المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة - فرح الأسماع برخص السماع

[الشاذلي التونسي]

الفصل: ‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

‌رقم ثلاثة

‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

قد تكلم الناس في الغناء: في التحريم والإباحة، واختلفت أقوالهم وتباعدت مذاهبهم، وتباينت استدلالاتهم فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه، واستدل على تحريمه، ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقا وأباحه وصمم على إباحته، ومنهم من فرق بين أن يكون الغناء مجردا أو أضيف إليه آلة كالعود والطنبور وغيرهم من الآلات ذوات الأوتار، والدفوف والمعازف والقصب. فأباحه على انفراده وكرهه إذا انضاف إليه غيره، وحرم سماع الآلات مطلقا. ولكل طائفة من أرباب هذه المقالات أدلة استدلت بها، وقد رأينا أن نثبت في هذا الموضع نبذة من أقوالهم على سبيل الاختصار وحذف النظائر المطوله فنقول وبالله التوفيق: أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدل به من رأى ذلك، فإنهم استدلوا على التحريم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأيمة من علماء المسلمين، أما دليلهم من الكتاب العزيز فقول الله عز وجل:(قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون) . وقوله عز وجل: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) . وقوله سبحانه وتعالى: (والّذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما) . وقوله تبارك وتعالى: (ومن الناس يشتري لهم الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) . وقوله سبحانه

ص: 107

وتعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) . وقوله: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) . قال ابن عباس: سامدون، هو الغناء بلغة حمير، وقال مجاهد: هو الغناء بقول أهل اليمن، سمد فلان إذا غنى. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال - في هذه الآية - (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) : إنه الغناء، ومن طريق آخر إنه الغناء وأشباهه، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هو - والذي لا إله إلا هو - الغناء، وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله تعالى:(واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال: صوته الغناء والمزامير، وعنه في قوله تعالى (والّذين لا يشهدون الّزور) قال: الغناء.

وأما دليلهم من السنة فما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله عز وجل حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأت (ومن الناس من يشتري لهم الحديث

) وروى بو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله عز وجل إليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك. وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى. وعن عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه قال: نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة.

وأما أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما تغنيت قط، فتبرأ من الغناء وتبجّح بتركه. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما مرّ على قوم محرمين ومعهم قوم ورجل يغني فقال: ألا لا أسمع والله لكم، ألا لا أسمع والله لكم. وروي عن عبد الله بن دينار قال: مرّ

ص: 108

ابن عمر رضي الله عنهما بجارية صغيرة تغني فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه. وعن إسحاق بن عيسى قال: سألت مالك بن أنس رضي الله عنه عما ترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: ما يفعله عندنا إلا الفساق، وقال الشعبي: لعن المغنِّي والمغَنَّي له. وقال الحكم بن عتيبة: حبّ السماع ينبت النفاق في القلب. وروي أن رجلا سأل القاسم بن محمد فقال: ما تقول في الغناء أحرام هو؟ فأعاد عليه فقال له في الثالثة: إذا كان يوم القيامة فأتي بالحق والباطل أين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال القاسم: فأفت نفسك. وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من رواد الفجور. وقال الضحاك: الغناء مفسدة القلب، مسخطة للرّب. وقال يزيد بن الوليد - مع اشتهاره بما اشتهر به - يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا شك فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة الصادي ولكن الحق أحق أن يقال.

وأما أقوال الأيمة رحمهم الله تعالى فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتاب أدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل، وقال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. قال القاضي حسين بن محمد: وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم، فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت بارزة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرّة أو مملوكة، وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته. ثم غلظ القول فيه وقال: هو دياثة. قال: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا إلى الباطل كان سفيها فاسقا. وقال مالك بن أنس: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب، قال وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم ابن سعد وحده، وكره أبو حنيفة ذلك وجعل سماع الغناء من الذنوب، قال: وذلك مذهب سائر أهل الكوفة

ص: 109

وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة وإبراهيم النخعي والشعبي وغيرهم لا خلاف بينهم في ذلك. قال: ولا يعرف - أيضا - بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه. وقد تكلم الناس في إباحة الغناء وسماع الأصوات والنغمات والآلات، وهو الدف واليراع والقصب والأوتار على اختلافها من العود والطنبور وغيره، وأباحوا ذلك واستدلوا عليه وضعفوا الأحاديث الواردة في تحريمه، وتكلموا على رجالها وجرحوهم وبسطوا في ذلك المصنفات ووسعوا القول وشرحوا الأدلة، وكان ممن تكلم في ذلك وجرد له تصنيفا الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله تعالى، فقال - في ذلك - ما نذكر مختصره معناه: اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة إلى كافة البشر، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وسن وشرع. وأمر ونهى، كما أمر. فليس لأحد بعده وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم والاتباع لسنتهم أن يحرم ما أحل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بدليل ناطق من آية محكمة، أو سنة صحيحة أو إجماع من الأمة على مقالته. وأما الاستدلال بالغرائب والموضوعات والأفراد من رواية المكذبين والمجروحين الذين لا تقوم بروايتهم حجة، وبأقاويل من فسر القرآن على حسب مراده ورأيه، فلا يرجع إلى قولهم ولا يسلك طريقهم، إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره.

وقد استدلوا على إباحة الغناء بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(تقدم ذكرها جملة وتفصيلا وخاصة في ملحق ابن حزم رقم: اثنين) .

ص: 110