الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العشرون في طريقة النفاة فيما يجب إثباته
أو نفيه من صفات الله
اتفق النفاة على أن يُثبتوا لله من الصفات ما اقتضت عقولهم إثباته، وأن ينفوا عنه ما اقتضت عقولهم نفيه، سواء وافق الكتاب والسنة، أم خالفهما، فطريق إثبات الصفات لله أو نفيها عنه عندهم هو العقل.
ثم اختلفوا فيما لا يقتضي العقل إثباته، أو نفيه، فأكثرهم نفوه وخرجوا ما جاء منه على المجاز، وبعضهم توقف فيه وفوض علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات.
وهم يزعمون أنهم وفقوا بهذه الطريقة بين الأدلة العقلية والنقلية، ولكنهم كذبوا في ذلك؛ لأن الأدلة العقلية والنقلية متفقة على إثبات صفات الكمال لله، وكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله، فإنه لا يخالف العقل، وإن كان العقل يعجز عن إدراك التفصيل في ذلك.
وقد شابه هؤلاء النفاة في طريقتهم طريقة من قال الله فيهم:
ووجه مشابهتهم لهم من وجوه:
الأول: أن كل واحد من الفريقين يزعم أنّه مؤمن بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم لا يقبلون كل ما جاء به.
الثاني: أن هؤلاء النفاة إذا دعوا إلى ما جاء به الكتاب والسنة من إثبات صفات الكمال لله أعرضوا وامتنعوا، كما أن أولئك المنافقين إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول؛ صدّوا وأعرضوا.
الثالث: أن هؤلاء النفاة لهم طواغيت يقلدونهم ويقدمونهم على ما جاءت به الرسل، ويريدون أن يكون التحاكم عند النزاع إليهم لا إلى الكتاب والسنة، كما أن أولئك المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أُمروا أن يكفروا به.
الرابع: أن هؤلاء النفاة زعموا أنهم أرادوا بطريقتهم هذه عملاً حسناً، وتوفيقاً بين العقل والسمع، كما أن أولئك المنافقين
يحلفون أنهم ما أرادوا إلا إحساناً وتوفيقاً.
وكل مبطل يتستر في باطله، ويتظاهر بالحق فإنه يأتي بالدعاوى الباطلة التي يروج بها باطله، ولكن من وهبه الله علماً، وفهماً، وحكمة، وحسن قصد فإنه لا يلتبس عليه الباطل، ولا تروج عليه الدعاوى الكاذبة. والله المستعان.
فصل
فيما يلزم على طريقة النفاة من اللوازم الباطلة
يلزم على طريقة النفاة لوازم باطلة منها:
أولاً - أنّ الكتاب والسنة صرحا بالكفر والدعوة إليه؛ لأنهما مملوءان من إثبات صفات الله التي زعم هؤلاء النفاة أن إثباتها تشبيه وكفر.
ثانياً - أن الكتاب والسنة لم يُبينا الحقّ؛ لأن الحقّ عند هؤلاء هو نفي الصفات، وليس في الكتاب ولا في السنة ما يدلّ على نفي صفات الكمال عن الله لا نصًّا، ولا ظاهراً.
وغاية المتحذلق من هؤلاء أن يستنتج ذلك (1) من مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] . وقوله تعالى: {) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
ومن المعلوم لكل عاقل أن المقصود من أمثال هذه النصوص
(1) -أي: ما يدعيه من نفي الصفات.
إثبات كمال الله تعالى، وأنه لا شبيه له في صفاته، ولا يمكن أن يُراد بها بيان انتفاء الصفات عنه، إذ لا ريب أن من دلّ الناس على انتفاء الصفات عن الله بمثل هذا الكلام، فهو إما ملغز في كلامه، أو مدلس، أو عاجز عن البيان، وكل هذه الأمور ممتنعة في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كلامهما قد تضمّن كمال البيان والإرادة، فليس المقصود به إرادة ضلال الخلق والتعمية عليهم، وليس فيه نقص في البيان والفصاحة.
ثالثاً - إن السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان كانوا قائلين بالباطل وكاتمين للحق، أو جاهلين به؛ فإنه قد تواتر النقل عنهم بإثبات صفات الكمال لله، الذي زعم هؤلاء أنه باطل، ولم يتكلموا مرة واحدة بنفي الصفات الذي زعم هؤلاء أنه الحق، وهذا اللازم ممتنع على خير القرون وأفضل الأمة.
رابعاً - أنه إذا انتفت صفة الكمال عن الله لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، فإن كل موجود في الخارج فلا بد له من صفة، فإذا انتفت عنه صفات الكمال لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، وبهذا ينعكس الأمر على هؤلاء النفاة، ويقعون في شرّ مما فروا منه.
فصل
فيما يعتمد عليه النفاة من الشبهات
يعتمد نفاة الصفات على شبهات باطلة (1) يعرف بطلانها كل من رزقه الله علماً صحيحاً، وفهماً سليماً.
وغالب ما يعتمدون عليه ما يأتي:
1 -
دعوى كاذبة مثل أن يدعي الإجماع على قوله، أو أنه هو التحقيق، أو أنه قول المحققين، أو أن قول خصمه خلاف الإجماع، ونحو ذلك.
2 -
شبهة مركبة من قياس فاسد، مثل قولهم: إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه، لأن الصفات، أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة.
3 -
تمسك بألفاظ مشتركة بين معان يصحّ نسبتها إلى الله تعالى ومعان لا يصح نسبتها إليه. مثل: الجسم، والحيز، والجهة، فهذه الألفاظ المجملة يتوصلون بإطلاق نفيها عن الله إلى نفي صفاته عنه (2) .
(1) -ومنها ما تقدم من قوله تعالى: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65]{ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص] .
(2)
-انظر: الكلام في الجهة (ص34) الباب التاسع، والكلام في الجسم (ص39 - فما بعد) من الباب العاشر. وأما الحيز فيفصل فيه: فإن أُريد أن الله تحوزه المخلوقات فهو ممتنع، وإن أريد أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها فصحيح.
ثم هم يصوغون هذه الشّبهات بعبارات مزخرفة طويلة غريبة يحسبها الجاهل بها حقًّا بما كسيته من زخارف القول، فإذا حقق الأمر تبين له أنها شبهات باطلة، كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًّا وكل كاسر مكسور والرد على هؤلاء من وجوه:
الأول - نقض شبهاتهم وحججهم، وأنه يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فيما نفوه.
الثاني - بيان تناقض أقوالهم واضطرابها، حيث كان كل طائفة منهم تدعي أن العقل يوجب ما تدعي الأخرى أنه يمنعه ونحو ذلك، بل الواحد منهم ربما يقول قولاً يدعي أن العقل يوجبه، ثم ينقضه في محل آخر، وتناقض الأقوال من أقوى الأدلة على فسادها.
الثالث - بيان ما يلزم على نفيهم من اللوازم الباطلة فإن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
الرابع - أن النصوص الواردة في الصفات لا تحتمل التأويل، ولئن احتمله بعضها فليس فيه ما يمنع إرادة الظاهر فتعين المصير إليه.
الخامس - أن عامة هذه الأمور من الصفات يعلم بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء بها، فتأويلها بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية للصلاة، والصوم، والحج، ونحو ذلك.
السادس - أن العقل الصريح - أي: السالم من الشبهات، والشهوات - لا يحيل ما جاءت به النصوص من صفات الله، بل إنه يدل على ثبوت صفات الكمال لله في الجملة، وإن كان في النصوص من التفاصيل في هذا الباب ما تعجز العقول عن إدراكه والإحاطة به.
وقد اعترف الفحول من هؤلاء أن العقل لا يمكنه الوصول إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وعلى هذا فالواجب تلقّي ذلك من النبوات على ما هو عليه من غير تحريف. والله أعلم.