الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما تأويل من تأوله على الحلف: ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك.
(فصلٌ في منزلة علو الهمة:
[*] (عناصر الفصل:
(علو الهمة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف علو الهمة:
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
(أقسام الهمة:
(مراتب الهمم:
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
[*] (ثمرات الهمة العالية:
[*] (وسائل ترقية الهمة:
[*] (مظاهر علو الهمة:
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(علو الهمة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الهمة وقد صدرها صاحب المنازل بقوله تعالى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقد تقدم أنه صدر بها باب الأدب وذكرنا وجهه وأما وجه تصدير الهمة بها فهو الإشارة إلى أن همته ما تعلقت بسوى مشهوده وما أقيم فيه ولو تجاوزته همته لتبعها بصره والهمة فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة «فالهم مبدأها والهمة نهايتها»
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته قال والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسن والخاصة تقول قيمة كل امرىء ما يطلب يريد أن قيمة المرء همته ومطلبه.
قال صاحب المنازل: الهمة ما يملك الانبعاث للمقصود صرفا لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، قوله يملك الانبعاث للمقصود أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك وصرفا أي خالصا صرفا «والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبا صادقا خالصا محضا فتلك هي الهمة العالية» التي لا يتمالك صاحبها أي لا يقدر على المهلة ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه ما لم تعقه العوائق وتقطعه العلائق والله أعلم.
(تعريف علو الهمة:
الهمة في اللغة: ما هم به من الأمر ليفعل.
الهمة في الاصطلاح: الباعث على الفعل، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.
قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا كنت في أمر مروم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
[*] وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله:
"علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات"
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
[*] قال الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه:
"لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"
[*] وقال ابن القيم: "لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه"
[*] وقال ابن نباتة رحمه الله:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل
…
إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرا
…
عن غاية في الطلاب سباق
(أقسام الهمة:
تُقَسَّم الهمة تقسيمين فتقسم من حيث الرفعة وضدها إلى عالية وساقطة.
وتقسم من حيث الاستعداد الفطري إلى وهبية ومكتسبة.
وليس معنى أن منها ما هو فطري أنها لا سبيل لزيادة رفعتها بل هي مثل باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء والذاكرة وحسن الخلق.
[*] قال ابن القيم:
"وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثثت سارت ومتى رأيت في نفسك عجزاً فَسَلِ المنعم أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولن يفوتك خير إلا بمعصيته"
(مراتب الهمم:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ
رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
وعلى نحو هذا التقسيم والتمثيل النبوي ينقسم الناس وتتفاوت منازلهم في الهمة:
(1)
منهم من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها ويصدق عليه قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني
…
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
(2)
ومنهم من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها ويجتهد في تحصيلها، وهذا -إن اهتدى- يكون سباقاً للخيرات:"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
(3)
وفريق ساقط الهمة يهوى سفاسف الأمور ويقعد به العجز عنها، فهو من سقط المتاع وهو كمن وصف الشاعر:
إني رأيت من المكارم حسبكم
…
أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذكرت المكارم يوما
…
في مجلس أنتم به فتقنعوا
(4)
وأعلى الهمم همة من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله فهنيئاً له ومن أمثالهم الأسلمي وعكاشة بن محصن وبين كل مرتبتين مراتب كثيرة تتفاوت فيها الناس تفاوتاً بينا.
وإذا استعرضنا التاريخ نجد أن العلية من الناس والقادة الذين تركوا أثرهم في التاريخ هم أصحاب الهمم العالية.
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:
(1)
ربيعة ابن كعب الأسلمي: الذي سأل النبي مرافقته في الجنة.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(2)
عكاشة بن محصن بادر فقال: "الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم
…
أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وعدني ربى أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ» .
(3)
أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه:
لعلوهِمَّتُهُ أراد يفعل أبواب الخير كلها ولا يقنع ببعضها دون الأخرى وذلك لأن نفسه التي بين جنبيه نفسٌ توَّاقةٌ للخير، فقد بلغت همَتُه عنان السماء وصار غارقاً في على الهمةِ إلى الأذقان، ولا عجب فإنه الصِّدِّيق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الأمة بع نبيها صلى الله عليه وسلم.
"ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها، قال نعم وأرجوا أن تكون منهم
…
".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
من أنفق زوجين: اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ اثْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْعَمَلَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ أَوْ صَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ جَاهَدَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ أَظْهَرُ وَلَفْظُ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظْهَرُ.
(نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَك فَأَقْبِلْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا خَيْرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ لَك لِأَنَّهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ الَّذِي أُعِدَّ لَك.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ وَأَكْثَرَهَا وَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّوْمُ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ فَمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عِبَادَتِهِ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ نُودِيَ مِنْ الْبَابِ الْمُخْتَصِّ بِهِ
(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ فِي أَنْ يُدْعَى مِنْ غَيْرِهَا وَأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكْفِي فِي التَّنَاهِي فِي الْخَيْرِ وَسَعَةِ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مَعَ مَا فِي الدُّعَاءِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ هَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْخَيْرِ وَأَوْسَعُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَطَاعَهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ دُعِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ دُخُولَك مِنْ هَذَا الْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ دُخُولِك عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّهُ يُدْعَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ لَك هَاهُنَا خَيْرًا وَعَدَهُ اللَّهُ لَك لِعِبَادَتِك الْمُخْتَصَّةِ بِالدُّخُولِ عَلَى هَذَا الْبَابِ أَوْ لِعِبَادَتِك الَّتِي هِيَ سَبَبُ أَنْ تُدْعَى مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(وسؤال أبى بكر يريد به شخصا اجتمعت فيه خصال الخير من صلاة وصيام وصدقة وجهاد ونحو ذلك، بحيث يدعى من جميع تلك الأبواب.
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
(1)
الإخلاص:
فنسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى يحث على الأخذ بمعالي الأمور؛ لأن الناقد بصير.
[*] يقول الإمام بن القيم رحمه الله:
لقاح الهمة العالية: النية الصالحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد المراد.
(2)
الصدق:
فالصادق في عزمه وفي فعله صاحب همة عالية وبصدقه في العزم والفعل يسعد في الدارين، فصدق العزيمة الجزم وعدم التردد، وصدق الفعل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لتحقيق ما عزم عليه، فيأمن صاحب العزم الصادق من ضعف الهمة والإرادة، و يمنعه صدقه في الفعل من الكسل والفتور.
(3)
العلم:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعا بحاله وما هو عليه، فكيف تكون له همة أصلا؟ فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض الجهل والتقليد ويصفي نيته.
" والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فتبقى فضول المباحات التي تشغله عن التعبد – كفضول الأكل والنوم – ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: " أعط كل ذي حقه حقه".
ويبصره بتحيل إبليس وتلبيسه عليه، كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابا ". (علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل).
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
إن السالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب، تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه.
(4)
اليقظة والمسارعة:
بحيث يفارق العبد بيقظته جموع الغافلين، ويعرض عن أفعال الجاهلين ويخلع ثوب النوم والرقاد، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدو فهل ترى نعود إلي أوطاننا ونُسَلَّمُ
فلا ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يرتمي في أحضان الغافلين وإلا عضّ أسنة الندم.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي بعد بدر إلى الإسلام، فقال:"هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ ". قال: لا. قال: "فما يمنعك منه؟ ". قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك .. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
(5)
الحزم وعدم التردد:
فإن التردد يفوِّت على العبد الفوز بالخيرات، ويبقيه في مكانه في الوقت الذي يسير فيه الركب فيصل الحازم إلى مبتغاه،
وصدق القائل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال آخر:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق
فلا تتوقف مترددا أو قلقا، ولا تضيع نفسك بالشكوك التي لا تلد إلا الشكوك، واستمع إلى قال تعالى:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ)[آل عمران / 159]
قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ)[محمد / 21]
(6)
معرفة قيمة النفس وشرفها:
وليس المقصود بهذا أن يغتر العبد أو يعجب بنفسه ويتكبر، إنما المقصود أن يعلم أنه في الخليقة شيء آخر لا يشبهه أحد، فيحرص على أن يرفع قيمته، ويغلي ثمنه بعمله الصالح، وبعلمه ونبوغه، واطلاعه ومثابرته وبحثه وتثقيف عقله، وصقل ذهنه، وإشعال الطموح في روحه، والنبل في نفسه؛ لتكون قيمته عالية وغالية.
فيا أيها الحبيب، يا من أسجد الله لك ملائكته بالأمس، وجعلهم اليوم في خدمتك، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضا ليس لهم رتبة:(تتجافى جنوبهم عن المضاجع). كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاما ولا شرابا ليس لهم شرف: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". الملائكة تصلي عليك ما استقمت، وحملة العرش يستغفرون لك، يا هذا فتش عن نفسك، واعرف قدرها تسم بهمتك إلى العظيم.
(7)
الدعاء:
وإنما جعلناه خاتمة الأسباب التي نتحدث عنها في هذا المقال لأنه الباب الأوسع والأقرب للفوز بأنواع الخيرات، وهو باب لا منازع فيه، فإنه ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وإن أعجز الناس من عجز عن الدعاء بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
فادخل على مولاك من باب الذل والافتقار، وناجه:
إلهي وسيدي ومولاي، أنت أصلحت الصالحين وأعليت هممهم فاجعلنا منهم وألحقنا بهم في عليين.
[*] (ثمرات الهمة العالية:
(1)
تحقيق كثير من الأمور التي يعدها عامة الناس خيالاً يتحقق ومن أمثلة ذلك بناء أمة مؤمنة في الجزيرة العربية التي يشيع فيها الجهل والشرك وذلك في فترة وجيزة، وابن ياسين استطاع أن يقود بعصابة قليلة من أصحابه المربِّيين دولة انتصرت على جيوش الأسبان بعد استشهاده،
(2)
الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد.
قال معاذ رضي الله عنه على فراش الموت: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري (لعله لكري) الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر"
…
.
(3)
البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:
لما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس من العباسيين أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عن ما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها".
(4)
صاحب الهمة العالية يُعْتَمَدُ عليه وتناط به الأمور الصعبة وَتُوكَلُ إليه:
وهذا أمر مشاهد معروف فإن المديرين والرؤساء عادة يطمحون للعمل مع صاحب الهمة العالية ويستعدون للتضحية معه حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. وقد قيل: "ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً".
(5)
صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة.
[*] وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".
[*] وكان الإمام النووي يقرأ كل يوم اثني عشر درساً شرحاً وتصحيحاً، ويقول لتلميذه بارك الله في وقتي.
ويقول د. مَارْدِن: "كل رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة. وإن الرجل الذي يَدَّخِرُ كل الدقائق المفردة وأنصاف الساعات والأعياد غير المنتظرة والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"
(6)
صاحب الهمة العالية قدوة للناس.
(7)
تغيير طريقة حياة الشعوب والأفراد:
[*] يقول الشيخ محمد الخضر حسين:
"يسموا هذا الخلق بصاحبه إلى النهايات من معالي الأمور فهو الذي ينهض بالضعيف فإذا هو عزيز كريم، ويرفع القوم من السقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية
…
أما صغير الهمة فإنه يَبْصُر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة ثم لا يَلْبَثُ أن يسير في ركبهم ويسابق إلى حيث تحط أهواؤهم".
[*] (وسائل ترقية الهمة:
(1)
المجاهدة:
قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
(2)
الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
(3)
اعتراف الشخص بقصور همته.
وهذا يستلزم أيضاً أن لا ينكر أنه قادر على تغيير همته وتطويرها إلى الأحسن.
4 – قراءة سيرة السلف الصالح.
[*] يقول ابن القيم: "
…
ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا هو يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي و
…
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد".
[*] وقال محمد بن علي الأسلمي: قمت ليلة سَحراً لآخذ النوبة على ابن الأَخْرَمِ فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
(5)
مصاحبة صاحب الهمة العالية.
(6)
مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
(7)
التنافس والتنازع بين الشخص وهمته.
ومعنى ذلك أن على مريد تطوير همته أن يحمل نفسه أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في حياته بحيث يحدث نوع من التحدي داخل النفس، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط.
(8)
الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه
…
"
(9)
الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها مثل:
أ – كثرة الزيارات للأقارب بدون هدف شرعي صحيح ولا غرض دنيوي فيه فائدة معتبرة.
ب – كثرة الزيارات للأصحاب فيكثر المزاح وتقل الفائدة.
ج – الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، ثم ينقلب الأمر إلى تحصيل محض للدنيا وانغماس فيها.
د – تكليف الموظف نفسه بعملين صباحي ومسائي دون ضرورة لذلك.
هـ - كثرة التمتع بالمباحات.
و – الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية.
[*] يقول محمد بن حسن موسى:
"وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغريبة في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني"
ز – التسويف قال الشاعر:
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ
…
إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ح – الكسل والفتور.
قال الصاحب: "إن الراحة حيث تعب الكرام أوْدَع لكنها أوضع والقعود حيث قام الكرام أسعل لكنه أسفل"(21) وقال الشاعر:
كأن التواني أنكح العجز بنته
…
وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشاً وطيئاً ثم قال له اتكئ
…
فَقُصْراكما لا شك أن تلدا فقرا
ط – مُلاحظة الخلق وتقليدهم والاقتداء بهم، فأكثر الخلق مفرطون.
[*] (مظاهر علو الهمة:
(1)
تحرقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قط صاحب الهمة المتألق المنجز لكثير من الأمور.
(2)
كثرة همومه وتألمه لحالة المسلمين.
(3)
موالاته النصيحة وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يرجو منهم التغيير والإصلاح.
(4)
طلبه للمعالي دائماً.
(5)
كثرة شكواه من ضيق الوقت.
(6)
قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه، بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر من بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
لكل إلى شأو العُلا حركات
…
ولكن قليل في الرجال الثبات
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
للناس ثلاثة أقسام:
(1)
قسم ضائع مضيع يترك إلى حين إفاقته.
(2)
قسم محافظ على الفرائض.
(فهذا القسم إن كان من أهل اليسار والغنى يوجه إلى المشاركة والتنافس في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإغاثة المنكوبين ومساعدة الجمعيات والهيئات الإسلامية الخيرية.
(وإن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة يوجهون إلى سماع الدروس والخطب التي يعدها خطباء مرموقون.
(التوضيح والتنبيه والقيام بالنصيحة وبيان أن باستطاعتهم توجيه جهودهم إلى ما هو أنفع.
(توجيههم للقراءة النافعة.
(3)
قسم – وهو المعول عليه بعد الله سبحانه وتعالى – ملتزم بدينه ومحافظ عليه يطمح إلى القيام بما يجب عليه وهذا يوجه إلىالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وحمل هم هذا الدين.
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
(1)
صاحب الهمة العالية تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به وفي الوقت نفسه لا يَقُمْ به كلِّها بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.
(2)
صاحب الهمة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
…
فالحصيف لا يلتفت إلى هذه النصائح إلا بقدر.
[*] قال ابن نباتة السعدي:
أعاذلتي على إتعاب نفسي
…
ورعيي في الدجى روض السهادِ
إذا شام الفتى برق المعالي
…
فأهون فائت طيب الرقادِ
(3)
صاحب الهمة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه.