤنثة المخاطبة والفعل مبني للمفعول، وهذه قراءة شاذة وفي مصحف أُبيّ وإذا الموؤودة سألت بأي ذنب قتلتني.

وفي الآية دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب.

عن عمر بن الخطاب قال " جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعتق عن كل واحدة رقبة، قال إني: صاحب إبل قال: فاهد عن كل واحدة بدنة " أخرجه البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه.

ص: 100

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)

ص: 101

(وإذا الصحف) أي صحائف الأعمال (نشرت) أي فتحت وبسطت للحساب لأنها تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم، قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو نشرت بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير وهما سبعيتان.

ص: 101

(وإذا السماء كشطت) أي أزيلت عن أماكنها وعدمت بالمرة، والكشط قلع عن شدة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش، والقشط بالقاف لغة في الكشط وهي قراءة ابن مسعود، قال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف، وقال الفراء: نزعت فطويت، وقال مقاتل كشفت عما فيها، قال الواحدي ومعنى الكشط رفعك شيئاًً عن شيء قد غطاه.

ص: 101

(وإذا الجحيم سعرت) أي أججت وأوقدت لأعداء الله إيقاداً شديداً، وزيد في إحمائها قرأ الجمهور سعرت بالتخفيف، وقرأ نافع وابن ذكوان وورش بالتشديد لأنها أوقدت مرة بعد مرة وهما سبعيتان، قال قتادة سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.

ص: 101

(وإذا الجنة أزلفت) أي قربت إلى المتقين وأدنيت منهم ليدخلوها، قال الحسن إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها، وقال ابن زيد معنى أزلفت تزينت، والأول أولى لأن الزلفى القرب في كلام العرب.

ص: 101

قيل هذه الأمور الإثنا عشر ست منها في الدنيا وهي من أول السورة إلى قوله (وإذا البحار سجرت) وست في الآخرة هي (وإذا النفوس زوجت) إلى هنا وقد سبق بيانها.

وجواب الجميع قوله

ص: 102

(علمت نفس ما أحضرت) على أن المراد الزمان الممتد من الدنيا إلى الآخرة لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء هذا الوقت الممتد أو عند وقوع كل داهية من تلك الدواهي، بل المراد علمت ما أحضرته عند نشر الصحف أو في موقف المحاسبة أو عند الميزان إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلاً للخطب، وتفظيعاً للحال.

والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضورها حضور صحائف الأعمال لأن الأعمال أعراض لا يمكن إحضارها أو حضور الأعمال نفسها، كما ورد أن الأعمال تصور بصور تدل عليها، وتعرف بها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس أي لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور والوضوح بحيث لا يخفى على أحد، ويدل على هذا قوله:

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) وقيل يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه " لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على فعله ".

ص: 102

(فلا أقسم) لا زائدة كما تقدم تحقيقه وتحقيق ما فيه من الأقوال في أول سورة القيامة أي فأقسم (بالخنس) وهي الكواكب، وسميت الخنس من خنس إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار فتخفى ولا ترى وهي زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد كما ذكره أهل التفسير، ووجه تخصيصها بالذكر من

ص: 102

بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة.

وقال في الصحاح الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تخفى نهاراً أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة.

قال الفراء إنها الكواكب الخمس المذكورة لأنها تخنس في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وقيل سميت خنساً لتأخرها لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال خنس عنه يخنس خنوساً إذا تأخر وأخنسه غيره إذا خلفه ومضى عنه والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة.

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى، وعنه قال خمسة أنجم زحل وعطارد والمشترى وبهرام والزهرة ليس شيء يقطع المجرة غيرها.

وعن ابن عباس قال: هي النجوم السبعة وزاد الشمس والقمر وخنوسها رجوعها وكنوسها تغيبها بالنهار.

ص: 103

(الجوار) أي السيارة لأنها تجري مع الشمس والقمر (الكنس) أي أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وقيل خنوسها خفاؤها بالنهار وكنوسها غروبها، قال الحسن وقتادة هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها.

وقيل المراد بها بقر الوحش وبه قال ابن مسعود: لأنها تتصف بالخنس وبالجواري وبالكنس، وقال عكرمة: اخنس البقر والكنس الظباء فهي تخنس إذا رأت الإنسان وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها، وقيل هي الملائكة والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا.

والكنس مأخوذ من الكناس الذي يختفي فيه الوحش، والخنس جمع خانس وخانسة، والكنس جمع كانس وكانسة.

ص: 103

وقال ابن عباس هي البقرة تكنس إلى الظل، وعنه قال تكنس لأنفسها في أصول الشجر تتوارى فيه، وعنه قال هي الظباء وعنه الخنس البقر، والجوار الكنس الظباء، ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت نظرها.

وعن أبي العديس قال: " كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين ما الجواري الكنس فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه فقال عمر: أحروري؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك " أخرجه الحاكم في الكنى، وهذا منكر، فإن الحرورية لم يكونوا في زمن عمر رضي الله عنه ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر.

ص: 104

(والليل إذا عسعس) أي أقبل بظلامه أو أدبر، قال أهل اللغة: هو من الأضداد. يقال عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله الآتي

ص: 104

(والصبح إذا تنفس) قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر كذا حكاه عنه الجوهري، وقال الحسن: أقبل ظلامه، قال الفراء العرب تقول عسعس الليل إذا أقبل وإذا أدبر.

وهذا لا ينافي ما تقدم عنه لأنه حكى عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر، وإن كان في الأصل مشتركاً بين الإقبال والإدبار، قال المبرد هو من الأضداد، قال والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، قال ابن عباس عسعس أدبر وعنه قال إقبال سواده.

(والصبح إذا تنفس) أي امتد حتى يصير نهاراً بيناً، والتنفس في الأصل خروج النسيم من الجوف، وتنفس الصبح إقباله لأنه يقبل بروح ونسيم، فجعل ذلك تنفساً له مجازاً أو شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرك فإذا تنفس وجد راحة، وههنا لما طلع الصبح

ص: 104

فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.

قال الواحدي تنفس أي امتد ضوؤه حتى يصير نهاراً ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس، وقيل المعنى إذا انشق وانفلق ومنه تنفست القوس أي تصدعت قال ابن عباس إذا تنفس إذا بدا النهار حين طلوع الفجر.

قال الشهاب مناسبته لقرينه ظاهرة على التفسيرين لأن ما قبله إن كان للإقبال فهو أول الليل وهذا أول النهار، وإن كان للإدبار فهذا ملاصق له فبينهما مناسبة الجوار فلا وجه لما قيل من أنه على الأول أنسب انتهى.

ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال

ص: 105

(إنه) أي القرآن (لقول رسول كريم) على الله تعالى يعني جبريل وبه قال ابن عباس لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلاً به وقيل المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى.

ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال

ص: 105

(ذي قوة عند ذي العرش مكين) أي ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به كما في قوله (شديد القوى) ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود وحملها على جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ثم يصعد في أسرع من رد الطرف.

والمعنى أنه ذو رفعة عالية ومكانة مكينة عند الله سبحانه، وهو في محل نصب على الحال من مكين، وأصله الوصف فلما قدم صار حالاً، ويجوز أن يكون نعتاً لرسول يقال مكن فلان عند فلان مكانة أي صار ذا منزلة عنده ومكانة قال أبو صالح من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.

ص: 105

مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

ومعنى قوله

ص: 106

(مطاع) أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه ومن طاعتهم له أنهم فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله.

قال الحسن فرض الله على أهل السموات طاعة جبريل كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ثََمَّ أمين) قرأ الجمهور بفتح ثم على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيه مطاع أو ما بعد، والمعنى أنه مطاع في السموات أو أمين فيها أي مؤتمن على الوحي وغيره.

وقرىء بضمها على أنها عاطفة وكأن العطف بها للتراخي في الرتبة لأن ما بعدها أعظم مما قبلها ومن قال أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمعنى أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة، مطاع يطيعه من أطاع الله، أمين على الوحي.

ص: 106

(وما صاحبكم بمجنون) الخطاب لأهل مكة والمراد بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون وغيره في شيء، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم.

وهذه الجملة داخلة في جواب القسم فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل وأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه.

ص: 106

والمقصود (1) رد قولهم (إنما يعلمه بشر)(افترى على الله كذباً أم به جنة) لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.

ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماج لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش بأن جعل السفير بينه وبينه مثل هذا الملك المقرب المطاع الأمين، فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعة منزلة له كالقول في قوله ذي العرش بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل عليه السلام، كذا ذكره الكرخي.

(1) جواب سؤال تقريره أن بعضهم استدل بالآية على فضل جبريل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث عد فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجاب المؤلف العلامة عن هذا بقوله والمقصود رد قولهم الخ أهـ السيد ذو الفقار.

ص: 107

(ولقد رآه بالأفق المبين) اللام جواب قسم محذوف أي وتالله لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بمطلع الشمس من قبل المشرق، لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين، لأن من جهته ترى الأشياء وهذه الرؤية هي الواقعة في غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض، وقيل الأفق المبين أقطار السماء ونواحيها.

وإنما قال سبحانه ذلك مع أنه قد رآه غير مرة لأنه رآه هذه المرة في صورته له ستمائة جناح.

قال سفيان: إنه رآه في أفق السماء الشرقي أي لأنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، وقال ابن بحر في أفق السماء الغربي، وقال مجاهد: رآه نحو أجياد وهو مشرق مكة، والمبين صفة للأفق، قاله الربيع: وقيل صفة لمن رآه قاله مجاهد.

وقيل معنى الآية ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، وقد تقدم القول في هذا في سورة النجم.

ص: 107

قال ابن عباس في الآية إنما عنى جبريل أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآه في صورته عند سدرة المنتهى، والأفق المبين السماء السابعة.

ص: 108

(وما هو) أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (على الغيب) يعني خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائباً علمه عن أهل مكة (بظنين) أي بمتهم أي هو ثقة فيم يؤدي عن الله سبحانه، وقيل بضنين بالضاد أي ببخيل، قاله ابن عباس أي لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ.

وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء أي بمتهم والظنة التهمة واختارها أبو عبيد، قال لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه واتهموه.

وقرأ الباقون بالضاد من ضننت بالشيء أضن ضناً إذا بخلت، قال مجاهد أي لا يضن عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه، وقيل المراد جبريل أنه ليس على الغيب بضنين والأول أولى.

وقرأ ابن مسعود بالظاء بمعنى متهم.

وعن عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأها بالظاء " أخرجه الدارقطني في الإفراد والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب، فإن البخل وما في معناه لا يتعدى بعلى وإنما يتعدى بالباء.

ص: 108

(وما هو) أي القرآن (بقول شيطان رجيم) طريد من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب، قال الكلبي يقول أن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش كقوله (وما تنزلت به الشياطين) قال عطاء يريد بالشيطان الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه.

ثم بكتهم الله سبحانه ووبخهم فقال

ص: 108

(فأين تذهبون) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور إنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء أي

ص: 108

أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته، قاله قتادة، وقال الزجاج: معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم.

وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في جنبات الطريق أين تذهب وإلى أين تذهب، وحكى الفراء عن العرب ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق أي إليها قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة يريد إلى أي أرض تذهب فحذف إلى.

ص: 109

(إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم.

وقوله

ص: 109

(لمن شاء منكم) بدل من العالمين بإعادة الجار ومفعول المشيئة (أن يستقيم) أي لمن شاء منكم الإستقامة على الحق والإيمان والطاعة.

ص: 109

(وَمَا تَشَاءُونَ) الاستقامة (إلا أن) أي بأن (يشاء الله) تلك المشيئة فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، ومثل هذا قوله سبحانه (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) وقوله (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وقوله (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) والآيات القرآنية في هذا المعنى كثير.

والخطاب هنا ليس للمخاطبين في قوله (فأين تذهبون) بل هو لمن عبر عنهم بقوله لمن شاء منكم أن يستقيم (رب العالمين) أي مالك الخلق أجمعين.

ْعن أبي هريرة قال " لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قالوا الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذبوا يا محمد (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه ".

ص: 109