المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس والعشرون في الإسلام والإيمان - فتح رب البرية بتلخيص الحموية

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول فيما يجب على العبد في دينه

- ‌الباب الثاني فيما تضمنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من بيان الحق في أصول الدين وفروعه

- ‌الباب الثالث في طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته

- ‌الباب الرابع في بيان صحة مذهب السلف وبطلان القول بتفضيل مذهب الخلف في العلم والحكمة على مذهب السلف

- ‌الباب الخامس في حكاية بعض المتأخرين لمذهب السلف

- ‌الباب السادس في لبس الحق بالباطل من بعض المتأخرين

- ‌الباب السابع في أقوال السلف المأثورة في الصفات

- ‌الباب الثامن في علو الله تعالى وأدلة العلو

- ‌الباب التاسع في الجهة

- ‌الباب العاشر في استواء الله على عرشه

- ‌الباب الحادي عشر في المعية

- ‌الباب الثاني عشر في الجمع بين نصوص علو الله بذاته ومعيته

- ‌الباب الثالث عشر في نزول الله إلى السماء الدنيا

- ‌الباب الرابع عشر في إثبات الوجه لله تعالى

- ‌الباب الخامس عشر في يدي الله عز وجل

- ‌الباب السادس عشر في عيني الله تعالى

- ‌الباب السابع عشر في الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين

- ‌الباب الثامن عشر في كلام الله سبحانه وتعالى

- ‌الباب التاسع عشر في ظهور مقالة التعطيل واستمدادها

- ‌الباب العشرون في طريقة النفاة فيما يجب إثباته

- ‌الباب الحادي والعشرون في أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل

- ‌الباب الثاني والعشرون في تحذير السلف عن علم الكلام

- ‌الباب الثالث والعشرون في أقسام المنحرفين عن الاستقامة في باب الإيمان بالله واليوم الآخر

- ‌الباب الرابع والعشرون في انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها

- ‌الباب الخامس والعشرون في ألقاب السوء التي وضعها المبتدعة على أهل السنة

- ‌الباب السادس والعشرون في الإسلام والإيمان

الفصل: ‌الباب السادس والعشرون في الإسلام والإيمان

‌الباب السادس والعشرون في الإسلام والإيمان

الإسلام لغة: الانقياد.

وشرعاً: استسلام العبد لله ظاهراً وباطناً، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. فيشمل الدين كله، قال الله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .

وأما الإيمان فهو لغة: التصديق. قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] .

وفي الشرع: إقرار القلب المستلزم للقول والعمل، فهو اعتقاد وقول وعمل، اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب والجوارح.

والدليل على دخول هذه الأشياء كلها في الإيمان، قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"(1) .

وقوله: "الإيمان بضع

(1) -انظر: البخاري (50) كتاب الإيمان، 37 - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة.

ومسلم (9) كتاب الإيمان، 1 - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله.

ص: 117

وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (1) .

فالإيمان بالله وملائكته

إلخ؛ اعتقاد القلب.

وقول لا إله إلا الله؛ قول اللسان.

وإماطة الأذى عن الطريق عمل الجوارح.

والحياء؛ عمل القلب.

وبذلك عرف أن الإيمان يشمل الدين كله، وحينئذٍ لا فرق بينه وبين الإسلام، وهذا حينما ينفرد أحدهما عن الآخر، أما إذا اقترن أحدهما بالآخر فإن الإسلام يفسر بالاستسلام الظاهر الذي هو قول اللسان، وعمل الجوارح، ويصدر من المؤمن كامل الإيمان، وضعيف الإيمان. قال الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . ومن المنافق لكن يُسمّى مسلماً ظاهراً، ولكنه كافر باطناً.

ويفسر الإيمان بالاستسلام الباطن الذي هو إقرار القلب وعمله، ولا يصدر إلا من المؤمن حقًّا، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا

(1) -رواه البخاري (9) كتاب الإيمان، 3 - باب أمور الإيمان.

ومسلم (35) كتاب الإيمان، 12 - باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان. واللفظ له.

ص: 118

رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 2 - 4] .

وبهذا المعنى يكون الإيمان أعلى. فكل مؤمن مسلم؛ ولا عكس.

فصل

في زيادة الإيمان ونقصانه

من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.

فمن أدلة الكتاب، قوله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] .

ومن أدلة السنة، قوله صلى الله عليه وسلم، في النساء:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلبِّ الرجل الحازم من إحداكن"(1) .

ففي الآية إثبات زيادة الإيمان، وفي الحديث إثبات نقص الدين.

وكل نص يدل على زيادة الإيمان، فإنه يتضمن الدلالة على نقصه؛ وبالعكس لأن الزيادة والنقص متلازمان، لا يعقل أحدهما دون الآخر.

وقد ثبت لفظ الزيادة والنقص منه عن الصحابة، ولم يعرف منهم مخالف فيه، وجمهور السلف على ذلك قال ابن عبد البر:

(1) -رواه البخاري (304) كتاب الحيض، 6 - باب ترك الحائض الصوم. ومسلم (80) كتاب الإيمان، 34 - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات

ص: 119

وعلى أن الإيمان يزيد وينقص جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار. وذكر عن مالك روايتين في إطلاق النقص إحداهما: التوقف. والثانية: موافقة الجماعة.

وخالف في هذا الأصل طائفتان:

الأولى - المرجئة الخالصة الذين يقولون: إن الإيمان إقرار القلب، وزعموا أن إقرار القلب لا يتفاوت؛ فالفاسق والعدل عندهم سواء في الإيمان.

الثانية - الوعيدية من المعتزلة والخوارج، الذين أخرجوا أهل الكبائر من الإيمان، وقالوا: إن الإيمان إما أن يوجد كله، وإما أن يعدم كله، ومنعوا من تفاضله.

وكل من هاتين الطائفتين محجوج بالسمع والعقل.

أما السمع فقد تقدّم في النصوص ما دل على إثبات زيادة الإيمان ونقصه.

وأما العقل فنقول للمرجئة: قولكم: إن الإيمان هو إقرار القلب، وإقرار القلب لا يتفاوت،

ص: 120

ممنوع في المقدمتين جميعاً.

أما المقدمة الأولى: فتخصيصكم الإيمان بإقرار القلب مخالف لما دلّ عليه الكتاب والسنة من دخول القول والعمل في الإيمان.

وأما المقدمة الثانية: فقولكم: إن إقرار القلب لا يتفاوت مخالف للحس، فإن من المعلوم لكل أحد أن إقرار القلب إنما يتبع العلم؛ ولا ريب أن العلم يتفاوت بتفاوت طرقه، فإن خبر الواحد لا يفيد ما يفيده خبر الاثنين وهكذا، وما أدركه الإنسان بالخبر لا يساوي في العلم ما أدركه بالمشاهدة، فاليقين درجات متفاوتة، وتفاوت الناس في اليقين أمر معلوم، بل الإنسان الواحد يجد من نفسه أنه يكون في أوقات وحالات أقوى منه يقيناً في أوقات وحالات أخرى.

ونقول: كيف يصح لعاقل أن يحكم بتساوي رجلين في الإيمان أحدهما: مثابر على طاعة الله تعالى فرضها ونفلها، متباعد عن محارم الله، وإذا بدرت منه المعصية بادر إلى الإقلاع عنها والتوبة منها، والثاني: مُضيّع لما أوجب الله عليه، ومنهمك فيما حرّم الله عليه، غير أنه لم يأت ما يكفره، كيف يتساوى هذا وهذا؟!

وأما الوعيدية، فنقول لهم: قولكم: إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، فإذا تبين ذلك فكيف نحكم بتساوي رجلين في الإيمان؟! أحدهما: مقتصد فاعل للواجبات، تارك للمحرّمات، والثاني: ظالم لنفسه يفعل ما حرم الله عليه، ويترك ما أوجب الله عليه من غير أن يفعل ما يكفر به؟!

ص: 121

ونقول ثانياً: هب أننا أخرجنا فاعل الكبيرة من الإيمان، فكيف يمكن أن نحكم على رجلين بتساويهما في الإيمان وأحدهما مقتصد، والآخر سابق بالخيرات بإذن الله؟!

فصل

ولزيادة الإيمان أسباب منها:

1 -

معرفة أسماء الله وصفاته، فإن العبد كلما ازداد معرفة بها وبمقتضياتها، وآثارها، ازداد إيماناً بربه وحبًّا له وتعظيماً.

2 -

النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة، والحكمة البالغة، ازداد إيماناً ويقيناً بلا ريب.

3 -

فعل الطاعة تقرباً إلى الله تعالى، فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل وجنسه وكثرته، فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم، وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة.

وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون، وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر، وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها؛ لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزيد بزيادته.

4 -

ترك المعصية خوفاً من الله عز وجل، وكلما قوي الداعي

ص: 122

إلى فعل المعصية كانت زيادة الإيمان بتركها أعظم؛ لأن تركها مع قوة الداعي إليها دليل على قوة إيمان العبد، وتقديمه ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.

وأما نقص الإيمان فله أسباب منها:

1 -

الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته.

2 -

الغفلة والإعراض عن النظر في آيات الله وأحكامه الكونية والشرعية، فإن ذلك يُوجب مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.

3 -

فعل المعصية، فينقص الإيمان بحسب جنسها، وقدرها، والتهاون بها، وقوة الداعي إليها أو ضعفه.

فأما جنسها وقدرها فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محترم، ونقصه بمعصيتين أكثر من نقصه بمعصية واحدة، وهكذا.

وأما التهاون بها فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى شديد الخوف منه، لكن فرطت منه المعصية.

ص: 123

وأما قوة الداعي إليها فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير، وزنى الشيخ أعظم إثماً من استكبار الغني، وزنى الشاب، كما في الحديث:"ثلاثة لا يُكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"(1) . وذكر منهم الأشيمط الزاني، والعائل المستكبر، لقلة داعي تلك المعصية فيهما.

4 -

ترك الطاعة فإن الإيمان ينقص به، والنقص به على حسب تأكد الطاعة، فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة.

ثم إن نقص الإيمان بترك الطاعة على نوعين: نوع يعاقب عليه، وهو: ترك الواجب بلا عذر. ونوع لا يعاقب عليه وهو: ترك الواجب لعذر شرعي، أو حسي، وترك المستحب، فالأول كترك المرأة الصلاة أيام الحيض، والثاني كترك صلاة الضحى. والله أعلم.

(1) -رواه مسلم (107) كتاب الإيمان، 46 - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية

واللفظ المذكور للطبراني في "الثلاثة". قال الهيثمي في "المجمع"(4/78) والمنذري في "الترغيب": رجاله رجال الصحيح.

وقال الأخير: الأشيمط مصغر أشمط، وهو مَنِ ابيضّ بعض شعر رأسه كبراً، واختلط بأسوده.

وصححه الألباني (1788 - صحيح الترغيب) .

ص: 124

فصل

في الاستثناء في الإيمان

الاستثناء في الإيمان: أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وقد اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال:

القول الأول - تحريم الاستثناء، وهو قول المرجئة، والجهمية ونحوهم. ومأخذ هذا القول: إن الإيمان شيء واحد، يعلمه الإنسان من نفسه، وهو التصديق الذي في القلب، فإذا استثنى فيه كان دليلاً على شكه، ولذلك كانوا يسمون الذين يستثنون في الإيمان "شكاكاً".

القول الثاني - وجوب الاستثناء، وهذا القول له مأخذان:

1 -

أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، فالإنسان إنما يكون مؤمناً وكافراً بحسب الوفاة، وهذا شيء مستقبل غير معلوم. فلا يجوز الجزم به، وهذا مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، لكن هذا المأخذ لم يعلم أن أحداً من السلف علل به، وإنما كانوا يُعللون بالمأخذ الثاني. وهو:

2 -

أن الإيمان المطلق يتضمن فعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، وهذا لا يجزم به الإنسان من نفسه، ولو جزم

ص: 125

لكان قد زكى نفسه، وشهد لها بأنه من المتقين الأبرار، وكان ينبغي على هذا أن يشهد لنفسه بأنه من أهل الجنة، وهذه لوازم ممتنعة.

القول الثالث - التفصيل فإن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا مُحرّم، بل كفر؛ لأن الإيمان جزم، والشك يُنافيه، وإن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً، وعملاً، واعتقاداً، فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور، وإن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز.

والتعليق بالمشيئة على هذا الوجه - أعني بيان التعليل - لا ينافي تحقق المعلق، فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة. كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُون} [الفتح: 27] .

وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء، بل لا بد من التفصيل السابق. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 8 من ذي القعدة سنة 1380هـ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المؤلف

ص: 126