المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(فصل في منزلة الغنى العالي: - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٨

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

الفصل: ‌(فصل في منزلة الغنى العالي:

‌(فصلٌ في منزلة الغنى العالي:

[*] (عناصر الفصل:

(منزلة الغنى العالي من منازل السائرين إلى رب العالمين:

(الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه:

(الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمان:

(كل حي سوى الله فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره:

(أقسام الغنى:

(كيف يحصل غنى القلب:

(كيف يحصل غنى النفس:

(كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(منزلة الغنى العالي من منازل السائرين إلى رب العالمين:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغنى العالي

وهو نوعان: «غنى بالله وغنى عن غير الله» وهما حقيقة الفقر ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة قال صاحب المنازل رحمه الله باب الغني قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] وفي الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أغناه من المال بعد فقره: وهذا قول أكثر المفسرين لأنه قابله بقوله عائلاً والعائل: هو المحتاج ليس ذا العيلة فأغناه من المال.

والثاني: أنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه فهو غنى قلب ونفس لا غنى مال وهو حقيقة الغنى.

والثالث: وهو الصحيح أنه يعم النوعين: نوعي الغنى «فأغنى قلبه به وأغناه من المال»

ثم قال: الغنى اسم للملك التام يعني أن من كان مالكا من وجه دون وجه فليس بغني وعلى هذا: فلا يستحق اسم الغنى بالحقيقة إلا الله وكل ما سواه فقير إليه بالذات. أهـ

(الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه:

((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

قال الله سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ} * [فاطر: 15]، بيَّن سبحانه في هذه الآية أَن فقر العباد إِليه أَمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أَن كونه غنياً حميداً أمر ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أَوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأَمر أَوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إِمكان، بل هو ذاتي للفقير: فحاجة العبد إِلى ربه لذاته لا لعلة أَوجبت تلك الْحاجة، كما أَن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأَمر أَوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

«والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي»

ص: 1

فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهي أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب في مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله [عز وجل] أَمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر. والمقصود أنه سبحانه أَخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأَنها فقيرة إِليه [عز وجل]، كما أَخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أَنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إِلا فقيراً، ويستحيل أَن يكون الرب سبحانه إِلا غنياً، كما أَنه يستحيل أَن يكون العبد إلا عبداً والرب إِلا رباً.

(الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمان:

((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

ولما كان الفقر إِلى الله عز وجل هو عين الغنى به ـ فأَفقر الناس إِلى الله أَغناهم به، وأَذلهم له أَعزهم، وأَضعفهم بين يديه أَقواهم، وأَجهلهم عند نفسه أَعلمهم بالله وأَمقتهم لنفسه أَقربهم إِلى مرضاة الله ـ كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمين متناسبين.

(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

سئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إِلى الله تعالى والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر.

(ثم قال رحمه الله تعالى:

ص: 2

قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى ((غنى)) بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و ((فقراً)) بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل]، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول.

(كل حي سوى الله فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

اعلم أَن كل حي سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحى من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلابد من أَمرين:

أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.

ص: 3

فها هنا أَربعة أَشياءَ: أَمر محبوب مطلوب الوجود، والثاني أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إِلى حصول المحبوب، والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها، إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} * [الفاتحة: 5]، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه. وفى القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} * [الفاتحة: 5]، الثاني قوله تعالى:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} * [هود: 88][الشورى: 10]، الثالث قوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} * [هود: 123]، الرابع قوله تعالى:{عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} * [الممتحنة: 4]، الخامس قوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} * [الفرقان: 58]، السادس قوله:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب} * [الرعد: 30]، السابع قوله:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} * [المزمل: 8 - 9].

(أقسام الغنى:

مسألة: ما هو أقسام الغنى؟

الغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال.

ص: 4

(فالغنى السافل: الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.

قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره.

(أَما الغنى العالي: فهو «غنى القلب» «وغنى النفس» «والغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهو أعلى درجات الغنى» .

(كيف يحصل غنى القلب:

مسألة: كيف يحصل غنى القلب:

غنى القلب: يكون بثلاثة أشياء متلازمة:

(1)

سلامته من الفقر إِلى السبب والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب.

(2)

الوقوف على حسن تدبير الله والمسالمة لحكمه.

مسألة: ما معنى المسالمة لحكمه؟

المسالمة لحكمه: أي الانقياد لحكمه، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، إن لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يُرِدْه الله عز وجل لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره.

ص: 5

(3)

الخلاص من مخاصمة الخلق، فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ ـ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه ـ لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره.

فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله تعالى ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل في الحديث الآتي:

(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.

فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة:((ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط))، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأَمر.

(كيف يحصل غنى النفس:

مسألة: كيف يحصل غنى النفس:

يحصل غنى النفس باستقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا به، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.

ص: 6

فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعاً واختيارا ومحبةً وإيماناً واحتسابا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((يا بلال أرحنا بالصلاة)) كما في الحديث الآتي:

(حديث عبد الله محمد ابن الحنفية الثابت في صحيح أبي داوود) قال: انطلقت أنا وأبي إلى صهر لنا من الأنصار نعوده، فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "" قم يا بلال فأرحنا بالصلاة "".

وجعلت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما في الحديث الآتي:

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة.

فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحب، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها. فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟

ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبادل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق جل جلاله، فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله، وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نوراً وصار عمله نورا، وقوله نورا، ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر.

ص: 7

وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقرها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى:{إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى:{إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} [الحج: 38]، وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ)، فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة، «ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا» ، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى:{فاستقم كما أمرت} [هود: 112]، وقال سبحانه:{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 13].

(كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى:

مسألة: كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى؟

الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهى أَعلى درجات الغنى، وهو ثلاث درجات:

(أَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عز وجل إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً البتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} * [الحج: 78]

ص: 8

فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذي أَهَّلَك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكَه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذي ذَكَّرَك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذي ذَكَّرَك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها في قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيا عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذَكَّرَك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وَعَمَّرَ قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بِتَقَرُبَيْن منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده، والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،

ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغنى الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.

فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إِلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له ـ بشعوره بذكر أُستاذه له ـ غنى زائد على إِنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (

ص: 9

(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.

فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأَول الذي ذكره به حتى جعله ذاكراً، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائداً على إِنعام ربه عليه وعطاياه له، والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم.

(الدرجة الثانية من درجات الغنى بالحق تبارك وتعالى: دوام شهود أَوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أَرباب السلوك أَعلى مما قبله، والغنى به أَتم من الغنى المذكور، لأَنه من مبادئ الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل في أَسمائه وصفاته، الغنى عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه.

ص: 10

فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن كأنه لم يكن وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى بها عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق تبارك وتعالى، فبقيَ العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت آنيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عز وجل اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذي لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سوا الله باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود دائم من الغنى بالذي قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.

ص: 11

فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحى أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف ـ من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس ـ إِلى غير ذلك من التصرف في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} * [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به. وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إِذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أَسرّ ولا يشغله .. سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة

ص: 12

وكذلك .. إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء، وكذلك إِذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.

ص: 13

وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على [الحقيقة]، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغنى الصمد الكامل في أسمائه وصفاته الذي حاجة كل أحدٍ إليه ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما أنه يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافى استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً} * [ص: 5]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما في فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى:{وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} * [الأعراف: 180]

ص: 14

فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:

غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإِن الغنى العالي عن الشيء لا به

فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.

(الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالحق تبارك وتعالى:

«الفوز بوجوده» وهذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأَن الغنى الأَول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق التوجه أَنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أَيضاً أَنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أَيضاً. وأَما هذا الغنى الثالث ـ الذي هو الغنى بالحق ـ فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إِنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إِلى آثار وجود الذات، وإِنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أَوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات، فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون.

ص: 15

فمن طلب الله بصدق وجده، ومن وجده وأغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً في غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.

[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:

جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:

[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]

[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،

[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.

[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.

(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.

ص: 16