الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رقم اثنين
رأي ابن حزم في اللهو وآلاته
وبيع الشطرنج، والمزامير، والعيدان، والمعازف والطنابير حلال كله، ومن كسر شيئا من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورة مصورة فلا ضمان على كسرها، لما ذكرنا من قبل، لأنها مال من مال مالكها، وكذلك بيع المغنيات وابتياعهن، قال تعالى:(وأحل الله البيع) . وقال تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) .
وقال تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم) . ولم يأت نص بتحريم بيع شيء من ذلك، وروى أبو حنيفة الضمان على من كسر شيئا من ذلك، واحتج المانعون بآثار لا تصح أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها، وهي ما روينا من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن عبد الله بن زيد بن الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل
شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فأنهن من الحق. عبد الله بن زيد بن الأزرق مجهول. ولم يخل أي طريق آخر من طرق هذا الحديث من مجهول أو مدسوس. وكذلك قول صلى الله عليه وسلم فيما روي عن عائشة -: إن الله حرّم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها. فيه: ليث وهو ضعيف، وسعيد بن أبي رزين وهو مجهول، وأخوه لم يسم، وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء، فذكر منهن: واتخذوا القينات، والمعازف فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء ومسخا وخسفا. وسنده: لاحق بن الحسين وضرار بن علي، والحمصي مجهولون، وفرج بن فضالة متروك، وما روي عن معاوية من أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن تسع، وذكر فيهن: الغناء والنوح. في سنده: محمد بن المهاجر ضعيف، وكيسان مجهول. وما رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الغناء ينبت النفاق في القلب. سنده عجيب جدا. وما رواه أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض. في سنده ضعف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر بغير اسمها والديانة لا تؤخذ بالظن. وما نقل عن أنس بن مالك أنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس إلى قينة فسمع منها صبّ الله في أذنيه الآنك يوم القيامة. موضوع مركّب ما عرف من طريق أنس ولا من رواية ابن المنكدر، وسنده مليء بالمجهولين ورووا من طريق ابن شعبان قال: روى هاشم بن ناصح عن عمر بن موسى عن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه: وهو حديث مردود لأن هشاما وعمر مجهولان، ومكحول لم يلق عائشة. وحديث لا ندري له طريقا إنما ذكروه هكذا مطلقا أن الله تعالى نهى عن صوتين ملعونين: صوت نائحة وصوت مغنية. وهذا لا شيء.
ويمضي ابن حزم في عرض مجموعة أخرى من الأحاديث تنهى كلها عن الغناء وتحذر من اللهو، ويعقب على كل حديث بالطعن فيه بعلّة من العلل، ولما أتى على جميعها قال: هذا كل ما حضرنا ذكره مما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عمن دونه عليه السلام فقد روي أن ابن مسعود قال - في تفسير قوله
تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوا، أولئك لهم عذاب مهين) . -: الغناء والذي لا إله غيره. وقال فيها ابن عباس: الغناء وشراء المغنية. وفي رواية أخرى عنه: الغناء ونحوه، وروي عنه أيضا - من طريق أبي هشام الكوفي - أنه قال: الدف حرام، والمعازف حرام، والمزمار حرام، والكوبة حرم.،.. قال أبو محمد: لا حجة في هذا كله لوجوه: أحدها أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين، والثالث أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها لأن فيها: ويتخذها هزوا، وهي صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله تعالى هزوا، ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله تعالى ويتخذها هزوا لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم قط عز وجل من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالى فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا، وكذلك من اشتغل عامدا عن الصلاة بقراءة القرآن، أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله، أو بغناء أو بغير ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى. ومن لم يضيع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكرنا فهو محسن. واحتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق، ولا سبيل إلى قسم ثالث؟ فقالوا: وقد قال الله عز وجل: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) . فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق، ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على باب داره متفرجا، وصباغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها وسائر
أفعاله، فبطل كل ما شغبوا به بطلانا متيقنا ولله تعالى الحمد، وما نعلم لهم شبهة غير ما ذكرنا..
فلما لم يأت عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم تفصيل بتحريم شيء مما ذكرنا صحّ أنه كلّه حلال مطلق، فكيف وقد روينا من طريق مسلم عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فانها أيام عيد، وفي رواية: وليستا بمغنيتين، نعم ولكنها قد قالت: إنهما كانتا تغنيان فالغناء منها قد صحّ، وقولها ليستا بمغنيتين: أي ليستا بمحسنتين، وهذا كله لا حجّة فيه إنما الحجة في إنكاره صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله - في إحدى الروايات - أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصحّ أنه مباح مطلق لا كراهة فيه، وأن من أنكره فقد أخطأ بلا شك. وقد روينا بسند إلى نافع مولى ابن عمر قال: سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع عل تسمع شيئا؟ قلت: لا، فرفع اصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وضع مثل هذا.
قال أبو محمد: هذه الحجة القاطعة بصحّة هذه الأسانيد ولو كان المزمار حراما سماعه لما أباح عليه السلام لابن عمر سماعه. ولو كان عند ابن عمر حراما سماعه لما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بكسره، ولكنه لم يفعل وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أكثر أمور الدنيا: كتجنبه الأكل متكئا، وأن يبيت عنده دينار أو درهم، وأن يعلق الستر على سهوة في البيت، وبالله تعالى التوفيق. وعن عائشة أيضا: جاء حبش بزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت عن النظر. وروينا من طريق سفيان الثوري أن عامر بن سعد البجلي رأى أبا مسعود البدري، وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد وهم في عرس وعندهم غناء فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! فقالوا: أرخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح، ليس فيه النهي عن الغناء في غير العرس، وعن محمد بن سيرين أن رجلا قدم المدينة
بجوار فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فأحدت، قال أيوب: بالدف، وقال هشام: بالعود، حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر. حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان فساومه، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمان إني غبنت بسبعمائة درهم فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم فإما أن تعطيها إياه وإما أن تردّ عليه بيعه فقال: بل نعطيها إياه. فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية، وهذه أسانيد صحيحة لا تلك الملفقات الموضوعة.